الآثار والصناعة
(١) ما بقي من الآثار المصرية
ربما كانت الآثار التي خلفها لنا المصريون أكثر مما تركته أية أمة عظيمة من أمم السلف؛ فإن الوادي كله مشحون ببقايا معابدهم ومدائنهم متراكمًا بعضها فوق بعض، حتى إن من نظر إلى السلسلتين اللتين تكتنفان هذا الوادي رأى القبور منحوتة في جميع أجزائهما بحيث إنهما يعتبران كمقبرة واحدة، هذا واعلم أن الآثار التي شوهدت وأمكن البحث فيها إلى الآن هي شيء قليل في جانب ما بقي تحت البحث والنظر، وما عساه ينكشف لنا مع توالي الأيام.
(٢) فن العمارة وذكر المعابد
ولما كانت الآلهة تحب أن تحيط بها الأسرار كان القوم يبنون المعابد؛ بحيث إن الإنسان لا يشعر بالانتقال من نور شمس العالم الخارجي إلى ظلام الحجر الإلهية؛ فإن مداخل الهيكل تكون فسيحة يتخللها الهواء، وينبعث فيها الضياء من غير أن يصادفهما أدنى عارض وأما الإيوان الكبير ذو العمدان، فيقل النور فيه ثم يشتد الظلام في المحراب فيكون شبيهًا بشفق غير واضح، حتى إذا وصل الإنسان إلى قدس الأقداس رأى الليل الحالك والظلام التام.
(٣) زخرفة المعابد
كانت الزخرفة في غاية البهاء ونهاية الرواء، فكانت جدران كل غرفة مزدانة من أعلاها إلى أسفلها برسوم ونقوش توافق ما خُصصت له هذه الغرفة، فيمثلون في المحراب الزورق المقدس الذي يعيش فيه الإله، وفي الحجرات المجاورة له القرابين والضحايا، وفي الإيوانات المعمدة هيئة الموكب والاحتفالات، وعلى الصرح والحيطان الخارجية أشكالًا للقتال والوقائع الحربية، يرى الناظر إليها ملك مصر قاهر أعداء مصر بمعونة الإله الذي شُيد له الهيكل، وكانوا يضعون أمام الصرح تماثيل هائلة قد يبلغ ارتفاع الواحد منها ١٦ مترًا؛ مثل صنمي ممنون في طيبة، ومسلات منضودة أزواجًا أزواجًا، وأمام ذلك كله مماشٍ على جانبيها تماثيل الإسفنكس؛ وهي آساد لها رأس إنسان أو كبش، أو هي كباش كبيرة الجثة رابضة على الأرض يشار بها إلى أنها حرس رمزي يقوم بخفارة مقدم الهيكل على الدوام.
(٤) القبور
كانت القبور أيضًا مشحونة بكثير من النقوش والتصاوير، وكان بعضها منعزلًا وقائمًا بسفح الروابي أو بمنحدر النجوات والهضبات الفاصلة بين مصر والصحراء، وكانت أجداث ملوك الدولة الأولى والوسطى عبارة عن أهرام من الحجارة أو الآجر. وقبور أفراد الناس مساطب متطاولة من حجر الجير الأبيض تقابل كل زاوية منها جهة من الجهات الأربع الأصلية، ويجعلون وجهتها عادة نحو الشمال، ولها باب قد يكون أمامه عمدان صغيرة ويتوصل من هذا الباب إلى الحجرات الداخلية وإلى ضريح الميت؛ حيث يجتمع أقرباؤه مرارًا في كل عام لتقديم القرابين له. ويرى المتأمل في الصور المنقوشة على جميع الجدران هيئة القربان وكافة الأعمال الدنيوية التي يكون بها تجهيزه، وتربية الغزلان والأثوار والأطيار وذبحها، وبذر البذور في الأرض، وحصد القمح، واصطناع الخبز، وتقديم الأرغفة، والصيد في البر والبحر، والألعاب المختلفة الأنواع، ويكون فوق الضريح رجام من الرخام أو ما يشابهه من الأحجار الصلدة منقوشًا في أحد الجدران أو قائمًا بجانبه، وهو بمثابة باب مغلق على الدوام، وخلفه تنفتح أجزاء القبر المخصصة للروح، وهناك أيضًا دهاليز وآبار وحجرة يكون بها التابوت وفيه المومياء.
ومن ابتداء العائلة الثانية عشرة اختلطت القبور المنقورة في الجبل بالقبور المنعزلة، وعدل ملوك طيبة في الدولة الأخيرة عن اتخاذ الأهرام، فأمر كثير منهم بدفن جثثهم في جبال لوبيا. وأما ملوك العائلة الثامنة عشرة فإن مدافنهم بالجهة المعروفة الآن بالأصاصيف، وأما ملوك العائلتين التاسعة عشرة والعشرين ففي باب الملوك قبورهم؛ وأجملها في البهجة والإبداع والرونق وحسن الاصطناع هما قبرا سيتي الأول، وابنه رمسيس الثاني.
(٥) النقش والتصوير
كان النقش والتصوير عبارة عن فنين مكملين لفن العمارة، فكل جدار كان مزدانًا بنقوش بارزة، وكل نقش بارز كان محلَّى بالتصوير والتلوين بالأصباغ على هيئة سطوح مستوية متناسقة، بعضها فوق بعض بترتيب عجيب، بحيث لا تكون مختلطة ولا ممزوجة. وكانوا يُحَلُّون النقوش تحلية بالألوان، ولا يرسمونها بالمعنى المتعارف عندنا في هذا الزمان.
وكانت التماثيل المنعزلة أو المجتمعة حول بعضها مصورة بالألوان أيضًا، فالجهات الممثلة للحم منها ملونة باللون الأحمر فيما يختص بالرجال، وبالأصفر الفاقع فيما يختص بالنساء، ولم يكن تصويرها بالغًا نهاية ما يصوره الخيال من الكمال، بل كانت عبارة عن صور للنساء والرجال بالغة في الصحة والدقة، وكل شخص له من هيئته ووصفه إشارة إلى الحالة التي تليق بمقامه خاصة؛ فالسيد الجليل يكون واقفًا وفي يده العصا، أو جالسًا على مسطبة من الحجارة، وجسمه معتدل، ورأسه مرتفع، ونظره حاد، والكاتب يجثو أمامه بكل خضوع، وذراعاه مشتبكان فوق بعضهما، أو يقعد مربعًا وعلى ركبتيه درج من البردي كأنه مستعد لتسطير ما يمليه عليه مولاه. وأما العبد والأمَة فيهرسان الحبوب لعمل الخبز اللازم لكل يوم، ويعجنان الطحين، ويطليان القدور بالقار، ثم يذهبان ليملآها نبيذًا، وليست هذه الصور تشابه ما عندنا في كونها تمثيلًا من غير حياة لجسم من الأجسام، بل هي أجسام حية تمثل الشخص الذي هي تصوير له، حتى إنك لتظن أن الملك أو الإله أو الفرد من الأفراد الذي أمامك تمثاله أو صورته كأنه قد نُفخ فيها شيئًا من روحه، وأفاض عليها جزءًا من حياته بحيث إن ذلك يسمح لها عند الاقتضاء بالكشف عن المغيبات، وما يستقبل من الأمور، فأما التماثيل التي تشاهد في القبور فهي تقوم في الواقع، ونفس الأمر مقام الجثة المحنطة، وتكون سندًا للروح، ولو تبددت تلك الجثة، وعبثت بها أيدي الزمان. ومن هذا تعلم السبب في كون الصانع مصورًا أو نقاشًا، كان يسعى جهده، ويبذل قصارى ما عنده في جعل صنعه أشبه شيء بالأصل الذي أخذ على نفسه تمثيله؛ أي لأجل أن تكون النفس قديرة على التصرف في جسمها الحجري بسهولة، وعلى الوجه الذي يوافقها وترتضيه؛ ولذلك كان من المحتم أن هذا الجسم يكون مثالًا كاملًا للجسد الذي قد حلت فيه الحياة، ويكونان سواء في حسن المنظر، وفي العاهات التي ألمَّت به، وما كان فيه من السماجة والتشويه.
(٦) الفنون الصناعية
فقد وجدت هذه المصنوعات في القبور، وفي أطلال المدائن، والفائدة المترتبة عليها المرتبطة بها عظيمة جدًّا؛ لكونها تحدثنا بتاريخ الصناعة في مصر، بل وبتاريخها على العموم، فإن أهل مصر كانوا يبعثون إلى الشام وكلديا وفينيقية، وإلى اليونان وإيطاليا، وإلى بلاد الغاليا وإسبانيا على بعدهما، ونزوحهما بعدد عظيم، ومقدار كبير من مصنوعاتهم في المجوهرات والمصوغات، والخزف والأقمشة، والعلب والغمدات التي من الخشب المشغول، وكثيرًا ما اقتدى بهم وحاكاهم في بعض أعمالهم أمم البحر الأبيض المتوسط الذين كانوا بين الحضارة والهمجية، فإن الخناجر التي وجدت في ميسينة في قبور رؤساء أرجوس هي من نفس طراز الخناجر التي استكشفت في طيبة على مومياء والدة أموسيس، وجاء أول الصناع وأرباب الفنون عند اليونان، فقلدوا صور الآلهة عند المصريين، كما أن التماثيل الحجرية القديمة التي كشف عنها التراب من جهات كبيرة ببلاد الهلاد (اليونان) إنما هي تعظيم محفوف بالدقة، ولكنه خالٍ من الرقة، أُخذ عن التماثيل الصغيرة التي من البرونز، أو من الأحجار الدقيقة المصورة لبعض آلهة المصريين، فكانت هذه الأشياء الدقيقة وحدها سببًا في تأثير نفوذ مصر على بلاد اليونان، وتأثير بلاد اليونان على الأمم الحديثة مدة قرون من الزمان.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
ربما كانت الآثار التي أبقاها لنا المصريون أكثر مما أبقته أية أمة من الأمم القديمة العظيمة من المخلفات والآثار.
-
(٢)
وقد برعوا في فن العمارة والبناء، ولنا في المعابد الكثيرة الباقية الآن في مصر العليا على ما كانت عليه تقريبًا نموذجات جليلة وطرازات جميلة لهذا الفن، وهي كلها مبنية على شكل واحد سواء كانت الأبنية قائمة بنفسها ومنعزلة وحدها أو عبارة عن محاريب منقورة كلها أو بعضها في صلب الجبل.
-
(٣)
وكانوا يبالغون في زخرفة مبانيهم، وما زالت جدران الحجرات مزدانة بنقوش بارزة محلاة بالألوان والأصباغ، وكانوا يقيمون التماثيل الهائلة والمسلات الطائلة في فناء المعابد أو أمام الأبواب التي كان يتوصل إليها في بعض الأحيان من ممشى تَحفُّ بها تماثيل الإسفنكس.
-
(٤)
وفي عهد الدولة القديمة كانت القبور عبارة عن مساطب من الحجر أو من الآجر، ثم اختلطت القبور المنقورة في بطن الجبل بالقبور المنعزلة، وذلك في أيام الدولة الطيبية. ونرى في الوادي المعروف بباب الملوك الذي به مدافن فراعنة العائلة التاسعة عشرة والمتممة للعشرين أجمل وأبهى ما في مصر من القبور التي تحت الأرض!
-
(٥)
ولم يكُن النقش والتصوير إلا متممين لفن العمارة، وقد ظهر في قبور العصر المنفي مع ذلك بعض تماثيل من الحجر أو الخشب، هي في بابها أكمل ما يمكن الانتهاء إليه في الإتقان؛ مثل تمثال الكاتب الجالس المحفوظ بمتحف اللوفر بباريس، وتمثال شيخ البلد، وتمثال خفرن المحفوظين بمتحف الجيزة.
-
(٦)
وقد تقدمت الفنون الصناعية تقدمًا باهرًا منذ القرون السوالف والأعصار الخوالي، وكان في المصنوعات الدقيقة الصغيرة التي من زجاج أو مينا أو معدن منقوش أو مسبوك مثال نسج عليه الفينيقيون واليونان حينما انتقلت هذه الأشياء إلى خارج القطر المصري بواسطة التجارة، وقد ساعدت مساعدة قوية كلية على بث الذوق الصناعي في الأمم الغربية التي كانت لم تزل بعد في حالة الهمجية والبربرية.