استكشافات شامبوليون والكلام على علماء الآثار المصرية من الفرنساويين
(١) مبادئ الكتابة الهيروغليفية
ومن نظر إلى الكتابات القديمة رأى هذه المبادئ فيها مختلطة؛ بحيث ينبغي معرفة معانيها ومدلولاتها بالضبط والصحة للنجاح في فك أي خط قليل.
(٢) الكتابة المعتادة وذكر اللسان القبطي
كانت الكتابة الهيروغليفية مستعملة خصوصًا على الآثار التي من الأخشاب أو الأحجار، ولكنهم كانوا يستعملون كتابة جارية معتادة يسميها المحدثون بالقلم الهيراطيقي؛ لأجل احتياجات الحياة العادية، ولأجل نشر الأعمال الأدبية من تأليف وغيره. والمادة التي كانوا يستعملونها للكتابة عليها بهذا القلم تتركب من ألياف ورق البردي مفصولة ومدقوقة وملتصق بعضها ببعض؛ بحيث يتركب منها أفرخ طويلة دقيقة يغرونها من طرف إلى طرف، فيتكون منها أدراج (ملفات) بل أجزاء قد يزيد بعضها على ثلاثين مترًا، وكانوا يكتبون عليها بقلم يتخذونه من قصبة رقيقة من البوص المعروف بالغاب (كما هي العادة الآن) يغمسونه في حبر أسود أو أحمر. وكانت الكتابة الهيروغليفية تبتدئ من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين من غير فرق، ولكن الخط الهيراطيقي كان يبتدئ على الدوام من اليمين وينتهي إلى اليسار. وكانت حروف هذه الكتابة في مبدأ الأمر فسيحة مرتفعة ثم توالت عليها السنون والقرون فصارت أصغر من الأول؛ حتى آل أمرها أن صارت عبارة عن جملة حروف متداخلة في حرف واحد، وعلامات صغيرة نحيفة نحيلة مختلطة مختلة، وقد سُميت هذه الكتابة بالقلم الديموطيقي؛ أي القلم العامي، وقام هذا القلم شيئًا فشيئًا مقام القلم الهيراطيقي في أيام العائلة السادسة عشرة ثم رجح وتغلب عليه في أيام اليونان فصار مستعملًا في الأمور المعتادة كلها.
ثم زال استعمال هذه الأقلام الثلاثة عندما دخلت الديانة النصرانية في البلاد المصرية واستبدلت بحروف الهجاء القبطية المركبة من ألف باء اليونانية، ومن ستة حروف توافق بعض أصوات مصرية ليس في اليونانية، ما يعبر به عنها. وقد استمر استعمال اللغة عند الأهالي مدة عشرة قرون بعد تلاشي الكتابة بها، ولم ينعدم اللسان القبطي من أفواه الأمة إلا في السنين الأولى من القرن السابع عشر، ومع ذلك فلا يزال مستعملًا في نظام الخدم الدينية وأمور الطقوس التعبدية الكنائسية.
(٣) أول المحاولات في فك الكتابة البربائية
كانت هذه الأشكال الفاسدة عن أصلها أول ما توجهت إليه همة الباحثين، وحامت حوله أنظار الطالبين المدققين حينما وجه العلماء من الإفرنج عنايتهم إلى العاديَّات المصرية؛ فتحققوا أن في اللهجات الحديثة بقايا من اللهجات القديمة، ولكنهم لما أرادوا أن يدرسوا الكتابة ويقفوا عليها لم يعرفوا ما هي الطريقة التي ينبغي لهم استخدامها في فك هذه الطلاسم والرموز. وانتهى القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديان ولم يجنِ العلماء ثمرة من اجتهادهم وانصبابهم على هذا العمل وكدهم وكدحهم في هذا السبيل، ولم تبتدئ الأبحاث المهمة إلا عند حملة الجنرال بونابرت على مصر، وذلك أن لجنة من العلماء أخذت ترود البلاد وتجوبها مدة ثلاث سنين من سنة ١٧٩٩ إلى سنة ١٨٠١ وهي مشتغلة برسم خريطة القطر ورسم مواقع الأطلال ونسخ صورة النقوش البارزة والكتابات، التي على الآثار وألفوا ذلك الكتاب الفريد والسِّفر الحافل الجليل المعروف ﺑ «وصف مصر» الذي لم يفُقه كتاب كاتب، بل لم يُنسج على منواله إلى الآن ناسج. وفي أثناء ذلك وجد بوستار وهو من ضباط الطوبجية بالقرب من مدينة رشيد أمرًا رسميًّا بتمجيد الملك بطليموس الخامس وهو مكتوب بخطوط ثلاثة «هيروغليفي وديموطيقي ويوناني»، وحينئذ أشار العلامة الفاضل والمحقق الخالد الذكر سلفستر دوساسي والموسيو آكربلاد السويدي إلى المعنى الذي تدل عليه بعض العلامات في الكتابة الديموطيقية، بل إن الثاني منهما رتب حروف هجاء من المستعملة في القلم الديموطيقي، ما زال العلماء يعولون على معظمها، وما برح أكثرها معتبرًا لديهم وموافقًا للصحة والضبط ثم رجع العلماء إلى البحث والتنقير من سنة ١٨١٤ إلى سنة ١٨١٨، وكان أولهم العالم الإنجليزي الطبيعي توماس يانج، فعرف في الخانات الملوكية الموجودة في النقش الذي على حجر رشيد اسم بطليموس وبرنيقة (أو برنيكة) واستخرج منها ألف باء صغيرًا قد تحقق العلماء بعد ذلك من صحة خمسة علامات منه وموافقتها للحقيقة والواقع ولكنه لم ينجح في مسعاه الذي قصد به توفية البحث واستكمال فك هذه الرموز، ولا زال الحال على هذا المنوال حتى جاء شامبوليون فظفر بالضالة المنشودة ونال الفخار كل الفخار بالوقوف على كنه هذه الأسرار.
(٤) ذكر شامبوليون
(٥) الكلام على علم الآثار المصرية بعد شامبوليون
ما لبث العلم الذي وضع هذا المجتهد قواعده أن انتشر بسرعة تامة في أنحاء أوروبا، ففي إيطاليا بواسطة «روزليني» رئيس البعثة التوسكانية الذي رافق شامبوليون في مصر، فإنه نشر كتابًا سماه «الآثار» تكلم فيه على ما عثر عليه، وجمعه أثناء رحلته. وفي إنجلترا على يد «ولكنسن، وهنكس، وبرش»، وفي ألمانيا بهمة «ليبسيوس، وبنسن»، وأما فرنسا فقد ترك فيها هذا الأستاذ شقيقه البكري شامبوليون فيجاك فسار على أثره قاصدًا تكميل طريقته مع غاية الاجتهاد، ومن غير انتقاد، وكذلك تلامذته «شارل لونورمان، وأمبيروبواتفان وف. دوسولسي» على أن اجتهاد علماء الفرنساوية الباحثين في اللغة المصرية لم يرجع إلى مقامه الأعلى، ودرجته القاصية إلا حينما جاء على رأسهم العلامة عمانويل ده روجه (المولود سنة ١٨١١ المتوفى سنة ١٨٧٢).
وقد توصل العلماء إلى فك هذه الخطوط بالتمام والكمال، ولكنهم لم يكونوا قادرين على ترجمتها بل كان القوم يكتفون باستخراج قطع من جملها والإتيان بطريقة حيثما اتفقت على ما تضمنته من الحوادث التاريخية، حتى جاء الجهبذ ده روجه فنشر سنة ١٨٤٩ كتابه الذي سماه «بحث على نقوش أحمس» وأوضح فيه الطريقة التي ينبغي التعويل عليها في إعراب الجملة المصرية وتحليلها لتعيين معنى كل كلمة وكل عبارة بالضبط والدقة، واستبدل الجمل التفسيرية المبنية على الظن والتخمين التي اكتفى بها العلماء إلى ذلك العهد بترجمة حرفية دقيقة جدًّا، وهو أول من اجتهد في درس الكتابات التي بخط اليد بالقلم الهيراطيقي، وكاشف العلماء بماهية وكنه الفنون الأدبية عند المصريين بما أتحفهم به من ترجمة قصيدة بنتارو (سنة ١٨٥٨)، ولما عُين مدرسًا بمدرسة فرنسا سنة ١٨٦٠؛ جرى في تعليمه بها على الطريقة الدقيقة التي اتبعها في أشغاله الشخصية، وقد أتى بنتائج صادقة حقيقية في كل عمل باشره سواء كان متعلقًا بالتاريخ أو بالنحو.
ولنا أن نقول: إن ما استنبطه هو موافق للصحة مطابق للصواب، وأنه سيبقى كذلك على ممر الأحقاب. وفيما كان عدد قليل من العلماء مثل شاباس ودﭬﭕﺮيا وبوشير يقتدون به ويجتهدون في طبع نسخ الخطوط التي سبق للناس معرفتها؛ كان أوجست مارييت (المولود سنة ١٨٢١ المتوفى سنة ١٨٨١) يعاود أعمال شامبوليون على نفس شواطئ النيل، وقد بذل قصارى جهده في تكثيرها وترقية العلم بها، بما لم يكن في الحسبان، فإن الحكومة الفرنساوية أرسلته إلى مصر في سنة ١٨٥٠ فعثر على السرابيوم المجاور لمنف وأتحف متحف اللوفر بعدد وافر من المخلفات وكمية عظيمة من الآثار، وقفنا منها على تاريخ العائلات المصرية الأخيرة كله تقريبًا.
وفي سنة ١٨٥٨ عُين مديرًا عامًّا للآثار القديمة في مصر وبقي في هذه الوظيفة إلى أن اخترمته المنون، وقد أسس متحف «أنتيكخانة» بولاق وأزال الأتربة والردوم التي كانت متراكمة على الهياكل الكبيرة بإدفو ودندرة وأبيدوس، وراد المدافن القديمة التي في منف، وكان أينما ذهب تراءت له الآثار كأنها تجيب نداءه وتلبي طلبه؛ وبذلك يحق لفرنسا أن تفتخر بشامبوليون في فك الهيروغليفي، وبروجيه في تنظيم طريقة القراءة الهيروغليفية وترجمتها، وبمارييت في تأسيس مصلحة منتظمة تقوم بالبحث عن الآثار المصرية وحفظها، وأما إنجلترة وألمانيا وهولاندة وإيطاليا والنرويج والسويد والروسيا فقد دخلت في هذا الميدان على إثر فرنسا، واشتركت في الأعمال التي سبقهم فيها الفرنساويون بما جعل لهن أيضًا نصيبًا في الفضل والفخار. ويقول الفرنساويون إن أمامهم شيئًا كثيرًا ينبغي عليهم عمله للمحافظة على هذا التقدم وهذا الرجحان، وأنهم ما زالوا محافظين عليهما إلى الآن، وما برحوا يوالون السير في الطريق الذي اختطه مارييت في مصر، فإن الإرسالية المستديمة المستحدثة في القاهرة سنة ١٨٨١ هي سائرة في طريق التقدم والنجاح.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
إن أقدم الآثار المصرية هي التي تدلنا على أن سكان وادي النيل لهم حروف يستعملونا، وقد سماها اليونان بالهيروغليف؛ أي الحروف المقدسة، وهذه الكتابة الهيروغليفية تحتوي على إشارات تدل على الحروف «الساكنة والمتحركة» وحروف مقطعية وحروف لها معانٍ قائمة بنفسها مستقلة بها، وأكثرها لا يستعمل إلا لتحديد المعنى وتعريفه.
-
(٢)
وكانوا يستعملون في أمورهم العادية واحتياجاتهم اليومية الخط الهيراطيقي من ابتداء القرن السابع قبل الميلاد، وهذا القلم هو عبارة عن أشكال مختصرة ورسوم مختزلة من العلامات الهيروغليفية، ولما دخل المصريون في دين النصرانية اتخذوا حروف الهجاء اليونانية وأضافوا إليها ستة حروف فتكونت عندهم حروف التهجي المستعملة في اللسان القبطي.
-
(٣)
وابتدأ العلماء في محاولة فك الخطوط الهيروغليفية في القرن السادس عشر للميلاد، ولكنها لم تأتِ بنتائج مهمة إلا عقب حملة الفرنساوية على مصر (من سنة ١٧٩٩ إلى سنة ١٨٠١) واستكشف السويدي أكربلاد، والفرنساوي سلفستر دوساسي في حجر رشيد على مبادئ هجائية ديموطيقية، وأما الإنجليزي يانج فقد تعرف فيه شيئًا من حروف الهجاء الهيروغليفية.
-
(٤)
أما شامبوليون الصغير المولود في فيجاك (بمقاطعة اللوت بفرنسا) سنة ١٧٩٠ فقد انتهى بالاستكشاف على قواعد الكتابة المصرية وأصولها، وقرأ النقوش بالصحة والدقة، وعند وفاته في سنة ١٨٣٢ كانت القواعد الأصلية لفك الهيروغليفي وطيدة ثابتة أكيدة.
-
(٥)
وقد انتشر علم الآثار المصرية الذي أسسه انتشارًا سريعًا في إيطاليا وإنجلترا وألمانيا، وكان لفرنسا إلى عهدنا هذا النصيب الأوفر والحظ الأكمل في تقدم هذا العلم الحديث بواسطة ده روجه ومارييت وشاباس وعشرين عالمًا آخر ما زالوا يشتغلون بتوسيع نطاقه والسعي في إبلاغه حد الإتقان والكمال.