الضئيل في نظرك ضخم في نظري
من بين الأسباب العديدة التي دفعتني لامتهان البحث في مجال الفيزياء، رغبتي في فعل شيء يدوم أثره للأبد؛ فما دمت سأستثمر هذا القدر الهائل من الوقت والجهد والالتزام، فالأفضل أن يكون ذلك من أجل شيء يتسم بالاستمرارية والمصداقية. وشأني شأن معظم الناس، رأيت في صور التقدم العلمي أفكارًا لا تطولها يدُ الزمان.
نُشِرت رواية «توم جونز» منذ ٢٥٠ عامًا، بَيْدَ أن ما تتناوله من موضوعات وما تعكسه من بصيرة لا يزال صداه يتردَّد حتى يومنا هذا. وفي أثناء زيارتي الأولى لليابان، قرأت الرواية الأقدم عهدًا «قصة جنجي»، وأُعجِبت كثيرًا بمعاصرة شخصياتها، رغم مرور ألف عام على كتابة موراساكي شيكيبو لها. وقد ألَّف هوميروس كذلك ملحمة الأوديسة قبل ذلك الحين بنحو ٢٠٠٠ عام، ورغم أن التاريخ والسياق مغايران تمامًا لعصرنا الحالي، لا تزال رحلة أوديسيوس تمتِّعنا حتى الآن بما تشتمل عليه من أوصاف للطبيعة البشرية لا تتغير بمرور الزمن.
نادرًا ما يقرأ العلماء نصوصًا علمية بهذا القِدَم، بل نترك ذلك عادةً للمؤرخين والنقَّاد الأدبيين. ومع ذلك، فإننا نطبق المعرفة التي جمعناها على مرِّ الزمان، سواء أكانت مستمَدة من نيوتن في القرن السابع عشر أم كوبرنيكوس قبل ذلك الحين بأكثر من ١٠٠ عام. قد نهمل الكتب نفسها، لكننا نحرص على الحفاظ على ما قد تحتويه من أفكارٍ مهمة.
لا ريب أن العلم ليس ذلك التعبير الجامد عن القوانين الكونية التي نسمع عنها جميعًا في مرحلة التعليم الابتدائي، وليس أيضًا مجموعة من القواعد الاعتباطية، وإنما العلم كيان معرفي متطور. وكثير من الأفكار التي نبحث فيها حاليًّا سيثبت خطؤها أو عدم اكتمالها يومًا ما؛ فالأوصاف العلمية تتغير بالتأكيد مع تخطينا حدود معرفتنا وخوضنا غمار المجهول لنصل إلى مناطق أبعد يمكننا فيها أن نلمحَ إشاراتٍ لحقائق أعمق.
والتناقض الذي يضطر العلماء لمواجهته هو أنه رغم التماسهم استدامة ما يتوصلون إليه من حقائق، فإنهم يبحثون غالبًا في أفكار سوف تجبرهم البيانات التجريبية أو الفهم الأفضل لها على تعديلها أو نبذها. والجوهر السليم للمعرفة، الذي طالما اختُبِر واعتُمِد عليه، محاطٌ دومًا بحدود مبهمة من عدم اليقين، وهي التي تمثِّل إطارَ البحث الحالي. فالأفكار والاقتراحات التي تثيرنا اليوم سرعان ما ستُنسَى إذا أبطلَتْ صحتَها أعمالٌ تجريبية أكثر إقناعًا وشمولية غدًا.
عندما انحاز مرشح الرئاسة الأمريكية الجمهوري، مايك هاكابي، في عام ٢٠٠٨ للدين ضد العلم — وكان أحد أسبابه في ذلك أن «المعتقدات» العلمية تتغيَّر، في حين يتخذ المسيحيون لهم من الرب سلطةً أبديةً غير متغيرة — فإنه لم يكن مخطئًا على نحو تامٍّ، على الأقل في وصفه؛ فالكَوْن يتطور، وكذلك معرفتنا العلمية به. وبمرور الوقت، يكشف العلماء سُتُرًا عن الحقيقة ليكشفوا عمَّا يقبع تحت السطح؛ فنتوسع في إدراكنا ونعزِّزه مع سبرنا أغوار نطاقات أبعد. إن المعرفة تتقدَّم، والمنطقة غير المُستكشَفة تتراجع حدودها عند وصولنا إلى هذه المسافات التي يصعب الوصول إليها، وبعد ذلك تتطور «المعتقدات» العلمية بما يتفق مع معرفتنا المتسعة.
رغم ذلك، حتى عندما تجعل التكنولوجيا المُحسَّنة الوصولَ إلى نطاقٍ أوسع من المشاهدات أمرًا ممكنًا، لا يعني ذلك بالضرورة أن نهجر النظريات التي تمكَّنَّا من الوصول إليها في الماضي وشكَّلت توقعاتٍ ناجحةً بشأن الأبعاد والطاقات، أو السرعات والكثافات. إن النظريات العلمية تنمو وتتسع لتستوعب قدرًا متزايدًا من المعرفة، مع الحفاظ على الأجزاء الموثوقة من الأفكار التي تشكَّلت في السابق. ومن ثم، فإن العلم يضم المعرفة القديمة المؤكَّدة إلى الصورة الأكثر شمولًا التي تتشكَّل من نطاق واسع من المشاهدات النظرية والتجريبية. ومثل هذه التغييرات لا تعني بالضرورة أن القواعد القديمة خاطئة، لكنها قد تعني، مثلًا، أن هذه القواعد لم تَعُدْ تنطبق على نطاقات أصغر؛ حيث تم الكشف عن مكونات جديدة. وبناءً عليه، فإن المعرفة يمكنها استيعاب الأفكار القديمة، لكن مع الاتساع في نطاقها بمرور الوقت أيضًا، ومع ذلك سيظل هناك الكثير من الأمور التي يلزم اكتشافها. وكما هو الحال مع السفر الذي قد يكون ساحرًا — حتى إن لم تكن ستزور كل بقعة في العالم (ناهيك عن النظام الكوني) — فإن زيادة إدراكنا للمادة والكَوْن يثري من وجودنا، وما يظل مبهَمًا يحثنا على إجراء المزيد من الأبحاث.
يتناول المجال البحثي الذي أتخصَّص فيه — فيزياء الجسيمات — مسافات آخِذة في التناقص بهدف دراسة مكونات المادة الأدق حجمًا بالتتابع. فالأبحاث النظرية والتجريبية الحالية تسعى إلى الكشف عما تخفيه المادة؛ أي ما تُكِنُّه في أعمق جزء بداخلها، إلا أن المادة لا تشبه ببساطة الدمية الروسية ماتريوشكا، بما تنطوي عليه من تناسخ عناصر مشابهة على نطاقات يقل حجمها تباعًا، وإن كان ذلك تشبيهًا متداولًا. فما يجعل دراسة المسافات الآخِذة في التناقص أمرًا مثيرًا، هو أن القواعد يمكنها التغيُّر عند وصولنا إلى نطاقات جديدة، وقد تظهر قوًى وتفاعلات حديثة في هذه النطاقات، رغم أن أثَرَها كان ضئيلًا للغاية إلى درجة يستحيل معها اكتشافه على نطاق المسافات الأكبر التي تم البحث فيها في السابق.
إن مفهوم النطاق — الذي يوضِّح للفيزيائيين مدى الأحجام أو الطاقات ذات الصلة بأي بحث محدَّد — يعلب دورًا مهمًّا في فهم التقدم العلمي، فضلًا عن الكثير من الجوانب الأخرى للعالم من حولنا. ومن خلال تقسيم الكَوْن إلى أحجام مختلفة يمكن فهمها، نعرف أن أكثر قوانين الفيزياء نجاحًا لا تَسْرِي بالضرورة على جميع العمليات؛ ومن ثَمَّ علينا الربط بين المفاهيم التي تنطبق بنجاح في أحد النطاقات بتلك الأكثر نفعًا في نطاقات أخرى. والتصنيف على هذا النحو يسمح لنا بجَمْع كل ما نعرفه في صورة مُتَّسِقة، مع السماح بتغييرات جذرية في الأوصاف عند المسافات المختلفة.
في هذا الفصل، سنرى كيف أن التقسيم حسب النطاق — أيَّمَا كان النطاق الملائم — يساعد في إيضاح أفكارنا — سواء من الناحية العلمية أو غيرها — وتفسير لماذا يصعب ملاحظة السمات الدقيقة لِلَبِنات المادة الأساسية في نطاق المسافات التي نتعامل معها في حياتنا اليومية. وإلى جانب ذلك، يتناول هذا الفصل كذلك بالشرح المُفصَّل معنى «الصواب» و«الخطأ» في العلم، ويستعرض لماذا لا تُسفِر بالضرورة الاكتشافاتُ التي قد تبدو جذريةً عن تغييرات هائلة في النطاقات المألوفة من جانبنا بالفعل.
المستحيل
في أحيان كثيرة، يخلط الناس بين المعرفة العلمية المتطورة وانعدام المعرفة، وبين حالة استكشاف قوانين فيزيائية جديدة والغياب التام للقواعد الموثوقة. وقد ساعدتني محادَثَةٌ كنتُ قد أجريتها مع كاتب السيناريوهات، سكوت دريكسون، أثناء زيارةٍ قمتُ بها مؤخرًا لكاليفورنيا، في استيضاح الأسباب وراء بعض من حالات سوء الفهم هذه. كان سكوت يعمل حينذاك على كتابة بعض السيناريوهات التي تطرح فكرةَ وجودِ علاقات محتملة بين العلم وظواهر يظن سكوت أن العلماء سينبذونها على الأرجح لأنها خارقة للطبيعة. وسعيًا من سكوت لتجنُّب أي أخطاء في النص، أراد إضفاء موثوقية علمية على الأفكار التي ستعرضها قصته المُتخيَّلَة عن طريق فحص أحد الفيزيائيين لها، وهنا جاء دوري؛ فالتقيت به على الغداء في أحد المقاهي بمكان مفتوح لتبادُل الأفكار، مع الاستمتاع في الوقت نفسه بشمس ظهيرة لوس أنجلوس.
ولمَّا كان سكوت يدرك أن الكتَّاب كثيرًا ما يُسِيئون تمثيل العلم، أراد أن تتسم قصصه عن الأشباح والسفر عبر الزمن بقدر معقول من المصداقية العلمية، وتمثَّلَ التحدي الذي واجَهَه ككاتب سيناريو في كونه لا يرغب في أن يقدِّم لجمهوره ظواهر جديدة وشائقة فحسب، وإنما أيضًا ظواهر يمكن نقلها بفعالية إلى شاشة السينما. ورغم عدم تلقِّيه تدريبًا علميًّا، فإنه اتسم بسرعة استيعابه للأفكار الجديدة؛ ومن ثَمَّ أوضحت له كيف أنه على الرغم من البراعة والقيمة الترفيهية لبعض أجزاء قصته، فإن القيود الفيزيائية تجعل هذه الأجزاء غير مدعومة من الناحية العلمية.
فجاء رد سكوت عليَّ بأن العلماء اعتقدوا باستحالة حدوث ظواهر معينة، وتبيَّنوا بعد ذلك صحتها. وقال لي: «ألَمْ ينكر العلماء من قبلُ ما تخبرنا به النسبية الآن؟» و«مَن كان يظن أن العشوائية لعبت أي دور في قوانين الفيزياء الأساسية؟» بالرغم من احترام سكوت الهائل للعلم، فلا يزال يتساءل عمَّا إذا كان العلماء على خطأ أحيانًا بشأن تبعات اكتشافاتهم وحدودها، مع الوضع في الاعتبار الطبيعة المتطورة للعلم.
يذهب بعض النقاد إلى ما هو أبعد من ذلك، مؤكِّدين أنه رغم إمكانية تنبُّؤ العلماء بأمور كثيرة، تحيط الشكوك دومًا بمدى موثوقية هذه التنبؤات. ويُصِرُّ المتشكِّكون على أنه رغم الأدلة العلمية، يمكن أن يكون هناك دومًا شرك أو ثغرة ما في الأمر، فربما يمكن للبشر العودة للحياة بعد الموت أو على الأقل الانتقال عبر منفذ ما إلى العصور الوسطى أو الدخول إلى الأرض الوسطى. باختصار، لا يثق هؤلاء المتشكِّكون في ادِّعاءات العلم بأن شيئًا ما مستحيل تمامًا.
مع ذلك، ورغم الحكمة التي ينطوي عليها الاتسام بعقل متفتح وإدراك وجود اكتشافات جديدة في انتظار مَن يكشِف عنها الستار، فثَمَّةَ مغالطة كبيرة متأصلة في هذا المنطق. تتضح المعضلة هنا عند تحليل معنى عبارات مثل الموضَّحَة أعلاه، وتطبيق مبدأ النطاقات عليها بوجه خاص. عندئذٍ، سنجد أن هذه التساؤلات تتغاضى عن حقيقة مهمة، وهي أنه رغم أنه ستكون هناك دومًا نطاقات للطاقة أو المسافة لم تُكتشَف بعدُ ومن الممكن أن تتغيَّر فيها القوانين الفيزيائية، فإن العلماء يعرفون القوانين الفيزيائية على النطاقات البشرية حق المعرفة. وقد توفَّر لهم ما يكفي من الفرص لاختبار صحة هذه القوانين على مدار قرون عديدة.
عندما التقيت بمصمِّمَة الرقصات إليزابيث ستريب في متحف ويتني — حيث كنَّا من المتحدثين بإحدى اللجان التي تناولت موضوع الإبداع — اكتشفتُ أنها تَبخس قدر قوة المعرفة العلمية على النطاقات البشرية؛ إذ طرحت إليزابيث سؤالًا مشابهًا للأسئلة التي طرحها سكوت، وهو: «هل يمكن للأبعاد الدقيقة التي يقترح الفيزيائيون وجودها، والتي يتعذَّر تخيُّل حجمها الصغير، أن تؤثِّر رغم ذلك على حركة أجسامنا؟»
كان عملها رائعًا، واستفساراتها المتعلقة بالافتراضات الأساسية للرقص والحركة مذهلة. بَيْدَ أن السبب وراء عدم تمكُّنِنَا من تحديد ما إذا كانت هناك أبعاد جديدة أم لا — أو ما هو دورها في حال وجودها — هو أنها صغيرة أو مطوية لدرجة يتعذَّر معها اكتشافنا لها. وأعني بذلك أننا لم نتعرَّف على تأثيرها بعدُ على أي كمية سبق لنا ملاحظتها، حتى مع أكثر القياسات تفصيلًا؛ فلا يمكن لنتائج الأبعاد الإضافية للظواهر الفيزيائية أن تؤثِّر على حركة أي شخص تأثيرًا يمكن إدراكه إلا إذا كانت هذه النتائج هائلة؛ وإذا كان لها هذا التأثير الهائل، فسنكون قد لاحظناها بالفعل. ومن ثَمَّ، فإننا نعلم أن أساسيات تصميم الرقصات لن تتغيَّر حتى إذا تطوَّر فهمنا للجاذبية الكمية، فآثار ذلك تكون مطموسة إلى حدٍّ كبير في إطار أي شيء يمكن إدراكه على أي نطاق بشري.
عندما اتَّضَح خطأ العلماء في الماضي، فإن ذلك كان يرجع عادةً إلى أنهم لم يكونوا قد استكشفوا بعدُ مسافات بالغة الصِّغَر أو الكِبَر، أو طاقات أو سرعات عالية للغاية. ولا يعني ذلك أنهم — مثل اللوديين — قد أغلقوا عقولهم أمام إمكانية التقدم، وإنما أعني فقط أنهم وثقوا فيما توصَّلوا إليه من أحدث التوصيفات الرياضية للعالم، وتنبؤاتهم الناجحة بشأن السلوكيات والأجسام القابلة للملاحظة آنذاك. أما الظواهر التي اعتقدوا في استحالتها، فقد كان من الممكن أن تحدث — وحدثت بالفعل أحيانًا — على نطاق مسافات أو سرعات لم يكن أولئك العلماء قد توصَّلوا إليها — أو اختبروها — من قبلُ. لكنهم، بالطبع، ما كانوا ليعرفوا آنذاك الأفكار والنظريات الجديدة التي سادت بعد ذلك في أنظمة هذه المسافات الدقيقة أو الطاقات الهائلة التي كانوا يجهلونها في ذلك الوقت.
وعندما يقول العلماء إنهم يعلمون شيئًا ما، فهم لا يعنون بذلك إلا أن لديهم أفكارًا ونظريات محدَّدة خضعت تنبؤاتها للاختبار الدقيق «على نطاق معين من المسافات أو الطاقات»، وهذه الأفكار أو النظريات لا تمثِّل بالضرورة قوانين أبديةً لجميع العصور أو أساسًا للقوانين الفيزيائية، وإنما هي قواعد قد تنطبق على النحو الذي يمكن لأي تجربة اختباره في إطار المعطيات المتاحة للتكنولوجيا الحالية. ولا يعني ذلك أن هذه القوانين لن تحل محلَّها قوانين أخرى جديدة؛ فنظريات نيوتن، على سبيل المثال، نافعة وصحيحة، لكن فعاليتها تتوقف عند حدود سرعة الضوء التي تنطبق عليها نظرية أينشتاين، أو بالقرب من ذلك الحد؛ ومن ثمَّ فإن قوانين نيوتن صحيحة وغير كاملة في الوقت نفسه؛ فهي تنطبق على نطاق محدود.
والمعرفة الأكثر تطورًا، التي نكتسبها من خلال قياسات أكثر جودةً، تمثِّل تقدُّمًا حقيقيًّا يوضِّح لنا المفاهيم الضمنية الجديدة والمختلفة، فنعلم الآن بشأن الكثير من الظواهر التي ما كان القدماء ليستنتجوها أو يكتشفوها باتباع أساليب الملاحظة الأكثر محدوديةً التي كانوا يستخدمونها؛ لذا فإن سكوت كان محقًّا في أن العلماء قد جانبهم الصواب أحيانًا بظنهم أن ظواهرَ ما مستحيلةٌ واتَّضَحَ في النهاية أنها كانت صحيحة تمامًا. لكن ذلك لا يعني في الوقت نفسه أنه لا توجد قواعد تحكم ذلك؛ فالأشباح والمسافرون عبر الزمن لن يظهروا في منازلنا، والكائنات الفضائية لن تنشق عنها الجدران من حولنا فجأةً. ربما تكون هناك أبعاد إضافية للفضاء، لكنها لا بد من أن تكون دقيقةً للغاية أو مطوية أو مختفية حاليًّا عن نطاق رؤيتنا، ما يحول دون تمكُّنِنَا من تفسير عدم تركها أي أدلة ملحوظة على وجودها.
لعل الظواهر العجيبة موجودة بالفعل، لكن مثل هذه الظواهر لا تحدث إلا في إطار نطاقات يصعب ملاحظتها، وهي النطاقات البعيدة عن إطار فهمنا البديهي ومداركنا المعتادة. وإذا ظلَّتْ منيعة هكذا على الدوام، فلا أهمية لها في نظر العلماء، بل تقل أهميتها لدى كتَّاب الخيال أيضًا؛ إذ لن يكون لها تأثير ملحوظ على حياتنا اليومية.
منعطفات خاطئة
بالرغم من هذا الفصل الدقيق حسب المسافات، كثيرًا ما يتبع الناس طرقًا مختصرة عندما يحاولون فهم العلوم الصعبة والعالَم من حولهم، ويمكن أن يُسفِر ذلك بسهولة عن اندفاع أهوج في تطبيق النظريات. وهذا التطبيق الخاطئ للعلم ليس ظاهرة جديدة؛ ففي القرن الثامن عشر، وبينما انشغل العلماء بدراسة المغناطيسية في المختبرات، شكَّل آخرون في أذهانهم مفهومَ «المغناطيسية الحيوانية»، وهي عبارة عن «سائل حيوي» مغناطيسي افتُرِض وجوده في الكائنات الحية. وتطلَّبَ فضح زيف هذه الفرضية رسميًّا آنذاك تشكيلَ لجنةٍ ملكية فرنسية على يد لويس السادس عشر في عام ١٧٨٤، والتي ضمَّتْ بين أعضائها بنجامين فرانكلين.
يحضرني هنا قول نيلز بور، رائد ميكانيكا الكم والحاصل على جائزة نوبل: «إذا لم تتسبَّبْ ميكانيكا الكم في ارتباكك ارتباكًا تامًّا، فاعلم أنك لا تفهمها.» وإليك سرًّا آخَر (وهو سر مؤمَّن، على الأقل بالقدر نفسه من التأمين الذي يتمتع به السر الموجود في ذلك الكتاب الأكثر بيعًا): تشتهر ميكانيكا الكم بإساءة فهمها. فكلٌّ من حدسنا ولغتنا مستمد من «التفكير الكلاسيكي» الذي لا يأخذ ميكانيكا الكم في الاعتبار، لكن ذلك لا يعني أن أي ظاهرة غريبة ممكنة بمنطق الكم. وحتى دون أن نفهم ميكانيكا الكم على نحو أكثر عمقًا وجوهريةً، فإننا نعلم كيف نستخدمها للتوصُّل إلى تنبؤات. وميكانيكا الكم ليست مسئولة بالتأكيد عن «سر» بايرن المتعلق بذلك المبدأ المعروف باسم «مبدأ الجذب» بين الأفراد والأشياء أو الظواهر البعيدة. فعلى نطاق هذه المسافات البعيدة، لا تلعب ميكانيكا الكم هذا الدور، ولا علاقة لها كذلك بالكثير من الأفكار المثيرة التي ينسبها الناس لها عادةً. فأنا لا يمكنني التأثير في تجربة ما بالتحديق فيها، وميكانيكا الكم لا تعني أنه لا يوجد تنبؤات يمكن الاعتماد عليها، ومعظم القياسات محكومة بقيود عملية وليس بمبدأ عدم اليقين.
شكَّلَتْ هذه المغالطات الموضوعَ الرئيسي لمحادثة مدهشة جمعتني بمارك فيسنتي، مخرج فيلم «ماذا نعلم بحق الجحيم؟!» وهو فيلم كارثي في حق العلماء؛ إذ يدَّعِي فيه الناس أن التأثير البشري له أهمية في التجارب. لم أكن متأكِّدة إلامَ ستؤدي بنا تلك المحادثة، لكن كان لديَّ وقت فراغ أثناء جلوسي في مطار دالاس/فورت وورث لعدة ساعات في انتظار إصلاح الميكانيكيين لمشكلةٍ ما أصابت جناح الطائرة (وهي المشكلة التي وُصِفت في بادئ الأمر بأنها أبسط من أن نلقي لها بالًا، لكنها فيما بعدُ «قيست بالوسائل التكنولوجية» قبل أن تتمكن الطائرة من الإقلاع، كما أخبرنا أحد أفراد الطاقم).
أدركتُ آنذاك أنه حتى في ظل ذلك التأخير، إذا كنت سأتحدث مع مارك ولو لدقائق معدودة، فعليَّ أن أعرف موقفه من الفيلم الذي قدَّمَه، وهو الفيلم الذي يرجع سبب معرفتي به للعدد الكبير من الأشخاص الذين طرحوا عليَّ أسئلةً غايةً في الغرابة أثناء المحاضرات التي كنتُ ألقيها، وذلك استنادًا إلى ما شاهدوه فيه. فاجأتني إجابة مارك عن سؤالي؛ إذ بدا مصدومًا، وأفضى لي بسرٍّ، وهو أنه تناوَلَ العلم في البداية بناءً على مفاهيم سابقة لديه لم يدقِّق فيها على النحو الكافي، لكنه يرى الآن أن تفكيره السابق اتَّسَمَ بطبيعة دينية أكثر من أي شيء آخَر. وختم مارك حديثه بأن ما قدَّمَه في فيلمه لم يكن عِلْمًا. ولعل تقديم ظواهر ميكانيكا الكم على مستوًى بشري قد حقَّق رضًى سطحيًّا للعديد من مُشاهدِي الفيلم، لكن ذلك لا يعني أنه صحيح.
لكن حتى لو تطلَّبَتِ النظريات الجديدة افتراضات مختلفة اختلافًا جذريًّا — كما كان الحال بالتأكيد مع ميكانيكا الكم — فالتجارب والمناقشات العلمية السليمة أثبتَتْ في النهاية صحتها. ولم يكن ذلك بالأمر المُستغرَب؛ فالمنهج العلمي، بالإضافة إلى البيانات وعمليات البحث عن التوفير والاتساق، أوضح للعلماء كيف يتجاوزون بمعرفتهم ما هو حدسي على مستوى النطاقات التي يسهل الوصول إليها مباشَرةً ليصلوا إلى أفكار مختلفة تمامًا تنطبق على ظواهر ليست حدسية.
يستعرض القسم التالي مزيدًا من المعلومات حول الكيفية التي يربط بها مفهوم النطاق بين المفاهيم النظرية المختلفة، ويتيح لنا جمع هذه المفاهيم في كيان واحد متماسك.
النظريات الفعَّالة
تنطبق النظريات العلمية المعروفة على هذا النطاق الهائل الذي يتراوح ما بين مسافات في صغر الأحجام الدقيقة التي يكتشفها مصادم الهادرونات الكبير، وصولًا إلى الأطوال الضخمة للمجرات والنظام الكوني، وفي كل حجم ممكن للأجسام أو المسافة بينها، يمكن للجوانب المختلفة لقوانين الفيزياء أن تكون ذات صلة، وعلى الفيزيائيين التأقلُم مع الكم الهائل من المعلومات التي تنطبق على هذا النطاق العريض. وعلى الرغم من أن أغلب قوانين الفيزياء الأساسية، التي تسري على هذه الأطوال الدقيقة، مسئولة في النهاية عن القوانين المتعلقة بالنطاقات الأكبر، فهي ليست بالضرورة أكثر الوسائل فعاليةً في إجراء الحسابات. وعندما لا تقدِّم الأساسات أو البِنى التحتية الإضافية إجابة دقيقة على نحو كافٍ، نكون بحاجة لأسلوب أكثر عملية للحساب ولتطبيق قواعد أبسط بفعاليةٍ.
ومن أهم ملامح الفيزياء أنها توضِّح لنا كيفية تحديد مجموعة النطاقات المتعلقة بأي قياس أو تنبؤ — وفقًا للدقة المتوفرة لدينا — ثم إجراء الحسابات تبعًا لذلك. ويتمثل جمال هذا الأسلوب في النظر إلى العالم في كونه يُمكِّننا من التركيز على النطاقات ذات الصلة بأي شيء يهمنا، وتحديد العناصر التي تعمل عند هذه النطاقات، واكتشاف القواعد التي تحكم كيفية ارتباط هذه المكونات وتطبيقها. يحسب العلماء متوسطات العمليات الفيزيائية التي تحدث على نطاقات صغيرة غير قابلة للقياس — بل قد يتجاهلونها (دون قصد أحيانًا) — عند وضع النظريات أو إعداد الحسابات؛ فنحن نحدِّد الحقائق ذات الصلة، ونستبعد التفاصيل عندما يتسنَّى لنا ذلك، ونركِّز على أكثر النطاقات نفعًا، وفعل ذلك هو السبيل الوحيد للتأقلُم مع القدر الهائل من المعلومات التي لدينا.
وفي أغلب ما تراه أو تسمعه أو تتذوقه أو تشمه أو تلمسه، أمامك الخيار بين التحقُّق من التفاصيل عن طريق التدقيق من ناحية أو النظر إلى «الصورة الأشمل» وأولوياتها الأخرى من ناحية أخرى. فسواء أكنتَ تشرع في رسم لوحة، أم تتذوَّق النبيذ، أم تقرأ في الفلسفة، أم تخطِّط لرحلتك القادمة، فإنك تصنِّف تلقائيًّا أفكارَكَ إلى فئاتٍ مهمةٍ — حسب الأحجام، أو النكهات، أو الأفكار، أو المسافات — وفئاتٍ أخرى لا تجدها ذات صلة في الوقت الحالي.
والفائدة التي تعود من التركيز على الأسئلة الوثيقة الصلة بالموضوع وتجاهُل البِنى الأصغر من أن تكون ذات صلة؛ تنطبق على العديد من السياقات. فَلْتفكِّر فيما تفعله عند استخدامك تطبيق «ماب كويست» أو «خرائط جوجل»، أو عند نظرك في الشاشة الصغيرة لهاتف «آي فون» الخاص بك. إذا كنتَ مسافرًا من مكان قصي، فستكوِّن في البداية فكرةً بسيطةً عن وجهتك، وبعد أن تحصل على الصورة الأشمل، ستقوم بتصغير الخريطة بدقة أكبر؛ فلستَ بحاجة إلى معلومات تفصيلية إضافية في المرة الأولى، وإنما ترغب فقط في تكوين نظرة عامة عن موقعك، لكنك عندما تبدأ في التحقُّق من تفاصيل رحلتك — مع زيادة الدقة في عرض تفاصيل الشارع الذي تقصده بالضبط — ستهتم بالتفاصيل الأدق التي لم تكن مهمة في عملية الاستكشاف الأولى التي قمتَ بها.
لا ريب أن درجة الدقة التي تبغيها أو تحتاجها تحدِّد النطاق الذي ستختاره. لديَّ بعض الأصدقاء لا يهتمون كثيرًا بموقع الفندق الذي سيقيمون فيه عند زيارتهم لمدينة نيويورك؛ فالاختلافات في خصائص الوحدات السكنية في المدينة لا أهمية لها في نظرهم، لكن في نظر أي شخص يعرف نيويورك جيدًا، هذه الأمور تهم. ليس كافيًا معرفة أنك ستقيم في وسط المدينة؛ فأهالي نيويورك يهتمون بما إذا كانوا في بداية شارع هيوستن أم آخِره، أو شرق متنزه «واشنطن سكوير بارك» أم غربه، بل يهتمون كذلك بما إذا كانوا يبعدون عن وجهتهم بمربعين سكنيين أم بخمسة مربعات سكنية.
من المنطلق ذاته، نجري التصنيفات في الفيزياء حسب الحجم لنتمكَّن من التركيز على الأسئلة محل الاهتمام. على سبيل المثال، سطح الطاولة يبدو صلبًا — ويمكننا التعامل معه على هذا الأساس في العديد من الأغراض — لكنه في الحقيقة مكوَّن من ذرات وجزيئات تعمل في مجموعها كالسطح الصلب عديم النفاذ الذي نراه في سياقات متعددة من حياتنا اليومية، وهذه الذرات قابلة للتقسيم بدورها؛ فهي مكوَّنة من نوًى وإلكترونات، والنوى بدورها مكوَّنة من بروتونات ونيوترونات، وهي ترابطات بين أجسام أكثر جوهريةً تُسمَّى الكواركات. لكننا لسنا بحاجة لمعرفة الكواركات لفهم الخصائص الكهرومغناطيسية والكيميائية للذرات والعناصر (ويُعرَف هذا المجال العلمي باسم الفيزياء الذرية)؛ فقد درس الناس الفيزياء الذرية لسنوات عديدة قبل ظهور أي دليل على الإطلاق على البنى التحتية للذرة. وعند دراسة علماء الأحياء للخلية، لا حاجة لهم بمعرفة الكواركات الموجودة داخل البروتون أيضًا.
أتذكَّرُ شعوري بشيء من الخيانة عندما أخبرنا المدرس في المرحلة الثانوية — بعد شهور من تدريس قوانين نيوتن لنا — أن هذه القوانين خاطئة. لكنه لم يكن محقًّا تمامًا فيما قاله؛ إذ إن قوانين نيوتن عن الحركة صحيحة في إطار المسافات والسرعات القابلة للملاحظة في عصره. لقد فكَّرَ نيوتن في قوانين الفيزياء التي كان بالإمكان تطبيقها حينها، مع الوضع في الاعتبار مدى الدقة التي استطاع هو (أو أي أحد غيره آنذاك) إجراء القياسات بها. ولم يكن بحاجة لتفاصيل النسبية العامة للتوصُّل إلى تنبؤات صحيحة بشأن ما يمكن قياسه حينذاك، والأمر نفسه ينطبق علينا عند إجرائنا تنبؤات تتعلق بالأجسام الكبيرة عند السرعات والكثافات التي تنطبق عليها قوانين نيوتن. فعندما يدرس الفيزيائيون أو المهندسون الآن مدارات الكواكب، لا يحتاجون بدورهم إلى معرفة التركيب المُفصَّل للشمس. والقوانين التي تحكم سلوك الكواركات لا تؤثِّر بشكل ملحوظ على التنبؤات المتعلقة بالأجرام السماوية أيضًا.
ونادرًا ما يكون فهم المكونات الأكثر جوهريةً هو السبيل الأمثل لفهم التفاعلات على نطاقات أكبر؛ حيث تلعب البنية التحتية الدقيقة دورًا بسيطًا للغاية بوجه عام. على سبيل المثال، يصعب علينا تحقيق التقدم في الفيزياء الذرية بدراسة الكواركات الأدق حجمًا؛ فلا حاجة لدراسة بنية الكوارك التحتية إلا عندما نرغب في معرفة خصائص النوى الأكثر تفصيلًا. وفي غياب الدقة البعيدة الغور، يمكننا إجراء الدراسات في الكيمياء والأحياء الجزيئية مع تجاهُل أي بنية تحتية داخلية للنواة. من ناحية أخرى، لن تتغيَّر حركات إليزابيث ستريب مهما حدث على مستوى الجاذبية الكمية؛ فتصميم الرقصات لا يعتمد إلا على قوانين الفيزياء التقليدية.
يفضل الجميع — بما في ذلك الفيزيائيون — استخدامَ وصفٍ أبسط عندما تتجاوز التفاصيل درجة الدقة التي نعمل عندها. يضفي الفيزيائيون على هذا الحدس الصبغة الرسمية، وينظمون الفئات من حيث المسافة أو الطاقة ذات الصلة. وعند تناول أي مشكلة، نستخدم ما نطلق عليه اسم «النظرية الفعالة». والنظرية الفعَّالة تركِّز على الجزيئات والقوى التي لها «آثار» على المسافات محل الاهتمام. وبدلًا من توصيف الجسيمات والتفاعلات بمعايير تصف سلوكًا أكثر جوهرية ولا يمكن قياسها، نصوغ النظريات والمعادلات والملاحظات من حيث الأشياء التي لها صلة بالفعل بالنطاقات التي نستكشفها.
والنظرية الفعالة التي نطبِّقها على مسافات أكبر لا تتناول تفاصيل النظرية الفيزيائية الأساسية التي تنطبق على نطاق مسافات أقصر، ولا تتساءل إلا عن الأشياء التي يمكنك أن تطمح في قياسها أو رؤيتها، وإذا وقع شيء ما خارج دقة النطاقات التي تعمل عندها، فلن تكون بحاجة إلى بنيتها المُفصَّلة. وليس ذلك بتحايل علمي، وإنما هو طريقة لتجاهل تكدُّس المعلومات غير الضرورية، وهو وسيلة «فعَّالة» للحصول على إجابات دقيقة بما فيه الكفاية، ومتابعة ما يوجد في النظام الذي تدرسه.
وسبب نجاح النظريات الفعَّالة أنه ما من ضرر في غضِّ الطرف عمَّا هو مجهول، طالما أنه لن يُسفِر عن أي اختلافات قابلة للقياس. فإذا حدثت الظواهر المجهولة على مدى نطاقات أو مسافات أو مستويات من الدقة يتعذَّرُ معها تمييز أثرها، فلسنا بحاجة لمعرفتها من أجل إجراء تنبؤات صحيحة. وبطبيعة الحال، ليس للظواهر التي تتجاوز قدرتنا الفنية الحالية في الوصول إليها أيُّ عواقب قابلة للقياس إلى جانب تلك التي أخذناها في الاعتبار بالفعل.
لهذا السبب، وبدون معرفة أي معلومات عن الظواهر الجوهرية — مثل وجود القوانين النسبية للحركة، أو وصف ميكانيكا الكم للأنظمة الذرية ودون الذرية — يظل بإمكان الناس إجراء تنبؤات دقيقة، وهذا لحسن حظنا؛ إذ إننا ببساطة لا يمكننا التفكير في كل شيء في نفس الوقت، ولن نصل أبدًا إلى أي شيء إذا لم نستبعد التفاصيل غير ذات الصلة. وعندما نركِّز على الأسئلة التي يمكننا اختبارها تجريبيًّا، تجعل دقتنا المحدودة من هذا الكم من المعلومات المختلطة أمرًا غير ضروري.
الأمور «المستحيلة» يمكن أن تحدث، لكن في البيئات التي لم نلحظها بعدُ فقط، وتكون نتائجها غير ذات صلة في النطاقات التي نعرفها، أو على الأقل في النطاقات التي توصَّلْنَا إليها، فما يحدث في نطاق هذه المسافات الأصغر يظل خفيًّا إلى أن يتم تطوير أدوات ذات دقة أعلى لاستكشافها مباشَرةً، أو حتى تعمل قياسات دقيقة بما فيه الكفاية على تمييز النظرية الجوهرية وتحديدها من خلال الخصائص الدقيقة المميزة التي تقدِّمها على نطاق المسافات الأكبر.
ويجوز للعلماء تجاهُل كلِّ ما هو أصغر مما يمكن ملاحظته عند وضع التنبؤات؛ فليس من المستحيل التمييز بين نتائج العمليات والأجسام الدقيقة للغاية وحسب، وإنما لا تكون آثار العمليات عند هذه النطاقات مثيرةً للاهتمام إلا بقدر ما تحدد من معايير قابلة للقياس فيزيائيًّا. ومن ثَمَّ، فإن الفيزيائيين يصفون الأجسام والسمات عند نطاقات قابلة للقياس في أي نظرية فعَّالة، ويستخدمونها لإجراء الدراسات العلمية المتعلقة بالنطاقات التي يتناولونها، وعندما تعرف تفاصيل المسافات القصيرة، أو البنية الدقيقة لنظرية ما، يمكنك التوصُّل إلى الكميات في الوصف الفعَّال من خلال بنية مفصلة أكثر جوهرية، ودون ذلك لا تكون هذه الكميات سوى كيانات مجهولة لا يمكن تحديدها تجريبيًّا. والكميات التي يمكن ملاحظتها على نطاقات أكبر في النظرية الفعَّالة لا تقدِّم الوصف الجوهري، لكنها وسيلة ملائمة لتنظيم الملاحظات والتنبؤات.
والوصف الفعَّال يمكن أن يلخِّص نتائج أي نظرية تتناول مسافات أقصر، وتنتج ملاحظات على نطاق أكبر، لكنَّ آثارَها المباشرة أدقُّ مما يمكن ملاحظته. ولهذا فائدته؛ إذ يسمح لنا بدراسة العمليات وتقييمها باستخدام معاملات أقل مما نحتاج إليه إذا أخذنا كل تفصيل في الاعتبار. وهذه المجموعة الأصغر حجمًا ملائمة تمامًا لوصف العمليات التي نهتم بها. بالإضافة إلى ذلك، فإن مجموعة المعايير التي نستخدمها هي معايير «عامة»؛ أي ثابتة بغض النظر عن العمليات الفيزيائية الجوهرية الأكثر تفصيلًا. ولمعرفة قِيَم هذه المعايير، ليس علينا سوى قياسها في أيٍّ من العمليات الكثيرة التي تنطبق عليها.
هذا وتنطبق النظرية الفعَّالة الواحدة على نطاق كبير من الأطوال والطاقات، وبعد تحديد المعاملات القليلة لها من خلال القياسات، يمكن حساب أي شيء يتناسب مع هذه المجموعة من النطاقات؛ فهي تقدِّم مجموعةً من العناصر والقواعد التي يمكن أن تفسِّر عددًا كبيرًا من الملاحظات. والنظرية التي نظنُّها أساسية يمكن أن تتحول في أي وقت إلى نظرية فعَّالة؛ لأنه ليس بالإمكان أن يكون لدينا دقة تامة لا نهائية، لكننا نثق في النظرية الفعَّالة؛ لأنها تنجح في التنبؤ بالكثير من الظواهر التي تنطبق على مجموعة كبيرة من نطاقات الأطوال والطاقات.
والنظريات الفعَّالة في الفيزياء لا تُتابِع المعلومات المتعلقة بالمسافات القصيرة فحسب، وإنما يمكن أن تلخِّص كذلك آثارَ المسافات الطويلة التي قد تكون نتائجها أدق أيضًا مما يمكن ملاحظته. على سبيل المثال، الكون الذي نعيش فيه منحنٍ انحناءً بسيطًا للغاية، وهذا ما أخبرنا أينشتاين بإمكانية حدوثه عندما وضع نظرية الجاذبية الخاصة به، وهذا الانحناء ينطبق على نطاقات أكبر تشمل بنية الفضاء ذات النطاق الكبير، لكننا يمكن أن نفهم على نحو منهجي لماذا تُعَدُّ آثار هذا الانحناء أصغر من أن يكون لها أهمية فيما يتعلق بمعظم الملاحظات والتجارب التي نُجرِيها محليًّا على نطاقات أصغر بكثير. ولا حاجة لنا في التفكير في مثل هذه الآثار — الأدق من أن يكون لها أهمية فيما يتعلق بالكثير مما أصفه في هذا الكتاب — إلا عند تضميننا للجاذبية في وصفنا لفيزياء الجسيمات، وفي هذه الحالة أيضًا، توضِّح لنا النظرية الفعَّالة المناسِبة كيفيةَ تلخيص آثار الجاذبية في عدد قليل من المعاملات المجهولة التي يمكن تحديدها تجريبيًّا.
ومن أكثر جوانب النظرية الفعَّالة أهميةً أنها في الوقت الذي تصف فيه ما يمكننا رؤيته، فإنها تصنِّف أيضًا ما هو غير موجود، سواء أكان ذلك على نطاق صغير أم كبير. ومع أي نظرية فعَّالة، يمكننا تحديد حجم التأثير الذي يمكن أن تُحدِثه الديناميكيات الأساسية المجهولة (أو المعلومة) عند أي قياس معين. وحتى قبل التوصُّل إلى اكتشافات جديدة عند نطاقات مختلفة، يمكننا أن نحدِّد رياضيًّا أقصى مدى للتأثير الذي يمكن أن تُحدِثه أي بنية جديدة على النظرية الفعَّالة في إطار النطاق الذي نعمل عليه. ومثلما سنرى في الفصل الثاني عشر، لا يتحقَّق الاستيعاب الكامل للحدود الفعلية لأي نظرية فعَّالة إلا عند اكتشاف الجوانب الفيزيائية الخفية لها.
تُعَدُّ الديناميكا الحرارية من النماذج المألوفة للنظرية الفعَّالة. توضِّح لنا الديناميكا الحرارية كيف تعمل الثلاجات والمحركات، وقد وُضِعَتْ هذه النظرية قبل النظرية الذرية أو الكمية بفترة طويلة. من الخصائص المميزة للحالة الديناميكية الحرارية لأي نظام: الضغط، والحرارة، والحجم. ورغم أننا نعلم أن النظام يتكوَّن بشكل أساسي من غاز مكوَّن من ذرات وجزيئات — ذات بنية أكثر تفصيلًا بكثير مما يمكن للكميات الثلاث السابقة وصفها — فإنه من أجل تحقيق أهداف عديدة يمكننا التركيز على هذه الكميات الثلاث فحسب، لوصف سلوك النظام الذي يمكن ملاحظته بالفعل.
بمجرد أن تُفهَم النظرية الأساسية، يمكننا الربط بين درجة الحرارة والضغط من جانب، وخصائص الذرات من جانب آخَر، بالإضافة إلى إدراك متى يبطل تحليل الوصف الديناميكي الحراري. لكن يظل بإمكاننا استخدام الديناميكا الحرارية في العديد من التنبؤات. في الواقع، لا يمكن فهم الكثير من الظواهر إلا من وجهة نظر ديناميكية حرارية؛ وذلك لأنه بدون قدر ضخم من الذاكرة والقوة الحسابية — الذي يتجاوز كثيرًا ما هو موجود بالفعل — لا يمكننا تتبُّع مسارات كافَّة الذرات الفردية. وتُعَدُّ النظرية الفعَّالة السبيل الوحيد الآن لفهم بعض الظواهر الفيزيائية المهمة الوثيقة الصلة بالمادة «المُكثَّفة» السائلة والصلبة.
يوضِّح لنا هذا المثال جانبًا آخَر مهمًّا للنظريات الفعَّالة، فنحن نتعامل عادةً مع كلمة «أساسي» كوصف نسبي. من منظور الديناميكا الحرارية، الوصف الذري والجزيئي أساسي، لكن في وصف فيزياء الجسيمات — الذي يوضِّح بالتفصيل الكواركات والإلكترونات داخل الذرات — فإن الذرة «مركبة»؛ أي إنها مكوَّنَة من عناصر أصغر حجمًا، واستخدامها من منظور فيزياء الجسيمات يُعَدُّ نظرية فعَّالةً.
هذا الوصف لتطوُّر العلم المباشِر مما هو مفهوم جيدًا إلى ما يقع على حدود المعرفة ينطبق في أفضل صوره على مجالات مثل الفيزياء وعلم الكونيات، وهي المجالات التي نتمتع فيها بفهم واضح للوحدات الوظيفية والعلاقات بينها. والنظريات الفعَّالة لا تعمل بالضرورة في المجالات الحديثة، مثل علم أحياء الأنظمة؛ حيث لم تُستوعَب بعدُ العلاقاتُ بين الأنشطة على المستوى الجزيئي والمستويات المجهرية الأخرى، وآليات التغذية الراجعة المناسبة، استيعابًا كاملًا.
رغم ذلك، فإن فكرة النظرية الفعَّالة تنطبق على نطاق واسع من السياقات العلمية. فالمعادلات الرياضية التي تحكم تطوُّر الأنواع لن تتغيَّر استجابةً لظهور نتائج فيزيائية جديدة، وهذا ما تناقشْتُ بشأنه مع عالم الأحياء الرياضي، مارتن نواك، ردًّا مني على سؤال طرحه عليَّ. بإمكانه هو وزملائه وصفُ أي معاملات بعيدًا عن أي أوصاف أساسية، وبإمكانهم في النهاية الربط بين هذه المعاملات ومزيدٍ من الكميات الأساسية — الفيزيائية وغيرها — لكن ذلك لا يغيِّر من المعادلات التي يستخدمها علماء الأحياء الرياضية في تطوير سلوك الجماعات بمرور الوقت.
تلعب النظريات الفعَّالة دورًا مهمًّا لدى فيزيائيي الجسيمات، فهم يفصلون الأنظمة البسيطة في نطاقات مختلفة ويربطون بينها. في الواقع، إن خاصية الخفاء على الرؤية التي تتسم بها البنية الأساسية وتسمح لنا بالتركيزِ على النطاقات القابلة للملاحظة وتجاهُلِ الآثار الأكثر جوهريةً، هي التي تحافظ على التفاعلات الأساسية محجوبة تمامًا بحيث لا يمكننا التنقيب عنها إلا باستنزاف قدر هائل من الموارد والجهود. وضآلة حجم آثار النظريات الأكثر جوهريةً على مدى النطاقات القابلة للملاحظة هي السبب وراء الصعوبة الهائلة التي تنطوي عليها الفيزياء حاليًّا. فإن أردنا إدراكَ آثار طبيعة المادة الأكثر جوهريةً وما بها من تفاعلات، علينا استكشاف النطاقات الأصغر حجمًا مباشَرةً أو إجراء قياسات أكثر دقة، ولا يمكننا الوصول إلى النطاقات البالغة الدقة أو الضخامة إلا باستخدام التكنولوجيا المتطورة؛ لذا يلزم علينا إجراء تجارب مُتقَنة — مثل التجارب التي تُجرَى في مصادم الهادرونات الكبير — لتحقيق التقدم في هذا العصر الذي نعيشه.
الفوتونات والضوء
تضرب قصة نظريات الضوء مثالًا واضحًا لكيفية استخدام النظريات الفعَّالة أثناء تطور العلم، مع طرح بعض الأفكار جانبًا والاحتفاظ بأفكار أخرى كقِيَم تقريبيةٍ بما يتلاءم مع نطاقاتها المحدَّدة. منذ عصر الإغريق، دُرِس الضوء باستخدام البصريات الهندسية، ويمثِّل ذلك أحدَ الموضوعات التي يخضع أي خريج طموح في مجال الفيزياء لاختبار فيها عند خوضه اختبار تقييم الخريجين؛ وهو الاختبار اللازم اجتيازه للقبول في الدراسات العليا. تفترض هذه النظرية أن الضوء ينتقل في صورة أشعة أو خطوط، وتوضِّح سلوك هذه الأشعة أثناء انتقالها عبر الوسائط المختلفة، وكيفية استخدام الآلات لها وكشفها عنها.
الغريب في الأمر أنه ما من أحد فعليًّا (على الأقل في هارفرد حيث أعمل بالتدريس الآن، وكنتُ طالبة يومًا ما) يدرس البصريات الهندسية والتقليدية. لعلها تُدرَّس قليلًا في المرحلة الثانوية، لكنها لا تمثِّل بالتأكيد جزءًا كبيرًا من المنهج.
البصريات الهندسية موضوع قديم شهد أوج فترات ازدهاره منذ عدة قرون، عندما ألَّفَ نيوتن كتابه الشهير «البصريات»، واستمر في العقد الأول من القرن التاسع عشر عندما قام ويليام روان هاميلتون بما يمكن اعتباره التنبؤ الرياضي الحقيقي الأول لظاهرة جديدة.
لا تزال نظرية البصريات التقليدية تنطبق على العديد من المجالات؛ مثل التصوير الفوتوغرافي، والطب، والهندسة، والفلك، إلى جانب استخدامها في تطوير ميكروسكوبات وتليسكوبات ومرايا جديدة. ويستنبط مهندسو وعلماء البصريات التقليدية نماذجَ مختلفةً للظواهر الفيزيائية المتعددة، لكنهم في النهاية يطبقون البصريات فحسب، ولا يكتشفون قوانين جديدة.
تشرَّفْتُ، في عام ٢٠٠٩، بأن طُلِبَ مني إلقاء «محاضرة هاميلتون» في جامعة دبلن، وهي المحاضرة التي سبَقَني في إلقائها العديد من الزملاء المرموقين. والمحاضرة مسمَّاة بهذا الاسم تيمُّنًا بالسير ويليام روان هاميلتون، الفيزيائي والرياضي الأيرلندي الشهير الذي عاش في القرن التاسع عشر. وأعترف هنا أن اسم هاميلتون شديد الشيوع في الفيزياء، لدرجة أنني لم أربط — بحماقة مني — في البداية بين الاسم والشخص الحقيقي الأيرلندي الأصل. لكن ما أذهلني حقًّا هو ذلك القدر الكبير من جوانب الرياضيات والفيزياء التي أَحْدَثَ هاميلتون ثورةً فيها، بما في ذلك — على سبيل المثال لا الحصر — البصريات الهندسية.
والاحتفال بما يُسمَّى «يوم هاميلتون» مذهل حقًّا. وتشمل أنشطة هذا اليوم مسيرةً على شاطئ قناة «رويال كانال» في دبلن، حيث يتوقَّف جميعُ المشاركين في الاحتفال عند جسر «برووم» لمشاهدة أصغر عضو فيهم، وهو يكتب بعض المعادلات على الجسر الذي حفَرَ هاميلتون على جانبه منذ سنوات عديدة — في ذروة حماسه باكتشافاته — ما توصَّلَ إليه من أفكار. ولقد زرتُ المرصد الفلكي الجامعي في مدينة دانسينك حيث عاش هاميلتون، وتمكَّنْتُ من رؤية البَكر والبنية الخشبية للتليسكوب الذي يعود تاريخه إلى نحو قرنين من الزمان. كان هاميلتون قد وصل إلى هناك بعد تخرُّجه في كلية ترينيتي في عام ١٨٢٧، ونال منصب رئيس قسم الفلك ولقب الفلكي الملكي بأيرلندا. يتندَّر أهلُ البلد هناك على أنه بالرغم مما تمتَّعَ به هاميلتون من موهبة رياضية فذَّة، فلم تكن لديه معرفة صحيحة أو اهتمام بعلم الفلك، وبالرغم مما حقَّقَه من تطورات نظرية عديدة، ربما يكون قد أعاقَ تقدُّمَ علمِ الفلك الرصدي في أيرلندا لمدة خمسين عامًا.
مع ذلك، يقدِّم «يوم هاميلتون» التقديرَ للإنجازات العديدة التي حقَّقها ذلك العالِم النظري العظيم. وتشمل هذه الإنجازات التطورات في علمَيِ البصريات والديناميكا، وابتكار النظرية الرياضية للزمرة الرباعية (أو الكواتيرنيون؛ تعميم الأعداد المعقدة)، بالإضافة إلى البراهين المؤكَّدة على القوة التنبُّئية للرياضيات والعلوم. وتطوير الكواتيرنيونات لم يكن بالأمر الهين؛ فهي عنصر مهم في التفاضل الشعاعي الذي يمثِّل الأساسَ لدراستنا الرياضية لجميع الظواهر الثلاثية الأبعاد، هذا فضلًا عن استخدامنا لها الآن في رسوم الكمبيوتر؛ ومن ثَمَّ في ألعاب الفيديو وصناعة الترفيه؛ ومن ثَمَّ كلُّ مَن يستمتع الآن بألعاب البلاي ستيشن أو الإكس بوكس يدين بالشكر لهاميلتون عن بعض المتعة التي ينعم بها.
من بين إسهامات هاميلتون المتعددة ذات الأهمية تحقيقُه تقدُّمًا في مجال البصريات. ففي عام ١٨٣٢، أثبت ذلك العالِم أن الضوءَ الذي يسقط بزاوية معينة على بلورة ما لها محوران مستقلان، ينكسر ليشكِّل مخروطًا مجوَّفًا من الأشعة المُنبعِثة، وتوصَّلَ بذلك إلى تنبؤات بشأن انكسار الضوء المخروطي الداخلي والخارجي عبر البلورة. وفي انتصار عظيم — ربما يكون الأول من نوعه — لعلم الرياضيات، أكَّدَ صديق هاميلتون وزميله، هامفري لويد، على صحة هذا التنبؤ، فالتصديق على تنبؤ رياضي لظاهرة لم تسبق رؤيتها من قبلُ كان له أهمية كبيرة، وكُرِّمَ هاميلتون على إنجازه.
وعند زيارتي لدبلن، وصف لي بفخر السكانُ المحليون هذا الاكتشاف الرياضي الذي استند فيه هاميلتون بشكل كامل إلى البصريات الهندسية. كان جاليليو أحد روَّاد التجارب وعلوم الرصد، وكان فرانسيس بيكون من أوائل مَن ناصَرُوا «العلم الاستقرائي» الذي يتم التنبؤ فيه بما سيحدث بناءً على حوادث سابقة. لكن من حيث استخدام الرياضيات في وصف ظاهرة لم يسبق حدوثها من قبلُ، ربما يُعَدُّ تنبُّؤ هاميلتون حول الانكسارِ المخروطيِّ الأولَ من نوعه على الإطلاق؛ ولهذا السبب على الأقل، لا يمكن تجاهُلُ إسهام هاميلتون في تاريخ العلم.
مع ذلك، ورغم أهمية اكتشاف هاميلتون، فلم تَعُدِ البصريات الهندسية التقليدية من موضوعات البحث؛ فجميع الظواهر المهمة تمَّ التوصُّل إليها منذ أمد بعيد. وبعد هاميلتون بفترة قصيرة، في ستينيات القرن التاسع عشر، قدَّم العالم الاسكتلندي، جيمس كلارك ماكسويل — وآخَرون — وصفًا كهرومغناطيسيًّا للضوء، لكن البصريات الهندسية — وإنْ كانَتْ تقريبيةً على نحوٍ جَلِيٍّ — هي وصف جيد للموجات ذات الطول الموجي القصير على نحو تصبح معه آثارُ التدخُّل غير ذات صلة، بحيث يتم التعامل مع الضوء كشعاع خطي. بعبارة أخرى، البصريات الهندسية نظرية فعَّالة، لكنها صالحة في إطار محدود فقط.
لا يعني ذلك الاحتفاظ بكل فكرة ظهرت على الإطلاق؛ فبعض الأفكار ثبت عدم صحتها، ومن الأمثلة على ذلك وَصْفُ إقليدس الأوليُّ للضوء الذي ادَّعَى فيه أن الضوء ينبعث من العينين، وهو الوصف الذي أعاد استخدامه الكِنديُّ في العالَمِ الإسلامي في القرن التاسع. ورغم تقديم آخَرين — مثل عالم الرياضيات الفارسي ابن سهل — لوصف صحيح لظواهر أخرى، مثل الانكسار، بناءً على هذا الأساس الخاطئ، فإن نظرية إقليدس والكِنديِّ — التي تسبق العلم والمناهج العلمية الحديثة — كانت غير صحيحة؛ ومن ثَمَّ لم تستوعبها النظريات التالية لها، وغُضَّ الطرف عنها ببساطة.
لم يتكهَّنْ نيوتن بجانب مختلف لنظرية الضوء، وإنما طوَّر نظرية «الجسيمات» التي لم تتوافق مع نظرية الموجات الضوئية التي وضعها منافِسه روبرت هوك في عام ١٦٦٤، وكريستيان هويجنز في عام ١٦٩٠. واستمر الخلاف بينهم فترة طويلة من الزمان، وفي القرن التاسع عشر، أجرى كلٌّ من توماس يونج وأوجستين جان فرينل قياساتٍ لتداخل الضوء، ليقدِّما إثباتًا واضحًا على أن الضوء يتَّسِم بخصائص الموجات.
جاءت النظرية الجسيمية لنيوتن نتيجةً لدراسة البصريات، لكن الجسيمات التي تحدَّثَ عنها نيوتن — التي لا علاقة لطبيعتها بالموجات — ليست هي نفسها الفوتونات. وبقدر معرفتنا الآن، تُعَدُّ نظرية الفوتونات أكثرَ الأوصاف صحةً وجوهريةً للضوء، الذي يتكوَّن من جسيمات، يمكنها أن تتفق مع وصف الموجات. وتعبِّر ميكانيكا الكم عن وصفنا الأكثر جوهريةً الحالي لماهية الضوء وكيفية تصرفه، وهو وصف يتمتع بالصحة والقابلية للاستمرار في جوهره.
وميكانيكا الكم الآن من المجالات التي تُجرَى فيها أبحاث تفوق بكثير تلك التي تُجرَى في مجال البصريات. وإذا استمر الناس في التفكير في العلم الجديد باستخدام البصريات، فسيتناولون الآثارَ الجديدةَ له التي يمكن تطبيقها فقط مع ميكانيكا الكم؛ لذا فإن العلم المعاصر — وإن لم يَعُدْ يعمل على تطوير علم البصريات التقليدي — يتضمن بالفعل مجالًا لبصريات الكم يدرس الخصائصَ الميكانيكيةَ الكمية للضوء. فنجد الليزر يعتمد على ميكانيكا الكم، والأمر نفسه ينطبق على الكواشف الضوئية، مثل صمامات التضخيم الضوئي والخلايا الفولتية الضوئية التي تحوِّل ضوء الشمس إلى كهرباء.
يضم علم فيزياء الجسيمات الحديث أيضًا نظرية الديناميكا الكهربية الكمية التي وضعها ريتشارد فاينمان وآخَرون. وهذه النظرية لا تشتمل على ميكانيكا الكم فحسب، وإنما أيضًا النسبية الخاصة. ومن خلال الديناميكا الكهربية الكمية، ندرس الجسيمات الفردية التي تشمل الفوتونات — جسيمات الضوء — بالإضافة إلى الإلكترونات وغيرها من الجسيمات التي تحمل شحنة كهربية، ويمكننا فهم المعدلات التي تتفاعل وتتكون وتتدمر بها هذه الجسيمات. والديناميكا الكهربية الكمية هي إحدى النظريات التي تُستخدَم كثيرًا في فيزياء الجسيمات، ويرجع لها الفضل في أكثر التنبؤات المؤكدة دقةً في فيزياء الجسيمات. والديناميكا الكهربية الكمية مختلفة تمامًا عن البصريات الهندسية، لكن كليهما صحيح في مجاله المناسب.
يعكس كل مجال من مجالات الفيزياء فكرة النظرية الفعَّالة عمليًّا. فالعلم يتطوَّر عند ضمِّ الأفكار القديمة في النظريات الأكثر جوهرية، وتظل الأفكار القديمة سارية، ويمكن أن يكون لها تطبيقات عملية، لكنها لا تكون مجالًا رئيسيًّا للبحث. ورغم التركيز المُنصَبِّ في نهاية هذا الفصل على النموذج المحدَّد للتفسير الفيزيائي للضوء عبر العصور، فإن الفيزياء ككلٍّ تطوَّرَتْ بهذا الأسلوب. يتقدم العلم بشيء من عدم اليقين، لكنه يتسم بوجه عام بالمنهجية أثناء ذلك. والنظريات الفعَّالة في نطاق معين تتجاهل على نحو صحيح الآثارَ التي يمكننا إثبات عدم إحداثها أي اختلاف في أي قياس بعينه. تستمر المعرفة والأساليب التي اكتسبناها في الماضي، لكن النظريات تتطوَّر مع تقدُّم فهمنا لمجموعة أكبر من المسافات والطاقات، وتمنحنا صورُ التقدُّم إدراكًا أكثر عمقًا للعوامل المسئولة بشكل أساسي عن الظواهر التي نراها.
واستيعاب هذا التقدُّم يساعدنا في التوصُّل إلى تفسير أفضل لطبيعة العلم، وتقدير بعض من الأسئلة الأساسية التي يطرحها الفيزيائيون (وغيرهم) الآن. وسنرى في الفصل التالي أن المنهجية الحالية — من نواحٍ عدة — قد بدأت في القرن السابع عشر.