تجربتا اللولب المركب للميوونات وكاشف أطلس
في أغسطس ٢٠٠٧، شجَّعني الفيزيائي الإسباني ورئيس فريق النظريات في سيرن، لويس ألباريث جومي، بحماس شديد على الانضمام إلى إحدى الجولات بتجربة كاشف أطلس، التي كان عالِمَا الفيزياء التجريبية بيتر جيني وفابيولا جيانوتي يُعِدَّان لها من أجل الزيارة التي سيقوم بها تسونج داو لي الحاصل على جائزة نوبل وبعض الشخصيات الأخرى للمصادم. وكان من المستحيل مقاومة الحماس المذهل لبيتر وفابيلولا، اللذين كانا يشغلَان آنذاك منصبَيِ المتحدث الرسمي ونائب المتحدث الرسمي للتجربة، وكانت خبرتهما وإلمامهما بكافة تفاصيل التجربة يطغيان دومًا على حديثهما.
بعد التوقف الأول، واصلنا المسير إلى الطابق الأول بأسفل الذي ضمَّ بين جنباته كاشفَ أطلس غير المكتمل آنذاك. الجيد في عدم اكتمال الكاشف آنذاك هو أننا تمكَّنَّا من رؤية الأجزاء الداخلية له التي كان سيتم تغطيتها فيما بعدُ وحجبها عن الرؤية، على الأقل حتى يتم إيقافُ تشغيل المصادم لفترة طويلة من الوقت لإجراء أعمال الصيانة والإصلاح. ومن ثم، فقد سنحت لنا فرصة إمعان النظر مباشَرةً في الهيكل المفصَّل الذي خلب ألبابنا بألوانه وحجمه الضخم الذي تجاوَزَ حجم صحن كاتدرائية نوتردام.
لكن الحجم نفسه لم يكن أكثر الأمور إذهالًا؛ فمَن عاش منَّا في نيويورك أو أي مدينة أخرى كبيرة لن يفغر فاه بالضرورة أمام المشروعات الإنشائية الضخمة، بل ما يجعل تجربة كاشف أطلس مهيبةً حقًّا هو أن هذا الكاشف الضخم مكوَّن من العديد من عناصر الكشف الصغيرة، وبعضها مُصمَّم خصوصًا لقياس المسافات بدقة على مستوى الميكرونات. مكمن المفارَقَة في كواشف مصادم الهادرونات الكبير أننا بحاجة إلى مثل هذه التجارب الضخمة لقياس أصغر المسافات بدقة. عندما أعرض صور ذلك الكاشف الآن في المحاضرات العامة التي ألقيها، أشعر بضرورة التأكيد على أن تجربة كاشف أطلس ليست فقط كبيرة، لكنها أيضًا دقيقة، وهذا ما يجعلها مذهلة حقًّا.
عرَضَ الفصل الثامن من هذا الكتاب مقدمة عن ماكينة مصادم الهادرونات الكبير التي تعمل على تعجيل البروتونات وتصادمها، وفي هذا الفصل سينصب التركيز على كاشفين لهما أهداف عامة بمصادم الهادرونات الكبير؛ أَلَا وهما اللولب المركب للميوونات وكاشف أطلس. من المنتظر من هذين الكاشفين التعرُّف على ما ستُسفِر عنه التصادمات، أما التجارب الأخرى بالمصادم (تجربة تصادم الأيونات الكبيرة، وتجربة الجمال في مصادم الهادرونات الكبير، وتجربة قياس القطاع العرضي الكلي، والتبدُّد المرن، والعمليات الانحرافية، وتجربة ألفا، وتجربة الجسيمات الأمامية بمصادم الهادرونات الكبير) فقد صُمِّمتْ لأهداف أكثر تخصُّصًا، مثل التوصل لفهم أفضل للقوة النووية القوية، وإجراء قياسات دقيقة للكواركات القاعية. هذه التجارب الأخرى ستدرس، على الأرجح، عناصر النموذج القياسي بالتفصيل، لكنها لن تكتشف في الغالب الطاقة العالية الجديدة التي تتجاوز حدود فيزياء النموذج القياسي، الأمر الذي يُعَدُّ الهدف الأساسي لمصادم الهادرونات الكبير. لكن اللولب المركب للميوونات وكاشف أطلس هما الكاشفان الرئيسيان اللذان سيُجرِيان القياسات التي ستكشف — كما نطمح — عن مادة جديدة وظواهر جديدة.
يشتمل هذا الفصل على قدر كبير من التفاصيل الفنية، المُنظِّرون أنفسهم أمثالي لا حاجة لهم في معرفة هذه الحقائق، والقرَّاء الذين لا يهتمون إلا بالعمليات الجديدة التي قد نكتشفها أو مفاهيم مصادم الهادرونات الكبير بوجه عام يمكنهم تخطِّي هذا الجزء من الكتاب. إلا أن تجارب مصادم الهادرونات الكبير ألمعية ومبهرة، وإغفال هذه التفاصيل سيبخس هذا المشروع حقَّه.
مبادئ عامة
يُعَدُّ كلٌّ من كاشف أطلس واللولب المركب للميوونات التطورَ المنطقي للتحوُّل الذي أحدثه جاليليو وآخرون في العلم منذ عدة قرون؛ فمنذ اختراع المجهر، سمحت التكنولوجيا — التي شهدت تطورًا متتابعًا — للفيزيائيين بالدراسة غير المباشِرة لمسافات أبعد وأبعد، وعلى نحو متكرر كشفت دراسة الأحجام الصغيرة عن البنية الجوهرية للمادة، تلك البنية التي لا يمكن ملاحظتها إلا باستخدام المجسات المتناهية الصغر.
والتجارب التي يضمها مصادم الهادرونات الكبير مُعَدَّة خصوصًا لدراسة البنية الثانوية والتفاعلات بحجم أصغر من السنتيمتر الواحد بمائة ألف تريليون مرة؛ أي أصغر عشرة أضعاف من أي شيء سبقت دراسته باستخدام أي تجربة من قبلُ. وبالرغم من أن التجارب السابقة للمصادمات العالية الطاقة — مثل تجارب المصادم تيفاترون في فيرميلاب في باتافيا بولاية إلينوي — قد قامت على مبادئ مشابِهة لتلك التي تقوم عليها كواشف مصادم الهادرونات الكبير، فإن معدل التصادم والطاقة غير المسبوق الذي تواجِهه هذه الكواشف الجديدة قد فرض العديد من التحديات الجديدة التي فرضت بدورها الحجم والتعقيد غير المسبوقين لها.
وشأنها شأن تليسكوبات الفضاء، بمجرد أن تُشيَّد الكواشف، يستحيل الدخول إليها؛ فهي تُغلَق على عمق كبير تحت سطح الأرض، وتتعرَّض لكميات هائلة من الإشعاع، ولا يمكن لأحد الدخول إلى الكاشف أثناء تشغيله. وحتى في حالة عدم تشغيله، يكون الوصول إلى أي عنصر به صعبًا للغاية ويستغرق وقتًا طويلًا؛ لهذا السبب شُيِّدت الكواشف لتظلَّ على حالها عقدًا من الزمان على الأقل، حتى دون صيانة. لكن، وُضِعت خطط لفترات إغلاق طويلة بعد كل عامين من تشغيل مصادم الهادرونات الكبير، وفي أثناء هذه الفترة يدخل الفيزيائيون والمهندسون إلى أجزاء عديدة من مكونات الكاشف.
لكن تجارب الجسيمات تختلف اختلافًا كبيرًا عن التليسكوبات في جانب واحد مهم؛ فكواشف الجسيمات لا تستهدف اتجاهًا معينًا، وإنما تستهدف جميع الاتجاهات في آنٍ واحد. تحدث التصادمات، فتظهر الجسيمات، وتسجل الكواشف أي حدث من المحتمل أن يكون ذا أهمية. وجدير بالذكر أن أطلس واللولب المركب للميوونات كاشفان ذوا أهداف عامة؛ فهما لا يسجِّلان نوعًا واحدًا من الجسيمات أو الأحداث فقط، أو يركِّزان على عمليات محدَّدة، وإنما صُمِّم هذان الجهازان التجريبيان لاستيعاب البيانات من أوسع نطاق ممكن من التفاعلات والطاقات. ويحاول الفيزيائيون التجريبيون، عن طريق استغلال القدرة الحاسوبية الهائلة المتوفرة لديهم، استخلاص المعلومات بوضوح بشأن هذه الجسيمات وما يُسفِر عنه تحلُّلها، مستندين في ذلك إلى «الصور» التي تسجِّلها التجارب.
أكثر من ٣٠٠٠ شخص ينتمون إلى ١٨٣ مؤسسة علمية ويمثلون ٣٨ دولة، يشاركون في تجربة اللولب المركب للميوونات؛ حيث يعملون على تشييد الكاشف وتشغيله وتحليل البيانات. ويرأس هذا التعاون الآن الفيزيائي الإيطالي جويدو تونيلي الذي بدأ عمله كنائب المتحدث الرسمي للمشروع.
وفي كسر لقاعدة استئثار الفيزيائيين الذكور بالمناصب الرئاسية في سيرن، انتقلت الإيطالية فابيولا جيانوتي ذات الشخصية المثيرة للإعجاب من منصب نائب المتحدث الرسمي إلى المتحدث الرسمي للمشروع، لكنْ هذه المرة للتجربة الأخرى ذات الأهداف العامة، كاشف أطلس. وقد نالت جيانوتي هذا المنصب عن استحقاق؛ إذ بالرغم مما تتسم به من شخصية حليمة وودودة وسلوك مهذَّب، فإن مساهماتها المؤسسية والفيزيائية هائلة. ما يثير غيرتي حقًّا هو أنها فضلًا عن كل ذلك طاهية ماهرة، وإنْ كان هذا متوقعًا كونها سيدة إيطالية تهتم كثيرًا بالتفاصيل.
تنطوي تجربة كاشف أطلس كذلك على تعاون ضخم؛ فأكثر من ٣٠٠٠ عالم ينتمون إلى ١٧٤ مؤسسة في ٣٨ دولة شاركوا في هذه التجربة (ديسمبر ٢٠٠٩). بدأ التعاون لتنفيذ هذا المشروع في عام ١٩٩٢ عندما اندمجت تجربتان مقترحتان — وهما «تجربة القياسات الدقيقة للطاقة واللبتونات وأشعة جاما» و«الجهاز المزود بحلقات فائقة التوصيل» — في تصميم واحد يضم سمات كلتيهما، بالإضافة إلى خصائص كواشف المصادم الفائق ذي الموصلية الفائقة المقترَح آنذاك. وقُدِّم المقترح النهائي في عام ١٩٩٤، وتم تمويله بعد ذلك التاريخ بعامين.
علاوةً على ما سبق، يوفِّر وجود تجربتين عنصرًا قويًّا للمنافسة، الأمر الذي يذكِّرني به دومًا زملائي من الفيزيائيين التجريبيين؛ فالمنافسة تدفعهم للوصول إلى النتائج على نحو أسرع وأكثر دقةً، هذا فضلًا عن أن أعضاء كل تجربة يتعلَّمون بعضهم من بعض. وستجد أي فكرة جيدة طريقَها إلى كلتا التجربتين، حتى إن اختلَفَت طريقة التنفيذ بعض الشيء في كلٍّ منهما. هذا التنافس والتعاون، مصحوبًا بتكرار أبحاث منفصلة تعتمد على أساليب تكنولوجية وتهيئة مختلفة بعض الشيء، هو السبب وراء اتخاذ القرار بإجراء تجربتين لهما أهداف مشتركة.
أُسأَل عادةً عن موعد إجراء مصادم الهادرونات الكبير لتجاربي وبحثه عن النماذج المحدَّدة التي اقترحتُها برفقة معاونَيَّ. وتكون إجابتي على الفور هي أن المصادم يبحث كافة المقترحات التي قدَّمها آخرون أيضًا، فيعمل الفيزيائيون النظريون على تقديم أهداف بحثية واستراتيجيات جديدة للعثور على الأشياء. ويهدف بحثنا للتعرُّف على كيفية العثور على أي عناصر أو قوًى فيزيائية جديدة عند مستويات أعلى من الطاقة، ليتمكَّنَ الفيزيائيون من التوصُّل إلى النتائج وقياسها وتفسيرها؛ ومن ثَمَّ اكتساب مدارك جديدة بشأن الحقيقة الكامنة وراء كل ذلك، أيًّا كانت. ولا يدرس الآلاف من الفيزيائيين التجريبيين، الذين ينقسمون إلى فِرَق للتحليل، ما إذا كانت المعلومات التي تم التوصل إليها تتلاءم مع النماذج — التي وضعتها أنا أو وضعها أي شخص آخر وتبدو مثيرة للاهتمام — أم لا إلا بعد تسجيل البيانات.
بعد ذلك، يفحص الفيزيائيون النظريون والفيزيائيون التجريبيون البيانات التي تم تسجيلها لمعرفة ما إذا كانت تتماشى مع أي نوع محدَّد من الفرضيات أم لا. ورغم أن الكثير من الجسيمات لا تدوم إلا لجزء من الثانية، ورغم أننا لا نشاهدها مباشَرَةً، يستخدم الفيزيائيون التجريبيون البيانات الرقمية التي تتشكَّل منها هذه «الصور» لتحديد هوية الجسيمات التي يتكوَّن منها قلب المادة، وكيف تتفاعل. وفي ظل التعقيد الذي تتسم به الكواشف والبيانات، سيكون أمام الفيزيائيين التجريبيين الكثير من المعلومات التي عليهم معالجتها. والجزء المتبقي من هذا الفصل مخصَّص لاستعراض ماهية هذه المعلومات بالضبط.
كاشفا أطلس واللولب المركب للميوونات
إلى الآن تتَبَّعْنا رحلة البروتونات بمصادم الهادرونات الكبير، بدءًا من انتزاعها من ذرات الهيدروجين، وصولًا إلى تعجيلها إلى طاقة عالية في الحلقة البالغ محيطها ٢٧ كيلومترًا. والحزمتان المتوازيتان تمامًا لا تتقاطعان أبدًا، وكذلك حزمتا البروتونات اللتان تسيران في اتجاهين معاكسين داخلهما؛ لذا — في عدة مواقع بالحلقة — تعمل المغناطيسات الثنائية القطب على تحويل حزمتَيِ الجسيمات هاتين عن مسارهما، بينما تعمل المغناطيسات الرباعية الأقطاب على تركيزهما لتلتقي البروتونات الموجودة فيهما وتتفاعل داخل منطقة تقل مساحتها عن ٣٠ ميكرونًا. وتُعرَف النقاط التي تحدث فيها التصادمات بين البروتونات في مركز كل كاشف باسم نقاط التفاعل.
تتميز جسيمات النموذج القياسي بكتلتها ودورانها وقواها التي تتفاعل من خلالها. وأيًّا كان ما سينتج في النهاية، تعتمد كلتا التجربتين على الكشف عن هذا الناتج من خلال القوى والتفاعلات المعروفة للنموذج القياسي؛ فهذا كل ما يُحتمَل حدوثه. والجسيمات التي لا تحمل أيًّا من هذه الشحنات ستترك منطقة التفاعل دون أن تخلِّف وراءها أي أثر.
لكن عندما تقيس التجاربُ تفاعلاتِ النموذج القياسي، يمكن التعرُّف على ما مَرَّ بها من جسيمات، وهذا ما صُمِّمت الكواشف لفعله. فيقيس كلٌّ من كاشف أطلس واللولب المركب للميوونات الطاقةَ والزخمَ الخاصَّيْنِ بكلٍّ من الفوتونات والإلكترونات والميوونات والتاوونات والجسيمات المتفاعلة بواسطة القوة القوية التي تضمها تدفقات الجسيمات المصطفة بجوار بعضها البعض وتسير في الاتجاه نفسه. والكواشف المحيطة بمنطقة تصادم البروتونات مُصمَّمة لقياس الطاقة أو الشحنة من أجل تحديد الجسيمات، وتحتوي على إلكترونيات وبرامج وأجهزة كمبيوتر معقَّدَة للتعامُل مع الكميات الهائلة من البيانات. ويتعرَّف الفيزيائيون التجريبيون على الجسيمات المشحونة لأنها تتفاعل مع غيرها من الأجسام الأخرى المشحونة التي نعرف كيف نعثر عليها، هذا فضلًا عن عثورها على أي شيء يتفاعل بواسطة القوة القوية.
تعتمد مكونات الكاشف جوهريًّا على الأسلاك والإلكترونات الناتجة عن التفاعلات مع المواد الموجودة في الكاشف لتسجيل ما مرَّ خلاله. وفي بعض الأحيان، يظهر وابل من الجسيمات المشحونة بسبب إنتاج الكثير من الإلكترونات والفوتونات، وتُؤيَّن المواد أحيانًا بواسطة الشحنات المسجلة، لكن في كلتا الحالتين، تسجِّل الأسلاك الإشارةَ وترسلها لكي يعالجها الفيزيائيون ويحللونها على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم.
تلعب المغناطيسات كذلك دورًا مهمًّا في كلا الكاشفين؛ فهي ضرورية لقياس إشارة شحنات الجسيمات المشحونة وزخمها. تنحني الجسيمات ذات الشحنات الكهرومغناطيسية في المجال المغناطيسي حسب سرعة تحركها، أما الجسيمات ذات الزخم الأكبر فتتحرك على نحو أكثر استقامة، بينما تنحني الجسيمات ذات الشحنات المتضادة في اتجاهات متضادة. ونظرًا لأن الجسيمات في مصادم الهادرونات الكبير تتسم بقدر كبير من الطاقة (والزخم)، يحتاج الفيزيائيون التجريبيون مغناطيساتٍ قويةً للغاية ليتمكَّنوا من قياس الانحناء البسيط لمسارات الجسيمات المشحونة العالية الطاقة.
أما اللولب المركب للميوونات، فهو أصغر حجمًا من كاشف أطلس، لكنه أثقل وزنًا؛ إذ يصل وزنه إلى ١٢٥٠٠ طن متري، ويبلغ طوله ٢١ مترًا، وقطره ١٥ مترًا. فهو أصغر لا شك من كاشف أطلس، لكن حجمه مع ذلك يكفي لتغطية ملعب تنس كامل.
وما يميِّز اللولب المركب للميوونات هو مجاله المغناطيسي القوي البالغة شدته ٤ تسلا، وهو ما تشير إليه كلمة «اللولب» في اسم الكاشف. واللولب في الجزء الداخلي من الكاشف يتكوَّن من بكرة أسطوانية بقُطْر يبلغ ستة أمتار، مكوَّنة من كابل فائق التوصيل. ويُعَدُّ المقرن الارتدادي، الذي يمر عبر الجزء الخارجي من الكاشف، من الأشياء المذهلة أيضًا، ويرجع إليه قدر كبير من الوزن الهائل للكاشف، وكمية الحديد الموجودة به تفوق ما يوجد في برج إيفل بباريس.
لعلك تتساءل أيضًا عن كلمة «الميوونات» في اسم «اللولب المركب للميوونات» (هذا ما فعلته أنا أيضًا عندما سمعته للمرة الأولى). إن التعرف السريع على الإلكترونات والميوونات — التي هي جسيمات شبيهة بالإلكترونات، لكنها أثقل وزنًا وتنفُذ وصولًا إلى الحدود الخارجية للكاشف — يمكن أن يكون له أهمية في الكشف عن جسيمات جديدة؛ وذلك لأن هذه الجسيمات العالية الطاقة تصدر أحيانًا عندما تتحلَّل الأجسام الثقيلة. ونظرًا لأنها لا تتفاعل بواسطة القوة النووية القوية، فستكون على الأرجح شيئًا جديدًا؛ لأن البروتونات لا يمكن أن تكوِّنها من تلقاء نفسها؛ ومن ثَمَّ يمكن لهذه الجسيمات القابلة للتحديد أن تشير إلى وجود جسيم متحلل مثير للاهتمام نتج عن التصادم. وقد أوليت الميوونات العالية الطاقة اهتمامًا خاصًّا عند تصميم المجال المغناطيسي باللولب المركب للميوونات، وذلك لكي يتمكَّن هذا المجال من استهدافها. يعني ذلك أنه سيسجل البيانات المتعلِّقة بأي حدث يتضمن هذه الميوونات، حتى إذا اضطر لاستبعاد الكثير من البيانات الأخرى.
ولقياس جميع خصائص الجسيمات، تبرز مكونات الكاشف الأسطواني المتزايدة في حجمها من المنطقة التي تحدث فيها التصادمات. ويحتوي كلٌّ من كاشف أطلس واللولب المركب للميوونات على أجزاء مغمورة عديدة مصمَّمة لقياس مسار الجسيمات أثناء مرورها، وقياس شحنات هذه الجسيمات. وأول ما تواجِهه الجسيمات الناتجة عن التصادم هو «متعقبات المسار الداخلية»، التي تقيس بدقة مسارات الجسيمات المشحونة بالقرب من نقطة التفاعل، ثم تمر على «المِسعَرات» التي تقيس الطاقة التي ترسبها الجسيمات المتوقفة بالفعل، وبعد ذلك تمر على «كواشف الميوونات» الموجودة عند الحواف الخارجية، وتقيس طاقة الميوونات العالية الاختراق. وكلٌّ من هذه العناصر يتكوَّن من طبقات متعددة لزيادة دقة كل قياس. سوف نستعرض الآن التجربتين بدءًا من الكواشف الموجودة في أوغل نقطة بهما، وصولًا إلى أقصى نقطة خارجية وفقًا لما يُقاس من الحزم، ونوضِّح كيف يتحوَّل رذاذ الجسيمات الناتجة عن التصادم إلى معلومات مسجَّلَة قابلة للتحديد.
متعقبات المسار
إن أوغل أجزاء الكاشف هي متعقبات المسار التي تسجِّل مواقع الجسيمات المشحونة عند خروجها من منطقة التفاعل حتى يمكن بناء مساراتها وقياس زخمها، وفي كلا الكاشفين (أطلس واللولب المركب للميوونات)، يتكوَّن متعقِّب المسار من مكونات عديدة متحدة المركز.
والطبقات الأقرب للحُزَم ونقاط التفاعل هي الأدق في تقسيمها، وينتج عنها معظم البيانات. تتمركز «البكسلات» السيليكونية في هذه المنطقة بأوغل نقطة بالكاشف، ذات عناصر الكشف المتناهية الدقة، وتبدأ من بعد بضعة سنتيمترات من أنبوب الحزم. صُمِّمت هذه البكسلات من أجل التعقب المتناهي الدقة على مسافة قريبة للغاية من نقطة التفاعل؛ حيث تكون كثافة الجسيمات في أعلى درجاتها. ويُستخدَم السيليكون في الإلكترونيات الحديثة لما يمكن أن ينقشه من تفاصيل دقيقة في كل قطعة صغيرة، وهذا هو السبب نفسه وراء استخدام كواشف الجسيمات له. صُمِّمت البكسلات بكاشفَيْ أطلس واللولب المركب للميوونات للكشف عن الجسيمات المشحونة بدقة عالية للغاية. وعن طريق الربط بين النقاط بعضها ببعض، وبنقاط التفاعل التي نشأت منها، يمكن للفيزيائيين التجريبيين الوصول إلى المسارات التي تتبعها الجسيمات في أوغل منطقة قريبة من الحزمة.
تتألَّف الطبقات الثلاث الأولى من كاشف اللولب المركب للميوونات — التي يصل نصف قطرها إلى ١١ سنتيمترًا — من بكسلات حجمها ١٠٠ في ١٥٠ ميكرومترًا، وعددها الإجمالي ٦٦ مليونًا. وكاشف البكسلات الداخلي بتجربة أطلس على الدرجة نفسها من الدقة أيضًا، وأصغر وحدة يمكن استخلاصها في الكاشف الأوغل بتجربة أطلس هي بكسل بحجم ٥٠ في ٤٠٠ ميكرومتر، وإجمالي عدد البكسلات في أطلس يبلغ حوالي ٨٢ مليونًا؛ أي ما يزيد قليلًا عن عددها في اللولب المركب للميوونات.
فنظرًا لوجود ثلاث طبقات في متعقبات المسار الداخلية هذه، تسجِّل هذه المتعقبات ثلاث «إصابات» لأي جسيم مشحون وثابت لفترة كافية يمر عبرها. وتستمر عمليات التعقب بوجه عام وصولًا إلى متعقب خارجي يتجاوز طبقات البكسل، لإصدار إشارة قوية يمكن أن تكون مرتبطة بأحد الجسيمات على نحو مؤكد.
لقد أوليت أنا ومعاونِي ماثيو باكلي اهتمامًا كبيرًا بهندسة متعقبات المسار الداخلية، وأدركنا أنه بالصدفة البحتة، بعض الجسيمات المشحونة الجديدة المُقدَّر ظهورها، والتي تتحلل بفعل القوة الضعيفة لتصير نظيرًا متعادلًا، من المفترض أن تترك مسارًا لا يتجاوز طوله بضعة سنتيمترات. ومعنى ذلك أنه في هذه الحالات الخاصة، لا يمكن أن تمتد المسارات إلا عبر متعقب المسار الداخلي، بحيث تكون المعلومات المقروءة في هذا الجهاز هي كل المعلومات المتوفرة. وقد درسنا التحديات الأخرى التي واجَهَها الفيزيائيون التجريبيون الذين لم يكن أمامهم ما يعتمدون عليه سوى البكسلات، وهي أوغل الطبقات بالكاشف الداخلي.
لكن أغلب الجسيمات المشحونة تستمر فترة من الزمن تكفي لوصولها إلى مكون متعقب المسار التالي؛ لذلك تسجل الكواشف مسارًا أطول بكثير؛ ولهذا السبب يوجد خارج الكواشف البكسلية الداخلية ذات الدقة العالية الممتدة في اتجاهين، أشرطةُ سيليكون غير متماثلة الحجم تمتد أيضًا في الاتجاهين، ويكون أحد هذين الاتجاهين أكثر وعورةً. تتماشى الأشرطة الأطول مع الشكل الأسطواني للتجربة، وتمكِّن من تغطية مساحة أكبر من التجربة (يجدر التذكُّر هنا أن المنطقة تزداد حجمًا مع ازدياد حجم نصف القطر).
يتألَّف المتعقب السيليكوني في اللولب المركب للميوونات من ١٣ طبقة إجمالًا في المنطقة المركزية، و١٤ طبقة في المنطقتين الأمامية والخلفية. بعد الطبقات الثلاث الأولى المبكسلة بدقة التي وصفناها فيما سبق، تمتد الطبقات الأربع التالية التي تحتوي على أشرطة السيليكون على مدى نصف قطر يبلغ طوله ٥٥ سنتيمترًا. وعناصر الكاشف هنا هي أشرطة يبلغ طولها ١٠ سنتيمترات، وعرضها ١٨٠ ميكرومترًا. والطبقات الست المتبقية تكون أقل دقةً في الاتجاه الأكثر وعورةً، وتحتوي على أشرطة يصل طولها إلى ٢٠ سنتيمترًا، وتتنوع في عرضها ما بين ٨٠ و٢٠٥ ميكرومترات، مع امتدادها لنصف قطر يبلغ طوله ١٫١ متر، وإجمالي عدد الأشرطة في الكاشف الداخلي للَّولب المركب للميوونات ٩٫٦ ملايين شريط. تلعب هذه الأشرطة دورًا مهمًّا في بناء مسارات أغلب الجسيمات المشحونة التي تمر عبرها. وفي المجمل، يحتوي اللولب المركب للميوونات على سيليكون يكفي لتغطية ملعب تنس كامل، ما يُعَدُّ تقدُّمًا ملحوظًا مقارَنَةً بأكبر كاشف سيليكوني سابق، والذي لم يتجاوز حجمه مترين مكعبين فقط.
ونصف قطر الكاشف الداخلي بتجربة أطلس أقصر قليلًا؛ إذ يبلغ مترًا واحدًا، ويصل طوله إلى سبعة أمتار. وكما هو الحال في اللولب المركب للميوونات، خارج طبقات البكسل السيليكونية الداخلية الثلاث، يتألَّف متعقِّب المسار شبه الموصل من أربع طبقات من أشرطة السيليكون. لكن في كاشف أطلس، يبلغ حجمها ١٢٫٦ سنتيمترًا في ٨٠ ميكرومترًا، والمساحة الإجمالية لمتعقب المسار شبه الموصل ضخمة أيضًا؛ إذ تبلغ ٦١ مترًا مربعًا. وبينما تتسم الكواشف البكسلية بفائدتها في تحديد القياسات الدقيقة بالقرب من نقاط التفاعل، يتسم متعقب المسار شبه الموصل بأهمية بالغة في التحديد الكلي للمسار بسبب المنطقة الكبيرة التي يغطيها بدقة هائلة (وإن كان ذلك في اتجاه واحد فقط).
وعلى عكس اللولب المركب للميوونات، الكاشف الخارجي لجهاز أطلس ليس مصنوعًا من السيليكون. فمتعقب الأشعة العبورية — الذي يمثِّل المكون الخارجي الأقصى للكاشف الداخلي — يتكوَّن من أنابيب مملوءة بالغاز، ويعمل كمتعقب وكاشف للأشعة العبورية. تُقاس مسارات الجسيمات المشحونة عندما تؤين تلك الجسيماتُ الغازَ الموجود في الأنابيب البالغ حجمها ١٤٤ سنتيمترًا في ٤ ملِّيمترات، مع وجود أسلاك في منتصفها للكشف عن التأين. وهنا أيضًا توفِّر هذه الأسلاك أعلى مستوًى من الدقة في الاتجاه العرضي. تقيس الأنابيب المسارات بدقة تبلغ ٢٠٠ ميكرومتر؛ أي أقل من دقتها في متعقب المسار الموجود بأوغل نقطة في الكاشف، لكنها تغطِّي منطقة أكبر بكثير. تميِّز الكواشف أيضًا بين الجسيمات التي تتحرك بسرعة قريبة للغاية من سرعة الضوء، والتي تنتج ما يُسمَّى بالأشعة العبورية. يفرق ذلك بين الجسيمات ذات الكتل المختلفة؛ نظرًا لأن الجسيمات الأخف من شأنها التحرُّك على نحو أسرع بوجه عام، ويساعد ذلك في التعرف على الإلكترونات.
إذا شعرت بشيء من التشتُّت بسبب هذا القدر الهائل من التفاصيل، فعليك أن تتذكَّر أن هذه المعلومات تزيد على ما يجب على الفيزيائيين أنفسهم معرفته، لكنها تمنحك فكرةً عن مدى ضخامة هذه التجارب ودقتها، هذا فضلًا عن أهميتها لأي شخص يعمل على مكوِّن معين من مكونات الكاشف. لكن حتى مَن لديهم أكبر قدر من الإلمام بمكون واحد لا يتابعون بالضرورة كافة المكونات الأخرى، وهذا ما علمته بالمصادفة عندما كنتُ أحاوِل تعقُّبَ بعض صور الكاشف والتأكُّد من دقة بعض الرسوم؛ لذا لا تبتئس إذا لم تستوعب هذه المعلومات من المرة الأولى؛ فبالرغم من تنسيق بعض الخبراء للتشغيل الكلي، لا يمتلك الكثير من الفيزيائيين التجريبيين بالضرورة جميعَ التفاصيل.
المِسعَر الكهرومغناطيسي
بمجرد أن يمر الجسيم بمتعقبات المسار الثلاثة، يكون الجزء التالي الذي يواجِهه في رحلته الإشعاعية نحو الخارج هو المِسعَر (الكالوريمتر) الكهرومغناطيسي. يسجل هذا المِسعَر الطاقةَ التي ترسبها الجسيمات المشحونة والمتعادلة التي تتوقف عنده — لا سيما الإلكترونات والفوتونات — والموقع الذي خلَّفت فيه هذه الطاقة. وتبحث آلية الكشف عن رذاذ الجسيمات الذي تنتجه الإلكترونات والفوتونات الساقطة عند تفاعلها مع مواد الكاشف، ويصدر هذا الجزء من الكاشف معلوماتِ تعقُّبٍ دقيقةً عن هذه الجسيمات من حيث طاقتها وموقعها.
يستخدم كذلك كاشف أطلس الرصاص لإيقاف الإلكترونات والفوتونات؛ فتعمل التفاعلات في هذه المادة الماصة على تحويل الطاقة من المسار المشحون الأولي إلى وابل من الجسيمات التي يتم تبيُّن طاقتها بعد ذلك. ويُستخدَم بعد ذلك الأرجون السائل — وهو غاز نبيل لا يتفاعَل كيميائيًّا مع العناصر الأخرى، وشديد المقاومة للإشعاع — لأخذ عينة من طاقة الوابل بهدف استنتاج طاقة الجسيمات الساقطة.
مِسعَر الهادرونات
تأتي الآن المحطة التالية في رحلتنا إلى الخارج بعيدًا عن أنبوب الحُزَم، وهي مِسعَر الهادرونات. يقيس هذا المِسعَر طاقةَ الجسيمات الهادرونية ومواقعها — وهي الجسيمات التي تتفاعل بواسطة القوة القوية — وإن كان يفعل ذلك على نحو أقل دقةً بكثير من قياسات طاقة الإلكترونات والفوتونات التي يُجرِيها المِسعَر الكهرومغناطيسي. وهذا أمر حتمي؛ فمِسعَر الهادرونات ضخم؛ إذ يبلغ قطره مثلًا في كاشف أطلس ثمانية أمتار وطوله ١٢ مترًا. وتقسيمه بالدقة ذاتها التي يتسم بها تقسيم المِسعَر الكهرومغناطيسي أمرٌ مكلِّف على نحو مُعجِز؛ لذلك لزم خفض درجة دقة قياس المسارات. وفوق كل ذلك، فإن قياسات الطاقة أصعب في الجسيمات المتفاعلة بواسطة القوة القوية، بغض النظر عن التقسيم. ويرجع ذلك إلى أن الطاقة في وابل الهادرونات تتأرجح بمعدل أكبر.
يحتوي مِسعَر الهادرونات في اللولب المركب للميوونات على طبقات من مادة كثيفة — نحاس أو صلب — تعمل بالتبادل مع بلاط وامضٍ بلاستيكي يسجِّل طاقة الهادرونات التي تمر به وموقعها، بناءً على كثافة الضوء الوامض. والمادة الماصَّة الموجودة في المنطقة المركزية بكاشف أطلس هي الحديد، لكن مِسعَر الهادرونات به يعمل بنفس الطريقة إلى حدٍّ كبير.
كاشف الميوونات
وللميوونات العالية الطاقة فائدةٌ كبيرة عند البحث عن جسيمات جديدة؛ وذلك لأنها — على عكس الهادرونات — معزولة على نحو كافٍ مما يجعلها نقية بدرجة تسمح باكتشافها وقياسها. ويرغب الفيزيائيون التجريبيون في تسجيل كل الأحداث المتعلقة بالميوونات العالية الطاقة في الاتجاه العرضي؛ لأن الميوونات ترتبط على الأرجح بالتصادمات الأكثر أهميةً. ويمكن لكواشف الميوونات أيضًا أن تفيد في الكشف عن أي جسيم مشحون ثابت ثقيل الوزن يتمكَّن من الوصول إلى خارج الكاشف.
تسجِّل الكواشفُ المسمَّاة حجرات الميوونات الإشاراتِ التي تخلِّفها الميوونات التي تصل إلى هذه الكواشف الموجودة بأقصى الجانب الخارجي، وهي تتشابه في بعض الجوانب مع الكاشف الداخلي بما تحويه من أجهزة تعقُّب ومجالات مغناطيسية تعمل على إحناء مسارات الميوونات حتى يمكن قياس مساراتها وزخمها. لكن في حجرات الميوونات، المجال المغناطيسي مختلف، وسُمك الكاشِف أكبر بكثير؛ ما يسمح بإجراء قياسات للانحناءات الأصغر حجمًا؛ ومن ثَمَّ الجسيمات الأعلى في زخمها (تنحني الجسيمات ذات الزخم العالي بدرجة أقل في المجال المغناطيسي). وتمتد حجرات الميوونات في اللولب المركب للميوونات من حوالي ثلاثة أمتار إلى نصف القطر الخارجي للكاشف عند مسافة ٧٫٥ أمتار، في حين تمتد في كاشف أطلس من أربعة أمتار إلى الجانب الخارجي لذلك الكاشف عند مسافة ١١ مترًا. وهذه الهياكل الضخمة تسمح بقياس مسارات الجسيمات البالغ طولها ٥٠ ميكرومترًا.
الأغطية الطرفية
توضع الكواشف في هذه الأطراف لضمان قياس تجاربِ مصادمِ الهادرونات الكبير زخمَ جميعِ الجسيمات. والهدف من ذلك هو جعل أجهزة التجارب «محكمة السد»، بمعنى وجود تغطية في جميع الاتجاهات دون أي ثغرات أو مناطق مُغفَل عنها. والقياسات المحكمة تضمن إمكانية اكتشاف جميع الجسيمات، بما في ذلك الجسيمات غير المتفاعلة أو الضعيفة التفاعل. وفي حال ملاحظة زخم عرضي «لم يكن موجودًا»، يعني ذلك إنتاجَ جسيم أو أكثر ليس لهما تفاعلات يمكن الكشف عنها بشكل مباشِر، مثل هذه الجسيمات لها زخم، وهذا الزخم يساعد التجارب في التعرُّف على وجودها.
وإذا عرفت أن الكاشف يقيس جميع قيم الزخم العرضية، وأن الزخم المتعامِد على الحزمة لا يُحتفَظ به بعد التصادم، فلا بد أن شيئًا ما قد اختفى دون الكشف عنه أو حمَلَه الزخم بعيدًا. والكواشف — كما رأينا — تقيس الزخم في الاتجاهات المتعامدة بعناية شديدة، والمِسعَرات الموجودة في المنطقتين الأمامية والخلفية تضمن إحكام السد عن طريق ضمان عدم إغفال سوى أقل قدر ممكن من الطاقة والزخم العمودي على الحُزَم.
يحتوي اللولب المركب للميوونات على أجهزة امتصاص مصنوعة من الصلب وألياف الكوارتز في الأطراف. تعمل هذه العناصر على فصل مسارات الجسيمات على نحو أفضل لأنها أكثر كثافةً. والنحاس الموجود في الأغطية الطرفية من المواد المُعاد تدويرها، وكان يُستخدَم في الأساس في قذائف المدفعية الروسية. أما جهاز كاشف أطلس، فيستخدم مِسعَرات الأرجون السائل في المنطقة الأمامية ليس من أجل الكشف عن الإلكترونات والفوتونات فقط، وإنما الهادرونات أيضًا.
المغناطيسات
ما تبقَّى لنا وصفه بمزيد من التفصيل في كلا الكاشفين هو المغناطيسات التي استمدت التجربتان اسميهما منها. والمغناطيس ليس عنصرًا كاشفًا؛ بمعنى أنه لا يسجِّل خصائص الجسيمات، لكنه ضروري في عملية الكشف عن الجسيمات؛ لأنه يساعد في تحديد الزخم والشحنة، وهي الخصائص اللازمة للتعرف على مسارات الجسيمات ووصفها. تنحني الجسيمات في المجالات المغناطيسية، فتظهر مساراتها منحنيةً وليست مستقيمة، ومقدار الانحناء واتجاهه يعتمدان على طاقة الجسيمات وشحنتها.
والمغناطيس اللولبي الضخم في تجربة اللولب المركب للميوونات المصنوع من بكرات النيوبيوم والتيتانيوم الفائقة التوصيل يبلغ طوله ١٢٫٥ مترًا وقطره ستة أمتار. هذا المغناطيس هو السمة المميزة للكاشف، وهو الأكبر من نوعه على الإطلاق. يحتوي الملف اللولبي على بكرات سلكية تحيط بقلب معدني، وينتج مجالًا مغناطيسيًّا عند توصيله بالكهرباء، والطاقة المخزَّنَة في هذا المغناطيس تساوي الطاقة التي ينتجها نصف طن متري من مادة تي إن تي. وغني عن الذكر أنه قد اتُّخِذت الاحتياطات اللازمة تحسُّبًا لتعرُّض المغناطيس للإخماد وفقدانه فجأةً الموصلية الفائقة التي يتمتع بها. فاختُبِر الملف اللولبي بنجاح في مجال مغناطيسي تبلغ شدته ٤ تسلا في سبتمبر ٢٠٠٦، لكنه سيتم تشغيله في مجال مغناطيسي أقل شدة (٣٫٨ تسلا) لضمان استمراريته فترةً أطول.
وهذا الملف اللولبي كبير على نحو يسمح له بالإحاطة بطبقات المِسعَر والمتعقب. على الجانب الآخَر، توجد كواشف الميوونات على المحيط الخارجي للكاشف خارج الملف اللولبي، ومع ذلك تتشابك الطبقات الأربع لكاشف الميوونات مع هيكل حديدي ضخم يحيط بالبكرات المغناطيسية ويحتوي هذا المجال ويوجِّهه، مما يضمن الاتساق والاستقرار. ويصل نصف قطر هذا المِقرن المغناطيسي الارتدادي، الذي يبلغ طوله ٢١ مترًا وقطره ١٤ مترًا، إلى نصف القطر الكامل للكاشف البالغ طوله سبعة أمتار. وعمليًّا، هو يشكِّل أيضًا جزءًا من نظام الميوونات؛ نظرًا لأن الميوونات من المفترض أنها الجسيمات المشحونة الوحيدة التي تتخلَّل أطنان الحديد البالغة ١٠ آلاف طن متري، وتعبر حجرات الميوونات (وإن كانت الهادرونات العالية الطاقة تدخل أيضًا هذه الحجرات، الأمر الذي يزعج الفيزيائيين التجريبيين). يتسبب المجال المغناطيسي الناتج عن المقرن في إحناء الميوونات في الكاشف الخارجي، ونظرًا لأن المقدار الذي تنحني به الميوونات في المجال يعتمد على زخمها، يلعب المقرن دورًا محوريًّا في قياس طاقة الميوونات وزخمها. ويلعب المغناطيس الضخم المستقر هيكليًّا دورًا آخَر أيضًا؛ أَلَا وهو تدعيم التجربة وحمايتها من القوى الهائلة الناتجة عن المجال المغناطيسي بها.
من أكثر القصص التي سمعتها عند زيارتي لتجربة أطلس إثارة للاهتمام قصةٌ تتعلق بكيفية إنزال المغناطيسات في البداية بواسطة فرق الإنشاء؛ إذ كانت المغناطيسات بيضاوية (عند رؤيتها من الجانب) عندما بدأ العمل بالمشروع. لكن المهندسين أخذوا في الاعتبار عنصر الجاذبية قبل تركيبها، ما مكَّنهم من إجراء توقعات صحيحة بأنه بعد بعض الوقت، سيصير شكل المغناطيسات أكثر استدارة نظرًا لحجمها.
الحسابات
لا يكتمل أي وصف لمصادم الهادرونات الكبير دون تناول قوته الحاسوبية الهائلة. فبالإضافة إلى الأجهزة المميزة التي تنطوي عليها المِسعَرات ومتعقبات المسار ونُظُم الميوونات والمغناطيسات التي وصفناها فيما سبق، يلعب الحساب المُنسَّق حول العالم دورًا مهمًّا في التعامل مع الكمية الهائلة من البيانات التي تصدر عن التصادمات.
فمصادم الهادرونات الكبير لا يزيد في طاقته عن مصادم تيفاترون — الذي كان الأعلى في مستوى الطاقة في السابق — سبع مرات فحسب، لكن معدل الأحداث التي يتسبَّب فيها مصادم الهادرونات الكبير أسرع ٥٠ مرة من تيفاترون؛ لذا يلزم على هذا المصادم التعامُل مع صور لأحادث متناهية الدقة تقع بمعدل يصل إلى نحو مليار تصادم في الثانية الواحدة، و«صورة» كل حدث تحتوي على حوالي واحد ميجابايت من المعلومات.
هذا القدر من البيانات أكبر بكثير مما يمكن لأي نظام حاسوبي التعامل معه؛ لذلك تقرِّر أنظمة التصفية سريعًا أي البيانات سيُحتفَظ بها وأيها سيُستبعَد. وحتى الآن، أغلب التصادمات المتكررة لا تتجاوز كونها تفاعلات عادية بين البروتونات بفعل القوة القوية، وما من أحد يهتم بمعظم هذه التصادمات التي تعكس العمليات الفيزيائية المعروفة، وما بها من أي شيء جديد.
تشبه تصادمات البروتونات، من بعض النواحي، تصادم الأكياس المليئة بالحبوب. فنظرًا لأن أكياس الحبوب رخوة، فإنها تضمر وتعلق معًا معظم الوقت دون أن تفعل أي شيء مهم أثناء التصادم، لكن أحيانًا عندما تصطدم أكياس الحبوب معًا، ترتطم الحبوب الفردية بعضها ببعض بقوة هائلة، قد تصل إلى حد تصادم الحبوب الفردية وانقطاع الأكياس ذاتها. في هذه الحالة، ستطير الحبوب المتصادمة بعيدًا نظرًا لصلابتها وتتصادم بطاقة موضعية كبيرة، في حين تندفع بقية الحبوب في الاتجاه نفسه الذي بدأت فيه.
وبالمثل، عندما تتصادم البروتونات داخل الحزمة بعضها ببعض، تتصادم الوحدات الثانوية الفردية، وتتسبَّب في حدث مهم، في حين يواصِل الجزء المتبقي من مكونات البروتون سيره في الاتجاه نفسه في أنبوب الحُزَم.
لكن على عكس تصادمات الحبوب التي تصطدم فيها الحبوب ببساطة وتغيِّر اتجاهها، عندما ترتطم البروتونات بعضها ببعض، تتصادم المكونات الموجودة داخلها؛ أي الكواركات والكواركات المضادة والجلوونات، وعندما يحدث ذلك، يمكن أن تتحوَّل الجسيمات الأصلية إلى طاقة أو أنواع أخرى من المادة. وبينما تقتصر التصادمات عند الطاقات المنخفضة على الكواركات الثلاثة الحاملة لشحنة البروتون، تؤدي الآثار الافتراضية لميكانيكا الكم عند الطاقات العالية إلى تكوين محتوى كبير من الجلوونات والكواركات المضادة، مثلما شاهدنا من قبلُ في الفصل السادس. والتصادمات المثيرة للاهتمام هي التي يصطدم فيها أيٌّ من هذه المكونات الثانوية للبروتونات معًا.
وعندما تكون طاقة البروتونات عاليةً، ينطبق الأمر ذاته على الكواركات والكواركات المضادة والجلوونات الموجودة داخلها، لكن هذه الطاقة لا تساوي أبدًا الطاقة الكاملة للبروتونات؛ فهي بوجه عام جزء بسيط من الطاقة الكلية لها فحسب. عادةً، تتصادم الكواركات والجلوونات بقدر ضئيل للغاية من طاقة البروتون لإنتاج جسيمات ثقيلة. وربما بسبب قوة التفاعل الأضعف أو الكتلة الأثقل المتوقَّعة للجسيمات الجديدة، تحدث التفاعلات المهمة التي تتضمن القوى أو الجسيمات التي لم تسبق رؤيتها من قبلُ بمعدل أقل بكثير من تصادمات النموذج القياسي «الاعتيادية».
لذا، فإن معظم التصادمات — شأنها شأن تصادمات أكياس الحبوب — غير مهمة؛ فهي تتضمن إما بروتونات لا تتصادم، أو بروتونات تتصادم فتنتج أحداث «النموذج القياسي» التي نعرف بالفعل أنها موجودة بالتأكيد ولن تفيدنا بقدر كبير من المعلومات. على الجانب الآخَر، توضِّح لنا التنبؤات أن احتمال إنتاج مصادم الهادرونات الكبير لجسيم جديد مهم، مثل بوزون هيجز، يبلغ نحو واحد في المليار.
نستنتج من ذلك أنه في لحظات نادرة فقط سيحالفنا الحظ ويحدث أمر مهم؛ لهذا نحن بحاجة إلى الكثير من التصادمات في المقام الأول. فمعظم الأحداث لن تمثِّل شيئًا جديدًا، لكن عددًا قليلًا فقط من الأحداث النادرة يمكن أن يكون مميزًا ومفيدًا للغاية.
وأدوات «التصفية» — أي الأجهزة والبرامج المُصمَّمة للتعرف على الأحداث التي من المحتمل أن تكون مهمة — هي التي تستكشف هذه الأحداث النادرة والمميَّزة. ولكي تتصور مدى ضخامة هذه المهمة (عند الوضع في الاعتبار القنوات المختلفة المحتملة)، تخيَّلْ أن لديك كاميرا بدقة ١٥٠ ميجابكسل (يشير هذا العدد إلى كمية البيانات الصادرة عن كل مجموعةٍ تمُرُّ)، وبإمكان هذه الكاميرا التقاط الصور بمعدل ٤٠ مليون صورة كل ثانية (معدل مرور المجموعات). يساوي ذلك نحو مليار حدث فيزيائي في الثانية، وذلك على افتراض وقوع ما بين ٢٠ و٢٥ حدث عند مرور كل مجموعة. وأداة التصفية هي المسئولة عن الاحتفاظ ببعض الصور المهمة فقط. يمكنك كذلك التفكير في أدوات التصفية كفلاتر للرسائل غير المرغوب فيها؛ إذ تتمثَّل وظيفتها في التأكُّد من وصول البيانات المهمة فقط لأجهزة الكمبيوتر الخاصة بالفيزيائيين التجريبيين.
تتمثَّل مهمة أدوات التصفية في التعرُّف على التصادمات التي من المحتمل أن تكون مهمة، واستبعاد تلك التي لا تنطوي على أي شيء جديد. والأحداث نفسها — التي تترك نقطة التفاعل وتُسجَّل في الكواشف — لا بد أن تتميز بشكل واضح عن عمليات النموذج القياسي المعتادة. ومعرفة متى تبدو الأحداث مهمة توضِّح لنا أي الأحداث علينا الاحتفاظ بها. يقلل ذلك من معدل الأحداث الجديدة القابلة للتعرُّف عليها بالفعل. إن مهمة أدوات التصفية جسيمة بحق؛ فهي المسئولة عن غربلة مليار حدث في الثانية إلى بضع مئات من الأحداث قد تكون ذات أهمية.
وتحقِّق مجموعة من «بوابات» البرامج والأجهزة هذه المهمة. فيستبعد كل مستوًى متتالٍ من التصفية معظم الأحداث التي يتلقَّاها باعتبارها غير مهمة، تاركًا كمية من البيانات القابلة للتعامل معها بشكل أكبر. وهذه البيانات بدورها تخضع للتحليل بواسطة أنظمة الكمبيوتر في ١٦٠ مؤسسة أكاديمية حول العالم.
أداة تصفية المستوى الأول هي أداة مستندة إلى جهاز — أي مدمجة في الكواشف — وتؤدِّي عملًا جيدًا في ملاحظة الخصائص المميزة، مثل تحديد الأحداث التي تتضمن ميوونات عالية الطاقة أو رواسب طاقة عرضية كبيرة في المِسعَرات. وأثناء انتظار نتيجة أداة تصفية المستوى الأول مدة بضع ميكروثوانٍ، تُحتجَز البيانات الصادرة عن كل مجموعة تمرُّ بالمصادم، أما أدوات تصفية المستويات الأعلى، فتستند إلى البرامج. وتعمل خوارزميات الاختيار على مجموعة كبيرة من أجهزة الكمبيوتر بالقرب من الكاشف. وأداة تصفية المستوى الأول تخفض عدد الأحداث البالغ مليار حدث في الثانية إلى نحو ١٠٠ ألف حدث في الثانية، وهي الأحداث التي تعمل أدوات التصفية المستندة إلى البرامج بعد ذلك على تخفيضها من آلاف إلى بضعة مئات فقط.
ابتكَرَ تيم بيرنرز لي الشبكة العنكبوتية العالمية بهدف معالجة بيانات سيرن، والسماح للفيزيائيين التجريبيين في جميع أنحاء العالم بتبادُل المعلومات باستخدام جهاز كمبيوتر واحد في نفس الوقت. وتُعَدُّ شبكة حوسبة مصادم الهادرونات الكبير التطور الحاسوبي الرئيسي التالي لمنظمة سيرن. دُشِّن العمل بهذه الشبكة في أواخر عام ٢٠٠٨ — بعد تطوير مكثَّف لبرامج الكمبيوتر — للمساعدة في التعامل مع الكميات الهائلة من البيانات التي ينوي الفيزيائيون التجريبيون معالجتها. وتستخدم هذه الشبكة كابلات ألياف بصرية خاصة، ونسبًا عالية السرعة من الإنترنت العام. وترجع تسميتها بالشبكة إلى أن البيانات التي تتناولها لا ترتبط بمكان واحد فقط، وإنما تُوزَّع على أجهزة كمبيوتر تنتشر بجميع أنحاء العالم، وهي تشبه في ذلك الكهرباء في أي منطقة حضرية؛ حيث لا ترتبط بمحطة توليد واحدة فقط.
وبمجرد أن تُخزَّن الأحداث التي تتوصَّل إليها أدوات التصفية، توزَّع عبر هذه الشبكة بجميع أنحاء العالم. وبفضل هذه الشبكة، يكون لدى شبكات الكمبيوتر بجميع بقاع الأرض إمكانيةٌ للوصول إلى البيانات المخزَّنة الوفيرة. وفي حين تنشر شبكة الإنترنت المعلومات، تنشر شبكة حوسبة المصادم القوة الحاسوبية وتخزين البيانات بين الكثير من أجهزة الكمبيوتر المشاركة فيها.
تستخدم مراكز الحوسبة — المنظمة في هيئة صفوف متتالية — شبكةَ حوسبة المصادم لمعالجة البيانات. الصف صفر في هذه المراكز هو المِرفق المركزي للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية؛ حيث تُسجَّل البيانات وتُعاد معالجتها من صورتها الأولية إلى صورة أكثر ملاءمة للتحليلات الفيزيائية. وترسل الاتصالاتُ العالية النطاق الترددي البياناتِ إلى العشرات من مراكز الحوسبة الإقليمية الكبيرة التي تشكِّل الصف الأول من هذه المراكز، ويمكن لمجموعات التحليل الوصول إلى هذه البيانات إن أرادَتْ؛ ومن ثَمَّ تصل كابلات الألياف البصرية الصفَّ الأول بمراكز التحليل البالغ عددها خمسين مركزًا، مشكِّلةً بذلك الصف الثاني من هذه المراكز. وتوجد هذه المراكز الخاصة بالتحليل في الجامعات التي تتمتع بالقدر الكافي من القوة الحاسوبية اللازمة لمحاكاة العمليات الفيزيائية وإجراء بعض التحاليل المعينة. وأخيرًا، فإن أي مجموعة جامعية يمكنها إجراء تحاليل الصف الثالث؛ حيث يتم استخلاص معظم المعلومات الفيزيائية الحقيقية في النهاية.
بالوصول إلى هذه المرحلة، يمكن أن يتفقَّدَ الفيزيائيون التجريبيون ما لديهم من بيانات للوصول إلى ما قد تكشف عنه تصادمات البروتونات العالية الطاقة، وهو ما يمكن أن يكون شيئًا جديدًا ومثيرًا، لكن للتأكُّد ممَّا إذا كان كذلك بالفعل أم لا، تكون المهمة الأولى للتجارب — التي سنستعرضها بمزيد من التفصيل في الفصل التالي — هي استنتاج ما كان موجودًا وتسبَّبَ في هذه النتائج.