التعرُّف على الجسيمات
ولقد صُمِّمت تجربتا أطلس واللولب المركب للميوونات في مصادم الهادرونات الكبير بهدف الكشف عن جسيمات النموذج القياسي والتعرُّف عليها. والهدف الحقيقي، بالطبع، هو تجاوُز حدود معرفتنا الحالية والعثور على مكونات أو قوًى جديدة ترتبط بأهم الألغاز التي نواجِهها، لكن لفعل ذلك ينبغي أن يكون الفيزيائيون قادرين على تمييز الأحداث الخلفية بالنموذج القياسي، والتعرُّف على جسيمات هذا النموذج التي قد تتحلل أي جسيمات غريبة جديدة إليها. ويتشابه الفيزيائيون التجريبيون في مصادم الهادرونات الكبير في هذه الناحية مع المحققين الذين يحلِّلون البيانات بهدف ربط الأدلة معًا والتيقُّن مما هو موجود بالفعل. ولا يمكنهم استنتاج وجود أي شيء جديد إلا بعد استبعادهم كلَّ ما هو مألوف.
بعد استعراضنا تجربتَيِ المصادم ذواتَيِ الأهداف العامة، سوف نتناولهما مجدَّدًا في هذا الفصل لفهم كيفية تعرُّف الفيزيائيين العاملين في مصادم الهادرونات الكبير على الجسيمات الفردية على نحوٍ أفضلَ؛ فمزيد من المعرفة بالوضع الحالي لفيزياء الجسيمات وكيفية العثور على جسيمات النموذج القياسي، يمكن أن يساعدنا في مناقشة إمكانات الاكتشاف التي يتمتَّع بها مصادم الهادرونات الكبير في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
البحث عن اللبتونات
يقسِّم فيزيائيو الجسيمات جسيمات المادة الأولية بالنموذج القياسي إلى فئتين؛ الفئة الأولى تُعرَف باسم اللبتونات، وتتضمن جسيمات لا تتأثَّر بالقوة النووية القوية، مثل الإلكترونات. ويشتمل النموذج القياسي أيضًا على نوعين أثقل من الإلكترون يحملان الشحنة ذاتها، لكن كتلتيهما أكبر، واسميهما «الميوون» و«التاوون». وقد ثبت أن كل جسيم من جسيمات المادة بالنموذج القياسي له ثلاث صور تحمل جميعها الشحنة ذاتها، لكن كل «جيل» من هذه الجسيمات يكون أثقل وزنًا من الجيل التالي له. ونحن لا نعلم السبب وراء وجود هذه الصور الثلاث من الجسيمات التي تحمل جميعها الشحنة ذاتها. عبَّر الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل، إيزيدور إسحاق رابي، عن حيرته عند سماعه بوجود الميوون، قائلًا عبارته الشهيرة: «مَن الذي طلب هذا؟»
واللبتونات الأخف وزنًا هي الأيسر في العثور عليها؛ فرغم أن كلًّا من الإلكترونات والفوتونات يرسبان الطاقةَ في المِسعَر الكهرومغناطيسي، يمكن تمييز الإلكترون بسهولة عن الفوتون؛ لأن الإلكترون يحمل شحنةً بينما الفوتون متعادل؛ ومن ثَمَّ يكون الإلكترون هو الوحيد الذي يخلِّف أثرًا في الكاشف الداخلي قبل ترسيب الطاقة في المِسعَر الكهرومغناطيسي.
الميوونات أيضًا يمكن التعرُّف عليها على نحو مباشر نسبيًّا. فشأنها شأن جميع جسيمات النموذج القياسي الأخرى الأثقل وزنًا، تتحلَّل الميوونات على نحو سريع للغاية يَحُول دون العثور عليها في المادة العادية؛ لذلك قلَّمَا نعثر عليها على سطح الأرض. لكن عمر الميوونات طويل بما يكفي لانتقالها إلى الحدود الخارجية للكواشف قبل تحلُّلها؛ ومن ثَمَّ فهي تترك آثارًا لمسارات طويلة واضحة تسمح للفيزيائيين التجريبيين بتتَبُّعها بين الكاشف الداخلي وحجرات الميوونات الخارجية. وبما أن الميوون هو جسيم النموذج القياسي الوحيد الذي يمكنه أن يصل إلى الكواشف الخارجية هذه ويخلِّف علامةً مرئية، فمن اليسير العثور عليه.
أما التاوونات، فالعثور عليها ليس بهذا القدر من السهولة، رغم أنها مرئية؛ فالتاوون من اللبتونات، ويحمل شحنة مثل الإلكترون والميوون، لكنه أثقل وزنًا، وهو ليس مستقرًّا، شأنه شأن معظم الجسيمات الثقيلة. معنى ذلك أنه يتحلَّل مُخلِّفًا وراءه جسيمات أخرى، فيتحلل التاوون سريعًا إلى لبتون مشحون أخف وزنًا وجسيمين يسميان النيوترينوات، أو يتحلَّل إلى نيوترينو واحد وجسيم يسمَّى البايون، وهو الجسيم الذي يتأثَّر بالقوة القوية. يدرس الفيزيائيون التجريبيون النواتج التي يُسفِر عنها تحلُّل الجسيم الأولي للكشف عمَّا إذا كان جسيم ثقيل متحلِّل هو المسئول عن وجودها أم لا. وإذا كان هذا هو الحال، يحدِّدون خصائص هذا الجسيم. لذا، بالرغم من أن التاوون لا يخلِّف أثرًا مباشرًا، فجميع المعلومات التي يسجِّلها الفيزيائيون التجريبيون عن نواتج التحلل تساعد في التعرُّف على هذا التاوون وخصائصه.
يحمل الإلكترون والميوون، بل لبتون التاوون الأثقل وزنًا أيضًا، الشحنةَ −١؛ أي الشحنة المضادة للبروتون ذي الشحنة الموجبة. تنتج المصادمات أيضًا الجسيمات المضادة المرتبطة بهذه اللبتونات المشحونة، وهي البوزيترون، والميوون المضاد، والتاوون المضاد. هذه الجسيمات المضادة تحمل الشحنة +١، وتخلف آثارًا مشابهة في الكواشف. لكن نظرًا لشحناتها المضادة، تنحني هذه الجسيمات في الاتجاه المضاد في وجود مجال مغناطيسي.
بالإضافة إلى الأنواع الثلاثة من اللبتونات المشحونة التي وصفناها للتو، يتضمن النموذج القياسي كذلك النيوترينوات، وهي لبتونات لا تحمل أي شحنة كهربية على الإطلاق. ففي حين تخضع اللبتونات الثلاثة المشحونة لتأثير كلٍّ من القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة، لا تحمل النيوترينوات أي شحنة؛ ومن ثَمَّ فهي منيعة على القوة الكهربية. وكانت نتائج التجارب حتى تسعينيات القرن العشرين تشير إلى أن النيوترينوات عديمة الكتلة، لكن من أهم الاكتشافات التي شهدها ذلك العقد هو اكتشاف أن النيوترينوات لها كتلة متناهية الصغر، وغير مضمَحِلَّة في الوقت نفسه، الأمر الذي منحنا معلومات مهمة عن بنية النموذج القياسي.
ومع أن النيوترينواتِ خفيفةُ الوزن للغاية، الأمر الذي يجعلها تقع في نطاق قدرة طاقة المصادمات، من المستحيل اكتشافها مباشَرةً في مصادم الهادرونات الكبير لأنها لا تحمل أي شحنة كهربية؛ ومن ثَمَّ لا تتفاعل إلا بصورة ضعيفة للغاية. وتصل درجة ضعفها إلى أنه بالرغم من مرور أكثر من ٥٠ تريليون نيوترينو قادم من الشمس عبر جسدك كل ثانية، فإنك لا تدرك ذلك حتى يخبرك أحد به.
بالرغم من كون النيوترينوات غير مرئية، حزر الفيزيائي فولفجانج باولي وجودها في محاولة يائسة منه للخروج من مأزق تفسير: إلى أين ذهبت الطاقة عند تحلل النيوترونات. فدون وجود النيوترينو الذي يحمل جزءًا من الطاقة، بدا الأمر كأنَّ هذه العملية تنتهك مبدأ حفظ الطاقة؛ وذلك لأن البروتون والإلكترون اللذين تَمَّ اكتشافهما بعد التحلُّل لم يصل مجموع طاقتهما إلى طاقة النيوترون الذي تحلَّلَ. حتى كبار الفيزيائيين، مثل نيلز بور، كانوا على استعداد آنذاك للتخلِّي عن مبادئهم وقبول فكرة فقدان الطاقة، لكن باولي كان أكثر إخلاصًا للأسس الفيزيائية، فافترض أن الطاقة لم تُفقَد، وأن كل ما في الأمر أن الفيزيائيين التجريبيين وقتها لم يتمكَّنُوا فحسب من رؤية الجسيم ذي الشحنة المتعادلة الذي حمَلَ ما تبقَّى من هذه الطاقة. وثبتَتْ بعد ذلك صحةُ هذا الافتراض.
أطلَقَ باولي على الجسيم — الافتراضي آنذاك — اسم النيوترون، لكن الاسم استُخدِم بعد ذلك لأغراض أخرى؛ أَلَا وهي وصف الشريك المتعادل الشحنة للبروتون الموجود داخل النواة؛ ومن ثَمَّ أطلق إنريكو فيرمي — وهو فيزيائي إيطالي وضع نظرية التفاعلات الضعيفة، لكنه يشتهر على الأرجح بمساعدته في تطوير أول مفاعل نووي — على هذا الجسيم الاسم اللطيف «نيوترينو»، الذي يعني بالإيطالية «النيوترون الصغير». وهو بالطبع ليس نيوترونًا صغيرًا، لكنه — مثل النيوترون — عديم الشحنة الكهربية، كما أن النيوترينو أخف وزنًا بكثير من النيوترون.
لقد اطلعنا فيما سبق على كيفية العثور على الإلكترونات والميوونات والتاوونات؛ لذا فإن السؤال المتبقِّي بشأن اللبتونات هو: كيف يعثر الفيزيائيون التجريبيون على النيوترينوات؟ فنظرًا لأن النيوترينوات لا تحمل أي شحنة كهربية، وتتفاعل بصورة ضعيفة للغاية، فإنها تهرب من الكاشف دون أن تخلِّف أي أثر يدل عليها على الإطلاق؛ فكيف يمكن لأي شخص في مصادم الهادرونات الكبير إثبات وجودها؟
تكمن الإجابة هنا في الزخم (الذي يساوي السرعة مضروبة في الكتلة عند تحرك الجسيمات ببطء، لكن شأنه شأن الطاقة يسير في اتجاه معين عند تحرُّك الجسيم بسرعة تقارِب سرعة الضوء)، والزخم محفوظ في جميع الاتجاهات. وكما هو الحال مع الطاقة، لم نتوصَّل مطلقًا إلى أي دليل على أن الزخم يمكن فقدانه؛ ومن ثَمَّ إذا كان زخم الجسيمات المقيسة في الكاشف أقل من الزخم الذي دخل إليه، فمعنى ذلك أن جسيمًا (أو عددًا من الجسيمات) قد هرب حاملًا معه الزخم المفقود في العملية. هذا المنطق دفع باولي إلى استنتاج وجود النيوترينوات في المقام الأول (في تحلُّل بيتا النووي)، ونحن نستند إلى هذا المنطق حتى يومنا هذا في معرفتنا بوجود الجسيمات الضعيفة التفاعل التي يبدو أنها غير مرئية.
ويقيس الفيزيائيون التجريبيون في مصادمات الهادرونات الزخم الكامل المستعرض للحزمة، ويحسبون ما إذا كان هناك شيء مفقود أم لا. ويرجع السبب في تركيزهم على الزخم المستعرض للحزمة إلى أن قدرًا كبيرًا من هذا الزخم يُحمَل بعيدًا بواسطة الجسيمات التي تتجه إلى أسفل أنبوب الحُزَم؛ ومن ثَمَّ يصعب للغاية تعقُّبها. لكن الزخم العمودي على البروتونات الأولية أيسر كثيرًا في قياسه وحسابه.
من الأهمية بمكان وَضْع هذه الأفكار في الاعتبار عند تفكيرنا في الاكتشافات الحديثة. فثمة اعتبارات مماثِلة تنطبق على الجسيمات الأخرى الحديثة التي لا تحمل أي شحنات، أو تحمل شحنات ضعيفة للغاية، فلا يمكن اكتشافها مباشَرةً. في هذه الحالات، لا يمكن استنتاج ما هو موجود إلا باستخدام مزيج من المدخلات النظرية والطاقة المفقودة، وهذا هو السبب وراء الأهمية الكبيرة لخاصية «إحكام السد»؛ أي الكشف عن أكبر قدر ممكن من الزخم.
البحث عن الهادرونات
استعرضنا إلى الآن اللبتونات (وهي الإلكترونات، والميوونات، والتاوونات، وما يرتبط بها من نيوترينوات)، وبذلك تكون فئة الجسيمات المتبقية في النموذج القياسي هي الهادرونات. والهادرونات جسيمات تتفاعل بواسطة القوة النووية القوية، وتشمل هذه الفئة جميع الجسيمات المكونة من كواركات وجلوونات، مثل البروتونات والنيوترونات وجسيمات أخرى تُعرَف باسم البايونات. وللهادرونات بنية داخلية تتمثَّل في علاقات الترابط بين الكواركات والجلوونات المرتبطة بعضها ببعض بفعل القوة النووية القوية.
لكن النموذج القياسي لا يعرض حالات الترابط الكثيرة المحتملة فيه، وإنما يتضمن الجسيمات الجوهرية التي ترتبط بعضها ببعض في حالات هادرونية؛ أَلَا وهي الكواركات والجلوونات. فبالإضافة إلى الكواركات العلوية والسفلية التي توجد داخل البروتونات والنيوترونات، توجد كذلك كواركات أثقل وزنًا تُعرَف باسم الكواركات الساحرة، والكواركات الغريبة، والكواركات القمية، والكواركات القاعية. وكما هو الحال مع اللبتونات المشحونة والمتعادلة الشحنة، تحمل الكواركات الأثقل وزنًا شحناتٍ متطابقةً مع شحناتِ مثيلاتها الأخف وزنًا؛ أي الكواركات العلوية والسفلية. لا توجد الكواركات الأثقل وزنًا من تلقاء نفسها في الطبيعة؛ ومن ثَمَّ نحتاج المصادمات لدراستها.
لذا، فإن الجزء الذي اقتبسته في كتاب «الطرق الملتوية» من «أغنية جيت» الواردة في فيلم «قصة الحي الغربي»، يصف التدفقات الهادرونية على نحو دقيق:
لن يُعثَر على الكواركات — وأغلب أعضاء مجموعة الهادرونات — بمفردها، وإنما وسط جسيمات مرافقة متفاعلة بقوة.
النوع الآخَر المميز من الكواركات، من وجهة النظر التجريبية، هو الكوارك القمي، ويرجع سبب تميُّزه إلى أنه ثقيل للغاية، فهو الأثقل بين الكواركات الثلاثة التي تحمل نفس شحنة الكوارك العلوي (الثالث هو الكوارك الساحر). وكتلة هذا الكوارك أثقل بنحو ٤٠ مرة من الكوارك القاعي ذي الشحنة المختلفة، وأكثر بنحو ٣٠ ألف مرة من كتلة الكوارك العلوي الذي يحمل نفس شحنته.