بوزون هيجز
استيقظتُ يوم ٣٠ مارس عام ٢٠١٠ على كمٍّ هائل من رسائل البريد الإلكتروني التي تناولت موضوع نجاح التصادمات التي جرت في الليلة السابقة بطاقة ٧ تيرا إلكترون فولت في سيرن. مثَّل هذا النجاح نقطة الانطلاق للبرنامج الفيزيائي الفعلي بمصادم الهادرونات الكبير، وقد كان التعجيل والتصادمات التي أُجرِيت قرب نهاية العام السابق محطات مهمة من الناحية الفنية؛ إذ كانت لها أهمية للفيزيائيين التجريبيين العاملين بالمصادم الذين تمكَّنوا أخيرًا من معايرة الكواشف وفهمها على نحو أفضل عن طريق استخدام البيانات المستقاة من تصادمات حقيقية بمصادم الهادرونات الكبير، وليس مجرد أشعة كونية تصادَفَ مرورها عبر الجهاز. لكن على مدار العام ونصف العام التالي، لزم على الكواشف بسيرن تسجيل البيانات الحقيقية التي يمكن للفيزيائيين استخدامها لتقييد النماذج أو التصديق على صحتها. وأخيرًا، وبعد التقلبات العديدة التي شهدها برنامج الفيزياء بالمصادم، بدأ العمل.
بدأ البرنامج وفق ما كان مخطَّطًا له إلى حدٍّ كبير، وهو ما اعتبره زملائي من الفيزيائيين التجريبيين أمرًا طيبًا نظرًا لمخاوفهم التي عبَّروا عنها في اليوم السابق بشأن وجود الصحفيين، وما قد يُسفِر عنه ذلك من إعاقة لتحقيق الأهداف الفنية. وشهد بالفعل الصحفيون (وجميع الحاضرين) بعض محاولاتِ البدء الفاشلة، والتي رجع أحد أسبابها إلى آليات الحماية الدقيقة التي صُمِّمت بحيث تنطلق في حال وقوع أي خطأ، مهما كان بسيطًا. لكن في غضون ساعات قليلة، دارت الحُزَم وتصادَمَتْ، وصار لدى الصحف والمواقع الإلكترونية العديد من الصور الرائعة التي يمكنها عرضها.
والطاقة البالغة ٧ تيرا إلكترون فولت، التي جرت عندها التصادمات، تساوي نصف الطاقة التي من المفترض للمصادم العمل بها. بَيْدَ أنه لن يصل إلى الطاقة الفعلية المستهدفة له — البالغة ١٤ تيرا إلكترون فولت — إلا بعد سنوات طوال. ودرجة السطوع المستهدفة لتشغيل ٧ تيرا إلكترون فولت — وهو الرقم الذي يشير إلى عدد البروتونات التي تتصادم كل ثانية — كانت أقل بكثير مما خطَّطَ له المصمِّمون في البداية. رغم ذلك، صار كل شيء في مصادِم الهادرونات الكبير كما يجب أخيرًا بفضل هذه التصادمات، وتمكَّنَّا أخيرًا من الاعتقاد بأن ثمَّةَ تحسُّنًا سيطرأ قريبًا على فهمنا الحالي للطبيعة الداخلية للمادة. وإذا سار كل شيء على ما يرام، فسوف يتوقَّف تشغيل الجهاز في خلال بضعة أعوام لإعداده، ثم يعود بعد ذلك للعمل بكامل قدرته ليقدِّم الإجابات الحقيقية التي ننتظرها.
ومن أهم الأهداف التي نبغيها معرفةُ كيفية اكتساب الجسيمات الأساسية لكتلتها. فلماذا لا يتحرك كل شيء بسرعة الضوء، وهو ما يحدث إذا كانت كتلة المادة تساوي صفرًا؟ تعتمد الإجابة عن هذا السؤال على مجموعة الجسيمات المعروفة إجمالًا باسم «قطاع هيجز»، وتشمل بوزون هيجز. ويوضِّح لنا هذا الفصل السبب وراء أهمية الأبحاث الناجحة التي تتناول هذا الجسيم في إثبات صحة أفكارِنا عن تكوُّن كتل الجسيمات الأساسية. والأبحاث التي ستُجرَى عند عودة مصادم الهادرونات الكبير للعمل بشدة أعلى وطاقة أكبر من المنتظر أن توضِّح لنا الجسيمات والتفاعلات التي تقوم عليها هذه الظاهرة المميزة.
آلية هيجز
ما من فيزيائي يشكِّك في صحة النموذج القياسي في إطار الطاقات التي درسناها حتى الآن؛ فقد اختبرت التجارب صحة العديد من تنبؤات هذا النموذج التي جاءت متماشيةً مع التوقعات بدقة تزيد عن واحد في المائة.
وعدم تمتُّع الجسيمات بحقٍّ راسخٍ في امتلاك كتلة خاصة بها قد يبدو أمرًا استبداديًّا؛ فالمتوقع من الناحية المنطقية أن تملك الجسيمات دومًا خيارَ امتلاكِ كتلة لا تتعرض للاضمحلال، لكن البنية الدقيقة للنموذج القياسي وأي نظرية من نظريات القوى تتسم بهذا القدر من الاستبداد بالفعل؛ إذ إنها تقيِّد أنواع الكتل المسموح بها. وتفسير ذلك قد يبدو مختلفًا بعض الشيء فيما يتعلَّق بالبوزونات المقياسية عن الفرميونات، لكن المنطق الأساسي في الحالتين يتعلَّق بالتناظرات التي تمثِّل جوهر أي نظرية للقوى.
يشمل النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات القوة الكهرومغناطيسية، والقوة الضعيفة، والقوة النووية القوية، وكلٌّ من هذه القوى يرتبط بتناظر معين، ودون هذه التناظرات، ستتنبَّأ النظرية — التي تشير ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة إلى أنها تصف أوضاع التذبذب — بوجود الكثير من أوضاع التذبذب للبوزونات المقياسية، وهي الجسيمات التي تنقل هذه القوى. وفي النظرية التي تخلو من التناظرات، تؤدي الحسابات النظرية إلى تنبُّؤات غير منطقية، مثل زيادة احتمالات تفاعلات الطاقة العالية عن احتمالات أوضاع التذبذب العرضية. وفي أي وصف دقيق للطبيعة، يجب حذف الجسيمات غير الفيزيائية؛ أي الجسيمات التي ليس لها وجود فعلي؛ لأنها تتذبذب في الاتجاه الخاطئ.
وفي هذا السياق، تعمل التناظرات مثل مرشحات البريد الإلكتروني المزعج، أو قيود مراقبة الجودة. على سبيل المثال، قد تفرض متطلبات الجودة الإبقاء على السيارات التي تتسم بالتوازن التناظري فقط، وهو ما من شأنه أن يضمن عمل جميع السيارات التي ينتجها المصنع على النحو المتوقع. والتناظرات في أي نظرية للقوى تستبعد أيضًا العناصر ذات السلوك السيئ؛ وذلك لأن التفاعلات بين الجسيمات غير الفيزيائية غير المرغوب فيها لا تحترم التناظرات، في حين تتذبذب الجسيمات التي تتفاعل على النحو الذي يحافظ على التناظرات الضرورية كما ينبغي. ومن ثَمَّ، فإن التناظرات تضمن ألَّا تشمل التنبؤات النظرية سوى الجسيمات الفيزيائية؛ ومن ثَمَّ تكون منطقية وتتوافَقُ مع التجارب.
ومن ثَمَّ، تسمح التناظرات بصياغة أنيقة لنظريات القوى. فبدلًا من حذف الأوضاع غير الفيزيائية في كلِّ تذبذُبٍ واحدًا تلو الآخَر، تحذف التناظرات جميع الجسيمات غير الفيزيائية مرةً واحدةً؛ وبذلك لا تتضمن أي نظرية بها تفاعلات تناظرية سوى أوضاع التذبذب الفيزيائية التي نرغب في وصف سلوكها.
ينطبق ذلك على نحو مثالي على أي نظرية للقوى تشتمل على حاملات قوًى ذات كتلة صفرية، مثل القوة الكهرومغناطيسية أو القوى النووية القوية. وفي النظريات التناظرية، جميع تنبؤات الطاقة العالية تكون منطقية، والأوضاع الفيزيائية فقط — أي الأوضاع الموجودة في الطبيعة — هي التي تتضمنها هذه النظريات. وفيما يتعلَّق بالبوزونات المقياسية العديمة الكتلة، يمكن حلُّ مشكلة التفاعلات العالية الطاقة على نحوٍ مباشِرٍ نسبيًّا؛ نظرًا لأن قيود التناظُرِ المناسِب تستبعد أي أوضاع غير فيزيائية سيئة الأداء من النظرية.
وبذلك، فإن التناظرات تحلُّ مشكلتين؛ إذ تستبعد الأوضاع غير الفيزيائية، وكذا تنبؤات الطاقة العالية السيئة التي قد تصاحِب هذه الأوضاع. لكن البوزون المقياسي ذا الكتلة غير الصفرية يكون له وضع تذبذُب فيزيائي آخر — موجود في الطبيعة. ومن الأمثلة على ذلك البوزوناتُ المقياسية التي تنقل القوة النووية الضعيفة، فتستبعد التناظرات العديد من أوضاع تذبذب هذه البوزونات. ودون وجود مكون جديد، لا يمكن لكتل البوزونات الضعيفة احترام تناظرات النموذج القياسي. أما بالنسبة للبوزونات المقياسية ذات الكتلة غير الصفرية، فلا خيار أمامنا سوى الحفاظ على النموذج ذي الأداء السيئ؛ ومعنى ذلك أن حلَّ السلوكِ السيئ للطاقة العالية ليس بسيطًا. رغم ذلك، لا يزال هناك شيء لازِم لتنتج النظرية تفاعلات منطقية عالية الطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لأيٍّ من الجسيمات الأولية في النموذج القياسي الخالي من جسيم هيجز أن يكون لها كتلة تحترم تناظراتِ أبسطِ نظريات القوى. وفي ظل ارتباط التناظرات بالقوى الموجودة، لن يكون للكواركات واللبتونات في النموذج القياسي الخالي من جسيم هيجز أيضًا أي كتلة، ويبدو أن السبب في ذلك لا علاقة له بمنطق البوزونات المقياسية، وإنما يمكن أن يرجع في النهاية إلى التناظرات أيضًا.
سبق وعرضنا في الفصل الرابع عشر من هذا الكتاب جدولًا تضمَّنَ الفرميونات التي تدور ناحية اليمين وناحية اليسار. والفرميونات هي الجسيمات التي يقترن بعضها ببعض في وجود كتل غير صفرية، فعندما تكون كتل الكواركات أو اللبتونات غير صفرية، تُحدِث هذه الكتل تفاعلاتٍ تحوِّل الفرميونات التي تدور ناحية اليسار إلى أخرى تدور ناحية اليمين، لكن لكي تصبح جميع هذه الفرميونات قابلةً للتحويل فيما بينها، ينبغي أن تخضع للقوى ذاتها. لكن التجارب أثبتت أن أثر القوة الضعيفة على الفرميونات التي تدور ناحية اليسار يختلف عن أثرها على الفرميونات التي تدور ناحية اليمين، والتي قد تتحول إليها الكواركات أو اللبتونات الثقيلة. وهذا الانتهاك لتناظر الاقتران — الذي في حال الحفاظ عليه سيتعامَلُ مع اليسار واليمين كعناصر متكافئة في قوانين الفيزياء — يسبِّب الدهشة لأي شخص يعرفه لأول مرة؛ فقوانين الطبيعة المعروفة الأخرى لا تميِّز بين اليمين واليسار. بَيْدَ أن هذه الخاصية المميزة — تفريق القوة الضعيفة بين اليسار واليمين — قد أثبتَتْها التجارب، وتُعَدُّ سمة أساسية للنموذج القياسي.
وتوضِّح لنا التفاعلات المختلفة للبتونات والكواركات اليمنى واليسرى أنه بدون مكون جديد، لن تتوافَق كتل الكواركات واللبتونات غير الصفرية مع القوانين الفيزيائية المعروفة، وستربط هذه الكتل بين الجسيمات التي تحمل شحنةً ضعيفةً والجسيمات التي لا تحمل هذه الشحنة.
بعبارة أخرى، نظرًا لأن الجسيمات اليسرى فقط هي التي تحمل هذه الشحنة، من الممكن فقدان الشحنة الضعيفة. ستختفي الشحنات في «الفراغ»، والفراغ هو حالة للكون لا تحتوي على أي جسيمات. وبوجه عام، لا ينبغي أن يحدث ذلك، وإنما يجب الحفاظ على الشحنات؛ فإذا ظهرت شحنة ما واختفت، فستنكسر التناظرات المرتبطة بالقوة المعنية، وتعاوِد التنبؤات الاحتمالية العجيبة المتعلِّقة بتفاعلات البوزونات المقياسية العالية الطاقة — التي من المفترض أن تزيلها هذه التناظرات — الظهور مجدَّدًا. يجب ألَّا تختفي الشحنات فجأةً على هذا النحو إذا كان الفراغ خاويًا حقًّا ولا يحتوي على أي جسيمات أو مجالات.
لكن الشحنات يمكن أن تظهر وتختفي إذا كان الفراغ ليس خاويًا حقًّا، ولكنه يحتوي على «مجال هيجز» الذي يزوِّد هذا الفراغ بالشحنة الضعيفة. ومجال هيجز — حتى ذلك الذي يزوِّد الفراغ بالشحنة — لا يتألَّف من جسيمات فعلية، وإنما هو في الأساس توزيعٌ للشحنة الضعيفة بكافة أنحاء الكون، لا يحدث إلا عندما تكون قيمة المجال ذاته غير صفرية. وعندما يكون مجال هيجز غير مضمحل، يكون الأمر كما لو كان الكون يتمتَّع بمورد غير محدود للشحنات الضعيفة. تخيَّلْ أنك تتمتَّع بمورد غير محدود للمال؛ فستتمكن من الإقراض أو السحب منه عند رغبتك في ذلك، وسيظل معك رغم ذلك كمية غير محدودة منه. وبالمثل، يمد مجال هيجز الفراغ بكمية غير محدودة من الشحنة الضعيفة، وأثناء ذلك يكسر المجال التناظرات المرتبطة بالقوى، ويسمح للشحنات بالتدفُّق إلى داخل الفراغ وخارجه، لتنشأ بذلك الكتل دون التسبُّب في أي مشكلات.
من الطرق التي يمكن بها تصوُّر العلاقة بين آلية هيجز ونشأة الكتلِ، النَّظَرُ إلى هذه الآلية بوصفها تسمح للفراغ بالتصرُّف مثل سائل دبق يحمل شحنةً ضعيفةً؛ بمعنى أن مجال هيجز متغلغل في الفراغ. والجسيمات التي تحمل هذه الشحنة، مثل البوزونات المقياسية الضعيفة وكواركات ولبتونات النموذج القياسي، يمكنها التفاعل مع هذا السائل، وهذه التفاعلات تُبطِئ من حركة هذه الجسيمات، وهذا الإبطاء يتوافَق بدوره مع الجسيمات التي تكتسب كتلةً؛ نظرًا لأن الجسيمات دون كتلة تنتقل عبر الفراغ بسرعة الضوء.
تُعرَف هذه العملية الدقيقة التي تكتسب من خلالها الجسيمات الأولية كتلتها باسم آلية هيجز، وهي لا توضِّح لنا كيفية اكتساب الجسيمات الأولية لكتلتها فحسب، وإنما أيضًا تمنحنا بعض المعلومات بشأن خواص هذه الكتل. على سبيل المثال، تفسِّر هذه الآلية ثقل وزن بعض الجسيمات، وخفة وزن جسيمات أخرى. ويرجع السبب ببساطة إلى أن الجسيمات التي تتفاعل أكثر مع مجال هيجز يكون لها كتل أكبر، أما التي تتفاعل أقل فيكون لها كتل أصغر. والكوارك القمي الأثقل وزنًا يكون له أكبر هذه التفاعلات، والإلكترون أو الكوارك العلوي، الذي يتسم بكتل صغيرة نسبيًّا، يكون أضعف بكثير في تفاعلاته.
وهكذا تفسِّر آلية هيجز السبب وراء الكتلة الصفرية للفوتون، دونًا عن الجسيمات الأخرى الحاملة للقوى. تفسِّر كذلك آليةُ هيجز خاصيةً أخرى للكتل، وهذه الخاصية أكثر دقةً، لكنها تمنحنا معلومات دقيقة حول سبب سماح آلية هيجز بوجود الكتل المتوافقة مع التنبؤات المنطقية للطاقة العالية. فإذا تصوَّرْنا مجال هيجز سائلًا، يمكننا التصور أن كثافته ترتبط أيضًا بكتل الجسيمات، وإذا نظرنا لهذه الكثافة على أنها تنشأ من الشحنات ذات المسافات الثابتة، فإن هذه الجسيمات — التي تنتقل عبر مسافات قصيرة للغاية مما يجعلها لا تلتقي أبدًا بشحنة ضعيفة — ستنتقل كما لو كانت كتلتها تساوي صفرًا، في حين سترتطم الجسيمات التي تنتقل لمسافات أكبر بالشحنات الضعيفة وتقل سرعتها.
يتوافَق ذلك مع حقيقة ارتباط آلية هيجز ﺑ «الكسر التلقائي» للتناظُر المرتبط بالقوة الضعيفة، وهذا الكسر يرتبط بنطاق محدَّد.
يحدث الكسر التلقائي للتناظر عندما يكون التناظر ذاته موجودًا في قوانين الطبيعة — كما هو الحال مع أي نظرية للقوى — لكنه ينكسر في الحالة الفعلية للنظام. ومثلما أوضحنا من قبلُ، لا بد من وجود التناظرات لأسباب ترتبط بسلوك الجسيمات في النظرية عند الطاقات العالية. والحل الوحيد إذن هو وجود التناظرات، لكنها تنكسر تلقائيًّا ليصير للبوزونات المقياسية الضعيفة كتلة، دون أن تعكس سلوكًا سيئًا عند الطاقات العالية.
الفكرة وراء آلية هيجز هي أن التناظُر بلا شك جزء من النظرية، وقوانين الفيزياء تعمل على نحو تناظري، لكن الحالة الفعلية للعالم لا تحترم هذا التناظر. فكِّرْ مثلًا في قلم رصاص يقف على طرفه، ثم يسقط، ويختار اتجاهًا معينًا في سقوطه. كانت جميع الاتجاهات حول القلم متساوية عندما كان منتصبًا، لكن هذا التناظر انكسر بمجرد أن سقط القلم؛ ومن ثَمَّ فإن القلم في وَضْعِه الأفقي يكسر تلقائيًّا التناظر الدوراني الذي حافَظَ عليه القلم المنتصب.
على النحو نفسه، تكسر آلية هيجز تناظُرَ القوة الضعيفة تلقائيًّا. ومعنى ذلك أن قوانين الفيزياء تحافِظ على التناظر، لكن حالة الفراغ المغمور بشحنة القوة الضعيفة تكسره. ومجال هيجز، الذي يتغلغل في الكون على نحو غير تناظري، يسمح للجسيمات باكتساب الكتلة؛ نظرًا لأنه يكسر تناظر القوة الضعيفة الذي كان سيظهر بدونه. تحتفظ نظرية القوى بتناظر مرتبط بالقوة الضعيفة، لكن هذا التناظر يكسره مجال هيجز الذي يتغلغل في الفراغ.
وبإدخال شحنة إلى الفراغ، تكسر آلية هيجز التناظُرَ المرتبط بالقوة الضعيفة، وهي تفعل ذلك في نطاق معين يحدِّده توزيع الشحنات في الفراغ. وعند الطاقات العالية، أو المسافات الصغيرة — كما تنص ميكانيكا الكم — لن تواجِه الجسيمات أيَّةَ شحنة ضعيفة، وستتصرف من ثَمَّ كما لو كانت عديمة الكتلة. فعند المسافات الصغيرة، أو الطاقات العالية، يبدو التناظر ساريًا، لكن على المسافات الكبيرة، تعمل الشحنة الضعيفة على نحو يشبه القوة الاحتكاكية بصور عدة؛ مما يتسبَّب في إبطاء الجسيمات. وفقط عند الطاقات المنخفضة، أو المسافات الكبيرة، يبدو أن مجال هيجز يمنح الجسيمات كتلة.
هذا بالضبط الوضع الذي نحتاج إلى وجوده، فالتفاعلات الخطيرة — التي لن يكون لها معنى مع الجسيمات الكبيرة — لا تحدث إلا عند الطاقات العالية. أما عند الطاقات المنخفضة، فيمكن للجسيمات، بل يجب عليها وفقًا للتجارب، أن تمتلك كتلة. وآلية هيجز، التي تكسر تلقائيًّا تناظُرَ القوة الضعيفة، هي الوسيلة الوحيدة التي نعرف أنها تحقِّق هذه المهمة.
وبالرغم من أننا لم نرصد بعدُ الجسيمات المسئولة عن آلية هيجز المسئولة بدورها عن كتل الجسيمات الأولية، فلدينا أدلة تجريبية على وجود آلية هيجز في الطبيعة؛ فقد شوهدت عدة مرات في سياق مختلف كليةً؛ أَلَا وهو سياق المواد «الفائقة التوصيل». تتحقق الموصلية الفائقة عندما تقترن الإلكترونات بعضها ببعض في أزواج، وهذه الأزواج تخترق مادةً ما. وما يُعرَف ﺑ «ناتج التكثيف» في أي موصلٍ فائقٍ، يتكوَّن من أزواج من الإلكترونات تلعب الدور نفسه الذي يلعبه مجال هيجز في المثال الموضَّح أعلاه.
لكن بدلًا من الشحنة الضعيفة، يحمل ناتجُ التكثيف في الموصل الفائق شحنةً كهربائيةً؛ ومن ثَمَّ فهو يمنح الكتلة للفوتون الذي يوصل القوة الكهرومغناطيسية داخل المادة الفائقة التوصيل. وتحجب الكتلة الشحنة؛ ما يعني أن المجالين الكهربائي والمغناطيسي داخل الموصل الفائق لا يبعدان كثيرًا، وتنخفض القوة سريعًا للغاية على نطاق مسافة قصيرة. وتوضِّح لنا ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة أن مسافة الحجب هذه داخل الموصل الفائق هي النتيجة المباشرة لكتلة الفوتون التي لا توجد سوى داخل الركيزة الفائقة التوصيل. وفي هذه المواد، لا يمكن للمجالات الكهربائية الوصول لمسافة أبعد من مسافة الحجب؛ لأنه عند ارتطام الفوتون بأزواج الإلكترونات التي تخترق الموصل الفائق، يكتسب هذا الفوتون كتلةً.
تعمل آلية هيجز على نحو مشابِهٍ لذلك، لكن بدلًا من تغلغل أزواج الإلكترونات (التي تحمل شحنة كهربائية) في المادة، نتنبَّأ بوجود مجال هيجز (يحمل شحنة ضعيفة) يتغلغل في الفراغ، وبدلًا من اكتساب الفوتون لكتلة تحجب الشحنة الكهربائية، تكتسب البوزونات المقياسية الضعيفة كتلةً تحجب الشحنة الضعيفة. وبما أن كتلة البوزونات المقياسية الضعيفة غير صفرية، لا تكون القوة الضعيفة فعَّالة إلا عند مسافات قصيرة للغاية يقل حجمها عن حجم النواة.
ولما كانت هذه الطريقة الوحيدة المُتَّسِقة لمنح البوزونات المقياسية كتلتها، فإن الفيزيائيين على ثقة تامة بأن آلية هيجز تنطبق على الطبيعة، وهم يتوقَّعون أنها المسئولة ليس فقط عن كتل البوزونات المقياسية، وإنما أيضًا عن كتل جميع الجسيمات الأولية. فهم لا يعرفون أي نظرية متَّسِقة أخرى تسمح لجسيمات النموذج القياسي ذات الشحنات الضعيفة باكتساب كتلة.
لقد كان ذلك جزءًا صعبًا مليئًا بالمفاهيم المجردة؛ إذ يرتبط مفهومَا آلية هيجز ومجال هيجز بطبيعتهما بنظرية المجال الكمي وفيزياء الجسيمات، ولا يتصلان بأيٍّ من الظواهر التي يمكننا تصورها فعليًّا؛ لذا دعوني ألخِّص بعضًا من النقاط البارزة فيما سبق. دون آلية هيجز، سيتحتَّم علينا التخلِّي عن التنبؤات المعقولة المتعلقة بالطاقة العالية أو كتل الجسيمات، بَيْدَ أن هذين العاملين ضروريان للوصول إلى نظرية صحيحة. والحل هو وجود التناظر بالفعل في قوانين الطبيعة، لكن يمكن كسره تلقائيًّا بالقيمة غير الصفرية لمجال هيجز. وكسر تناظر الفراغ يسمح لجسيمات النموذج القياسي بأن يكون لها كتل غير صفرية، لكن نظرًا لأن الكسر التلقائي للتناظر يرتبط بنطاق الطاقة (والطول)، فإن آثاره لا ترتبط إلا بالطاقات المنخفضة فقط؛ أي نطاق الطاقة الخاص بكتل الجسيمات الأولية وما يقل عنه (ونطاق الطول الخاص بالقوة الضعيفة وما يزيد عليه). وفي إطار هذه الطاقات والكتل، يكون تأثير الجاذبية مهملًا، ويصف النموذج القياسي (مع وضع الكتل في الاعتبار) قياسات فيزياء الجسيمات وصفًا صحيحًا، لكن نظرًا لأن التناظر لا يزال موجودًا في قوانين الطبيعة، فإنه يسمح بوجود تنبؤات الطاقة العالية المعقولة، هذا فضلًا عن أن آلية هيجز تفسِّر كتلة الفوتون التي تساوي صفرًا على أنها نتيجةٌ لعدمِ تفاعُلِ هذا الجسيم مع مجال هيجز بجميع أنحاء الكون.
البحث عن الأدلة التجريبية
والعلاقة بين مجال هيجز الذي يُعَدُّ جزءًا من آلية هيجز، وبوزون هيجز — الجسيم الفعلي — علاقة دقيقة، لكنها تشبه كثيرًا العلاقة بين المجال المغناطيسي والفوتون. فيمكنك الشعور بآثار المجال المغناطيسي التقليدي عندما تمسك بمغناطيس بالقرب من الثلاجة، حتى وإن لم تكن هناك فوتونات فعلية قد تم إنتاجها. بالمثل، مجال هيجز التقليدي — أي المجال الذي يوجد حتى في غياب الآثار الكمية — ينتشر بجميع أنحاء الفضاء، ويمكن أن يكتسب قيمة غير صفرية تؤثِّر على كتل الجسيمات، لكن هذه القيمة غير الصفرية يمكن أن توجد حتى إن لم يحتوِ الفضاء على أي جسيمات فعلية.
لكن إذا «أثَّر» شيء ما على المجال — بمعنى أن يضيف إليه بعض الطاقة — فيمكن أن تتسبَّبَ هذه الطاقة في تقلُّبات بالمجال تؤدِّي بدورها إلى إنتاج الجسيمات. في حالة المجال الكهرومغناطيسي، الجسيم الذي سيُنتَج هو الفوتون، وفي مجال هيجز، الجسيم هو بوزون هيجز. يتغلغل مجال هيجز في أرجاء الفضاء، وهو المسئول أيضًا عن كسر التناظر الكهربي الضعيف. على الجانب الآخَر، ينشأ جسيم هيجز عن مجال هيجز حيث توجد طاقة، كما هو الحال في مصادم الهادرونات الكبير. إن الدليل على وجود مجال هيجز هو ببساطة امتلاك الجسيمات كتلة، واكتشاف بوزون هيجز في مصادم الهادرونات الكبير (أو أي مكان آخَر قد يتكوَّن فيه) سيؤكِّد لنا قناعتنا بأن آلية هيجز هي أصل هذه الكتل.
تطلِق الصحافة أحيانًا على بوزون هيجز اسم «جسيم الإله»، ويفعل ذلك أيضًا الكثيرون ممَّن يرون الاسم مثيرًا. الصحفيون معجبون بهذا الاسم لأنه يثير انتباه الناس، ولعل هذا هو السبب الذي شجَّع الفيزيائي ليون ليدرمان على استخدامه في المقام الأول، لكنه في النهاية مجرد اسم، ويجب عدم منحه أي دلالات أخرى.
قد يبدو حديثي نظريًّا بحتًا، لكن منطقَ وجودِ جسيم جديد يلعب دور بوزون هيجز قويٌّ للغاية؛ فبالإضافة للتبرير النظري الموضَّح أعلاه، يتطلَّب اتساق نظرية جسيمات النموذج القياسي الضخمة وجود هذا البوزون. افترض أن الجسيمات ذات الكتلة هي وحدها التي تمثِّل جزءًا من النظرية الأساسية، لكنه لا توجد آلية هيجز لتفسير هذه الكتلة. في هذه الحالة، كما أوضحنا في جزء سابق من هذا الفصل، ستكون التنبؤات بتفاعلات الجسيمات العالية الطاقة غيرَ منطقية، بل ستطرح أيضًا احتمالات يستحيل تحقُّقها. نحن بالطبع لا نصدِّق هذا التنبؤ، فالنموذج القياسي دون بِنى إضافية سيكون ناقصًا، والحل الوحيد المتاح هو تقديم جسيمات وتفاعلات إضافية.
والنظرية التي تحتوي على بوزون هيجز تتجنَّب على نحو جيد مشكلات الطاقة العالية، والتفاعلات مع بوزون هيجز لا تغيِّر التنبؤ بالتفاعلات العالية الطاقة فحسب، وإنما أيضًا تلغي السلوك السيئ للطاقة العالية. ليست هذا مصادفة بالطبع، وإنما هو بالضبط ما تضمن آلية هيجز حدوثه. إننا لم نعلم بعدُ على وجه اليقين ما إذا كان تنبُّؤنا صحيحًا بشأن تطبيق آلية هيجز في الطبيعة أم لا، لكن الفيزيائيين واثقون تمامًا بأن جسيمًا ما أو جسيماتٍ ما جديدةً ستظهر في النطاق الضعيف.
بناءً على هذه الاعتبارات، نعلم أن أيًّا ما كان سيحافظ على النظرية — سواء أكان جسيمات أم تفاعلات جديدة — لا يمكن أن يكون ثقيلًا للغاية أو يحدث عند طاقات عالية للغاية. في غياب الجسيمات الإضافية، ستظهر تنبؤات خاطئة عند الطاقات التي تبلغ نحو ١ تيرا إلكترون فولت؛ ومن ثَمَّ ليس من المفترض أن يكون بوزون هيجز (أو أي شيء آخَر يلعب نفس دوره) موجودًا فحسب، وإنما يجب أن يكون خفيفًا بما فيه الكفاية ليسمح لمصادم الهادرونات الكبير بالعثور عليه. على نحوٍ أكثر دقة، اتضح أنه إذا لم تكن كتلة بوزون هيجز أقل من ٨٠٠ جيجا إلكترون فولت تقريبًا، فسيتوصَّل النموذج القياسي إلى تنبؤات مستحيلة بشأن التفاعلات العالية الطاقة.
ونحن نتوقع، في الحقيقة، أن يكون بوزون هيجز أخف كثيرًا من ذلك. تدعم النظريات الحالية فكرة خفة الوزن النسبية لبوزون هيجز، وتشير أغلب الأدلة النظرية إلى كتلة تكاد لا تزيد عن الكتلة الحالية الناتجة عن تجارب مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير في التسعينيات، والتي تبلغ ١١٤ جيجا إلكترون فولت. كان هذا أكبر بوزون تمكَّنَ مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير من إنتاجه واكتشافه، واعتقد الكثيرون أنهم قاب قوسين أو أدنى من العثور على البوزون المنشود. ويتوقع أغلب الفيزيائيين حاليًّا أن تكون كتلة بوزون هيجز قريبة للغاية من هذه القيمة، وألَّا تزيد على الأرجح عن ١٤٠ جيجا إلكترون فولت.
وأقوى الحُجَج المؤيدة لهذا التوقُّع بخفة وزن بوزون هيجز تستند إلى بيانات تجريبية؛ بمعنى أنها لا تستند إلى مجرد أبحاث عن بوزون هيجز نفسه، وإنما قياسات لكميات أخرى بالنموذج القياسي. وتتفق تنبؤات النموذج القياسي مع القياسات على نحو مذهل، وأي انحرافات بسيطة يمكن أن تؤثِّرَ على هذا التوافُقِ. ويساهم بوزون هيجز في تنبؤات النموذج القياسي من خلال الآثار الكمية، فإذا كان ثقيلًا للغاية، فستكون هذه الآثار كبيرة جدًّا على نحو يحول دون حدوث توافُق بين التنبؤات النظرية والبيانات الفعلية.
من ثَمَّ، ومع الوضع في الاعتبار التوقعات المشيرة إلى أن بوزون هيجز خفيف الوزن، يمكنك أن تتساءل: لماذا رأينا جميع جسيمات النموذج القياسي، ولم نَرَ بوزون هيجز بعدُ؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في خصائص هذا البوزون؛ فحتى لو كان الجسيم خفيفًا، لا يمكننا أن نراه إلا إذا تمكَّنَتِ المصادمات من تكوينه واكتشافه، والقدرة على فعل ذلك تعتمد على خصائص هذا الجسيم. وعلى أي حال، ما من سبيل لرؤية جسيم لا يتفاعل مطلقًا، مهما خفَّ وزنه.
لدينا الكثير من المعلومات حول ما يجب أن تكون عليه تفاعلات بوزون هيجز؛ لأن بوزون هيجز ومجال هيجز — رغم أنهما كيانان مختلفان — يتفاعلان على نحو متشابه مع الجسيمات الأولية الأخرى. ومن ثَمَّ، فلدينا معلومات عن تفاعلات مجال هيجز مع الجسيمات الأولية، وهذه المعلومات مستمَدَّة من كتلة هذه الجسيمات. ونظرًا لأن آلية هيجز مسئولة عن كتل الجسيمات الأولية، فإننا نعلم أن مجال هيجز يتفاعل على أقوى نحو مع الجسيمات الأثقل وزنًا، وبما أن بوزون هيجز ينشأ عن مجال هيجز، فإننا نعرف تفاعلاته أيضًا. وشأنه شأن مجال هيجز، يتفاعَل هذا البوزون على أقوى نحو مع جسيمات النموذج القياسي الأكبر في كتلتها.
هذا التفاعل الأقوى بين بوزون هيجز والجسيمات الأثقل وزنًا يشير إلى أن بوزون هيجز يسهل إنتاجه إذا بدأ التفاعل بجسيمات ثقيلة وحدث تصادم بينها ينتج عنه هذا البوزون. لكننا للأسف لا نبدأ التفاعلات بالجسيمات الثقيلة في المصادمات، كيف إذن — من هذا المنطلق — يمكن لمصادم الهادرونات الكبير إنتاج بوزونات هيجز، أو أي جسيمات أخرى؟ تشتمل التصادمات في هذا المصادم على جسيمات خفيفة. والكتلة الصغيرة لهذه الجسيمات توضِّح لنا أن التفاعل مع جسيم هيجز سيكون بسيطًا للغاية؛ بمعنى أنه إذا لم تتدخل أي جسيمات أخرى في إنتاج هيجز، فسيكون معدل هذا الإنتاج منخفضًا للغاية، بحيث لا يمكن اكتشاف أي شيء في أي مصادم شُيِّد حتى يومنا هذا.
لكن بوزونات هيجز يمكن أن تتكوَّن على نحو مستقل أيضًا. ويتحقَّق ذلك عندما تتصادم الجلوونات معًا لتكوِّن كواركًا قميًّا وكواركًا قميًّا مضادًّا يفنيان كلٌّ منهما الآخر لينتجا بوزون هيجز، كما هو واضح بالصورة الثالثة. والكوارك القمي والكوارك المضاد له هما، في الواقع، كواركان افتراضيان لا يدومان فترة طويلة، لكن ميكانيكا الكم تنصُّ على أن هذه العملية تتكرَّر كثيرًا؛ لأن الكوارك القمي يتفاعَل بقوة شديدة مع بوزون هيجز، وآلية الإنتاج هذه — على عكس الآليتين السابقتين — لا تخلِّف أي أثر وراءها غير جسيم هيجز الذي يتحلَّل بعد ذلك.
لذا، رغم أن بوزون هيجز نفسه لا يكون بالضرورة ثقيلًا للغاية — إذ إن كتلته تكون على الأرجح مماثِلةً لكتلة البوزونات المقياسية الضعيفة وأصغر من كتلة الكوارك القمي — فإن الكواركات الثقيلة، مثل البوزونات المقياسية، أو الكواركات القمية، تدخل على الأرجح في عملية إنتاجه؛ ومن ثَمَّ فإن تصادمات الطاقة العالية، مثل التصادمات التي تجري في مصادم الهادرونات الكبير، تساعد في تسهيل إنتاج بوزون هيجز، مثلما يفعل المعدل الهائل لتصادمات الجسيمات.
لكن رغم معدل الإنتاج الكبير، ثمة عائِقٌ آخَر يَحُول دون رصد بوزون هيجز؛ وهو الكيفية التي يتحلَّل بها. فبوزون هيجز — شأنه شأن العديد من الجسيمات الأخرى الأثقل وزنًا — ليس مستقرًّا، وتجدر الملاحظة هنا أن ما يتحلَّل هو جسيم هيجز، وليس مجاله؛ فمجال هيجز ينتشر عبر الفراغ ليمنح الكتلة للجسيمات الأولية، ولا يختفي. أما بوزون هيجز، فهو جسيم فعلي، وهو نتيجة آلية هيجز التي يمكن رصدها من خلال التجارب، وشأنه شأن الجسيمات الأخرى، يمكن إنتاجه في المصادمات، وهو لا يدوم للأبد، مثل غيره من الجسيمات غير المستقرة. ونظرًا لأن تحلُّلَه يحدث على الفور تقريبًا، فإن السبيل الوحيد للعثور عليه هو العثور على نواتج هذا التحلُّل. يتحلَّل بوزون هيجز إلى الجسيمات التي يتفاعَل معها، وهي جميع الجسيمات التي تكتسب كتلة عن طريق آلية هيجز، والخفيفة بقدرٍ يكفي لإنتاجها. وعندما ينتج جسيم ما والجسيم المضاد له من تحلُّل بوزون هيجز، لا بد أن يكون وزن كلٍّ منهما أقل من نصف كتلة بوزون هيجز الأصلي للحفاظ على الطاقة. ومع وضع هذا المتطلب في الاعتبار، يتحلَّل جسيم هيجز أوليًّا إلى أثقل الجسيمات التي يمكنه إنتاجها، لكن ذلك يعني أن بوزون هيجز الخفيف نسبيًّا يندر تحلُّله إلى الجسيمات التي يسهل التعرُّف عليها وملاحظتها.
بناءً على ما سبق، يلزم على الفيزيائيين التجريبيين دراسة النواتج النهائية البديلة لعمليات تحلُّل جسيمات هيجز، وإن كانت ستظهر بمعدل أقل. وأكثر الجسيمات المرجَّح العثور عليها عند تحلل جسيمات هيجز هي التاوون والتاوون المضاد أو زوج من الفوتونات. جدير بالذكر هنا أن التاوونات هي الأثقل بين الأنواع الثلاثة للِّبتونات المشحونة، وأثقل الجسيمات التي يمكن أن يتحلَّل إليها بوزون هيجز على الإطلاق، بخلاف الكواركات القاعية. ومعدل التحلُّل إلى فوتونات أقل بكثير — فلا تتحلَّلُ بوزونات هيجز إلى فوتونات إلا من خلال الآثار الكمية الافتراضية — لكن يسهل اكتشافها نسبيًّا. رغم صعوبة هذا النمط، ستتمكَّن التجارب من قياس خواص الفوتونات على نحوٍ ممتازٍ بمجرد أن تتحلَّل بوزونات هيجز إليها على الفور، وتتمكن من ثَمَّ بالتأكيد من التعرُّف على بوزون هيجز الذي سيتحلَّل مكوِّنًا هذه الفوتونات.
نظرًا لتعقُّد عملية اكتشاف بوزون هيجز، تضع تجربتا أطلس واللولب المركب للميوونات استراتيجيات بحثية واضحة ودقيقة للعثور على الفوتونات والتاوونات. صُمِّمت الكواشف في هاتين التجربتين مع وضع فكرة الكشف عن بوزون هيجز في الاعتبار، فصُمِّمت المِسعَرات الموضَّحَة في الفصل الثالث عشر لقياس الفوتونات بدقة، في حين تساعد كواشف الميوونات في تسجيل عمليات تحلُّل التاوونات الأثقل وزنًا. ومن المتوقَّع أن يثبت هذان النمطان معًا وجودَ بوزون هيجز. وبمجرد أن يُكشَف عن بوزون هيجز، نتعرَّف على خصائصه.
تَفرِض عمليتا الإنتاج والتحلُّل تحديات أمام اكتشاف بوزون هيجز، لكن الفيزيائيين النظريين والتجريبيين، ومصادم الهادرونات نفسه، على قدر هذا التحدي، ويأمل الفيزيائيون في أن يتمكَّنوا في غضون سنوات قليلة من الاحتفال باكتشاف بوزون هيجز، ومعرفة المزيد من المعلومات عن خصائصه.
قطاعات هيجز
بناءً على ما سبق، نتوقَّع العثور على بوزون هيجز قريبًا. نظريًّا، يمكن أن ينتج هذا البوزون أثناء التشغيل الأولي لمصادم الهادرونات الكبير بنصف مقدار الطاقة المستهدفة؛ لأن هذا المقدار يفوق ما يكفي لإنتاج هذا البوزون، لكننا رأينا أيضًا أن بوزون هيجز سينتج عن تصادمات البروتونات في نسبة صغيرة من الوقت فقط، ومعنى ذلك أن جسيمات هيجز لن تنتج إلا عندما يكون هناك الكثير من تصادمات البروتونات؛ ما يعني الحاجة إلى مستوًى عالٍ من السطوع. والعدد الأصلي للتصادمات، الذي تحدَّد قبل إغلاق مصادم الهادرونات الكبير عامًا ونصف عام لإعداده للعمل بالطاقة المستهدفة له، كان أقل كثيرًا مما يكفي لإنتاج بوزونات هيجز يمكن رؤيتها، لكن الخطة المُعَدَّة لتشغيل مصادم الهادرونات الكبير في عام ٢٠١٢ قبل إغلاقه لمدة عام، قد تسمح بالوصول إلى بوزون هيجز المحيِّر. ولا شك أنه عند تشغيل المصادم بكامل قدرته، سيكون السطوع عاليًا بما فيه الكفاية، وسيكون البحث عن بوزون هيجز أحد أهدافه الرئيسية.
قد يبدو البحث مضيعة للوقت إذا كنَّا واثقين تمامًا من وجود بوزون هيجز (وإذا كان سبيل البحث شديد الصعوبة)، لكن الأمر جدير ببذل الجهد لأسباب عدة، لعل أهمها هو أن التنبؤات النظرية لا تحقِّق لنا أي قدر إضافي من التقدُّم. وأغلب الناس — ولهم الحق في ذلك — لا يثقون ولا يؤمنون إلا بالنتائج العلمية التي أثبتَتِ الملاحظاتُ صحَتَّها، وبوزون هيجز جسيم مختلف تمامًا عن أي شيء آخَر اكتُشِف من قبلُ، وسيكون «الكمية غير الموجهة» الأساسية الوحيدة التي رُصِدت حتى الآن. وعلى عكس الجسيمات مثل الكواركات والبوزونات المقياسية، الكميات غير الموجهة — وهي جسيمات لا تدور — تظل كما هي عندما تدير النظام أو تعزِّزه. والجسيمات الوحيدة التي لا تدور ورُصِدت حتى الآن هي حالات مرتبطة لجسيمات مثل الكواركات، التي لا تدور بالفعل، ولن نتيَقَّنَ من وجود كمية هيجز غير الموجهة إلا عندما تظهر وتخلِّف أثرًا مرئيًّا في أحد الكواشف.
ثانيًا، حتى إذا اكتشفنا بوزون هيجز وتيَقَّنَّا من وجوده — بل حين نفعل ذلك — فسنظل بحاجة لمعرفة خصائصه. أهم هذه الخصائص المجهولة هي الكتلة، لكن معرفة عمليات تحلُّل البوزون مهمة أيضًا؛ فنحن نعلم ما نتوقَّعه، لكننا بحاجة لقياس مدى توافُق البيانات مع هذه التوقعات. وسيوضِّح لنا ذلك ما إذا كانت نظريتنا البسيطة عن مجال هيجز صحيحة أم إنها جزء من نظرية أكثر تعقيدًا. وبقياس خصائص بوزون هيجز، سوف نتمكَّن من التعمُّق أكثر فيما قد يكمن خارج نطاق النموذج القياسي.
على سبيل المثال، إذا كان هناك مجالان من مجالات هيجز مسئولان عن كسر التناظر الكهروضعيف بدلًا من مجال واحد، فيمكن أن يغيِّر ذلك من تفاعلات بوزون هيجز التي سترصد تغييرًا كبيرًا. وفي النماذج البديلة، يمكن أن يختلف معدل إنتاج بوزون هيجز عمَّا هو متوقع. وفي حال وجود جسيمات أخرى مشحونة تحت تأثير قوى النموذج القياسي، يمكن أن تؤثِّر على معدلات التحلُّل النسبية لبوزون هيجز إلى النواتج النهائية الممكنة.
ينقلنا ذلك إلى السبب الثالث الذي يدفعنا لدراسة بوزون هيجز؛ أَلَا وهو أننا لم نعرف بعدُ ما يطبق آلية هيجز حقًّا. يوضِّح لنا أبسط نموذج — الذي ركَّزنا عليه في هذا الفصل حتى الآن — أن النتيجة التي ستُسفِر عنها التجارب ستكون بوزون هيجز واحدًا، لكن على الرغم من أننا نؤمن بأن آلية هيجز هي المسئولة عن كتل الجسيمات الأولية، فلسنا على يقين بعدُ بشأن مجموعة الجسيمات المحدَّدة التي تدخل في تطبيقها. فمعظم الناس لا يزالون يعتقدون بأننا سنجد على الأرجح بوزون هيجز خفيف الوزن، وإن حدث ذلك، فسيؤكِّد ذلك على تلك الفكرة المهمة.
لكن النماذج البديلة تتضمن قطاعات هيجز أكثر تعقيدًا؛ حيث تتضمَّن مجموعة أكبر من التنبؤات. على سبيل المثال، نماذج التناظر الفائق — التي سنتناولها بمزيد من التفصيل في الفصل التالي — تتنبَّأ بوجود مزيد من الجسيمات في قطاع هيجز، لكننا سنظل نتوقَّع العثور على بوزون هيجز، وإن اختلفت تفاعلاته عن النموذج الذي يحتوي على جسيم هيجز واحد. وفوق كل ذلك، يمكن للجسيمات الأخرى الموجودة في قطاع هيجز أن تقدِّم علامات مثيرة بنفسها إذا كانت خفيفة بالقدر الكافي الذي يسمح بإنتاجها.
وتشير بعض النماذج أيضًا إلى أن كمية هيجز غيرَ الموجهةِ الأساسيةَ غيرُ موجودة، وأن آلية هيجز يطبقها جسيم أكثر تعقيدًا لكنه ليس أساسيًّا، وإنما هو عبارة عن حالة مرتبطة من جسيمات أولية تشبه الإلكترونات المزدوجة التي تمنح الفوتون كتلته في المادة الفائقة التوصيل. إذا كان هذا هو الحال، فإن الحالة المرتبطة لجسيم هيجز ينبغي أن تكون ثقيلةً للغاية، ولها خصائص تفاعُل أخرى تميِّزها عن بوزون هيجز الأساسي. هذه النماذج غير مدعومة حاليًّا؛ لأنها من الصعب أن تتماشَى مع الملاحظات التجريبية. ومع ذلك، فإن تجارب مصادم الهادرونات الكبير ستجري الأبحاث للتأكُّد من ذلك.
مشكلة التسلسل الهرمي في فيزياء الجسيمات
إن اكتشاف بوزون هيجز ليس سوى جانب بسيط للغاية مما يمكن أن يتوصَّل إليه مصادم الهادرونات الكبير. وبالرغم من مدى الإثارة التي ينطوي عليها اكتشاف بوزون هيجز، فإنه ليس الهدف الوحيد لأبحاث مصادم الهادرونات الكبير التجريبية، ولعل السبب الرئيس لدراسة النطاق الضعيف هو اعتقاد الجميع بأن بوزون هيجز ليس الشيء الوحيد الذي يمكن العثور عليه. فيتوقَّع الفيزيائيون ألَّا يكون هذا البوزون سوى عنصر واحد فقط لنموذج أكثر ثراءً يمكن أن يقدِّم لنا المزيدَ من المعلومات عن طبيعة المادة، بل ربما عن الفضاء أيضًا.
وضخامة كتلة بلانك مقارنةً بالكتلة الضعيفة تتناسَب مع ضعف الجاذبية. فالعلاقة بين تفاعلات الجاذبية وكتلة بلانك علاقة عكسية، بمعنى أنه إذا كانت هذه الكتلة بالحجم الكبير الذي نعرفه، فلا بد أن تكون الجاذبية ضعيفة للغاية.
الحقيقة أن الجاذبية، من الناحية الجوهرية، هي القوة الأضعف على الإطلاق وفق ما هو معروف حتى الآن. قد لا يبدو هذا الضعف واضحًا، وذلك يرجع إلى أن الكتلة الكاملة للأرض تجذبك إليها، لكنك إذا نظرت إلى قوة الجاذبية بين إلكترونين، فسوف تجد أن القوة الكهرومغناطيسية أكبر من الجاذبية بمقدار ٤٣ قيمة أُسِّيَّة، ومعنى ذلك أن القوة الكهرومغناطيسية تزيد بنحو ١٠ ملايين تريليون تريليون تريليون مرة عن قوة الجاذبية، وبذلك فإن قيمة الجاذبية التي تؤثِّر على الجسيمات الأولية مهملة تمامًا. بناءً على هذا المنطق، تكمن مشكلة التسلسل الهرمي في السؤال التالي: ما السبب وراء كون الجاذبية أضعف بكثير من القوى الأولية الأخرى التي نعرفها؟
لا يحب فيزيائيو الجسيمات الأرقام الكبيرة غير المفسَّرة، مثل حجم كتلة بلانك مقارنةً بالكتلة الضعيفة، لكن المشكلة تفوق كونها اعتراضًا جماليًّا على الأعداد الكبيرة الغامضة. فوَفْق نظرية المجال الكمي — التي تشمل ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة — من المفترض ألَّا يكون هناك تناقض على الإطلاق بين الكتلتين. وأهمية مشكلة التسلسل الهرمي، على الأقل للفيزيائيين النظريين، يمكن استيعابها بشكل كامل في هذا السياق، فتشير نظرية المجال الكمي إلى أن ثابت كتلة بلانك والكتلة الضعيفة يجب أن يكونا متماثلين.
في نظرية المجال الكمي، تلعب كتلة بلانك دورًا مهمًّا، ليس فقط لأنها النطاق الذي تكون فيه الجاذبية قوية، وإنما أيضًا لأنها الكتلة التي تكون فيها الجاذبية وميكانيكا الكم ضروريتين، ويتم الإخلال فيها بقواعد الفيزياء كما نعرفها. لكننا نعلم بالفعل كيف نجري حسابات فيزياء الجسيمات عند الطاقات المنخفضة باستخدام نظرية المجال الكمي التي تقوم على أساسها تنبؤاتٌ عديدة ناجحة، تنبؤات يقتنع من خلالها الفيزيائيون بأن هذه النظرية صحيحة. في الواقع، أفضل الأرقام المقيسة في جميع العلوم تتوافَق مع التنبؤات القائمة على نظرية المجال الكمي، وهذا التوافق ليس مصادفة.
إن مشكلة التسلسل الهرمي من المشاكل المهمة في النموذج القياسي الذي يحتوي على بوزون هيجز واحد فقط. لكن من الناحية الفنية، يوجد مهرب من هذه المشكلة؛ فكتلة بوزون هيجز — في غياب المساهمات الافتراضية — يمكن أن تكون ضخمة، ويمكن أن تكون لها القيمة ذاتها التي تلغي المساهمات الافتراضية لتصل إلى مستوى الدقة الذي نرغب فيه فحسب، لكن المشكلة هي أنه بالرغم من أن ذلك ممكن نظريًّا، فإنه يعني إلغاء ١٦ رقمًا عشريًّا، الأمر الذي سيكون بمنزلة مصادفة بحتة.
لا يؤمن أي فيزيائي بهذا الهراء، أو التلاعب كما نطلق عليه؛ فجمعينا نؤمن بأن مشكلة التسلسل الهرمي — في ظل معرفة التناقض بين هذه الكتل — علامة على شيء ما أكبر وأفضل في النظرية الأساسية. يبدو أنه لا يوجد نموذج بسيط يتناول المشكلة بالكامل. والإجابات الواعدة الوحيدة التي لدينا تتضمن توسيعات لنطاق النموذج القياسي، مع إضافة بعض الملامح المهمة. وسيكون حل مشكلة التسلسل الهرمي، إلى جانب معرفة الجسيم أو الجسيمات التي تطبق آلية هيجز أيًّا كانت، هو الهدف البحثي الرئيسي في مصادم الهادرونات الكبير، وموضوع الفصل التالي.