أفضل النماذج المحتملة
في يناير ٢٠١٠، اجتمع زملائي بأحد المؤتمرات المنعقدة آنذاك في جنوب كاليفورنيا لمناقشة أبحاث فيزياء الجسيمات والمادة المظلمة في عصر مصادم الهادرونات الكبير. طلبت مني مُنظِّمة المؤتمر ماريا سبيروبولو — وهي إحدى أعضاء فريق الفيزيائيين التجريبيين بتجربة اللولب المركب للميوونات، وعضو قسم الفيزياء بمعهد كاليفورنيا للتقنية (كالتيك) — أن أكون أول المتحدثين، وأن أعرض القضايا الأساسية لمصادم الهادرونات الكبير والأهداف الفيزيائية المراد تحقيقها في المستقبل القريب.
أرادت ماريا إضفاء الإثارة على المؤتمر؛ لذا اقترحت أن نبدأ المؤتمر بمبارزة بين المتحدثين الثلاثة الافتتاحيين. وما زاد الأمر صعوبةً الجمهور المدعو للمؤتمر؛ إذ فرضوا تحديًّا عظيمًا؛ نظرًا لتنوُّعهم ما بين الخبراء في المجال والملاحظين المهتمين بالموضوع من جميع مجالات التكنولوجيا في كاليفورنيا. طلبت مني ماريا التعمُّق وتناول الملامح الدقيقة التي يُغفَل عنها عادةً في النظريات والتجارب الحالية، في حين اقترح أحد الحاضرين ويُدعَى داني هيليز — وهو شخص عبقري غير متخصِّص في الفيزياء يعمل بشركة «آبلايد مايندس» — أن أبسِّط الأمور قدر الإمكان حتى يتمكَّن غير الخبراء بين الحضور من استيعابها.
أشارت نقاط هذا المقال للموضوع الأساسي الذي كان من المقرر لي وللمتحدث التالي لي تغطيته، لكن المؤثرات الصوتية الهزلية التي أرفقتُها مع دخول كلٍّ من القطط المتبارزة (لا يمكنني التعبير عنها هنا كتابةً) كان الهدف منها أن تعكس كلٍّ من الحماس والشك المرتبطين بكل نموذج من هذه النماذج. فجميع الحضور بالمؤتمر — بغض النظر عن مدى اقتناعهم القوي بالفكرة التي يعملون عليها — يعلمون أن هناك بيانات ستظهر قريبًا، وهذه البيانات سيكون لها الحكم النهائي بشأن مَن سيضحك أخيرًا (أو مَن سيفوز بجائزة نوبل).
يتيح لنا مصادم الهادرونات الكبير فرصةً فريدة للفهم الجيد وتكوين معرفة جديدة، ويأمل فيزيائيو الجسيمات أن يعرفوا قريبًا إجابات الأسئلة العميقة التي طالما فكَّروا فيها بشأن: لماذا تملك الجسيمات الكتل التي تملكها؟ ممَّ تتألَّف المادة المظلمة؟ هل تحلُّ الأبعادُ الإضافية مشكلةَ التسلسل الهرمي؟ هل تشترك التناظرات الإضافية للزمكان في ذلك؟ أم هل ثمة شيء غير مرئي تمامًا يلعب دورًا في ذلك؟
تشمل الإجابات المقترَحة نماذج تحمل أسماء من قبيل التناظُر الفائق، والنموذج الملون، والأبعاد الإضافية. ويمكن أن تكون الإجابات مختلفة عن أي شيء متوقَّع، لكن النماذج تقدِّم لنا أهدافًا محدَّدة لما علينا البحث عنه. يستعرض هذا الفصل بعضًا من النماذج المُقترَحة التي تتناول مشكلة التسلسل الهرمي، ويقدِّم لمحة عن عمليات الاستكشاف التي سيجريها مصادم الهادرونات الكبير. تجري الأبحاث عن هذه النماذج وغيرها على نحو متزامن، ومن شأنها تقديم معلومات دقيقة قيِّمة لنا بغضِّ النظر عمَّا سيَثبت في النهاية أنه النظرية الحقيقية للطبيعة.
التناظر الفائق
سنبدأ حديثنا هنا بذلك النوع الغريب من التناظر المعروف بالتناظر الفائق، والنماذج التي يشملها. إذا أجريْتَ استطلاعًا للآراء بين فيزيائيي الجسيمات، فستجد نسبةً كبيرةً منهم تقول بأن التناظر الفائق يحل مشكلة التسلسل الهرمي. وإذا سألت الفيزيائيين التجريبيين عمَّا أرادوا البحث عنه، فسيشير عدد كبير منهم إلى التناظر الفائق أيضًا.
منذ سبعينيات القرن العشرين، اعتبر الكثيرون من الفيزيائيين وجود نظريات التناظر الفائق أمرًا مذهلًا وجميلًا، ما جعلهم يؤمنون بحتمية وجود هذا التناظر في الطبيعة. قدَّر هؤلاء العلماء أيضًا بالحسابات أن القوى ينبغي أن يكون لها نفس شدة الطاقة العالية في نموذج التناظر الفائق، لتحسن بذلك من التقارب الشديد الذي يحدث في النموذج القياسي، وتسمح بإمكانية التوحيد. يرى الكثير من الفيزيائيين النظريين أيضًا في التناظر الفائق الحلَّ الأكثر إثارةً لمشكلة التسلسل الهرمي، رغم صعوبة جعل كل التفاصيل تتوافَق مع ما نعرفه.
لعل ذلك يبدو إعجازيًّا، لكنه مضمون؛ لأن التناظر الفائق نوع خاص للغاية من التناظر. إنه تناظُر المكان والزمان — شأنه شأن التناظرات التي نَأْلفها جميعًا، مثل عمليات الدوران والترجمة — لكنه يمتدُّ إلى النظام الكمي.
تقسم ميكانيكا الكم المادة إلى فئتين مختلفتين؛ أَلَا وهما البوزونات والفرميونات. الفرميونات هي جسيمات لها لف مغزلي نصفي، ورقم اللف المغزلي يوضِّح أمورًا معينة؛ مثل: إلى أي مدًى يتصرَّف الجسيم كما لو كان يدور. واللف المغزلي النصفي يعني قيمًا مثل ١ / ٢، و٣ / ٢، و٥ / ٢. الكواركات واللبتونات في النموذج القياسي أمثلة على الفرميونات، ولها لف مغزلي قدره −١ / ٢. على الجانب الآخَر، للبوزونات — وهي جسيمات مثل البوزونات المقياسية الحاملة للقوة أو بوزون هيجز الذي لم يُكتشَف بعدُ — لف مغزلي صحيح يُشَار إليه بالأرقام الكاملة، مثل صفر و١ و٢ وما إلى ذلك.
لا يقتصر ما يميِّز الفرميونات عن البوزونات على ما لهذه الجسيمات من لف مغزلي فحسب، وإنما تختلف كذلك في سلوكها اختلافًا هائلًا عند وجود اثنين أو أكثر من نفس النوع في آنٍ واحد. على سبيل المثال، الفرميونات المتطابقة التي تحمل نفس الصفات لا يمكن أن يتزامن وجودها معًا في نفس المكان. هذا ما ينصُّ عليه «مبدأ الاستبعاد لباولي»، المُسمَّى بهذا الاسم نسبةً للفيزيائي النمساوي الجنسية فولفجانج باولي. وهذه الحقيقة المتعلقة بالفرميونات هي السبب وراء بنية الجدول الدوري التي توضِّح لنا أن الإلكترونات — إذا لم يكن هناك رقم كمي معين يميِّزها — لا بد أن تدور حول النواة على نحوٍ مختلف عن بعضها البعض. وهي السبب أيضًا وراء عدم سقوط الكرسي الذي أجلس عليه الآن إلى مركز الكرة الأرضية؛ لأن الفرميونات الموجودة في الكرسي لا يمكن أن تتواجد في نفس المكان الذي توجد فيه المادة المصنوعة منها الأرض.
على الجانب الآخَر، تتصرف البوزونات على نحوٍ مخالِفٍ كليةً؛ فيزيد احتمال تواجُدها في نفس المكان على نحو متزامِن. ومن شأنها التكدس بعضها فوق بعض — كالتماسيح — ولهذا توجد بعض الظواهر، مثل «تكاثف بوز»، التي تتطلب تكدُّس الكثير من الجسيمات في الحالة الميكانيكية الكمية نفسها. يعتمد الليزر أيضًا على ارتباط الفوتونات البوزونية بعضها ببعض. وتتكون الحزمة الليزرية الكثيفة بواسطة عدد كبير من الفوتونات المتطابقة التي تنطلق جميعها معًا.
في نظرية التناظر الفائق، ترتبط خصائص كل بوزون بخصائص الفرميون الفائق المقترن به، والعكس بالعكس. وبما أن كل جسيم له قرين والتفاعلات بينهما متوازنة بدقة، فإن النظرية تسمح بهذا التناظر الغريب الذي يجري فيه تبادل الفرميونات والبوزونات.
يمكن استيعاب الإلغاء، الذي يبدو إعجازيًّا، لإسهامات كتلة هيجز الافتراضية، عن طريق إدراك أن التناظر الفائق يربط أي بوزون بفرميون قرين له. على وجه الخصوص، يتسبَّب التناظر الفائق في اقتران بوزون هيجز بفرميون هيجز المسمَّى هيجزينو. وبالرغم من أن الإسهامات الميكانيكية الكمية تؤثِّر تأثيرًا جذريًّا على كتلة البوزون، فإن كتلة الفرميون لن تكون أكبر بكثير من «الكتلة التقليدية» أبدًا، وهي الكتلة التي كانت موجودة قبل أن تحسب الإسهامات الكمية التي بدأ بها، حتى عند تضمين التصحيحات الميكانيكية الكمية.
المنطق معقَّد، لكن التصحيحات الكبيرة لا تحدث؛ لأنَّ كتل الفرميونات تتضمن جسيمات تدور ناحية اليسار وناحية اليمين، وشروط الكتلة تسمح لها بالتحول إلى بعضها البعض. وإذا لم يوجد شرط للكتل التقليدية، ولم تتحوَّل إلى بعضها البعض قبل تضمين الآثار الافتراضية الميكانيكية الكمية، فلن يمكنها فعل ذلك حتى مع وضع الآثار الميكانيكية الكمية في الاعتبار. وإذا لم يكن للفرميون كتلة من البداية (كتلة تقليدية)، فستظل كتلته تساوي صفرًا بعد تضمين الإسهامات الميكانيكية الكمية.
لا ينطبق ذلك على البوزونات؛ فبوزون هيجز — على سبيل المثال — ليس له لف مغزلي؛ ومن ثَمَّ لا يمكن التحدث عن دوران بوزون هيجز ناحية اليسار أو اليمين. لكن التناظر الفائق يشير إلى أن كتل البوزونات هي نفسها كتل الفرميونات؛ من ثَمَّ إذا كانت كتلة الهيجزينو صفرية (أو كانت صغيرة)، فيجب أن تكون كذلك كتلة بوزون هيجز المقترن به في نظرية التناظر الفائق، حتى عند وضع التصحيحات الميكانيكية الكمية في الاعتبار.
لا نعلم حتى الآن ما إذا كان هذا التفسير الأنيق لاستقرار التسلسل الهرمي وإلغاء التصحيحات الكبيرة لكتلة هيجز صحيحًا أم لا. لكن إذا حلَّ التناظرُ الفائق فعلًا مشكلةَ التسلسل الهرمي، فإننا نعلم من ثَمَّ الكثير عمَّا يمكننا توقُّع الوصول إليه في مصادم الهادرونات الكبير. والسبب في ذلك هو أننا نعلم الجسيمات الجديدة التي من المفترض تواجُدها؛ نظرًا لأن كل جسيم ينبغي أن يكون له جسيم قرين به. وفوق كل ذلك، يمكننا تقدير الكتل التي من المفترض أن تحملها الجسيمات الجديدة الفائقة التناظر.
لا ريب أنه إذا كان التناظر الفائق محفوظًا تمامًا في الطبيعة، فسوف نعلم على وجه التحديد كتل جميع الجسيمات المقترنة الفائقة التناظر، وسوف تكون متطابقة مع كتل الجسيمات التي تقترن بها. رغم ذلك، لم يُرصَد أيٌّ من الجسيمات المقترنة الفائقة التناظر. يوضح لنا ذلك أنه حتى إذا انطبق التناظر الفائق في الطبيعة، فإنه لا يمكن أن يكون تامًّا. ولو كان كذلك، لَكُنَّا قد اكتشفنا بالفعل الإلكترون الفائق والكوارك الفائق وكل الجسيمات الفائقة التناظر الأخرى التي تتنبَّأ بها نظريةُ التناظر الفائق.
ومن ثَمَّ، لا بد من «كسر» التناظر الفائق؛ بمعنى أن العلاقات التي تتنبَّأ بها نظرية التناظر الفائق — رغم أنها ربما تكون تقريبية — لا يمكن أن تكون تامة. وفي نظرية التناظر الفائق المكسور، يظل لكل جسيم قرين فائق، لكن هذه الجسيمات القرينة الفائقة يكون لها كتل مختلفة عن جسيمات النموذج القياسي التي تقترن بها.
رغم ذلك، إذا كُسِرَ التناظر الفائق على نحو سيئ للغاية، فلن يساعد ذلك في حل مشكلة التسلسل الهرمي؛ لأن العالَم سيبدو آنذاك كما لو أن التناظر الفائق ليس له وجود في الطبيعة من الأساس. يجب أن ينكسر التناظر الفائق بطريقة معينة لم نكتشفها بعدُ، بحيث يتمتَّع بوزون هيجز بالحماية من الإسهامات الميكانيكية الكمية التي تمنحه كتلة كبيرة.
يوضِّح لنا ذلك أن الجسيمات الفائقة التناظر ينبغي أن يكون لها كتل بالنطاق الضعيف، وإذا خفَّ وزنها عن ذلك، فستكون مرئية، وإن زادَ، نتوقع أن تزيد كتلة بوزون هيجز أيضًا. نحن لا نعلم الكتل بالضبط؛ لأننا لا نعرف كتلة بوزون هيجز إلا تقريبيًّا، لكننا نعلم بالفعل أنه إذا كانت الكتل ثقيلة للغاية، فستظل مشكلة التسلسل الهرمي قائمة.
ومن ثَمَّ، فإننا نستنتج أنه إذا كان هناك تناظر فائق في الطبيعة، وكان هو الحل لمشكلة التسلسل الهرمي، فلا بد أن يوجد الكثير من الجسيمات الجديدة التي تتراوح كتلتها بين مئات الجيجا إلكترون فولت وبضعة من التيرا إلكترون فولت، وهذا بالضبط هو نطاق الكتل التي صُمِّم مصادم الهادرونات الكبير للبحث عنها. وهذا المصادم، الذي تبلغ طاقته ١٤ تيرا إلكترون فولت، يجب أن يكون قادرًا على إنتاج هذه الجسيمات، حتى إن دخلت نسبة يسيرة فقط من طاقة البروتونات في تصادم الكواركات والجلوونات معًا وكوَّنت جسيمات جديدة.
أيسر الجسيمات التي يمكن إنتاجها في مصادم الهادرونات الكبير هي الجسيمات الفائقة التناظر التي تُشحَن بفعل القوة النووية القوية. هذه الجسيمات يمكن إنتاجها بوفرة عند تصادم البروتونات (أو على وجه الخصوص الكواركات والجلوونات الموجودة داخلها). وعند وقوع هذه التصادمات، يمكن إنتاج جسيمات فائقة التناظر جديدة تتفاعل بواسطة القوة القوية، وفي حال حدوث ذلك، ستخلِّف آثارًا مميزة للغاية في الكواشف.
هذه «الآثار» — الأدلة التجريبية التي ستخلِّفها — تعتمد على ما يحدث للجسيم بعد تكوُّنِه. أغلب الجسيمات الفائقة التناظر ستتحلل، يرجع ذلك بوجه عام إلى أن الجسيمات الأخف وزنًا (مثل الموجودة في النموذج القياسي) تتواجد، ويساوي إجمالي شحنتها شحنة الجسيمات الثقيلة الفائقة التناظر. وإن كان هذا هو الحال، فالجسيم الثقيل الفائق التناظر سيتحلل إلى جسيمات النموذج القياسي الأخف وزنًا على نحوٍ يحافظ على الشحنة الأولية له؛ ومن ثَمَّ ستكشف التجارب عن جسيمات النموذج القياسي.
لعل ذلك ليس كافيًا للتعرُّف على التناظر الفائق، لكن في أغلب النماذج الفائقة التناظر، لا يتحلَّل الجسيم الفائق التناظر إلى جسيمات النموذج القياسي فقط، وإنما يظل هناك جسيم آخَر فائق التناظر (أخف وزنًا) في نهاية عملية التحلل. ويرجع ذلك إلى أن الجسيمات الفائقة التناظر لا تظهر (ولا تختفي) إلا في صورة أزواج؛ ومن ثَمَّ لا بد أن يظل جسيم فائق التناظر في النهاية بعد تحلُّل الجسيم الفائق التناظر، فلا يمكن أن يتحوَّل جسيم فائق التناظر إلى لاشيء. بناءً على ذلك، لا بد أن يكون هذا الجسيم الأخف وزنًا مستقرًّا، وهذا الجسيم الأخف وزنًا، الذي لا يتحلل إلى شيء، يسمِّيه الفيزيائيون الجسيم الفائق التناظر الأخف.
عمليات تحلل الجسيمات الفائقة التناظر متميزة من وجهة النظر التجريبية؛ نظرًا لأن الجسيمات الخفيفة المتعادلة الفائقة التناظر ستظل موجودة، حتى بعد انتهاء التحلل. والقيود الكونية تشير إلى أن الجسيم الفائق التناظر الأخف لا يحمل أي شحنات، ومن ثَمَّ فهو لن يتفاعل مع أي من العناصر في الكواشف. معنى ذلك أنه عند إنتاج أي جسيم فائق التناظر وتحلله، سيبدو أن هناك فَقْدًا في الزخم والطاقة. سيختفي الجسيم الفائق التناظر الأخف من الكاشف وسيحمل معه الزخم والطاقة إلى حيث لا يمكن تسجيلهما، مخلِّفًا وراءه الطاقة المفقودة كأثرٍ دالٍّ عليه. والطاقة المفقودة لا تقتصر على التناظر الفائق فحسب، لكن نظرًا لأننا نعرف بالفعل قدرًا كبيرًا من المعلومات عن النطاق الفائق التناظر، فإننا نعلم ما من المفترض أن نراه وما من المفترض ألَّا نراه.
حتى إن اكتُشِف التناظر الفائق، فلن يتوقَّف الفيزيائيون التجريبيون عند ذلك الحد؛ حيث إنهم لن يدخروا جهدًا لتحديد نطاق التناظر الفائق بالكامل، في حين سيعمل الفيزيائيون النظريون على تفسير ما يمكن أن تعنيه النتائج. ثمة نظريات عديدة مثيرة للاهتمام يقوم عليها التناظر الفائق والجسيمات التي يمكن أن تكسره تلقائيًّا، ونحن نعرف الجسيمات الفائقة التناظر التي من المفترض أن توجد إذا كان التناظر الفائق مرتبطًا بمشكلة التسلسل الهرمي، لكننا لا نعلم حتى الآن على وجه التحديد كُتَلَ هذه الجسميات، أو كيفية ظهورها.
واختلاف أطياف الكتلة يؤدِّي إلى تباين هائل فيما يجب أن يرصده مصادم الهادرونات الكبير. فالجسيمات لا يمكن أن تتحلَّلَ إلا إلى جسيمات أخرى أخف وزنًا، وسلسلة التحلل — أي تتابُع عمليات التحلل الممكنة للجسيمات الفائقة التناظر — تعتمد على الكتل؛ أي ما هو أثقل وما هو أخف وزنًا، ومعدلات حدوث العمليات المختلفة يعتمد أيضًا على كتل الجسيمات. وبوجه عام، الجسيمات الأثقل وزنًا تكون أسرع في تحللها، ويكون من الصعب عادةً إنتاجها؛ لأن التصادمات فقط التي تنطوي على قدر كبير من الطاقة هي التي يمكن أن تنتجها. والجمع بين كل النتائج يمكن أن يمنحنا معلومات دقيقة مهمة عما ينطوي عليه النموذج القياسي، وما ينتظرنا عند نطاقات الطاقة التالية، وهذا ينطبق على أي تحليل للنظريات الفيزيائية الجديدة التي قد نتوصَّل إليها.
ومع ذلك، ينبغي دائمًا أن نتذكَّر أنه بالرغم من شعبية فكرة التناظر الفائق بين الفيزيائيين، فهناك العديد من الأسباب التي تدعو للقلق بشأن ما إذا كان هذا التناظر ينطبق حقًّا على مسألة التسلسل الهرمي والعالم الحقيقي أم لا.
السبب الأول، وربما الأكثر مدعاة للقلق، هو أننا لم نَرَ بعدُ أيَّ أدلة تجريبية على هذا التناظر، وإذا كان موجودًا، يكون التفسير الوحيد لعدم رؤيتنا أي دليل عليه هو أن وزن النظراء الفائقين ثقيل. لكن الحل الطبيعي لمسألة التسلسل الهرمي يستلزم أن يكون وزن النظراء الفائقين خفيف على نحو معقول، فكلما زاد وزن النظراء الفائقين، زادت عدم ملاءمة التناظر الفائق كحلٍّ لمسألة التسلسل الهرمي. والتلاعب اللازم لحل هذا الأمر تحدِّده نسبة كتلة بوزون هيجز إلى مقدار كسر التناظر الفائق. وكلما زادت هذه النسبة، صارت النظرية أكثر «ملاءمة».
وما يزيد المشكلة تعقيدًا أننا لم نَرَ بوزون هيجز بعدُ، وقد اتضح أنه في نموذج التناظر الفائق، السبيل الوحيد لجعل بوزون هيجز ثقيلًا على نحوٍ لا يسمح باكتشافه، هو أن يكون له إسهامات ميكانيكية كمية كبيرة، وهي الإسهامات التي لا يمكن أن تنتج إلا عن نظراء فائقين ثقيلي الوزن، لكن هذه الكتل يجب أن تكون ثقيلة للغاية حتى يصير التسلسل الهرمي غير طبيعي بعض الشيء، حتى في ظل وجود التناظر الفائق.
ومن المشكلات الأخرى المتعلقة بالتناظر الفائق صعوبة العثور على نموذج مُتَّسِق اتساقًا كاملًا يتضمن كسرًا للتناظر الفائق، ويتفق مع كافة البيانات التجريبية التي وصلنا إليها حتى الآن. فالتناظر الفائق نوع شديد التميُّز من التناظر يربط بين العديد من التفاعلات ويمنع تفاعلات أخرى من شأن ميكانيكا الكم أن تسمح بها لولاه، وبمجرد أن ينكسر التناظر الفائق، يسود «المبدأ الفوضوي»؛ بمعنى أن أي شيء يمكن حدوثه سيحدث. ومعظم النماذج تتنبَّأ في هذه الحالة بعمليات تحلُّل إما لم تسبق رؤيتها في الطبيعة أو لم تُرَ كثيرًا على النحو الذي يجعلها تتفق مع التنبؤات. فبسبب ميكانيكا الكم، يظهر عدد هائل من المشكلات بمجرد كسر التناظر الفائق.
لعل الفيزيائيين يعجزون عن رؤية الإجابات الصحيحة فحسب، فلا يسعنا بالتأكيد الجزم بأنه لا توجد نماذج صحيحة أو أنه لا يحدث بعض التلاعب والموالفة. وإذا كان التناظر الفائق هو الحل السليم لمسألة التسلسل الهرمي، فسوف نصل بالتأكيد إلى الأدلة التي تثبت صحته قريبًا في مصادم الهادرونات الكبير؛ ومن ثَمَّ فهو يستحق مواصلة العمل عليه. واكتشاف التناظر الفائق يعني أن هذا التناظر الزمكاني الجديد والغريب لن ينطبق نظريًّا فقط على الورق، وإنما فعليًّا أيضًا على أرض الواقع. أما في حالة عدم اكتشافه، يجدر البحث عن بدائل، وأول هذه البدائل التي سنتناولها هو «النموذج الملون».
النموذج الملون
فكَّرَ الفيزيائيون في سبعينيات القرن العشرين في حلٍّ بديل محتمل لمسألة التسلسل الهرمي، وهو ما يُعرَف باسم «النموذج الملون»، والنماذج التي تندرج تحت هذا المبدأ تشمل الجسيمات التي تتفاعل بقوة بواسطة قوة جديدة أُطلِقَ عليها «قوة النموذج الملون». وكان ما اقترحه العلماء هو أن هذا النموذج الملون يعمل على نحو مشابه للقوة النووية القوية (المعروفة أيضًا باسم القوة «اللونية» في أوساط الفيزيائيين)، لكنه يربط الجسيمات بعضها ببعض في نطاق القوة الضعيفة، وليس في نطاق كتلة البروتون.
في حال كان النموذج الملون هو الحل المؤكَّد لمسألة التسلسل الهرمي، فلن ينتج مصادم الهادرونات الكبير بوزون هيجز أساسيًّا منفردًا، وإنما سينتج جسيمًا في حالة مرتبطة، مثل الهادرون، والذي سيلعب دور جسيم هيجز. والدليل التجريبي الذي يدعم فكرة النموذج الملوَّن هو وجود العديد من جسيمات الحالة المرتبطة والكثير من التفاعلات القوية في نطاق القوة الضعيفة أو أعلى منها، مثل الهادرونات التي نعرفها، لكنها تظهر عند طاقات أعلى بكثير.
وعدم رؤية أي أدلة بعدُ على ذلك يفرض قيدًا كبيرًا على النموذج الملوَّن، وإذا كان النموذج الملون هو الحل فعلًا لمسألة التسلسل الهرمي، فمن المفترض أننا نملك بالفعل دليلًا عليه، وإن كان لا يزال هناك، بالطبع، شيء ما يغيب عنَّا.
يأتي في مقدمة كل ما سبق أن بناء النماذج باستخدام النموذج الملون أكثر صعوبةً من بنائها باستخدام التناظر الفائق، وقد فرض العثور على نماذج تتفق مع كلِّ ما نلاحظه في الطبيعة تحديات هائلة، ولم يُعثَر على أي نموذج مناسب تمامًا.
الأبعاد الإضافية
من الواضح أن التناظر الفائق والنموذج الملون ليسا الحل الأمثل لمسألة التسلسل الهرمي؛ فنظريات التناظر الفائق لا تتماشى مع كسر التناظر الفائق الذي يظهر دومًا في التجارب، ولا يقل صعوبة عن ذلك استقاءُ نظريات النموذج الملون، التي تتنبأ بالكتل الصحيحة للبتونات والكواركات؛ لذا قرَّرَ الفيزيائيون النظر إلى ما هو أبعد من ذلك، ودراسة أفكارٍ تبدو من الناحية الظاهرية بدائل تخمينية على نحو أكبر. يجدر التذكر هنا أنه حتى لو بدت الفكرة قبيحةً أو غير واضحةٍ في البداية، لا يمكننا تقرير أي الأفكار هي الأجمل — بل والأهم، أيها الأصح — إلا بعد أن نستوعب جيدًا كل تبعاتها.
وقد أدَّى استيعاب الفيزيائيين مثلًا لنظرية الأوتار ومكوناتها استيعابًا جيدًا في التسعينيات إلى طرح اقتراحات جديدة في التعامل مع مسألة التسلسل الهرمي، كان الدافع وراء هذه الأفكار هو عناصر نظرية الأوتار — وإن كانت لم تُستقَ مباشَرَةً بالضرورة من بنية هذه النظرية المقيدة للغاية — وشملت هذه الأفكار أبعادَ الفضاء الإضافية. في حال وجود هذه الأبعاد — الأمر الذي لدينا من الأسباب ما يجعلنا نؤمن بإمكانية حدوثه — يمكن أن تمكِّننا من حل مشكلة التسلسل الهرمي، وإن كانت موجودة بالفعل، فسوف تنشأ عنها أدلة تجريبية تدل على وجودها في مصادم الهادرونات الكبير.
تُعَدُّ أبعاد الفضاء الإضافية مفهومًا غريبًا، فلو كان الكون يحتوي على هذه الأبعاد، لاختلف الفضاء تمامًا عمَّا نلاحظه في حياتنا اليومية، فبالإضافة إلى الأبعاد الثلاثة (يمين ويسار، فوق وتحت، أمام وخلف؛ أو ما نطلق عليه الطول والعرض والارتفاع)، سيمتد الفضاء مع هذه الأبعاد الإضافية في اتجاهات لم يرصدها أحد من قبلُ قطُّ.
لكن ما الذي يدفعنا للاعتقاد بوجود هذه الأبعاد الإضافية رغم أنه لم تسبق لنا رؤيتها من قبلُ؟ يزخر تاريخ الفيزياء بنماذج لأشياء تم العثور عليها رغم عدم تمكُّن أحد من رؤيتها، فلا يمكن لأحد «رؤية» الذرات أو الكواركات، ومع ذلك تتوفر لدينا أدلة تجريبية قوية على وجود الاثنتين.
ما من قانون فيزيائي ينص على عدم إمكانية وجود أبعاد أخرى للفضاء غير الأبعاد الثلاثة المعروفة، وتسري نظرية النسبية العامة لأينشتاين على أي عدد من الأبعاد. وبعد فترة قصيرة من إتمام أينشتاين لنظريته عن الجاذبية، توسَّع تيودور كالوتسا في أفكار أينشتاين ليقترح وجود بُعْد رابع للفضاء. وبعد ذلك الحين بخمس سنوات، اقترح أوسكار كلاين كيف يمكن لهذا البعد الرابع أن يكون مطمورًا ومختلفًا عن الأبعاد الثلاثة الأخرى المألوفة.
من ناحية أخرى، تُعَدُّ نظرية الأوتار — وهي المقترح الأساسي لنظريةٍ تجمَعُ بين ميكانيكا الكم والجاذبية — من الأسباب الأخرى التي تدفع الفيزيائيين لتَبَنِّي مفهوم الأبعاد الإضافية حاليًّا. ومن الواضح أن نظرية الأوتار لا تؤدي إلى نظرية الجاذبية التي نعرفها، وهي لا تتضمن بالضرورة أبعاد الفضاء الإضافية.
يسألني الناس كثيرًا عن عدد الأبعاد الموجودة في الكون، والإجابة هي أننا لا نعلم. تقترح نظرية الأوتار وجود ستة أو سبعة أبعاد إضافية، لكن مَن يضعون النماذج يتمتعون دومًا بذهن متفتح، فمن الوارد أن تؤدي الصور المختلفة لنظرية الأوتار إلى احتمالات أخرى. وفي جميع الأحوال، الأبعاد التي يهتم بها واضعو النماذج في المناقشات التالية تقتصر على الأبعاد الملتوية أو الضخمة على نحوٍ يمكنها من التأثير على التنبؤات الفيزيائية. وقد تكون هناك أيضًا أبعاد أصغر من الأبعاد المرتبطة بظواهر فيزياء الجسيمات، لكننا سنتجاهل أي شيء على هذا القدر من الدقة في الحجم. فنحن نتبع أسلوب النظرية الفعَّالة، ونتجاهَل أي شيء يكون صغيرًا أو غير مرئي على نحو يحول دون إحداثه أي فروق قابلة للقياس.
تقدِّم نظرية الأوتار عناصر أخرى أيضًا — لا سيما الأغشية — تطرح عددًا أكبر من الاحتمالات حول هندسة الكون، إذا كان يحتوي بالفعل على أبعاد إضافية. في التسعينيات، برهَنَ عالم نظرية الأوتار جو بولشينسكي على أن هذه النظرية لا تتعلق فقط بالأجسام أحادية البُعْد المسَمَّاة الأوتار، وأثبت بالتعاون مع آخرين، أن الأجسام ذات العدد الأكبر من الأبعاد، والمسماة بالأغشية، تلعب دورًا مهمًّا أيضًا في هذه النظرية.
يمكن أن يكون للأبعاد الإضافية، التي تنص عليها نظرية الأوتار، دلالة فيزيائية في العالم القابل للرصد، وكذا الأغشية الثلاثية الأبعاد، ولعل أهم أسباب التفكير في الأبعاد الإضافية هو أنها قد تؤثِّر على الظواهر المرئية، لا سيما المعضلات المهمة، مثل مسألة التسلسل الهرمي في فيزياء الجسيمات، فيمكن أن تكون هذه الأبعاد الإضافية والأغشية المفتاح لحل هذه المسألة، من خلال تناولها مسألة أسباب الضعف الشديد للجاذبية.
ينقلنا ذلك إلى ما قد يُعتبَر أهم سبب الآن للتفكير في أبعاد الفضاء الإضافية؛ أَلَا وهو أن هذه الأبعاد يمكن أن يكون لها نتائج على الظواهر التي نحاول الآن فهمها؛ ومن ثَمَّ يمكن أن نرى أدلةً عليها في المستقبل القريب.
يجدر أن نتذكر هنا أنه يمكننا صياغة مسألة التسلسل الهرمي بأسلوبين مختلفين، فيمكننا أن نقول إنها السؤال: لماذا كتلة هيجز (ومن ثَمَّ النطاق الضعيف) أصغر بكثير من كتلة بلانك؟ وهذا هو السؤال الذي تناولناه عند تفكيرنا في التناظر الفائق والنموذج الملون، لكننا يمكن أن نطرح سؤالًا مماثلًا لذلك، وهو: لماذا الجاذبية ضعيفةٌ مقارَنَةً بالقوى الأساسية الأخرى المعروفة؟ تعتمد قوة الجاذبية على نطاق كتلة بلانك، وهي الكتلة الضخمة التي تزيد عن النطاق الضعيف بعشرة آلاف تريليون مرة، وكلما زاد حجم كتلة بلانك، ضعفت قوة الجاذبية، ولا تقوى الجاذبية إلا عندما تكون الكتل في نطاق بلانك أو بالقرب منه. وطالما أن الجسيمات أخف وزنًا بكثير من نطاق كتلة بلانك، كما هو حالها في عالمنا، تكون الجاذبية ضعيفة للغاية.
ومعضلة سبب ضعف الجاذبية هي، في الواقع، مكافئة لمسألة التسلسل الهرمي، والحل الذي يحل إحدى المعضلتين يحل الأخرى، لكن رغم أن المسألتين متكافئتان، فإن صياغة مسألة التسلسل الهرمي من منظور الجاذبية يساعد في توجيه فكرنا نحو حلول الأبعاد الإضافية، وسوف نتناول الآن بالتفصيل بعض أهم الاقتراحات في هذا الشأن.
الأبعاد الإضافية الكبيرة والتسلسل الهرمي
منذ أن بدأ التفكير في مسألة التسلسل الهرمي للمرة الأولى، اعتقد الفيزيائيون أن الحل لا بد أن يتضمَّن تفاعلات معدلة بين الجسيمات في نطاق من القوة الضعيفة يبلغ حوالي ١ تيرا إلكترون فولت. ومع جسيمات النموذج القياسي فقط، تكون الإسهامات الكمية لكتلة جسيم هيجز ضخمة للغاية، وكان لا بد من تدخُّل شيء ما للتخفيف من الإسهامات الكمية الكبيرة في كتلة جسيم هيجز.
ويُعَدُّ التناظر الفائق والنموذج الملون اثنين من الأمثلة التي قد تشارك من خلالها الجسيمات الجديدة الثقيلة في التفاعلات العالية الطاقة، وتلغي الإسهامات أو تمنع ظهورها من البداية. وجميع الحلول المقترحة لمسألة التسلسل الهرمي — حتى التسعينيات — يمكن إدراجها تحت فئة واحدة؛ حيث تنشأ القوى والجسيمات الدقيقة، بل التناظرات الجديدة أيضًا، في نطاق الطاقة الضعيفة.
واقترحوا أنه ما من تسلسل هرمي، في الواقع، في الكتل على الإطلاق، على الأقل فيما يتعلق بنطاق الجاذبية الأساسي مقارنةً بالنطاق الضعيف. فربما تكون الجاذبية أقوى بكثير في الكون ذي الأبعاد الإضافية، لكن القياسات في عالمنا الرباعي الأبعاد فقط هي التي تشير إلى ضعفها؛ وذلك لأنها مخفَّفة في أرجاء جميع الأبعاد التي لا يمكننا رؤيتها. والفرضية التي وضعها هؤلاء العلماء هي أن نطاق الكتلة الذي تصير فيه الجاذبية قوية في الكون ذي الأبعاد الإضافية؛ هو في الواقع نطاق الكتلة الضعيفة، وفي هذه الحالة، نقيس الجاذبية بأنها ضعيفة في قوتها ليس لأنها ضعيفة في جوهرها، وإنما لانتشارها في أرجاء الأبعاد الكبيرة غير المرئية.
إذا كان للأبعاد الإضافية حجمٌ محدودٌ، فسيصل الماء إلى حدود الأبعاد الإضافية ولا يتجاوزها، لكن كمية المياه التي يتلقَّاها أي شيء في أي مكان بالفضاء ذي الأبعاد الإضافية ستكون أقل بكثير مما إذا لم تنتشر المياه في هذه الأبعاد في المقام الأول.
وبالمثل، يمكن أن تنتشر الجاذبية في أبعاد أخرى. وبالرغم من أنها لن تواصِل الانتشارَ للأبد إذا كانت الأبعاد ذات حجم محدود، فإن الأبعاد الكبيرة ستخفِّف من قوة الجاذبية التي سنشهدها في عالمنا ثلاثي الأبعاد، وإذا كانت الأبعاد كبيرةً بما فيه الكفاية، فسوف نشهد جاذبيةً ضعيفةً للغاية، حتى إن كانت القوة الأساسية للجاذبية كثيرةَ الأبعاد هائلةً. ومع ذلك، علينا أن نتذكَّر أنه لكي تنجح هذه الفكرة، لا بد أن تكون الأبعاد الإضافية ضخمةً مقارَنَةً بما تدفعنا الاعتبارات النظرية لتوقُّعه؛ لأن الجاذبية تظهر بالتأكيد ضعيفةً للغاية في العالم الثلاثي الأبعاد.
لكن مصادم الهادرونات الكبير سيُخضِع هذه الفكرة للاختبارات التجريبية. فمع أن الفكرة تبدو الآن غير محتملة الحدوث، فإن الواقع — وليس سهولة بناء النماذج — هو الذي سيكون له الحكم في النهاية، وإنْ تحقَّقَ ذلك على أرض الواقع، فسوف يكون لهذه النماذج أثر مميز. ولأن الجاذبية الكثيرة الأبعاد تكون قوية عند الطاقات القريبة من النطاق الضعيف — وهي الطاقات التي سينتجها مصادم الهادرونات الكبير — ستتصادم الجسيمات معًا وتنتج جرافيتونًا كثير الأبعاد، وهو الجسيم الذي ينقل قوة الجاذبية الكثيرة الأبعاد. لكن هذا الجرافيتون ينتقل إلى الأبعاد الإضافية، والجاذبية المألوفة لدينا ضعيفة للغاية، أضعف كثيرًا من أن تنتج جرافيتونًا في حال كان الفضاء يتكوَّن من ثلاثة أبعاد فقط. لكن في هذا السيناريو الجديد، تكون الجاذبية الكثيرة الأبعاد قويةً على نحوٍ كافٍ لإنتاج جرافيتون عند طاقات يمكن لمصادم الهادرونات الكبير الوصول إليها.
لا شك أن الطاقة المفقودة تُعَدُّ أيضًا سمةً للنماذج الفائقة التناظر. والعلامات يمكن أن تتشابه للغاية؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى أنه حتى في حال اكتشاف شيء ما، فسيفسر على الأرجح العلماء في فريقي الأبعاد الإضافية والتناظر الفائق البيانات بأنها تدعم توقعاتهم، على الأقل في البداية، لكن مع الاستيعاب الدقيق للنتائج والتنبؤات لكلا النوعين من النماذج، سنتمكَّن من تحديد أي الفكرتين صحيح، هذا إن كان أحدهما صحيحًا بالفعل. ومن أهدافنا في بناء النماذجِ التوفيقُ بين الآثار التجريبية وتفاصيل معانيها الحقيقية، وبمجد أن نحدِّد الاحتمالات المختلفة، نعرف معدل الآثار التي ستظهر بعد ذلك وخصائصها، ويمكننا استخدام هذه الخصائص الدقيقة للتمييز بينها فيما بعدُ.
وعلى أي حال، أشك أنا وزملائي في الوقت الراهن في أن يكون سيناريو الأبعاد الإضافية الكبيرة هو الحل الفعلي لمسألة التسلسل الهرمي، وإنْ كنَّا سنرى فيما يلي نموذجًا مختلفًا تمامًا للأبعاد الإضافية يبشِّر بأن يكون هو الحل. ويرجع أحد أسباب شكوكنا إلى أننا لا نتوقَّع أن تكون الأبعاد الإضافية كبيرةً للغاية. ومن المفترض أن تكون ضخمةً مقارَنةً بالنطاقات الأخرى التي تفرضها المسألة. وبالرغم من أن التسلسل الهرمي بين النطاق الضعيف ونطاق الجاذبية غير موجود من الناحية النظرية، فهناك تسلسل هرمي جديد يتضمَّن حجمَ الأبعاد الجديدة يطرحه هذا السيناريو.
الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو أنه في هذا السيناريو، نتوقَّع أن يكون تطوُّر الكون مختلفًا تمامًا عما أشارت إليه عمليات الرصد. والمشكلة هي أن هذه الأبعاد الضخمة ستتمدد في باقي الكون حتى تنخفض درجات الحرارة انخفاضًا كبيرًا. ولكي يكون النموذج مرجحًا في الواقع، لا بد أن يحاكي تطور الكون الذي يتنبَّأ به التطور الذي رصدناه، والذي يتماشى مع ثلاثة أبعاد فقط للفضاء. ويفرض ذلك تحديًا صعبًا للسيناريوهات التي تنطوي على الأبعاد الإضافية الكبيرة.
لكن كلَّ هذه الصعوبات ليست كافيةً لاستبعاد الفكرة كليةً؛ فواضعو النماذج المهرة هم مَن يمكنهم التوصُّل إلى حلول لمعظم المشكلات، لكن لكي تتماشى النماذج مع كافة الملاحظات، تصير غايةً في التعقيد. وأغلب الفيزيائيين متشككون بشأن مثل هذه الأفكار لأسباب جمالية؛ لذا تحوَّل نظرُ الكثيرين منهم إلى أفكار واعدة على نحو أكبر بشأن الأبعاد الإضافية، مثل الأفكار التي سنوضِّحها في الجزء التالي. لكن تظل التجارب وحدها هي التي ستؤكِّد لنا أي الأبعاد الإضافية الكبيرة تنطبق على العالم الحقيقي وأيها لا ينطبق.
البُعْد الإضافي الملتوي
يتضمن هذا الحل، الذي اقترحته أنا ورامان، بُعْدًا إضافيًّا واحدًا فقط لا يكون كبيرًا بالضرورة، فلا حاجة لتسلسل هرمي جديد يتضمَّن حجم هذا البُعْد. وعلى عكس سيناريوهات الأبعاد الإضافية الكبيرة، يتفق تطور الكون تلقائيًّا مع عمليات الرصد الكونية الأخيرة في إطار هذا الحل.
وبالرغم من أن تركيزنا ينصَبُّ في هذا الاقتراح على هذا البُعد الجديد الواحد، فقد توجد أبعاد إضافية للفضاء أيضًا، لكنها لن تلعب في هذا السيناريو دورًا قابلًا للإدراك في تفسير خصائص الجسيمات؛ لذلك يمكننا تجاهلها على نحو مُبرَّر عند دراستنا لحل التسلسل الهرمي — عملًا بمنهج النظرية الفعَّالة — والتركيز على نتائج البُعْد الإضافي الواحد.
على عكس نماذج الأبعاد الإضافية الكبيرة، لا تفرض النماذج القائمة على الهندسة الملتوية معضلة جديدة (والتي تتمثل في حالة النماذج الإضافية الكبيرة في السؤال: «ما السبب وراء ضخامة حجم الأبعاد الإضافية؟») بدلًا من معضلة التسلسل الهرمي القديمة. ففي الهندسة الملتوية، البُعْد الإضافي لا يكون كبيرًا، والأرقام الكبيرة تنبع من إعادة التقدير الأُسِّيَّة لنطاق الزمان والمكان، وهذه الإعادة تجعل نسبة أحجام الأجسام — وكتلها — ضخمة، حتى عندما لا يفصل بين الأجسام سوى مساحة بُعْد إضافي بسيطة.
هذه الدالة الأُسِّيَّة ليست مُختلَقة، وإنما هي مستقاة من الحل الفريد لمعادلات أينشتاين في السيناريو الذي اقترحناه. وقد أشارت الحسابات التي أجريتُها بالتعاون مع رامان إلى أنه في الهندسة الملتوية، تكون نسبة قوة الجاذبية والقوة الضعيفة هي القيمة الأُسِّيَّة للمسافة بين الغشاءين؛ ومن ثَمَّ إذا كان المسافة الفاصلة بين الغشاءين لها قيمة معقولة — تبلغ العشرات أو ما إلى ذلك من حيث النطاق الذي تحدِّده الجاذبية — فسيظهر التسلسل الصحيح بين الكتل وشدة القوى ظهورًا طبيعيًّا.
في الهندسة الملتوية، تكون الجاذبية التي نستشعرها ضعيفة، ولا يرجع السبب في ذلك إلى أنها مشتتة بأرجاء الأبعاد الإضافية الكبيرة، وإنما لأنها مركزة في مكان آخَر، وهو الغشاء الآخَر. وتنشأ الجاذبية التي نستشعرها كأثر طفيف لما يمثِّل في مناطق أخرى من العالم ذي البُعْد الإضافي قوةً هائلةً.
ونحن لا نرى الكون بالغشاء الآخَر لأن القوة الوحيدة المشتركة هي الجاذبية، والجاذبية المحيطة بنا ضعيفة للغاية؛ مما يمنعها من نقل إشارات يمكن ملاحظتها. ويمكن، في الواقع، اعتبار هذا السيناريو نموذجًا للكون المتعدِّد، الذي تتفاعَل فيه العناصر والأشياء الموجودة في عالمنا تفاعلًا ضعيفًا للغاية، أو لا تتفاعل على الإطلاق في بعض الأحيان، مع الأشياء الموجودة في عالم آخَر. وأغلب هذه التكهنات لا يمكن اختبار صحتها، وستُترَك للخيال. ففي النهاية، إذا كانت المادة بعيدةً للغاية بحيث لا يتمكَّن الضوء من الوصول إليها أثناء عمر الكون، فلا يمكننا اكتشافها. وسيناريو «الكون المتعدِّد» الذي اقترحته أنا ورامان غريب من حيث إن قوة الجاذبية المشتركة تؤدِّي إلى نتائج قابلة لاختبار صحتها تجريبيًّا، فنحن لا نصل إلى الكون الآخَر مباشَرةً، وإنما الجسيمات التي تنتقل في الكتلة الكثيرة الأبعاد يمكن أن تصل إلينا.
والأثر الأكثر وضوحًا للعالم ذي الأبعاد الإضافية — في غياب الأبحاث المفصلة مثل الأبحاث التي تُجرَى في مصادم الهادرونات الكبير — سيمثِّل تفسيرًا للتسلسل الهرمي لنطاقات الكتلة التي تحتاج إليها نظريات فيزياء الجسيمات للنجاح في تفسير الظواهر المرصودة. وهذا، بالطبع، ليس كافيًا لنا لمعرفة ما إذا كان هذا التفسير هو الذي ينطبق في العالم أم لا، لأنه ليس مميزًا بين الحلول المقترَحة.
لكن الطاقة العالية التي سيصل إليها مصادم الهادرونات الكبير من المفترض أن تساعدنا في اكتشاف ما إذا كان البُعْد الإضافي للفضاء مجرد فكرة عجيبة أم حقيقة فعلية في الكون. وإذا كانت النظرية التي وضعناها صحيحة، فمن المتوقع أن ينتج مصادم الهادرونات الكبير أوضاع كالوزا-كلاين. ونظرًا للعلاقة مع مسألة التدرج الهرمي، يكون نطاق الطاقة الصحيح للبحث عن أوضاع كالوزا-كلاين في هذا السيناريو هو الذي سيفحصه مصادم الهادرونات الكبير. ومن المفترض أن تبلغ كتلة هذه الأوضاع نحو ١ تيرا إلكترون فولت، وهو نطاق الكتلة الضعيفة، وبمجرد أن يرتفع مستوى الطاقة بالقدر الكافي، يصير من الممكن إنتاج هذه الجسيمات الثقيلة. واكتشاف جسيمات كالوزا-كلاين سيمثِّل دليلًا أساسيًّا يقدِّم لنا معلومات دقيقة حول العالم الممتد بشكل كبير.
في الواقع، أوضاع كالوزا-كلاين بالهندسة الملتوية لها خاصية مهمة ومميزة. ففي الوقت الذي يتَّسِم فيه جسيم الجرافيتون بقوة تفاعُلٍ ضعيفة للغاية — فهو، في النهاية، ينقل قوة الجاذبية الضعيفة للغاية — تتفاعل أوضاع كالوزا-كلاين لجسيم جرافيتون بقوة أكبر بكثير تصل إلى مستوى القوة التي تُعرَف بالقوة الضعيفة، والتي تزيد في الواقع بتريليونات المرات عن قوة الجاذبية.
والسبب وراء قوة التفاعل الشديدة المذهلة لجرافيتونات كالوزا-كلاين هو الهندسة الملتوية التي تنتقل عبرها؛ فنظرًا للانحناء الهائل للزمكان، تكون تفاعلات جرافيتون كالوزا-كلاين أقوى بكثير من تفاعلات الجرافيتون الذي ينقل قوة الجاذبية التي نستشعرها. وفي الهندسة الملتوية، لا يُعَاد تحديد نطاق الكتل فحسب، وإنما أيضًا تفاعلات الجاذبية. وتوضِّح الحسابات أنه في الهندسة الملتوية، تكون تفاعلات جرافيتون كالوزا-كلاين مشابِهة لتفاعلات جسيمات النطاق الضعيف.
هكذا اكتشف، في الواقع، الفيزيائيون التجريبيون جميعَ الجسيمات الثقيلة الجديدة حتى الآن، فهم لا يَرَون الجسيمات مباشَرَةً، وإنما يرصدون ما ينتج عن تحللها من جسيمات أخرى. وتقدِّم هذه الجسيمات الأخرى قدرًا أكبر من المعلومات مقارَنَةً بما تقدِّمه الطاقة المفقودة. ومن خلال دراسة خصائص نواتج التحلل هذه، يتمكَّن الفيزيائيون التجريبيون من التوصُّل إلى خصائص الجسيم الأصلي الذي نتجت عنه.
إذا كان سيناريو الهندسة الملتوية صحيحًا، فسوف نرى قريبًا أزواجًا من الجسيمات تنشأ عن تحلل أوضاع جرافيتون كالوزا-كلاين، ومن خلال قياس الطاقات والشحنات وغيرها من الخصائص الأخرى لجسيمات الحالة النهائية، سيتمكَّن الفيزيائيون التجريبيون من استنتاج كتلة جسيمات كالوزا-كلاين وخصائصها الأخرى. ومن المفترض أن تساعد هذه الخصائصُ المميزة، بالإضافة إلى التكرار النسبي لتحلل الجسيمات إلى الحالات النهائية المتعددة، الفيزيائيين التجريبيين في تحديد ما إذا كانوا قد اكتشفوا جرافيتون كالوزا-كلاين أم شيئًا آخَر جديدًا تمامًا. ويوضِّح لنا النموذجُ طبيعةَ الجسيم الذي من المفترض العثور عليه ليتمكَّنَ الفيزيائيون من إجراء التنبؤات للتمييز بين الاحتمالات.
ثمة صديق لي (وهو كاتب سيناريو يمدح ويهجو في الوقت نفسه تجاوزات الطبيعة البشرية) لا يفهم كيف لا أترقب صدور النتائج على أحر من الجمر، مع الوضع في الاعتبار الآثار المحتملة للاكتشافات التي قد يتم التوصُّل إليها. وكلما أراه، يسألني في إلحاح: «ألن تغيِّر النتائجُ وجهَ العالم؟ أليس من الممكن أن تثبت صحة نظرياتك؟» هذا فضلًا عن سؤاله: «لماذا لا تمكثين هناك (في جنيف) وتتحدثين مع الناس هناك باستمرار؟»
وقد كان محقًّا، بالطبع، في تساؤلاته إلى حدٍّ ما، لكن الفيزيائيين التجريبيين يعرفون بالفعل ما يتوجَّب عليهم البحث عنه، وبذلك تكون قد انتهت مهمة الفيزيائيين النظريين. فعندما تكون لدينا أفكار جديدة عمَّا ينبغي البحث عنه، نصرِّح بها، لكن لا يتوجَّب علينا التواجد في مقر سيرن أو حتى التواجد في نفس الغرفة لتحقيق ذلك؛ فيمكن أن يتواجَدَ الفيزيائيون التجريبيون بجميع أنحاء الولايات المتحدة وبأي مكان في العالم. والتواصل عن بُعْد ناجحٌ في هذا الشأن، ويرجع الفضل في ذلك إلى فكرة الإنترنت التي توصَّلَ إليها تيم بيرنرز لي منذ سنوات طويلة في سيرن.
بالإضافة إلى ذلك، فلديَّ من المعرفة ما يجعلني أعلم مدى الصعوبة التي قد تكون عليها هذه الأبحاث، حتى بعد أن يعمل مصادم الهادرونات الكبير بكامل قدرته؛ لذلك فأنا أعلم أننا قد نضطر للانتظار قليلًا لمعرفة النتائج. ولحسن حظنا، فإن أوضاع كالوزا-كلاين، التي وصفناها للتوِّ، من أيسر الأشياء التي يمكن للفيزيائيين التجريبيين البحث عنها. فجسيمات كالوزا-كلاين تتحلل إلى كافة أنواع الجسيمات — فجميع الجسيمات تتأثَّر بالجاذبية — ومن ثَمَّ يمكن للفيزيائيين التجريبيين التركيز على الحالات النهائية التي يسهل عليهم تحديدها.
لكنَّ ثمة ملاحظتين ينبغي الالتفات إليهما، وهما أمران قد يزيدان من صعوبة الأبحاث مقارَنةً بما كان متوقَّعًا لها في البداية، وقد يدفعانِنَا لانتظار الاكتشافات فترةً طويلةً، حتى إن كانت الفكرة الأساسية صحيحة.
الملاحظة الأولى هي أن النماذج الأخرى المحتملة بالهندسة الملتوية قد تؤدِّي إلى دلالات تجريبية أكثر فوضوية وأكثر صعوبةً في العثور عليها. فالنماذج تصف أطر العمل الأساسية، التي تتضمن في حالتنا هذه بُعْدًا إضافيًّا وأغشية. تقترح هذه النماذج أيضًا تطبيقات محددة للمبادئ العامة التي يجسِّدها إطار العمل. والسيناريو الأصلي الذي وضعناه يشير إلى أن الجاذبية فقط هي التي انتشرت في أرجاء الفضاء الكثير الأبعاد المعروف باسم «الكتلة»، لكن بعض العلماء عملوا بعد ذلك على تطبيقات بديلة. في هذه السيناريوهات البديلة، لا تتواجد جميع الجسيمات على الأغشية، وقد يعني ذلك وجود عدد أكبر من جسيمات كالوزا-كلاين؛ لأن كل جسيم بالكتلة سيكون له أوضاع كالوزا-كلاين الخاصة به، لكن اتضح أيضًا أنه سيكون من الأصعب العثور على جسيمات كالوزا-كلاين هذه. دفعت هذه الصعوبة العلماء لإجراء عدد كبير من الأبحاث حول كيفية اكتشاف هذه السيناريوهات الأكثر مراوغةً. والأبحاث التي تلت ذلك ستثبت نفعها، ليس فقط من ناحية البحث عن جسيمات كالوزا-كلاين، وإنما أيضًا البحث عن أي جسيمات كبيرة عالية الطاقة قد يحتوي عليها أي نموذج جديد.
أما السبب الثاني وراء احتمال صعوبة الأبحاث، فيرجع إلى أن جسيمات كالوزا-كلاين قد تكون أثقل مما نأمل، فنحن نعرف معدل الكتل المتوقعة لجسيمات كالوزا-كلاين، لكننا لم نعرف بعدُ قيمها المحددة. فإذا كانت هذه الجسيمات خفيفة الوزن، فسينتجها مصادم الهادرونات الكبير بسهولة بكميات كبيرة، وسيسهل اكتشافها، لكنها إذا كانت أثقل وزنًا، فقد لا ينتج المصادم سوى كمية قليلة منها فقط. وإذا كانت أثقل وزنًا بكثير، فقد لا ينتجها المصادم على الإطلاق. بعبارة أخرى، قد تتطلَّب الجسيمات والتفاعلات الجديدة طاقات أعلى من تلك التي سيصل إليها مصادم الهادرونات الكبير لكي تتحقق، وقد كان هذا الأمر من المخاوف المثارَة دومًا بشأن المصادم في ظلِّ حجم النفق الثابت والطاقة المحدودة التي يمكن أن يصل إليها.
وبوصفي فيزيائية نظرية، ليس بوسعي فعل أي شيء في هذا الشأن؛ فطاقة المصادم لن تتغير. لكن يمكننا محاولة العثور على أدلة دقيقة على وجود الأبعاد الإضافية، حتى إذا كانت أوضاع كالوزا-كلاين ثقيلة للغاية. عندما أجريتُ مع باتريك ميد الحسابات بشأن معدل إنتاج الثقوب السوداء المحتملة الكثيرة الأبعاد، لم نركِّز على النتيجة السلبية فحسب — وهي أن يكون معدل إنتاج هذه الثقوب أقل بكثير من توقعاتنا — وإنما تفكَّرنا أيضًا فيما قد يحدث إذا كانت جاذبية الأبعاد الكثيرة قوية، حتى إن لم تنتج أي ثقوب سوداء. وتساءلنا عمَّا إذا كان من الممكن لمصادم الهادرونات الكبير أن ينتج دلالات على جاذبية الأبعاد الكثيرة أم لا، وتوصَّلنا إلى أنه حتى في حالة عدم اكتشاف أي جسيمات جديدة أو أجسام غريبة مثل الثقوب السوداء، من المفترض أن يتمكَّنَ الفيزيائيون التجريبيون من ملاحظة انحرافات عن تنبؤات النموذج القياسي. والاكتشاف ليس مضمونًا، لكن الفيزيائيين التجريبيين سيفعلون كل ما في وسعهم باستخدام المصادم والكواشف القائمة بالفعل. وفي بحث آخَر أكثر تقدُّمًا، فكَّرَ بعض الزملاء في أساليب أخرى محسنة للبحث عن أوضاع كالوزا-كلاين، حتى إذا كانت جسيمات النموذج القياسي موجودة في الكتلة.
ثمة احتمال أيضًا أن يحالفنا الحظ، وتكون كتل الجسيمات الجديدة وتفاعلاتها أقل مما نتوقَّع، وإن حدث ذلك، فلن نعثر على أوضاع كالوزا-كلاين قريبًا فحسب، وإنما سنرى كذلك ظواهر أخرى جديدة. وإذا كانت نظرية الأوتار هي النظرية الأساسية للطبيعة، وكان نطاق الفيزياء الجديدة منخفضًا، فسوف يُنتج مصادم الهادرونات الكبير — إلى جانب جسيمات كالوزا-كلاين والتفاعلات الجديدة — جسيمات أخرى ترتبط بالأوتار المتذبذبة الأساسية، وهذه الجسيمات ستكون ثقيلة للغاية بما يمنع تكوُّنها في ظلِّ الافتراضات العادية، لكن في ظل الالتواء، ثمة أمل في أن تكون أوضاع الأوتار أخفَّ وزنًا بكثير مما هو متوقَّع؛ ومن ثَمَّ يمكن أن تظهر في نطاق الطاقة الضعيفة.
من الجليِّ أن هناك العديد من الاحتمالات المثيرة للهندسة الملتوية، ونحن ننتظر في شغفٍ نتائجَ التجارب. وفي حال اكتشاف نتائج هذه الهندسة، فسوف نغيِّر نظرتنا للكون، لكننا لن ندرك أي هذه الاحتمالات يتحقَّق في الطبيعة — هذا إنْ تحقَّق أحدها بالفعل — إلا بعد إجراء مصادم الهادرونات الكبير لأبحاثه.
العودة لأهمية المصادم
تختبر التجارب الآن في مصادم الهادرونات الكبير جميعَ الأفكار التي تناوَلَها هذا الفصل، ونأمل في حالة صحة أيٍّ من هذه النماذج، أن تظهر دلالات عليه قريبًا. قد تظهر أدلة دامغة على ذلك، مثل أوضاع كالوزا-كلاين، أو قد تظهر تغيُّرات دقيقة في عمليات النموذج القياسي. وفي الحالتين، يظل الفيزيائيون التجريبيون والفيزيائيون النظريون على حدٍّ سواء في حالة ترقُّب وانتظار، وفي كل مرة يرى أو لا يرى فيها المصادم شيئًا ما، يزيد ذلك من تقييد الاحتمالات. وإذا حالفنا الحظ، فقد تثبت صحة إحدى الأفكار التي تناولناها الآن. ومع تعرفنا على المزيد بشأن ما يمكن لمصادم الهادرونات الكبير إنتاجه، وكيفية عمل الكواشف، سنتعرَّف على المزيد من المعلومات حول كيفية توسيع نطاق أبحاث المصادم لاختبار أكبر قدر ممكن من الاحتمالات. وعندما تتوفَّر البيانات، سيضمها الفيزيائيون النظريون إلى مقترحاتهم.
نحن لا نعرف الوقت الذي سيستغرقه الأمر قبل أن نبدأ في الوصول إلى إجابات؛ لأننا لا نعرف ما هو موجود وما يمكن أن تكون عليه الكتل والتفاعلات؛ فقد نتوصَّل إلى بعض الاكتشافات في غضون عام أو عامين، وقد تستغرق اكتشافات أخرى أكثر من عشر سنوات، وقد يتطلَّب بعضها طاقات أعلى من تلك التي يمكن أن يصل إليها مصادم الهادرونات الكبير. والترقُّب يثير القلق في النفس، لكن النتائج قد تأسر الألباب، الأمر الذي يجعل الأمر جديرًا بالمشقة. وقد تغيِّر هذه النتائج نظرتنا لطبيعة الواقع أو على الأقل المادة التي تتكون منها أجسادنا، وعندما تظهر النتائج، يمكن أن تنشأ عوالم جديدة تمامًا. وعلى مدار حياتنا، قد تختلف نظرتنا للعالم اختلافًا جذريًّا.