رحلة نحو الخارج
عندما كنتُ في المرحلة الابتدائية، استيقظتُ ذات صباح على خبر مُحيِّر، وهو أن الكَوْن (على الأقل وفق مداركنا) قد زاد عمره فجأةً بمقدار مرتين. أدهشني الخبر؛ كيف يمكن لشيء في أهمية عمر الكَوْن أن يكون عرضة للتغيير على هذا النحو الجذري دون أن يدمِّر ذلك أي خصائص أخرى نعرفها عنه؟
أما الآن، فدهشتي يثيرها عكس ذلك؛ إذ يذهلني مدى الدقة التي يمكننا بها الآن قياس الكون وتاريخه، ولا يقتصر الأمر على أننا نعرف الآن عمر الكون بدقة أكبر بكثير من ذي قبل فحسب، وإنما صرنا نعلم أيضًا كيف نما الكون مع الوقت، وكيف تكوَّنَتِ النوى، وكيف بدأت المجرات وعناقيدها في التطور. في الماضي، كان لدينا تصوُّر نوعي لما حدث، أما الآن فصار لدينا تصوُّر علمي دقيق لذلك.
لقد دخل علم الكونيات عهدًا مميَّزًا عُجِّلت فيه التطورات الثورية — سواء على المستوى النظري أو التجريبي — بالتوصُّل إلى وصف أكثر شمولًا وتفصيلًا مما كان لأحد أن يتصوَّره قبل عشرين عامًا من الآن. وبالجمع بين الأساليب التجريبية المتطورة والحسابات القائمة على النسبية العامة وفيزياء الجسيمات، رسم الفيزيائيون صورةً لما كان عليه الكون في المراحل المبكرة من عمره وكيفية تطوُّره إلى ما أصبح عليه الآن.
ولقد انصبَّ تركيزنا حتى الآن في هذا الكتاب على النطاقات الصغيرة التي ندرس في إطارها الطبيعةَ الداخليةَ للمادة، وبعد وصولنا إلى هذا الحد من رحلتنا نحو الداخل، أدعوكم لاستكمال رحلتنا بالنطاقات البعيدة التي بدأ الفصل الخامس من هذا الكتاب في تناولها، لنَتَّجِهَ معًا نحو الخارج، مستكشفين أحجام الأجسام في الكون الخارجي.
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن هناك فارقًا كبيرًا في هذه الرحلة نحو النطاقات الكونية، وهو أنه لا يمكننا تقديم وصف دقيق لجميع ملامح الكون بناءً على الحجم فقط؛ فعمليات الرصد لا تسجِّل حالةَ الكون الآن فحسب، وإنما تستعرض كذلك المراحل الزمنية السابقة؛ وذلك بسبب سرعة الضوء المحدودة. ومن ثَمَّ، فإن البِنى التي نرصدها الآن يمكن أن تكون من عناصر الكون في مراحله المبكرة، لكنَّ ضوءها وصل إلى التليسكوبات التي نستخدمها بعد مليارات السنين من انبعاثه. والحجم الحالي الذي نراه الآن للكون، المتمدِّد تمددًا هائلًا، يفوق حجمه في السابق مرات عدة.
ومع ذلك، فإن الحجم يلعب دورًا محوريًّا في وصف ملاحظاتنا، سواء للكون الحالي أو تاريخه على مدار الزمن، وسيتناول هذا الفصل كلا الأمرين. في النصف الثاني منه، سنتناول تطوُّرَ الكون بأكمله من حجمه الأولي الدقيق، وصولًا إلى البنية الهائلة التي نلاحظها الآن. لكننا سنلقي أولًا نظرة على الكون كما يبدو لنا الآن كي نتعرَّفَ على بعض الأطوال التي تميِّزُ ما يحيط بنا، ثم ننتقل إلى المستويات الأعلى من النطاقات لنتناول الأحجام الأكبر والأجسام الأبعد — سواء على الأرض أو في النظام الكوني — لنتعرَّفَ على أنواع البنى الأكبر حجمًا التي سنستكشفها. وهذه الجولة في النطاقات الكبيرة ستكون أقصر في مدتها من رحلتنا السابقة إلى داخل المادة، فرغم الثراء البنيوي للكون، أغلب ما نراه فيه يمكن تفسيره باستخدام القوانين الفيزيائية المعروفة، دون الحاجة إلى قوانين أساسية جديدة. فتكوين النجوم والمجرات يعتمد على القوانين الكيميائية والكهرومغناطيسية المعروفة؛ أي العلم المتأصِّل في النطاقات الصغيرة التي تناولناها فيما سبق، لكن الجاذبية تلعب الآن دورًا محوريًّا أيضًا، وأفضل وصف للكون من شأنه أن يعتمد على سرعة الأجسام التي تؤثِّر عليها الجاذبية وكثافتها؛ وهو ما يؤدِّي إلى أوصاف نظرية متباينة في هذه الحالة أيضًا.
جولة في الكَون
أحد أكثر العروض الرائعة التي رأيتها على الإطلاق لردِّ الفعل البشري تجاه الارتفاع كان ذلك العرض الذي قدَّمَتْه فرقة رقص إليزابيث ستريب، وفيه سقط الراقصون (أو «مهندسو الحركات») على بطونهم من على قضيب أخذ يرتفع أكثر فأكثر حتى جاء سقوط الراقص الأخير من على ارتفاع ٣٠ قدمًا كاملة. يتجاوز ذلك بالطبع حدود «منطقة الراحة» لدينا؛ الأمر الذي عكسه انقطاع أنفاس الجماهير بوضوح؛ فليس من المفترض أن يسقط الناس من على هذا الارتفاع، وبالتأكيد ليس على وجوههم.
تثير كذلك المباني الطويلة لدينا ردودَ أفعال قوية تتراوح ما بين الإعجاب والاغتراب؛ لذا من أصعب التحديات التي يواجهها المهندسون المعماريون هو إضفاء الطابع البشري على الهياكل الأكبر بكثير من حجم الإنسان. وتتنوع المباني والهياكل في حجمها وشكلها، لكن ردَّ فعلنا تجاهها يعكس حتمًا توجُّهاتنا النفسية والفسيولوجية تجاه الحجم.
إن أعلى بناء من صنع الإنسان في العالم هو برج خليفة في دبي بالإمارات العربية المتحدة، ويبلغ ارتفاعه ٨٢٨ مترًا (٢٧١٧ قدمًا). هذا ارتفاع مهول، لكن البرج يكاد يخلو من السكان، ولن يمنحه على الأرجح الجزء الرابع من فيلم «مهمة مستحيلة» نفس المكانة الثقافية التي منحها فيلم «كينج كونج» لمبنى إمباير ستيت. يقف هذا البناء المميز الذي يصل ارتفاعه ٣٨١ مترًا في مدينة نيويورك، ويبلغ ارتفاعه نصف ارتفاع برج خليفة، لكن ما يميِّزه أن نسبة إشغاله أعلى بكثير.
لكننا نعيش في عالم تحيط بنا فيه كيانات طبيعية أكبر بكثير من هذه المباني. على المستوى الرأسي، يُعَدُّ جبل إفرست البالغ ارتفاعه ٨٫٨ كيلومترات أعلى قمة على الإطلاق على سطح الأرض، أما جبل مون بلون الأعلى في أوروبا (على الأقل إذا لم تكن من دولة جورجيا)، فيبلغ ارتفاعه نصف ارتفاع جبل إفرست. ومع ذلك، شعرتُ بسعادة بالغة عندما وصلت إلى قمته، وإنْ بدا عليَّ الإرهاقُ الشديد في صورةٍ لي مع أحد أصدقائي عند وصولنا إلى القمة. وعلى عمق ١١ كيلومترًا تحت الماء، يُعَدُّ أخدود ماريانا أعمق مكان على الإطلاق في المحيط، وأكثر مواطن القشرة الأرضية انخفاضًا. وقد كان هذا الأخدود — الذي ينتمي لعالم غير عالمنا — وجهة المخرج جيمس كاميرون بعد أن أنهى بنجاح التصوير الثلاثي الأبعاد لفيلمه الشهير «آفاتار» في إحدى الرحلات التي قام بها.
تنتشر الأجسام الطبيعية على سطح الأرض لمسافات هائلة. المحيط الهادئ، على سبيل المثال، يبلغ عرضه ٢٠ مليون متر، بينما يبلغ عرض روسيا — الذي يساوي ثمانية ملايين متر — أقل من نصف ذلك تقريبًا. يساوي قطر الأرض أيضًا نحو ١٢ مليون متر، ومحيطها ثلاثة أضعاف ذلك. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فيبلغ عرضها — الذي يساوي ٤٫٢ ملايين متر — عُشْر ذلك المحيط، لكنه يظل مع ذلك أكبر من قطر القمر البالغ طوله ٣٫٦ ملايين متر.
على الجانب الآخَر، تتنوع أحجام الأجسام في الفضاء الخارجي تنوُّعًا كبيرًا أيضًا. فثمة تنوُّعٌ هائلٌ، مثلًا، في حجم الكويكبات، حيث الصغيرة منها بحجم الحصى، بينما الكبيرة أكبر بكثير من أي شيء موجود على سطح الأرض. أما الشمس، فيبلغ قطرها نحو مليار متر؛ ومن ثَمَّ يزيد قطرها عن قطر الأرض حوالي مائة مرة، والنظام الشمسي — الذي سأفترض أن مساحته تمتد من الشمس إلى بلوتو (الموجود في النظام الشمسي، سواء أكان سيُمنَح صفة الكوكب أم لا) — يفوق نصف قطر الشمس بحوالي ٧ آلاف مرة.
والمسافة من الأرض إلى الشمس أصغر نسبيًّا؛ إذ لا تزيد عن ١٠٠ مليار متر؛ أي ما يساوي واحدًا من مائة ألف من السنة الضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يمكن أن يقطعها الضوء في عام واحد، وتساوي حاصل ضرب ٣٠٠ مليون متر/الثانية (سرعة الضوء) في ٣٠ مليون ثانية (عدد الثواني في العام). ونظرًا لهذه السرعة المحدَّدة للضوء، يكون عمر الضوء الذي يصلنا من الشمس حوالي ثماني دقائق.
لكن رغم التنوع الهائل في أحجام هذه الأجرام، تخضع أغلبها لقوانين نيوتن. فيمكن تفسير مدار القمر، شأنه شأن مدار كوكب بلوتو أو حتى الأرض نفسها، وفق جاذبية نيوتن. وبناءً على المسافة التي يبعدها الكوكب عن الشمس، يمكن التنبؤ بمدراه باستخدام قانون نيوتن لقوة الجاذبية، وهو نفس القانون الذي تسبَّبَ في سقوط التفاحة التي لاحَظَها هذا العالِم على الأرض.
رغم ذلك، كشفت القياسات الأكثر دقة لمدارات الكواكب عن أن قوانين نيوتن ليست حاسمة في هذا الشأن؛ فنحن بحاجة إلى النسبية العامة لتفسير دقة الحضيض الشمسي لكوكب عطارد، وهو التغير الملحوظ في مدار كوكب عطارد حول الشمس بمرور الزمن. والنسبية العامة نظريةٌ أكثر شمولًا تشمل قوانين نيوتن عندما تكون الكثافات منخفضة والسرعات صغيرة، لكنها تسري أيضًا خارج نطاق هذه الحدود.
لكن في الواقع لا يوجد تناقض كبير في ذلك؛ فالسبب وراء أن الكون بأكمله أكبر من المسافة التي يمكن لإشارة قطعها وفقًا لعمرها هو أن الفضاء نفسه يتمدَّد. وتلعب النسبية العامة دورًا كبيرًا في فهم هذه الظاهرة؛ إذ توضِّح لنا معادلاتها أن بنية الفضاء ذاتها قد تمدَّدت؛ ومن ثَمَّ، يمكننا رصد أماكن في الكون تبعد عنَّا بهذا القدر، رغم أنه يستحيل عليها رؤية بعضها البعض.
ومع الأخذ في الاعتبار سرعة الضوء وعمر الكون المحدود، ينقلنا هذا القسم الآن إلى حد الأحجام الملحوظة. فالكون المرئي هو ما يمكن للتليسكوبات التي نستخدمها الوصول إليه، مع ذلك فإن حجم الكون لا يقتصر بالتأكيد على ما يمكننا رؤيته. وكما هو الحال مع النطاقات الصغيرة — التي يمكننا تخمين بعض الأمور بشأنها بما يتجاوز الحدود التجريبية الحالية — يمكننا أيضًا التفكير فيما يوجد خارج نطاق الكون القابل للرصد. وما من حدود لأكبر الأحجام التي يمكننا تصوُّرها سوى مخيلتنا وصبرنا على التفكير في البنية التي لا يمكننا أن نأمل حتى في رصدها.
إننا لا نعلم حقًّا ما يوجد خارج «الأفق»؛ أي حدود الكون القابل للرصد. وحدود ملاحظاتنا تسمح بإمكانية وجود ظواهر جديدة وعجيبة خارج هذا النطاق. والبِنى المختلفة، والأبعاد المتباينة، بل قوانين الفيزياء المختلفة أيضًا، يمكن — من الناحية النظرية — أن تنطبق طالما أنها لا تتناقض مع ما تَمَّ رصده، ولا يعني ذلك أن كل احتمال يتحقَّق في الطبيعة، كما يؤكِّد أحيانًا زميلي الفيزيائي الفلكي، ماكس تجمارك، لكنه يعني أن هناك احتمالات عديدة لما يمكن أن يكون موجودًا فيما وراء الأفق.
لا نعلم إلى الآن إذا كان هناك وجود لأي أبعاد أو أكوان أخرى أم لا، ولا يمكننا أيضًا في الواقع التأكيد على أن الكون محدود أو غير محدود، وإن كان أغلبنا يعتقد أنه غير محدود. فما من قياس يوضح أي علامة على نهاية الكون، لكن القياسات لا تزال محدودة. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يكون للكون نهاية، أو أن يكون على شكل الكرة أو بالون، لكن ما من دليل نظري أو تجريبي يثبت ذلك في الوقت الحالي.
يفضِّل معظم الفيزيائيين عدم التفكير كثيرًا في النظام الذي يوجد خارج حدود الكون المرئي؛ لأننا على الأرجح لن نعلم ذلك أبدًا، ومع ذلك فإن أي نظرية عن الجاذبية أو الجاذبية الكمية تمنحنا الأدوات الرياضية اللازمة لتدبر هندسة ما يمكن أن يكون موجودًا خارج هذه الحدود. وبناءً على الأساليب النظرية والأفكار المتعلقة بأبعاد الفضاء الإضافية، يفكِّر الفيزيائيون أحيانًا في وجود أكوان أخرى عجيبة لا تتصل بنا على مدار عمر الكون الذي نعيش فيه، أو تتصل بنا فقط بواسطة الجاذبية. وكما تناولنا في الفصل الثامن عشر، يفكِّر علماء نظرية الأوتار وغيرهم في الأكوان المتعددة التي تشمل العديد من الأكوان المستقلة المنفصلة عن بعضها البعض، والتي تتسق مع معادلات نظرية الأوتار؛ ويدمجون أحيانًا هذه الأفكار مع المبدأ الإنساني الذي يستغل الثروات الممكنة للأكوان المحتمل وجودها. ويصل الأمر بالبعض إلى محاولة الوصول إلى آثار ملحوظة لوجود هذه الأكوان المتعددة في المستقبل. ومن السيناريوهات المميزة في هذا الشأن — والتي أوضحناها في الفصل السابع عشر — سيناريو «الكون المتعدد» المشتمل على غشاءين، والذي قد يساعدنا في فهم المسائل المتعلقة بفيزياء الجسيمات. في هذه الحالة ستكون هناك نتائج قابلة للاختبار، لكن أغلب الأكوان الإضافية — رغم أنه من الممكن تصورها، بل ومن المرجح ذلك أيضًا — ستظل خارج نطاق إمكانية الاختبار التجريبي في المستقبل القريب؛ ومن ثَمَّ ستظل احتمالاتٍ نظرية مجردة.
الانفجار العظيم: تزايد الحجم بمرور الزمن
الآن، وبعد أن انتقلنا برحلتنا إلى أكبر الأحجام التي يمكننا رصدها أو مناقشتها في سياق الكون القابل للرصد، ووصلنا إلى الحدود الخارجية لما يمكننا رؤيته (والتفكير فيه باستخدام مخيلتنا)؛ سنستكشف الآن كيف تطوَّرَ الكون الذي نعيش فيه ونرصده على مر الزمن، ليكوِّن البنى الهائلة التي نراها الآن. توضِّح لنا نظرية الانفجار العظيم كيف تطوَّرَ الكون أثناء فترةِ عمره البالغة ١٣٫٧٥ مليار عام من حجمه الصغير الأولي إلى حجمه الحالي البالغ ١٠٠ مليار سنة ضوئية. وقد منح فريد هويل نظرية الانفجار العظيم اسمها مازحًا (ومتشكِّكًا) إشارةً إلى الانفجار الأوليِّ الذي حدث عندما بدأت كرة نار كثيفة ساخنة في التمدد مشكِّلة في النهاية النجوم والبنى الهائلة التي نرصدها الآن، وأثناء تطوُّرها نما حجمها، وخفت كثافة مادتها، وبردت.
لكن الشيء الوحيد الذي لا نعرفه على وجه اليقين هو ما انفجر في البداية وكيف حدث ذلك، أو حتى حجم ذلك الشيء بالضبط عند انفجاره. فبالرغم من فهمنا للتطور المتأخر للكون، لا تزال البدايات محاطة بالغموض. مع ذلك، ورغم أن نظرية الانفجار العظيم لا توضِّح لنا أيَّ شيء عن اللحظة الأولى لميلاد الكون، فهي نظرية ناجحة للغاية تخبرنا بالكثير عن تاريخ الكون اللاحق لتلك اللحظة. والملاحظات الحالية، مصحوبةً بنظرية الانفجار العظيم، توضِّح لنا الكثير عن كيفية تطور الكون.
حتى مطلع القرن العشرين، لم يكن أحد يعلم أن الكون يتمدَّد، وعندما بدأ إدوين هابل بحوثه الفضائية، لم يكن هناك الكثير من الأمور المعلومة. بلغ حجم مجرة درب التبانة، وفق مقياس هارلو شابلي، ٣٠٠ ألف سنة ضوئية، لكنه كان مقتنعًا بأن الكون لا يحتوي إلا على هذه المجرة فقط. وفي عشرينيات هذا القرن، أدرك هابل أن بعض السُّدُم، التي ظنَّها شابلي سحبًا غبارية، هي في الواقع مجرات أخرى تقع على بُعْد ملايين السنوات الضوئية.
يختلف تمدُّد الكون عن الصور التي قد ترد على الذهن للوهلة الأولى؛ نظرًا لأن الكون لا يتمدَّد في مكان موجود بالفعل، فما من شيء آخَر موجود سوى الكون؛ ومن ثَمَّ ليس هناك ما يمكن أن يتمدَّدَ فيه. لكن الكون يتمدَّد، وكذا الفضاء، وأي نقطتين داخله يزداد تباعدهما بمرور الوقت. فالمجرات الأخرى تبتعد عنَّا، لكن ذلك لا يميِّزنا في شيء؛ إذ إنها تبتعد عن بعضها البعض أيضًا.
جدير بالذكر في هذا التشبيه أن النقاط نفسها لا تتمدَّد بالضرورة، وإنما ما يتمدَّد هو الفضاء بينها. وهذا في الواقع ما يحدث في الكون المتمدد أيضًا. الذرات، على سبيل المثال، ترتبط ببعضها البعض بقوة بواسطة القوى الكهرومغناطيسية، ولا تزيد في حجمها، والأمر نفسه ينطبق على البِنى الكثيفة نسبيًّا المرتبطة بعضها ببعض، مثل المجرات. والقوة الدافعة للتمدد تؤثِّر عليها أيضًا، لكن نظرًا لتأثير قوة أخرى عليها في نفس الوقت، لا يزيد حجم المجرات نفسها مع التمدُّد الكلي للكون، وإنما تستشعر هذه القوى الجاذبة القوية، فتظل بحجمها بينما تتباعَد المسافة النسبية بينها.
لا شك أن تشبيه الكون بالبالونة ليس مثاليًّا، فالكون يحتوي على ثلاثة أبعاد مكانية، وليس اثنين، هذا فضلًا عن أن الكون ضخم، وربما يكون غير محدود في حجمه، وليس صغيرًا ولا منحنيًا مثل سطح البالونة. وفوق كل ذلك، البالونة موجودة داخل الكون وتتمدَّد في فضاء موجود بالفعل، على عكس الكون الذي يتخلَّل الفضاء ولا يتمدَّد في شيء آخَر. لكن حتى مع هذه التحفظات، يظل سطح البالونة إيضاحًا جيدًا لما يعنيه تمدُّد الفضاء، وهو ابتعاد كل نقطة عن كل نقطة أخرى في نفس الوقت.
يساعِد تشبيه البالونة كذلك — لكن هذه المرة نعني الجزء الداخلي منها — في فهم كيفية انخفاض درجة حرارة الكون بعد أن كان عبارة عن كرة نار كثيفة ملتهبة. لنتخيَّل معًا بالونة ساخنة للغاية تقوم بنفخها ليصبح حجمها كبيرًا جدًّا، بالرغم من أنه قد يصعب عليك مسكها في البداية بسبب سخونتها، فسيصير الهواء داخلها بعد التمدد أكثر برودةً بحيث يسهل على الإنسان الاقتراب منها. وتتنبَّأ نظرية الانفجار العظيم بأن الكون الساخن الكثيف قد تمدَّدَ، وانخفضت درجة حرارته أثناء ذلك التمدد.
استنتج أينشتاين، في الواقع، فكرةَ الكون المتمدد من معادلات النسبية العامة التي وضعها. لكن آنذاك، ما كان أحد قد قاسَ تمدُّد الكون بعدُ؛ لذلك لم يثق أينشتاين في تنبُّئِه، وطرح موردًا جديدًا للطاقة في محاولة منه لجعل نظريته تتفق مع فكرة الكون الثابت. وبعد القياسات التي أجراها هابل، صرف أينشتاين نظره عن هذا التحايل، واصفًا إياه بالخطأ «الأكثر فداحةً»، وإن لم يكن التعديل بهذا القدر من الخطأ على أي حال. وسوف نرى لاحقًا أن القياسات الحديثة تشير إلى أن مصطلح الثابت الكوني الذي أضافه أينشتاين هو مصطلح ضروري بالفعل في عمليات الرصد الحديثة، رغم أن الحجم المقيس المسئول عن سرعة تمدُّد الكون الذي ثبت مؤخرًا يزيد بمقدار قيمة أُسِّيَّة واحدة عن الحجم الذي اقترحه أينشتاين ليكون الكون ثابتًا.
وقد كان تمدُّد الكون نموذجًا جيدًا لتوافُق الأسلوبين التصاعدي والتنازلي في الفيزياء. فنظرية الجاذبية لأينشتاين تقضي بتمدُّد الكون، لكن الفيزيائيين لم يثقوا أنهم على الطريق السليم إلا عند اكتشاف التمدد.
واليوم، نشير إلى العدد الذي يحدِّد معدل تمدد الكون حاليًّا بثابت هابل، وهو ثابت بمعنى أن التمدد الجزئي في جميع أنحاء الفضاء متماثِل، لكن معامل هابل ليس ثابتًا دائمًا؛ ففي وقت سابق، عندما كان الكون أكثر سخونةً وكثافةً، وآثار الجاذبية أقوى، تمدَّدَ الكون بمعدل أسرع بكثير.
وقياس ثابت هابل بدقة أمر صعب، لأننا نواجِه المشكلة ذاتها التي طرحناها من قبلُ؛ وهي فصل الماضي عن الحاضر. فنحن بحاجة إلى معرفة مدى ابتعاد المجرات التي تتحرك بالإزاحة الحمراء؛ لأن هذه الإزاحة تعتمد على كلٍّ من معامل هابل والمسافة، وهذا القياس غير الدقيق هو مصدر عدم اليقين، الذي ذكرته في مستهل هذا الفصل، في زيادة عمر الكون بمقدار مرتين. وإذا كانت قياسات هابل غير مؤكدة بهذا المقدار، فسينطبق ذلك أيضًا على عمر الكون.
تم التوصُّل الآنَ إلى حلٍّ لهذا الخلاف؛ فقد قيس معامل هابل بواسطة ويندي فريدمان الباحثة في «مراصد سميثسونيان الفلكية» ومعاونيها وآخَرين، وتوصَّلوا إلى أن معدل التمدُّد يبلغ حوالي ٢٢ كيلومترًا في الثانية لأي مجرة تبعد بمقدار مليون سنة ضوئية. واستنادًا إلى هذه القيمة، نعرف الآن أن الكون يبلغ عمره حوالي ١٣٫٧٥ مليار عام، وقد يزيد أو ينقص هذا التقدير بمائتي مليون عام، لكن ليس بمقدار النصف أو الضعف. ورغم أن هذا التقدير قد يبدو غير مؤكد، فإن مقدار عدم اليقين صغير للغاية بحيث لا يمكن أن يشكِّل أي اختلاف في فهمنا الحالي.
ثمة ملاحظتان رئيسيتان أخريان اتفقَتَا تمامًا مع التنبؤات وأكَّدَتَا على صحة نظرية الانفجار العظيم. فكان من القياسات — التي اعتمدت على تنبؤات فيزياء الجسيمات والنسبية العامة وأثبتت من ثَمَّ صحة كلتيهما — كثافة العناصر المختلفة في الكون، مثل الهليوم والليثيوم. ويتفق مقدار هذه العناصر الذي تتنبَّأ به نظرية الانفجار العظيم مع القياسات. يُعَدُّ ذلك من بعض النواحي إثباتًا غيرَ مباشِر للنظرية، لكن يجب إجراء حسابات مفصلة قائمة على الفيزياء النووية وعلم الكونيات لحساب هذه القيم. ورغم ذلك، فإن هذا التوافُق بين العديد من العناصر المختلفة والتنبؤات ما كان ليحدث إلا إذا كان الفيزيائيون والفلكيون على الطريق السليم.
من ناحية أخرى، عندما اكتشف الأمريكي روبرت ويلسون والألماني المولد آرنو بينزياس إشعاع الخلفية الميكروني البالغة درجة حرارته ٢٫٧ درجة في عام ١٩٦٤، كان ذلك إثباتًا آخَر على صحة نظرية الانفجار العظيم. ولتصوُّرِ هذه الحرارة، يجدر التذكُّر أنه ما من شيء أكثر برودةً من الصفر المطلق، وهو الصفر على مقياس كلفن. وتزيد حرارة إشعاع الكون عن هذا الصفر، الذي يمثِّل الحدَّ الأقصى للبرودة التي يمكن أن يصل إليها أي شيء، بمقدار يقل عن ثلاث درجات.
كان تعاوُن روبرت ويلسون وآرنو بينزياس ومغامرتهما (التي حصَلَا بفضلها على جائزة نوبل عام ١٩٧٨) نموذجًا رائعًا لتضافُر جهود التكنولوجيا والعلم في بعض الأحيان بهدف تحقيق نتائج تفوق ما يمكن لأحد تخيُّله. عندما كانت شركة «إيه تي آند تي» تحتكر مجال الاتصالات في الولايات المتحدة، فعلت شيئًا رائعًا، وهو إنشاء «مختبرات بِل»، تلك البيئة البحثية المذهلة التي أُجرِيت بداخلها الأبحاث الخالصة والتطبيقية جنبًا إلى جنب.
عمل كلٌّ من روبرت ويلسون، الخبير المهووس بالتكنولوجيا والمعنِيِّ بالتفاصيل، وآرنو بينزياس، العالِم ذي الرؤية الشاملة، في مختبرات بِل حيث استخدَمَا وطوَّرَا معًا التليسكوبات اللاسلكية. وقد كان كلاهما مهتمًّا بالعلم والتكنولوجيا، بينما اهتمت شركة «إيه تي آند تي» بالاتصالات، وهو ما يمكن تفهُّمه؛ ومن ثَمَّ كانت الموجات اللاسلكية في السماء أمرًا مهمًّا لكافة الأطراف.
وفي مسعى ويلسون وبينزياس وراء هدف فلكي لاسلكي محدَّد، توصَّلَا إلى ما اعتبراه في البداية ضوضاء غامضة لا تفسير لها. بدت كضوضاء خلفية مُتَّسِقة، وثابتة على نحو أساسي. لم تكن الشمس هي مصدرها، ولم يكن لها علاقة أيضًا بأي اختبار نووي أجري في العام السابق. درس العالمان كافة التفسيرات التي يمكنهما التفكير فيها — ومن أشهرها فضلات الحمام — على مدار الشهور التسعة التي عملا خلالها على تفسير ما كان يحدث، وبعد التفكير في جميع الاحتمالات التي يمكن تخيُّلها، وتنظيف فضلات الحمام (أو «المواد البيضاء العازلة للكهرباء» كما كان يطلق عليها بينزياس)، بل واصطياد ذلك الحمام أيضًا، لم تتوقَّف الضوضاء.
وصف لي ويلسون كم كانَا محظوظين عندما توصَّلَا إلى اكتشافهما. لم يكن ويلسون وبينزياس على علم بنظرية الانفجار العظيم، لكن روبرت ديك وجيمس بيبلز — العالمين في جامعة برنستون — كانا على علم بها. أدرك هذان العالمان أن بقايا إشعاع الخلفية الكوني سيكون دليلًا على صحة هذه النظرية، وكانَا يعملان آنذاك على تصميم تجربة لقياس هذا الإشعاع عندما اكتشفَا أن هناك مَن سبقهما إلى هذا الاكتشاف، وهما العالمان بمختبرات بِل اللذان لم يكونا يدركان بعدُ ما توصَّلَا إليه. ولحسن حظ بينزياس وويلسون، عرف عالم الفضاء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بيرني بيرك — الذي وصفه لي روبرت ويلسون بأنه الصورة المبكرة للإنترنت — بشأن البحث الذي كان يُجرَى في جامعة برنستون وباكتشاف بينزياس وويلسون أيضًا؛ فاستنبط النتيجة البديهية، وحقَّق التواصُلَ بين العلماء الأربعة ليخرج الاكتشاف بذلك إلى النور.
كان ذلك نموذجًا جيدًا للممارسة العملية للعلم، فالبحث كان قد أُجرِي لهدف علمي محدَّد، لكن صارت له فوائد علمية وتكنولوجية أخرى. لم يكن عالِمَا الفلك يبحثان عمَّا توصَّلَا إليه، لكنهما تمتَّعَا بمستوى عالٍ من المهارة التكنولوجية والعلمية، وعندما اكتشفا شيئًا ما، أدركَا ضرورة عدم تجاهُلِه، ونتج عن بحثهما — الذي استهدف ظواهرَ صغيرة نسبيًّا — اكتشاف ذو آثار عميقة للغاية، وهو الاكتشاف الذي توصَّلَا إليه لأنهما، وغيرهما من العلماء الآخرين، كانَا يفكِّران في الصورة الأعم والأشمل في الوقت نفسه. لقد حدث اكتشاف عالِمَيْ مختبرات بِل مصادفةً، لكنه أحدث تغييرًا أبديًّا في علم الكونيات.
وقد أثبت الإشعاع الكوني أنه أداة مذهلة، ليس فقط فيما يتعلَّق بإثبات نظرية الانفجار العظيم، وإنما أيضًا في تحويل علم الكونيات إلى علم مُفصَّل. فإشعاع الخلفية الكوني يمنحنا وسيلةً لدراسة الماضي مختلفةً كليةً عن قياسات علم الفلك التقليدية.
في الماضي، عمد علماء الفلك إلى رصد الأجسام في السماء، ومحاولة تحديد عمرها، واستنباط التاريخ التطوري الذي أدَّى إلى ظهورها، لكن مع إشعاع الخلفية الكوني، تمكَّنَ العلماء أيضًا من دراسة الماضي قبل أن تتكوَّن البِنى فيه، مثل النجوم والمجرات. والضوء الذي يرصده هؤلاء العلماء انبعَثَ منذ زمن طويل، في مرحلة مبكرة للغاية من تطوُّر الكون. وفي الوقت الذي انبعث فيه إشعاع الخلفية الكوني الذي نرصده الآن، لم يكن حجم الكون يزيد عن واحد من الألف من حجمه الحالي.
ومع أن الكون كان زاخرًا في البداية بكافة أنواع الجسيمات — سواء المشحونة أو غير المشحونة — عندما انخفضت درجة حرارته بالقدر الكافي بعد مرور ٤٠٠ ألف عام على وجوده؛ اجتمعت الجسيمات المشحونة معًا لتكون ذرات متعادلة الشحنات. وما إن حدث ذلك حتى توقَّف تشتُّت الضوء؛ ومن ثَمَّ فإن إشعاع الخلفية الكوني المرصود يصل مباشَرةً إلى التليسكوبات الموجودة على سطح الأرض أو في الأقمار الصناعية بعد نحو ٤٠٠ ألف عام من وجود الكون، دون أن يعيقه أو يوقفه شيء. وإشعاع الخلفية الذي اكتشفه بينزياس وويلسون هو الإشعاع نفسه الذي كان موجودًا في مراحل مبكرة من تاريخ الكون، لكنه خفَّ وبرد أثناء تمدُّد الكون، وقد انتقل هذا الإشعاع مباشَرةً إلى التليسكوبات التي اكتشفته دون أي معيقات ناتجة عن التشتُّت بفعل أي جسيمات مشحونة. وهذا الضوء يمنحنا نظرةً مباشِرةً ودقيقةً على الماضي.
قاس مستكشف إشعاع الخلفية الميكروني الكوني — وهي مهمة بالقمر الصناعي بدأت في عام ١٩٨٩ واستمرت أربعة أعوام — هذا الإشعاع بدقة متناهية، وتوصَّلَ علماء المهمة إلى أن ما أَجْرَوه من قياسات يتفق مع التنبؤات بدقة لا يزيد فيها هامش الخطأ عن واحد في الألف، لكن المستكشف قاسَ شيئًا جديدًا أيضًا، وهو قدر ضئيل من عدم الاتساق في درجة الحرارة بأنحاء السماء؛ وهو الاكتشاف الأهم لهذا المستكشف إلى الآن. فرغم الاتساق الكبير في توزيع البنية الكونية، تظهر مواطن دقيقة من عدم التجانس في مستوًى يقل عن واحد في العشرة آلاف في المراحل المبكرة من عمر الكون، وهذه المواطن نمَتْ ولعبت دورًا مهمًّا في تطوُّر البنية الكونية. وقد بدأت هذه المواطن في نطاقات طول دقيقة، لكنها امتدَّتْ بعد ذلك إلى أحجام تتناسَب مع البنية والقياسات الفيزيائية الفلكية. وقد تسبَّبَتِ الجاذبية في زيادة تركيز المناطق الأعلى كثافةً — التي زادت فيها الاضطرابات بشكل كبير — بحيث كوَّنَتِ الأجرامَ الضخمة التي نراها حاليًّا. فجميع النجوم والمجرات والعناقيد المجرية التي تناولناها فيما سبق هي نتاج هذه الاضطرابات الكمية الأولية البسيطة وتطوُّرها بفعل الجاذبية.
يظل قياس إشعاع الخلفية الكوني مهمًّا في فهمنا لتطور الكون، ولا يمكن التقليل من شأن الدور الذي يلعبه هذا القياس باعتباره نافِذةً مباشِرةً نطل من خلالها على الكون في مراحله المبكرة. ومؤخرًا، قدَّمَتْ قياساتُ إشعاع الخلفية الكوني — بالإضافة إلى الأساليب الأكثر تقليدية — معلوماتٍ تجريبيةً دقيقةً حول العديد من الظواهر الأكثر غموضًا، كالتضخم الكوني، والمادة المظلمة، والطاقة المظلمة، والتي سنتناولها فيما يلي.