كشف الأسرار
والكثير من المدارك التكوينية التي مهَّدَتِ الطريق للعلم ليصل إلى شكله المعاصر تطوَّرتْ في إيطاليا في القرن السابع عشر، ولعب جاليليو دورًا رئيسيًّا في هذا التطور؛ فقد كان من أوائل مَن قدَّروا القياسات غير المباشرة — وهي القياسات التي تُجرَى باستخدام جهاز وسيط — وطوَّروها، بالإضافة إلى كونِه أول مَن صمَّم التجارب واستخدمها كوسيلة لإثبات صحة الحقائق العلمية، هذا فضلًا عن إدراكه التجارب الفكرية المجردة التي ساعدته في تشكيل أفكاره وصياغتها صياغةً مُتَّسِقة.
اطَّلَعْتُ على أفكار جاليليو العديدة التي أحدثت تغييرًا جوهريًّا في العلم، وذلك عند زيارتي لمدينة بادوا في ربيع عام ٢٠٠٩. دفعني لهذه الزيارة حضور مؤتمر عن الفيزياء نظَّمَه أستاذ الفيزياء، فابيو زويرنر، أحد أبناء هذه المدينة. كان من الدوافع الأخرى كذلك الحصول على درجة «مواطنة شرفية» لهذه المدينة. سعدتُ في تلك الزيارة بالالتقاء بزملائي الفيزيائيين الذين جاءوا لحضور المؤتمر، بالإضافة إلى المجموعة الموقَّرة من «المواطنين» الآخَرين، ومن بينهم الفيزيائيون ستيفن واينبرج، وستيفن هوكينج، وإد ويتن. وفوق كل ذلك، سنحت لي الفرصة جَنْي بعض المعرفة عن تاريخ العلم.
جاءت زيارتي في توقيت ممتاز؛ إذ وافَقَ عام ٢٠٠٩ الذكرى السنوية الأربعمائة لعمليات الرصد السماوية الأولى التي أجراها جاليليو. وكان مواطنو بادوا مَعْنيِّين بوجه خاص بهذا الشأن؛ نظرًا لأن جاليليو كان يُلقِي المحاضرات في الجامعة الموجودة في تلك المدينة أثناء فترة إجرائه لأبحاثه المهمة. ولإحياء ذكرى عمليات رصده الشهيرة، نظَّمت مدينة بادوا (وكذلك بيزا، وفلورنسا، والبندقية — وهي المدن الأخرى التي لعبت دورًا هامًّا في حياة جاليليو العلمية) عروضًا وفعاليات على شرفه. وجرت المناقشات حول الفيزياء في قاعة بمركز ألتيناتى الثقافي (أو سان جايتانو)، وهو المبنى نفسه الذي استضاف المعرض المذهل الذي احتفى بالإنجازات العديدة الملموسة لجاليليو، وألقى بالضوء على الدور الذي لعبه هذا العالِم في تغيير معنى العلم اليوم وتحديده.
أظهر معظم مَن قابلتُهم تقديرًا لإنجازات جاليليو، وحماسًا للتطورات العلمية المعاصرة. وقد أذهل الجميعَ — بما في ذلك الفيزيائيون المحليون — ما أبداه عمدةُ مدينة بادوا، فلافيو زانوناتو، من اهتمام ومعرفة. فهو لم يشترك فحسب في المناقشات العلمية التي جرت على مأدبة العشاء التي أقيمت بعد المحاضرة العامة التي ألقيتُها، وإنما فاجَأَ الحضور كذلك أثناء المحاضرة نفسها بسؤال ذكي عن تدفُّق الشحنات في مصادم الهادرونات الكبير.
وكجزءٍ من مراسم مَنْحِي درجةَ المواطنة الشرفية، قدَّمَ لي العمدةُ مفتاحَ المدينة. كان مفتاحًا مذهلًا يرقى لما توقَّعته بناءً على ما شاهدته في الأفلام السينمائية. كان كبيرًا فضيَّ اللون ذا نقوش جميلة، ما دفع أحد زملائي للتساؤل عمَّا إذا كان مأخوذًا من إحدى قصص «هاري بوتر»، لكنه كان مفتاحًا للمراسم؛ أي إنه لا يفتح أي شيء، لكنه مع ذلك كان رمزًا جميلًا للدخول — إلى المدينة بالطبع — لكنني تخيَّلتُه مفتاحًا للدخول من باب معرفي ثري وزاخر.
بالإضافة إلى ذلك المفتاح، قدَّمَتْ لي ماسيميلا بالدو سيولين، الأستاذة بجامعة بادوا، ميدالية تذكارية من مدينة البندقية تُعرَف باسم «أوزيلا»، محفورًا عليها عبارة مقتبسة عن جاليليو، وهي العبارة المعروضة بقسم الفيزياء في الجامعة أيضًا. ترجمة هذه العبارة هي: «أرى أنه من الأهم التوصُّل إلى حقيقةٍ ما بشأن أي شيء — مهما كان بسيطًا — بدلًا من الدخول في جدالات طويلة بشأن أهم الأسئلة دون التوصُّل إلى أي حقيقة.»
أَطْلَعْتُ الكثيرَ من الزملاء في المؤتمر على هذه الكلمات؛ إذ إنها في الواقع مبدأٌ إرشاديٌّ قائمٌ حتى يومنا هذا. فصور التقدم الإبداعي تظهر مصحوبة عادةً بمشكلات يمكن تعقُّبها، وهو الموضوع الذي سنعود لتناوله لاحقًا. وليست جميع الأسئلة التي نجيب عنها تؤدي إلى نتائج جذرية مباشرة، لكن صور التقدم — حتى تلك التي تبدو متزايدة — تؤدي أحيانًا إلى تحوُّلات مهمة في فهمنا.
يوضِّح هذا الفصل كيف أن عمليات الرصد الحالية التي يتناولها هذا الكتاب ترجع أصولها إلى التطورات التي شهدها القرن السابع عشر، وكيف أن صورَ التقدُّم الأساسية آنذاك ساعدَتْ في تحديد طبيعة النظرية والتجربة اللتين نوظِّفهما الآن. فالأسئلة المهمة لا تزال — من بعض النواحي — هي نفسها الأسئلة التي ما برح العلماء يطرحونها طيلة ٤٠٠ عام، لكن نظرًا للتطورات النظرية والتكنولوجية، شهدت الأسئلة البسيطة التي نطرحها الآن تطوُّرًا هائلًا.
إسهامات جاليليو العلمية
يَطرُق العلماء على «أبواب السماء» في محاولة منهم لتجاوز الحد الفاصل بين المعلوم والمجهول، فيبدأ العلماء عملهم دومًا بمجموعة من القواعد والمعادلات التي تتنبَّأ بالظواهر التي يمكنهم قياسها حاليًّا، لكنهم يحاولون دائمًا خوض غمار أنظمة جديدة لم يتمكَّنوا من استكشافها من قبلُ بواسطة التجارب. وباستخدام التكنولوجيا والرياضيات، يتناول العلماء على نحو منهجي الأسئلةَ التي لم تتخطَّ في الماضي كَوْنَها افتراضًا أو مُعتقَدًا فحسب. ومن خلال الملاحظات الأعلى جودةً والأكثر عددًا، وأُطُرِ العمل النظرية المُحسَّنة التي تضم قياسات أحدث، يتوصَّل العلماء إلى فهمٍ أكثر شمولًا للعالم.
بالرغم من ذلك، لم تكن تلك الصور صحيحة علميًّا. أشارت المرشدة السياحية، التي رافقتني في جولتي، إلى صورة لبعض النجوم في قاعة مدينة بادوا «بلاتزو ديلا راجيوني» التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى، وأوضحت لي أنه قيل لها إنها صورة لدرب التبانة، وأردفت قائلةً إن مرشدًا آخَر أكثر خبرةً أوضح لها فيما بعدُ الخطأَ التاريخيَّ الذي ينطوي عليه هذا التفسير؛ ففي وقت رسم تلك اللوحة، كان الناس يعبِّرون عمَّا يرونه فحسب. ولعل ما تعكسه اللوحة هو سماء مليئة بالنجوم، لكن المهم في الأمر هو أنها لا علاقةَ لها على الإطلاق بأي شيء على درجة التعقيد التي تتسم بها مجرتنا. فالعلم — كما نعرفه الآن — لم يكن قد ظهر بعدُ آنذاك.
قبل جاليليو، اعتمد العلم على الملاحظات المباشرة والتفكير الخالص، وكان العلم الأرسطي نموذجًا للأسلوب الذي حاوَلَ الناس فهْمَ العالَم من خلاله، فكان من الممكن استخدام الرياضيات في عمليات الاستدلال، لكن الافتراضات الأساسية كانت تقوم على المعتقدات أو ما يتفق مع الملاحظات المباشِرة.
رفَضَ جاليليو بوضوح الاستنادَ في أبحاثه إلى «عالَم من الأوراق»، وإنما أراد قراءة «كتاب الطبيعة» ودراسته. ولتحقيق هذا الهدف، غيَّرَ منهجية الملاحظة، وأقَرَّ بأهمية التجارب. لقد فهم جاليليو كيفية تصميم هذه المواقف المصطنعة واستخدامها لإجراء عمليات الاستدلال بشأن طبيعة القانون الفيزيائي، وباستخدام التجارب، تمكَّنَ جاليليو من اختبار الفرضيات المتعلقة بقوانين الطبيعة؛ ومن ثَمَّ كان بمقدوره إثباتها، أو دحضها (وهو الأمر الأهم).
تجاوَزَ جاليليو أيضًا في علمه ما كان بوسعه ملاحظته، فصمَّم تجارب فكرية — أي أفكارًا مجردة قائمة على ما كان يراه بالفعل — للوصول إلى تنبُّؤات تنطبق على تجارب ما كان بإمكان أحدٍ آنذاك إجراؤها فعليًّا. ولعل أشهر تنبؤاته ذلك التنبؤ بأن الأجسام — في غياب المقاومة — تسقط جميعها بالمعدل ذاته، وبالرغم من عدم تمكُّنِه من تصميم الموقف المثالي لذلك، فقد تنبَّأَ بما سيحدث. أدرك جاليليو دور الجاذبية في سقوط الأشياء نحو الأرض، لكنه علم أيضًا أن مقاومة الهواء تقلِّل من سرعتها في الهبوط. والعلم السليم هو الذي يشمل فهمًا لجميع العوامل التي قد تتدخل في عملية القياس، وقد ساعدته التجارب الفكرية والتجارب الفيزيائية الفعلية في تحسين فهمه لطبيعة الجاذبية.
وفي مصادفة تاريخية عجيبة، وُلِد نيوتن — أحد أعظم الفيزيائيين الذين اتبعوا هذا النهج العلمي — في نفس العام الذي توفي فيه جاليليو (أشار ستيفن هوكينج في أحد أحاديثه إلى سعادته بأن مولده جاء بعد ثلاثة قرون بالضبط من هذا التاريخ). ولا يزال العلماء يتبعون حتى الآن نهج تصميم التجارب الفكرية أو الفيزيائية، وتفسيرها، وفهم حدودها، بغض النظر عن عام ميلادهم. والتجارب الحالية أدق، وتعتمد على تكنولوجيا أكثر تقدُّمًا بكثير مقارنةً بتلك الأيام، لكن فكرة تصميم جهاز لإثبات صحة التنبؤات المُستمَدَّة من الفرضيات، أو استبعادها، لا تزال سمةً مميزة للعلم ومناهجه في أبحاث العصر الحالي.
بالإضافة إلى التجارب — المواقف المصطنعة التي صمَّمها جاليليو لاختبار صحة الفرضيات — كان من الإسهامات العلمية الأخرى لهذا العالِم التي أحدثت تغييرًا جذريًّا؛ إدراكُ قدرة التكنولوجيا على تطوير ملاحظاتنا للكون كما يظهر أمامنا، وتطوير هذه القدرة. فبواسطة التجارب، تجاوَزَ جاليليو نطاق التفكير المجرد الخالص، وباستخدام الأجهزة الجديدة تجاوز الملاحظات غير المنتقاة.
اعتمدت أغلب الأعمال العلمية في السابق على الملاحظات المباشرة دون وسيط، فكان الناس يلمسون الأجسام أو يرونها باستخدام حواسهم، وليس باستخدام جهاز وسيط يغيِّر من الصور بشكلٍ ما. فنجد أن تيكو براهي (وهو مَن اكتشف من بين أشياء أخرى عديدة مُستعرًا أعظم وقاسَ بدقة مدارات الكواكب) قد أجرى أشهر الملاحظات الفلكية قبل ظهور جاليليو، واستخدم تيكو بالفعل آلات القياس الدقيقة، مثل الربعيات والسدسيات والكرات ذات الحلق، بل تولَّى أيضًا تصميم آلات تفوق دقتها ما استخدمه أي شخص آخَر من قبلُ، ودفع المال مقابل إنشائها؛ ما نتج عنه قياسات كانت على درجة من الدقة تسمح لكبلر بالاستدلال على المدارات الإهليلجية. ومع ذلك، فقد أجرى تيكو جميع قياساته من خلال الملاحظات الدقيقة بعينيه المجردتين دون أي عدسة وسيطة أو أي جهاز آخَر.
من الجدير بالملاحظة أيضًا أن جاليليو كان يتمتع بعين فنية مُحنَّكة وأُذُن موسيقية بارعة؛ فهو في النهاية ابن عوَّاد ومنظِّر موسيقي، لكنه مع ذلك أدرك أن الملاحظات التي يستعين فيها بالتكنولوجيا كوسيط يمكن أن تُحسِّن من القدرات المذهلة التي يتمتع بها بالفعل. وقد وثق جاليليو في أن القياسات غير المباشرة التي يمكنه إجراؤها بواسطة أدوات الملاحظة في كلٍّ من النطاقات الكبيرة والصغيرة؛ يمكن أن تتجاوز بكثير الملاحظات التي تُجرَى بواسطة قدراته المجردة دون مساعدة.
ويُعَدُّ استخدام التليسكوبات لاستكشاف النجوم أشهر تطبيق تكنولوجي أجراه جاليليو؛ فاستخدامه لهذه الآلة غيَّرَ من كيفية ممارستنا للعلم، وتفكيرنا في الكَوْن، ورؤيتنا لأنفسنا. لم يخترع جاليليو التليسكوب، وإنما يعود الفضل في ابتكاره إلى هانز ليبرشي في هولندا ١٦٠٨، لكن هانز استخدمه في التجسُّس على الآخَرين، ومن هنا جاء اسمه البديل «النظارة المُقرِّبة». مع ذلك، فإن جاليليو كان من أوائل مَن أدركوا القدرة المحتملة لهذا الجهاز في إجراء ملاحظات في النظام الكوني لا يمكن إجراؤها باستخدام العين المجردة، وطوَّرَ تلك النظارة المُقرِّبة التي ابتُكِرت في هولندا عن طريق تصميم تليسكوب قادر على تكبير الأحجام بمقدار عشرين مرة، وفي خلال عام من عمله على هذه اللعبة المُستخدَمة آنذاك في المهرجانات، حوَّلها جاليليو إلى آلة علمية.
بالرغم من أن فطرتنا قد تملي علينا أن الملاحظات التي نُجرِيها بأعيننا دون مساعدة هي الأكثر موثوقيةً، وأنه علينا الارتياب في التجريد؛ ينصحنا العلم بضرورة التسامي فوق كل هذه النزعات البشرية. فالقياسات التي نجريها باستخدام الآلات التي نصمِّمها أكثر موثوقيةً من أعيننا المجردة، ويمكن تحسينها والتيقُّن من صحتها عن طريق التكرار.
ثمَّةَ ميدالية نحاسية تذكارية أخرى عرضها عليَّ أهالي بادوا، وهي الميدالية التي لخَّصَتْ على نحو جميل أهميةَ إنجازات جاليليو. تظهر على أحد جانبي هذه الميدالية صورة لتقديم التليسكوب إلى حكومة جمهورية البندقية والقائد ليوناردو دونا في عام ١٦٠٩، أما الجانب الآخَر، فنُقِشَت عليه ملاحظة بأن ذلك الحدث كان بمنزلة «ميلادٍ حقيقيٍّ للتليسكوب الفلكي المعاصر»، ونقطة البداية «للثورة التي شهدها الإدراك البشري للعالم بعيدًا عن كوكب الأرض»، و«لحظة تاريخية تتجاوز حدود علم الفلك، ما يجعلها إحدى نقاط البداية في العلم المعاصر.»
أدَّتْ مزايا الرصد الذي أجراه جاليليو إلى فيض من الاكتشافات اللاحقة. ومرة أخرى، عندما استكشف جاليليو النظام الكوني، توصَّلَ إلى أجرام جديدة خارج نطاق ما يمكن ملاحظته بالعين المجردة؛ فعثَرَ على نجوم في الثريا وبأرجاء السماء لم يَرَها أحدٌ من قبلُ، متناثِرةٍ بين النجوم الأكثر سطوعًا التي كانت معروفة بالفعل. ونشر جاليليو اكتشافاته في كتابه الشهير «رسول النجوم» عام ١٦١٠ الذي سارع إلى إنهاء تأليفه في حوالي ستة أسابيع، فكان يُجرِي أبحاثه على عجل بينما كان الكتاب تحت الطباعة، تلهُّفًا منه لإبهار كوزيمو الثاني دي ميديتشي، الدوق الأعظم لتوسكانا — وابن أكثر عائلات إيطاليا ثراءً — والحصول على دعمه قبل أن يسبقه أي شخص آخَر يعمل باستخدام التليسكوب في نشر هذه الاكتشافات.
وبفضل ملاحظات جاليليو الدقيقة، حدث تطوُّر هائل في الفهم؛ فقد طرح ذلك العالِم سؤالًا مختلفًا، وهو: «كيف؟» بدلًا من «لماذا؟» وبطبيعة الحال قد قادته الاكتشافات المُفصَّلة التي لم يتمكَّن من التوصُّل إليها إلا باستخدام التليسكوب إلى الاستنتاجات التي أغضبت الفاتيكان آنذاك. فاستنادًا إلى ملاحظات معيَّنة، اقتنَعَ جاليليو بأن كوبرنيكوس كان محقًّا، وكانت الرؤية العالمية الوحيدة في نظره التي يمكنها دومًا تفسير جميع ملاحظاته، تعتمد على علم كونيات ينصُّ على أن الشمس — وليس الأرض — هي التي تقع في مركز المجرة وتدور حولها جميع الكواكب.
كانت أقمار كوكب المشتري إحدى أهم تلك الملاحظات؛ تمكَّنَ جاليليو من رؤية هذه الأقمار عند ظهورها واختفائها وتحرُّكها في مداراتها حول ذلك الكوكب الضخم. قبل هذا الاكتشاف، بدت الأرضُ الثابتة الطريقةَ الوحيدة والواضحة لتفسير مدار القمر الثابت، واكتشاف أقمار المشتري عنى أن لذلك الكوكب أجسامًا سيَّارة حوله أيضًا رغم تحرُّكه، وقد أعطى ذلك مصداقيةً لإمكانية تحرُّك الأرض أيضًا، بل دورانها أيضًا حول جسم مركزي منفصل، وهي الظاهرة التي لم تُفسَّر إلا لاحقًا عندما وضع نيوتن نظريته عن الجاذبية، وما تنبَّأَتْ به هذه النظرية من انجذاب متبادَل بين الأجرام السماوية.
أطلق جاليليو على أقمار كوكب المشتري «النجوم الميديتشية» تكريمًا لكوزيمو الثاني دي ميديتشي؛ ما يثبت إدراك جاليليو لأهمية التمويل الذي يُعَدُّ أحد الجوانب الأساسية للعلم المعاصر؛ وقرَّرت عائلة ميديتشي بالتأكيد دعم أبحاث جاليليو. بَيْدَ أنه لاحقًا، وبعد حصول جاليليو على تمويل مدى الحياة من مدينة فلورنسا، سُمِّيَتِ الأقمارُ «أقمارَ جاليليو» تكريمًا له لاكتشافه إياها.
استخدم جاليليو كذلك التليسكوب لرصد التلال والأودية الموجودة على القمر، وقبل ما توصَّلَ إليه ذلك العالِم من اكتشافات، كان يُعتقَد أن السماوات لا تتغير أبدًا؛ إذ يحكمها ثبات وانتظام مطلق. ونصَّتْ وجهة النظر الأرسطية أنه في حين يتسم كل شيء بين القمر والأرض بالنقص وعدم الثبات، فإن الأجرام السماوية التي تتجاوز حدود كوكبنا تتسم بالثبات والكروية؛ فهي ذات جوهر رباني. وكانت النيازك والمُذنَّبات تُعتبَر ظواهر جوية، مثل السحب والرياح، لكن جاءت ملاحظات جاليليو المُفصَّلة لتشير إلى أن عدم الكمال يمتدُّ إلى ما يفوق النطاق البشري والأرضي. لم يكن القمر جسمًا كرويًّا منبسطًا، بل كان في الواقع أشبه بالأرض على نحو يفوق ما قد يفترضه أي أحد، ومع اكتشاف الطوبوغرافيا المعقَّدَة للقمر، أعيد النظر في فكرة تقسيم الأجسام إلى أرضية وسماوية؛ فلم تَعُدِ الأرض بذلك جسمًا فريدًا من نوعه، وإنما بدت جرمًا سماويًّا شأنها شأن الأجرام السماوية الأخرى.
أوضح لي المؤرخ الفني جوزيف كورنر أن خلفية جاليليو الفنية كانت من أسباب تمكنُّه من استخدام الضوء والظلال في التعرُّف على الحُفَر التي تُحدِثها النيازك عند سقوطها من السماء، وقد ساعَدَه التدريب المنظوري في فهم ما كان يراه من مشاهد؛ فأدرك على الفور المعاني الضمنية لها، رغم أنها لم تكن ثلاثية الأبعاد بالكامل. لم يهتم جاليليو برسم خريطة للقمر، وإنما بفهم تركيبه، وقد فَهِمَ على الفور ما كان يراه.
من المنظور الفلكي، لم تحظَ الأرضُ بأهمية مميزة؛ فالكواكب الأخرى تدور أيضًا حول الشمس، وتدور حولها أجرام سيَّارة بدورها، بالإضافة إلى ذلك، خارج حدود الأرض — التي عبثَتْ بها يد الإنسان بشكل جَلِيٍّ — لا يتسم كل شيء بالكمال التام، بل إن الشمس ذاتها تشوبها بُقَعٌ شمسية رصدها جاليليو أيضًا.
مُتسلِّحًا بهذه الملاحظات، توصَّل جاليليو إلى استنتاجه الشهير بأن الأرض ليست مركز الكون، وأنها تدور حول الشمس؛ ليست الأرض النقطة المركزية. وسجَّلَ جاليليو هذه الاستنتاجات الثورية، ليقف بذلك في وجه الكنيسة، لكنه ادَّعَى بعد ذلك رفضه لأفكار كوبرنيكوس ليخفِّف العقابَ الذي فُرِض عليه إلى حبس بالمنزل.
لم يتوقف دور جاليليو عند هذه الملاحظات والنظريات المتعلقة بالنطاقات الكبيرة للكون، وإنما أحدث ذلك العالِم كذلك تغييرًا جذريًّا في قدرتنا على إدراك النطاقات الصغيرة؛ فقد أدرك أن الأدوات الوسيطة يمكن أن تكشف عن الظواهر في النطاقات الصغيرة، مثلما تفعل ذلك في النطاقات الكبيرة بالضبط، وطوَّر المعرفة العلمية في هذين الجانبين. وبالإضافة إلى أبحاثه الفلكية الشهيرة (الشائنة آنذاك)، فقد بدَّل مسار التكنولوجيا إلى الداخل؛ أي إلى دراسة العالم المجهري.
أصابني شيء من الدهشة عندما قال لي ميشيل دورو — وهو فيزيائي إيطالي شاب أرشَدَني خلال زيارتي لمعرض سان جايتانو في مدينة بادوا — دون تردُّد إن جاليليو هو مخترع المجهر. يمكنني القول هنا إن خارج إيطاليا، على الأقل، ثمَّةَ إجماع على أن المجهر قد اختُرِع في هولندا، لكن ليس معروفًا بالضبط ما إذا كان المخترع هو هانز ليبرشي أم زخارياس يانسن (أو والده). وسواء أكان جاليليو قد اخترع التليسكوب أم لا (وعلى الأرجح أنه لم يفعل)، فالحقيقة أنه صمَّمَ بالفعل مجهرًا واستخدمه في ملاحظة النطاقات الأصغر حجمًا، وقد أمكن استخدام هذا الاختراع لملاحظة الحشرات بدرجات من الدقة لم تكن ممكنة من قبلُ. وفي الخطاب الذي بعث به جاليليو إلى أصدقاء وعلماء آخرين، كان أول مَن كتب عن المجهر وإمكاناته. وقد احتوى معرض سان جايتانو على أول مؤلَّف يتناول الملاحظات المنهجية التي يمكن إجراؤها باستخدام مجهر جاليليو، ويعود تاريخ هذا المؤلَّف إلى عام ١٦٣٠، ويعرض الدراسات المُفصَّلة التي أجراها فرانسيسكو ستيلوتي على النحل.
يوضِّح المعرض لزوَّاره أيضًا كيف درس جاليليو العظام، واكتشف حتمية اختلاف خصائصها باختلاف حجمها. من الجليِّ هنا أنه بالإضافة إلى مدارك جاليليو العديدة، كان لديه وعي شديد بأهمية النطاق.
لم يَدَعِ المعرضُ مجالًا للشك بشأن إدراك جاليليو الكامل لمناهج العلم وأهدافه؛ أي إطار العمل المفاهيمي والتنبُّئي والكمي الذي يحاول وصف أجسام محدَّدة ويعمل وفق قواعد دقيقة، فما أن تُقدِّم هذه القواعد تنبؤات تم اختبارها جيدًا بشأن العالَم، حتى يمكن استخدامها للتنبؤ بالظواهر المستقبلية. فالعلم يبحث عن التفسير الأشد اختصارًا الذي من شأنه تعليل جميع الملاحظات والتنبؤ بها.
إن معيار التفسير الأشد اختصارًا يمكن أن يلعب أيضًا دورًا مهمًّا في التفسير العلمي الأولي؛ وذلك ما أظهره فشل نظرية تيكو الأصلية، وأثبتته فيزياء نيوتن. وعملية البحث تتضمن السعي للوصول إلى القوانين والمبادئ الأساسية التي تشمل البنى والتفاعلات التي تتم ملاحظتها. وبمجرد أن يوجد عدد كافٍ من الملاحظات، ترجح كفة النظرية التي تشمل النتائج في إطار مختصَر، وتقدِّم إطار عمل أساسيًّا تنبُّئيًّا، وهذا ما يوصلك إليه المنطق دومًا، الأمر الذي نعيه نحن معشر فيزيائيي الجسيمات في ظل انتظارنا المضني للبيانات التي ستحدِّد في النهاية ما نؤمِن به بشأن طبيعة الكَوْن الجوهرية.
ساعَدَ جاليليو في وضع الأساس للكيفية التي يعمل بها العلماء الآن، وإدراك التقدم الذي أطلق ذلك العالِم وآخرون غيره شرارتَه الأولى يُعِيننا في فهم طبيعة العلم على نحو أفضل، لا سيما فيما يتعلق بما تقدِّمه لنا الملاحظات والتجارب من مساعدة في تبيُّن الوصف الفيزيائي الصحيح، هذا بالإضافة إلى إدراك بعض الأسئلة المهمة التي يطرحها الفيزيائيون اليوم. وقد استند العلم المعاصر إلى جميع مدارك جاليليو، مثل أهمية التكنولوجيا والتجربة والنظرية والصياغة الرياضية، في محاولته للتوفيق بين الملاحظة والنظرية. ومن الأمور المهمة أن جاليليو قد أدرك التفاعل بين كل هذه العوامل في صياغة الأوصاف الفيزيائية للعالم.
صار بإمكاننا الآن التمتُّع بقدر أكبر من الحرية في تفكيرنا، مع سماحنا لثورة كوبرنيكوس بالاستمرار أثناء استكشافنا حدود النظام الكوني الخارجية، ووضعنا النظريات المتعلقة بالأبعاد الإضافية الممكنة أو الأكوان البديلة. تواصِلُ الأفكارُ الجديدة إبعادَ الإنسان عن المركز شيئًا فشيئًا، بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، والملاحظات والتجارب إما ستثبت صحة هذه الاقتراحات أو تنفيها.
تتجلى حاليًّا الأساليب غير المباشرة للملاحظات، التي وظَّفها جاليليو في عمله، في الكواشف الدقيقة الموجودة في مصادم الهادرونات الكبير. وفي عرض أخير بمعرض بادوَا، شاهدتُ تطوُّر العلم وصولًا إلى العصر الحالي، بالإضافة إلى أجزاء من تجارب مصادم الهادرونات الكبير. واعترف مرشدنا آنذاك أنه كان متحيِّرًا بشأن ذلك العرض إلى أن أدرَكَ أن مصادم الهادرونات الكبير هو أفضل ميكروسكوب توصَّلَتْ إليه البشرية حتى الآن؛ إذ يسبر غور مسافات أصغر بكثير مما سبق ملاحظته على الإطلاق.
ومع دخولنا نُظُمًا جديدة من الدقة في القياس والنظريات، يتردد صدى فهم جاليليو لكيفية تصميم التجارب وتفسيرها. وتفرض أفكاره نفسها عند استخدامنا الأجهزة للوصول إلى صور أبعد ما تكون عن المرئية بالعين المجردة، وتطبيقنا أفكاره بشأن كيفية عمل المنهج العلمي باستخدام التجارب لإثبات الأفكار العلمية أو دحضها. كان المشاركون في مؤتمر بادوَا يفكِّرون فيما يمكن التوصُّل إليه قريبًا، وما قد تعنيه هذه الاكتشافات، على أمل أن نتجاوز عن قريب حدودًا جديدة للمعرفة. وفي هذه الأثناء، سنواصل البحث.