الرحلة الغامضة الساحرة
لعل الفيلسوف الإغريقي ديموقريطس كان محقًّا في بداية عمله عندما افترَضَ وجود الذرات منذ ألفين وخمسمائة عام مضت، لكن ما كان لأحد أن يخمِّن آنذاك بدقة ما ستكون عليه المكونات الأولية الفعلية للمادة. وبعض النظريات الفيزيائية، التي تنطبق على المسافات الصغيرة، مناقِضة تمامًا للبديهة، ولولا أن التجارب أجبرت العلماء على قبول أسسها المنطقية الجديدة والمحيِّرة، ما كانت هذه النظريات لتخطر ببال أكثر الناس إبداعًا وسعةً في الأفق. وجدير بالذكر أنه ما إن امتلك علماء القرن الماضي التكنولوجيا اللازمة لسَبْر أغوار النطاقات الذرية، حتى توصَّلوا إلى أن البنية الداخلية للمادة تخالِف دومًا التوقعات، فالأجزاء المختلفة للمادة تتوافَق معًا على نحو يفوق في سحره أي شيء قد يتم توفيقه عمدًا.
من العسير على أي إنسان تكوينُ صورةٍ مرئية دقيقة لما يحدث على مستوى النطاقات الدقيقة التي يدرسها فيزيائيو الجسيمات حاليًّا؛ فالمكونات الأولية التي تتَّحِدُ معًا لتكوين ما نعتبره مادةً مغايرةٌ تمامًا لما ندركه مباشَرةً باستخدام حواسنا، وتخضع هذه المكونات في عملها أيضًا لقوانين فيزيائية غير مألوفة، وكلما تضاءَلَ حجم النطاقات، بدا أن المادة تخضع لخصائص مختلفة تمامًا، الأمر الذي يجعلها تبدو كما لو كانت تنتمي إلى أكوان مختلفة كليةً.
وقدر كبير من الارتباك الذي يكتنف محاولة فهم هذه البنية الداخلية الغريبة، إنما مرَدُّهُ الافتقارُ إلى معرفة المكونات المختلفة التي توجد في النطاقات والأحجام العديدة التي يسهل انطباق النظريات المختلفة عليها. فنحن بحاجة لمعرفة ما هو موجود، وإدراك الأحجام والنطاقات التي تصفها النظريات المختلفة لكي نصل إلى فهم كامل للعالم المادي.
في جزء لاحق من هذا الكتاب، سنتناول الأحجامَ المختلفة المرتبطة بالفضاء، الذي يمثِّل الحدَّ النهائي لنا. لكن قبل الانتقال إلى هذه النقطة، سنوجِّه تركيزَنا في هذا الفصل إلى الداخل، وسنشرع في الحديث عن النطاقات المعروفة، ثم ننتهي بالجزء الداخلي العميق من المادة الذي يمثِّل الحدَّ النهائي لنا، لكن من الجانب الآخَر. ستبدأ رحلتنا بنطاقات الأطوال التي نواجهها عادةً، مرورًا بالأجزاء الداخلية للذرة (حيث تلعب ميكانيكا الكم دورًا مهمًّا)، ووصولًا إلى نطاق بلانك (الذي تلعب فيه الجاذبية دورًا لا يقل أهميةً عن القوى الأخرى المألوفة)، وسنستكشف خلال ذلك ما وصلت إليه معرفتنا بالفعل، وكيفية ارتباط كل هذه النطاقات بعضها ببعض. لنبدأ الآن رحلتنا في هذا العالم الداخلي الخلَّاب الذي عمد الفيزيائيون المغامرون وآخَرون إلى فكِّ طلاسمه على مرِّ الزمان.
تقدير نطاق الكَوْن
تبدأ رحلتنا بالنطاقات البشرية؛ أي تلك التي نراها ونلمسها في حياتنا اليومية، وليس محض صدفة أن يكون المتر — وليس الواحد على المليون من المتر، أو العشرة آلاف متر — هو المقياس المُستخدَم في التعبير عن حجم الإنسان؛ فالمتر يساوي ضعف حجم الطفل الرضيع، ونصف حجم الرجل الناضج، وما كان سيُعَدُّ غريبًا حقًّا أن نكتشف أن الوحدة الأساسية التي نستخدمها في القياسات المعتادة تساوي واحدًا على المائة من حجم مجرة درب التبانة أو طول ساق النملة.
لا يمُتُّ أيٌّ من هذين التعريفين بأي صلة لنا نحن البشر. حاوَلَ الفرنسيون إيجادَ مقياس موضوعي يمكننا جميعًا الاتفاق عليه وتقبُّله، وقد وقع اختيارهم على التعريف الثاني لتجنُّب أي شكوك يفرضها الاختلاف الطفيف في قوة الجاذبية على سطح الأرض.
وهذا التعريف اعتباطي، فقد وُضِع لجعل مقياس المتر دقيقًا ومعياريًّا ليتَّفِق عليه الجميع، لكن الرقم عُشْر المليون لم يأتِ مصادفةً؛ ففي ظل التعريف الفرنسي الرسمي للمتر، من السهولة بمكان على الشخص العادي أن يمسك في يده عصا القياس المترية.
يبلغ طول معظمنا أقل قليلًا من مترين، لكن ما من أحد منَّا يبلغ طوله عشرة أمتار، أو حتى ثلاثة. فالمتر نطاق بشري؛ وعندما يقع حجم الأشياء في هذا النطاق، نتقبلها جيدًا، على الأقل إلى الحد الذي يمكننا ملاحظتها والتفاعل معها في إطاره (وإنْ كنَّا سنبتعد، بالتأكيد، عن التماسيح المُقدَّر طولها بالأمتار). ونحن على علم بقواعد الفيزياء السارية؛ نظرًا لأنها القواعد التي نشهدها في حياتنا اليومية. ويستند حدسنا إلى عمرنا الكامل الذي قضيناه في ملاحظة الأشياء والناس والحيوانات التي يمكن وصف حجمها على نحو معقول بالأمتار.
كَمْ يذهلني أحيانًا مدى محدودية منطقة الراحة التي نعيش داخلها. على سبيل المثال، لاعب كرة السلة الأمريكي، يواكيم نواه، هو صديق لأحد أقاربي، ولا نَملُّ أبدًا أنا وعائلتي من التعليق على طوله طوال الوقت، فنطَّلِع دومًا على الصور أو العلامات المحددة لطوله على أُطُر الأبواب على مدار سنوات عمره، ونبدي إعجابنا بكيفية إعاقته لرمية لاعب آخَر أصغر منه حجمًا. يواكيم طويل على نحو يجعل الجميع يتسمَّرُ أمامه، لكن الحقيقة هي أن طوله لا يزيد عن متوسط طول الآخَرين إلا بنسبة ١٥ في المائة فقط، وآلية عمل جسمه مماثلة لآلية عمل أي جسم آخَر. وقد تختلف النِّسَب المحددة، مما يمنح يواكيم ميزة ميكانيكية أحيانًا، ولا يمنحه إياها أحيانًا أخرى، لكن القواعد التي تتبعها عظامه وعضلاته هي نفسها القواعد التي يتبعها جسم أيٍّ منَّا.
لا تزال قوانين الحركة التي وضعها نيوتن في عام ١٦٨٧ توضِّح لنا ما يحدث عند التأثير على كتلة معينة بقوة ما. تسري هذه القوانين على العظام في جسمك، وعلى الكرة التي يُلقِيها يواكيم أيضًا، وباستخدام هذه القوانين يمكننا حساب مسار الكرة التي يرميها يواكيم هنا على سطح الأرض، والتنبؤ بالمسار الذي يسلكه كوكب عطارد عند دورانه حول الشمس. وعلى جميع هذه الأصعدة، توضِّح لنا قوانين نيوتن أن الحركة ستستمر بنفس السرعة إلا في حالة التأثير على الجسم بقوة ما؛ فهذه القوة من شأنها تعجيل حركة الجسم حسب كتلته، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
تسري قوانين نيوتن على نحو ممتاز على نطاقات الأطوال والسرعات والكثافات التي ندركها جيدًا، ولا تظهر التناقضات إلا في نطاق المسافات الصغيرة للغاية حيث تغيِّر ميكانيكا الكم القواعد، أو على السرعات العالية للغاية حيث تُطبَّق النسبية، أو على الكثافات الهائلة مثل تلك الموجودة في الثقوب السوداء حيث تكون الغلبة للنسبية العامة.
وآثار أي من النظريات الجديدة، التي تدحض قوانين نيوتن، ضئيلة للغاية، حتى إنه لا يمكن ملاحظتها في نطاق المسافات أو السرعات أو الكثافات المعتادة، لكن مع التصميم والتكنولوجيا، يمكننا الوصول إلى النُّظُم التي نواجِه فيها هذه القيود.
رحلة نحو الداخل
لا ريب أن العديد من الأجسام التي نعرفها يتشكَّل عن طريق تراكم الوحدات الأساسية الفردية له، بالإضافة إلى قدر ضئيل من التفاصيل أو البنية الداخلية ذات الأهمية، وهذه «النظم الشاملة» تنمو مثل الحوائط المكوَّنة من لبنات متعددة، فبوسعنا تكبير حجم الحوائط أو تصغيره عن طريق إضافة اللبنات أو إنقاصها، لكن الوحدة الوظيفية الأساسية تكون دومًا متماثلة، فالحائط الكبير يماثِل الحائط الصغير في نواحٍ عدة. يتضح هذا النوع من تدرُّج الحجم في العديد من النظم الكبيرة التي تنمو مع تزايد عدد المكونات الأساسية المتكررة لها، فينطبق ذلك مثلًا على العديد من المؤسسات الكبيرة وشرائح ذاكرة الكمبيوتر المكوَّنة من أعداد كبيرة من وحدات الترانزستور المتطابقة.
و«النمو الأُسِّي» هو أحد صور تدرُّج الحجم التي تنطبق على أنواع أخرى من النظم الضخمة. يحدث هذا النوع من النمو عندما تحدِّد الروابط — وليس العناصر الأساسية — سلوك النظام، فبالرغم من أن هذه النُّظُم تنمو أيضًا عن طريق إضافة الكثير من الوحدات المتماثلة، فإن سلوكها يعتمد على عدد الروابط بين هذه الوحدات الأساسية، وليس عدد الوحدات فحسب. وهذه الروابط لا تمتد للأجزاء المجاورة منها فحسب — كما الحال مع لبنات الحوائط — وإنما تمتد كذلك للوحدات الأخرى بجميع أنحاء النظام. ومن الأمثلة على ذلك الأجهزةُ العصبية المكوَّنَة من العديد من الروابط التشابكية، والخلايا التي تحتوي على الكثير من البروتينات المتفاعلة، وشبكة الإنترنت المكوَّنَة من عدد كبير من أجهزة الكمبيوتر المتصلة بعضها ببعض. إن هذا الموضوع جدير بالدراسة في حدِّ ذاته، وتتعامل بالفعل بعض أفرع الفيزياء مع السلوك الناشئ عن هذا النمو والذي يرى بالعين المجردة.
بالرغم من كل ذلك، فإن فيزياء الجسيمات الأولية لا تتعلق بالنظم المعقَّدة المتعددة الوحدات، وإنما تركِّز على تعريف المكونات الأولية والقوانين الفيزيائية التي تخضع لها هذه المكونات، فينصبُّ اهتمام أبحاثها على الكميات الفيزيائية الأساسية وما بينها من تفاعلات. ولا شك أن هذه المكونات الصغيرة ترتبط بالسلوكيات الفيزيائية المعقَّدَة التي تتضمن العديدَ من المكونات التي تتفاعل بصور مثيرة للاهتمام. بَيْدَ أن التعرُّف على أصغر المكونات الأساسية، والنهج الذي تتبعه في سلوكها، هو ما يعنينا هنا.
تتميز أيضًا المكونات الفردية للنظم الكبيرة — سواء في مجال التكنولوجيا أو الأحياء — ببنية داخلية؛ فتتألَّف أجهزة الكمبيوتر من معالجات دقيقة مصنوعة بدورها من وحدات الترانزيستور، وعندما يفحص الأطباء الجسم البشري، يعثرون على أعضاء وأوعية دموية وغير ذلك من المكونات العديدة التي نراها عند تشريح الأجسام، والتي تتكون بدورها من خلايا وحمض نووي ريبي منزوع الأكسجين (دي إن إيه)، وهي العناصر التي يتعذَّر رؤيتها إلا باستخدام تكنولوجيا أكثر تقدُّمًا. وما من تشابه على الإطلاق بين عمل هذه العناصر الداخلية وما نراه عند ملاحظتنا أسطح الأجسام الخارجية؛ فالعناصر عند النطاقات الأصغر حجمًا تتغير، وأفضل وصف للقواعد التي تتبعها هذه العناصر يتغيَّر أيضًا.
وبما أن تاريخ دراسة علم وظائف الأعضاء يتشابه من نواحٍ عدة مع دراسة القوانين الفيزيائية، ويتناول بعض نطاقات الطول المثيرة للاهتمام عند البشر، فعلينا التفكير لحظات في أنفسنا، وفي كيفية إدراك بعض جوانب وظائف الجسم الداخلية المألوفة لدينا قبل أن ننتقل إلى الفيزياء والعالم الخارجي.
أيضًا، لم يتمكَّن أحدٌ من فهم الدورة الدموية أو نظام الشعيرات الدموية الذي يربط بين الشرايين والأوردة إلا في أوائل القرن السابع عشر، عندما أجرى ويليام هارفي تجاربَ دقيقةً لاستكشافِ تفاصيل القلب والشبكات الدموية في الحيوان والإنسان. ورغم أن هارفي كان إنجليزي الأصل، فقد درس الطب في جامعة بادوَا بإيطاليا؛ حيث تعلَّمَ الكثيرَ من معلِّمه هيرونيموس فابريشيوس الذي اهتمَّ بتدفُّق الدم، لكنه أساءَ فهم دور الأوردة وصماماتها.
لم يغيِّر هارفي مفهومنا عن الأجزاء التي تلعب دورًا فعليًّا في الدورة الدموية فحسب — نتحدث هنا عن شبكات الأوردة والشرايين التي تحمل الدم في شبكة متفرعة، وصولًا إلى الشعيرات الدموية التي تعمل في نطاقات أصغر — وإنما اكتشف أيضًا العمليةَ التي يجري بها ذلك؛ فالدم يُنقَل من الخلايا وإليها بصور لم يسبق لأحد توقُّعها إلى أن أُجرِيت الأبحاث في هذا الشأن. ولم يكتشف هارفي كتالوجًا فحسب، وإنما نظامًا جديدًا بالكامل.
رغم ذلك، لم يمتلك هارفي الأدوات التي تمكِّنه من اكتشاف نظام الشعيرات الدموية من الناحية الفيزيائية، وهو الأمر الذي لم ينجح مارشيللو مالبيجي في تحقيقه إلا في عام ١٦٦١. وقد تضمَّنَت اقتراحات هارفي فرضياتٍ قائمةً على مجادلات نظرية لم تؤكِّد التجاربُ صحتَها إلا فيما بعدُ. ومع أن هارفي قدَّمَ رسومًا مفصَّلة في هذا الشأن، فإنه لم يتمكَّن من الوصول للمستوى ذاته من الدقة الذي وصل إليه مستخدمو المجهر، مثل ليونهوك، في وقت لاحق.
يتكوَّن النظام الدوري في جسم الإنسان من خلايا دم حمراء، وهذه العناصر الداخلية لا يتجاوز طولها سبعة ميكرومترات؛ أي ما يساوي نحو واحد على مائة ألف من حجم العصا المترية، ويقل هذا الحجم ١٠٠ مرة عن سُمْك البطاقة الائتمانية؛ أي ما يساوي تقريبًا حجم قطيرة الضباب، وأصغر ١٠ مرات مما نراه بالعين المجردة (وهو ما يقلُّ بدوره بعض الشيء عن خصلة شعر الإنسان).
لا شك أن تدفُّق الدم ودورانه ليس العملية الوحيدة في الجسم البشري التي أزاح الأطباء الستار عن أسرارها بمرور الوقت، ولم يتوقف كذلك استكشاف البنية الداخلية للجسم البشري عند نطاق الميكرومتر؛ فقد تكرَّرَ اكتشاف العناصر والنُّظُم الجديدة كليةً منذ ذلك الحين في نطاقات متتابعة الصِّغَر، سواء في الإنسان أو النظم الفيزيائية غير الحية على حدٍّ سواء.
وعند حجم عُشْر الميكرون تقريبًا — أصغر من المتر بعشرة ملايين مرة — نجد الحمض النووي (الدي إن إيه) الذي يمثِّل اللَّبِنة الأساسية في تركيب جميع الكائنات الحية، ويلعب الدور المحوري في تشفير المعلومات الوراثية لهذه الكائنات. وهذا الحجم أكبر من الذرة بنحو ١٠٠٠ مرة، لكنه مع ذلك يمثِّل نطاقًا تلعب فيه الفيزياء الجزيئية (أي الكيمياء) دورًا مهمًّا. ورغم أننا لم نستوعب بعدُ العملياتِ الجزيئيةَ التي تجري داخل الدي إن إيه استيعابًا كاملًا، فإن هذه العمليات هي الأساس لصور الحياة المتعددة بجميع أنحاء كوكب الأرض. وتشتمل جزيئات الدي إن إيه على ملايين النيوكليوتيدات؛ لذا لا عجب في أهمية الدور الذي تلعبه الروابط الذرية الميكانيكية الكمية.
الدي إن إيه في حدِّ ذاته يمكن تصنيفه على مستويات مختلفة من النطاقات؛ فمع بنيته الجزيئية الملتفة، يمكن أن يُقاس طولُ الدي إن إيه البشري بوحدة المتر، لكنَّ الجدائلَ التي يتكوَّن منها لا يتجاوز عَرْضُها اثنين من الألف من الميكرون؛ أي ما يساوي نانومترين، وهذا أصغر من أصغر بوابة ترانزستور في أي معالج دقيق، والتي يبلغ حجمها ٣٠ نانومترًا. والنيوكليوتيد الواحد لا يتجاوز طوله ٠٫٣٣ نانومتر، وحجمه يقارب حجم جزيء الماء. وطول الجين الواحد يساوي ما يتراوح بين ١٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠٠ نيوكليوتيد؛ ومن ثَمَّ فإن أكثر الأوصاف دقةً للجين هي تلك التي تنطوي على أسئلة مختلفة عمَّا قد نطرحه بشأن النيوكليوتيدات الفردية؛ ومن ثَمَّ فإن الدي إن إيه يعمل بصور مختلفة في نطاقات الطول المتباينة. وعند تناول الدي إن إيه، يطرح العلماء أسئلةً مختلفةً ويستخدمون أوصافًا مختلفة في نطاقات متباينة.
تتشابه الأحياء مع الفيزياء من حيث إن الوحدات الصغيرة تنشأ عنها البنيةُ التي نراها في النطاقات الكبيرة، لكن علم الأحياء يشمل ما هو أكثر من مجرد فهم العناصر الفردية للنُّظُم الحية؛ فأهداف علم الأحياء أكثر طموحًا بكثير. ورغم إيماننا بأن العمليات التي تجري في الجسم البشري تستند إلى قوانين الفيزياء، فإن الأنظمة البيولوجية الوظيفية معقَّدةٌ وإشكاليةٌ، وتؤدِّي عادةً إلى نتائج يصعب التنبؤ بها. وتفكيكُ الوحداتِ الأساسية وآلياتِ التغذية الراجعة المعقَّدَة مهمَّةٌ صعبةٌ للغاية، ويزيد من تعقيدها الرياضيات التوافقية للشفرة الوراثية. وحتى مع معرفة الوحدات الأساسية، سنظل أمام مهمة جسيمة، وهي تحليل العلوم الناشئة الأكثر تعقيدًا، لا سيما المسئولة منها عن الحياة.
الفيزيائيون أيضًا لا يمكنهم دومًا فهم العمليات التي تحدث في النطاقات الكبيرة من خلال استيعاب بنية الوحدات الفرعية الفردية، لكن أغلب النُّظُم الفيزيائية أبسط في هذا الشأن من النُّظُم البيولوجية؛ فمع أن البنية المركبة تتسم بالتعقيد، وقد تشتمل على خصائص مختلفة تمامًا عن الوحدات الأصغر، يقل حجم الدور الذي تلعبه آليات التغذية الراجعة والبنية المتطورة عادةً في الفيزياء. ويُعَدُّ العثورُ على أبسط المكونات الأولية هدفًا مهمًّا لدى الفيزيائيين.
النطاقات الذرية
يكوِّن الناس صورًا في مخيلتهم لشرح العمليات الفيزيائية التي تحدث في هذه النطاقات الصغيرة، لكن هذه الصور تعتمد بالضرورة على القياس، فما من خيار أمامنا سوى تطبيق الأوصاف التي نعرفها من واقع خبراتنا بنطاقات الأطوال المعتادة، لوصف بنية مختلفة كليةً وتعكس سلوكًا غريبًا ومناقضًا للبديهة.
يعني ذلك أن الفحصَ الدقيق للذرة باستخدام الضوء المرئي في محاولة لرؤية ما بداخلها بأعيننا المجردة أمرٌ مستحيل، شأنه شأن إدخال خيط في إبرة بينما ترتدي قفَّازًا يكسو الأصابع الأربع معًا والإبهام منفردًا. فالأطوال الموجية للضوء المرئي تُرغِمنا دون أن ندري على تجاوُز الأحجام الصغيرة التي لا يمكن لهذه الموجات الممتدة الوصول إليها أبدًا؛ ومن ثَمَّ فإن الرغبة في «رؤية» الكواركات أو البروتونات — بالمعنى الحرفي لكلمة «رؤية» — أمر محال. نحن ببساطة لا نملك القدرة على رؤية ما يوجد داخل الذرة بدقة.
لكن الخلطَ بين قدرتِنا على تصوُّر الظواهر وثقتِنا في صحتها خطأٌ لا يمكن للعلماء الوقوع فيه؛ فعدم الرؤية، أو حتى تكوين صورة ذهنية، لا يعني أنه لا يمكننا الاستدلال على العناصر الفيزيائية أو العمليات التي تجري في هذه النطاقات.
ليس هذا ما نلاحظه أو نلمسه عندما نمسك بباب ما أو نشرب سائلًا باردًا باستخدام ماصة؛ فحواسنا تجعلنا نظن أن المادة شيء ثابت، لكن على مستوى النطاقات الذرية نجد أن المادة تخلو في أغلبها من أي شيء جوهري. إننا نتعامَلُ بحواسنا مع أحجام كبيرة تجعل المادة تبدو لنا صلبةً وثابتة، لكنها ليست كذلك على مستوى النطاقات الذرية.
تقضي ميكانيكا الكم بأن الإلكترونات لا تشغل مواضعَ ثابتة داخل الذرات، مثلما قد يبدو من تصوُّرنا التقليدي لها. وتوضِّح لنا توزيعات الاحتمالات أن الإلكترونات توجد في الغالب في أي نقطة بعينها في الفضاء، وهذه الافتراضات هي كل ما نعرفه؛ ومن ثَمَّ يمكننا التنبؤ بمتوسط موضع الإلكترون كدالة زمنية، لكن أي قياس محدَّد للموضع سيكون عُرْضة لمبدأ عدم اليقين.
جدير بالذكر هنا أن هذه التوزيعات ليست اعتباطية؛ فلا يمكن للإلكترونات أن تملك أي توزيع احتمالات قديم أو طاقة قديمة. وما من أسلوب تقليدي جيد لوصف مدار الإلكترون، ولا يمكن وصفه إلا من وجهة نظر احتمالية. لكن توزيعات الاحتمالات هي في الواقع دالات محددة؛ فباستخدام ميكانيكا الكم، يمكن كتابة معادلة تصف الحل الموجي لأحد الإلكترونات، وهي المعادلة التي ستوضِّح لنا احتمالية وجود هذا الإلكترون في أي موضع في الفضاء.
من سمات الذرة الأخرى المميزة من وجهة نظر فيزياء نيوتن التقليدية أن الإلكترونات داخل الذرة لا يمكن أن تشغل سوى مستويات طاقة محدَّدة الكمية. وتعتمد مدارات الإلكترونات على طاقاتها، وهذه المستويات المحددة من الطاقة وما يرتبط بها من احتمالات لا بد أن تتسق مع قواعد ميكانيكا الكم.
والمستويات المحددة الكمية للإلكترونات ضروريةٌ لفهم الذرة. ففي مطلع القرن العشرين، تمثَّلَتْ إحدى النقاط المهمة التي أوضحت أن القواعد التقليدية عليها أن تتغيَّر جذريًّا في أن الإلكترونات التي تدور حول النواة ليست ثابتة. فتلك القواعد تقضي بأن الإلكترونات تبث طاقةً؛ ومن ثَمَّ لا بد أن تسقط سريعًا نحو المنتصف. ولم يكن ذلك بعيدًا كلَّ البُعْد فقط عن طبيعة الذرة، وإنما ما كان ليسمح أيضًا بتشكل بنية المادة التي تنشأ من ذرات مستقرة كما نعلم.
واجه نيلز بور في عام ١٩١٢ اختيارًا صعبًا؛ أَلَا وهو التخلي عن الفيزياء التقليدية أو التخلي عن إيمانه بالواقع المرصود. وكان بور حكيمًا في اختياره؛ إذ اختار التخلِّي عن الفيزياء التقليدية، وافترض أن قوانينها لا تنطبق على المسافات الصغيرة التي تحتلها الإلكترونات داخل الذرة. وكانت هذه إحدى الأفكار المتبصرة الأساسية التي أدَّتْ إلى تطوير فيزياء الكم.
ما إن تخلَّى بور عن قوانين نيوتن — على الأقل في هذا النظام المحدود — حتى تمكَّنَ من التسليم بأن الإلكترونات تشغل مستويات طاقة ثابتة، وذلك وفقًا لحالة كمية افترضها. وتتضمن هذه الحالة كمية تُسمَّى «الزخم الزاوي الدائري». ووفقًا لبور، فإن هذه القاعدة الكمية التي وضعها تنطبق على النطاق الذري، وقد اختلفت هذه القواعد عن تلك التي نستخدمها في النطاقات العيانية، مثلما الحال في دوران الأرض حول الشمس.
من الناحية الفنية، تنطبق ميكانيكا الكم على هذه الأنظمة العيانية أيضًا، لكن آثارها أقل بكثير من أن تُقاس أو تُلاحَظ. فعندما تلاحظ مدار الأرض أو أي جسم عياني آخَر، يمكن تجاهُل ميكانيكا الكم، فتتساوى الآثار في هذه القياسات بحيث يتفق أي تنبؤ مع نظيره التقليدي. وكما أوضحنا في الفصل الأول من هذا الكتاب، تظل التنبؤات التقليدية المتعلقة بقياسات النطاقات العيانية، بوجه عام، تقديرات جيدة للغاية، جيدة لدرجة أنه لا يمكنك تمييز أن ميكانيكا الكم هي في الواقع البنية الأساسية الأعمق لها. ومن أمثلة التنبؤات التقليدية الكلمات والصور الظاهرة على شاشة كمبيوتر فائقة الدقة؛ فالأساس الذي تقوم عليه هو البكسلات العديدة التي تشبه البنية التحتية الذرية الميكانيكية الكمية. لكن الصور أو الكلمات هي كل ما نحتاج إلى رؤيته (أو نريد رؤيته) بوجه عام.
تشكِّل ميكانيكا الكم تغيرًا في النموذج الفكري لا يتضح إلا في النطاق الذري. وبالرغم من افتراض بور المتطرف، فإنه لم يتخلَّ عمَّا كان معلومًا من قبلُ؛ فلم يفترض أن فيزياء نيوتن التقليدية خاطئة، وإنما افترض فقط أن القوانين التقليدية لا تسري على الإلكترونات داخل الذرة. والمادة العيانية، التي تتألَّف من عدد كبير من الذرات بحيث يتعذَّر تمييزُ الآثار الكمية بها، تنطبق عليها قوانين نيوتن، على الأقل على المستوى الذي يمكن لأي شخص قياس نجاح التنبؤات عنده. ليست قوانين نيوتن خاطئة، ونحن لا نغضُّ الطرف عنها في النطاق الذي تنطبق عليه، لكن في النطاق الذري، لم يكن هناك مفرٌّ من فشل قوانين نيوتن. وقد فشلت هذه القوانين على نحو واضح ومثير، الأمر الذي أدَّى إلى تطوير قواعد جديدة لميكانيكا الكم.
الفيزياء النووية
بينما نواصل التقدم في رحلتنا المتوغلة داخل النطاقات الأصغر وانتقالنا من الذرة إلى النواة، نواصل مشاهدة أوصاف مختلفة، ومكونات أساسية متباينة، بل قوانين فيزيائية مختلفة أيضًا. لكن النموذج الفكري الأساسي لميكانيكا الكم يظل كما هو بلا تغير.
سنستكشف الآن داخل الذرة بنية داخلية يبلغ حجمها حوالي ١٠ فمتومترات، وهو الحجم النووي المساوي لواحد على المائة من النانومتر. وبقدر ما تمكَّنَّا من قياسه حتى الآن، تمثِّل الإلكترونات مكونات أساسية للمادة؛ إذ لا يبدو أنها تتكون من مكونات أصغر. على الجانب الآخَر، لا تُعَدُّ النواة مكوِّنًا أساسيًّا؛ فهي تتكون من عناصر أصغر تُعرَف بالنويَّات، والنويَّات بدورها إما بروتونات أو نيوترونات؛ تحمل البروتونات شحنة كهربية موجبة، أما النيوترونات فمتعادلة الشحنة؛ أي إنها ليست موجبة أو سالبة.
ومن سبل فهم طبيعة البروتونات والنيوترونات إدراك أنها ليست مكوِّنات أساسية للمادة هي الأخرى. ملأ الحماس جورج جاموف، عالم الفيزياء النووية ومبسط العلوم العظيم، بشأن اكتشاف البروتونات والنيوترونات، حتى إنه ظن أنها تمثِّل «أقصى الحدود الداخلية»؛ بمعنى أنه اعتقد أنه لا توجد بنية ثانوية أدق من ذلك، ووردت على لسانه الكلمات التالية:
انطوى ذلك على شيء من ضيق الأفق، أو بالأحرى لم يكن بالقدر الكافي من ضيق الأفق؛ فثمة بنية تحتية أدق بالفعل — مكونات أصغر من البروتونات والنيوترونات — لكن العثور على هذه العناصر الجوهرية كان عسيرًا؛ فاستلزم ذلك أن يكون المرء قادرًا على دراسة نطاقات الطول الأصغر من البروتون والنيوترون، الأمر الذي تطلَّبَ مستويات أعلى من الطاقة، أو أدوات فحص أصغر من تلك التي كانت متوفرة في الوقت الذي توصَّلَ فيه جاموف إلى تنبُّئِه غير الدقيق.
تُسمَّى القوة النووية القوية بهذا الاسم لأنها قوية؛ وهذا اقتباس لعبارة قالها أحد الفيزيائيين الزملاء بالفعل. ورغم ما يبدو عليه ذلك من سخف، فهو يعبِّر عن الحقيقة بالفعل؛ ولهذا توجد الكواركات دومًا مرتبطة بعضها ببعض في صورة جسيمات، مثل البروتونات والنيوترونات، وهي الجسيمات التي يتلاشى داخلها الأثرُ المباشِرُ للقوة النووية القوية. وتبلغ هذه القوة من الشدة درجةً يستحيل معها العثور على المكونات الفردية المتفاعلة بواسطتها على نحو منفصل.
رغم أن هذا الوصف صحيح ومنصف تمامًا، ينبغي توخِّي الحذر عند تفسيره، فلا مفر من أن يظن المرء أن الكواركات مرتبطة جميعًا بعضها ببعض داخل غشاء فاصل ملموس لا يمكنها الفرار منه. في الواقع، يتعامل أحد نماذج النظم النووية مع البروتونات والنيوترونات من هذا المنطلق، لكن هذا النموذج — على عكس النماذج الأخرى التي سنتناولها لاحقًا — ليس افتراضًا لما يحدث بالفعل، فهو لم يهدف إلا لإجراء حسابات في نطاق مسافات وطاقات تتسم فيها القوى بشدة لا تنطبق عليها الأساليب المألوفة لدينا.
والبروتونات والنيوترونات ليست كالنقانق؛ فما من غلاف صناعي يحيط بالكواركات داخل البروتون، فالبروتونات مجموعات ثابتة من ثلاثة كواركات ترتبط معًا بفعل القوة القوية. ونظرًا للتفاعلات القوية، تعمل هذه الكواركات الثلاثة الخفيفة على نحو متناغم كجسيم واحد، سواء أكان نيوترونًا أم بروتونًا.
من النتائج الأخرى المهمة للقوة القوية — وميكانيكا الكم — التكوين السريع لجسيمات «افتراضية» داخل البروتون أو النيوترون، وهي الجسيمات التي تسمح بها ميكانيكا الكم ولا تستمر للأبد، لكنها تساهم بقدر من الطاقة خلال أي فترة زمنية معينة. فالكتلة (ومن ثمَّ، الطاقة وفق ما تنص عليه معادلة أينشتاين: الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء) داخل البروتون أو النيوترون لا تحملها الكواركات نفسها فقط، وإنما أيضًا الروابط التي تربط بينها. والقوة القوية تشبه الشريط المرن الذي يربط كرتين معًا ويحمل في حد ذاته الطاقة، و«انتزاع» الطاقة المخزنة يسمح بتكون جسيمات جديدة.
وما دام صافي شحنة الجسيمات الجديدة يساوي صفرًا، فإن تكوُّنَ هذه الجسيمات من الطاقة الموجودة في البروتون لا ينتهك أي قوانين فيزيائية متعارَف عليها. على سبيل المثال، لا يمكن للبروتون ذي الشحنة الموجبة أن يتغيَّر فجأةً إلى جسيم متعادل الشحنة عند تكوُّن الجسيمات الافتراضية.
فضلًا عن الكواركات والكواركات المضادة، يشتمل «بحر البروتونات» (وهذا هو المصطلح العلمي) — الذي يحتوي على جسيمات افتراضية — على جلوونات أيضًا. والجلوونات جسيمات تعمل على توصيل القوة القوية، وهي مماثلة للفوتونات التي تتبادلها الجسيمات ذات الشحنات الكهربائية لإحداث تفاعلات كهرومغناطيسية. تعمل الجلوونات (ثمَّة ثمانية أنواع مختلفة منها) على نحو مشابه لتوصيل القوة النووية القوية، فتتبادلها الجسيمات التي تحمل الشحنة التي تؤثِّر عليها القوة القوية، ويؤدي تبادلها إلى تجاذب الكواركات أو تنافرها.
لكن بخلاف الفوتونات، التي لا تحمل شحنة كهربائية ومن ثَمَّ لا تتعرض مباشرةً لتأثير القوة الكهرومغناطيسية، تتعرض الجلوونات نفسها لتأثير القوة القوية. لذا، بينما تنقل الفوتونات القوة على مدى مسافات هائلة — الأمر الذي يمكِّننا من تشغيل التلفاز وتلقِّي إشارات صدرت من على بعد أميال عديدة — لا يمكن للجلوونات، مثل الكواركات، أن تنتقل بعيدًا دون تفاعل، فهي تربط الأجسام على مدى نطاقات صغيرة مقاربة لحجم البروتون.
الآن، وبعد أن تعمَّقْنا حتى وصلنا إلى مستوى الكواركات التي تربطها معًا القوةُ النووية القوية، كنتُ أود أن يكون بوسعي إخباركم بما يحدث عند نطاقات أصغر من ذلك. هل ثمة بنية داخل الكوارك أو داخل الإلكترون؟ حتى الآن، ما من دليل لدينا على ذلك، وما من تجربة حتى الآن قدَّمَتْ أي دليل على أي بنية تحتية أصغر من ذلك؛ لذا فإن الكواركات والإلكترونات تمثِّل نهاية رحلتنا داخل المادة، حتى الآن.
لكن مصادم الهادرونات الكبير يستكشف الآن نطاقًا من الطاقة يزيد عن النطاقات المرتبطة بكتلة البروتون بأكثر من ١٠٠٠ مرة؛ ومن ثم، فإن المسافة التي يدرسها أصغر بأكثر من ١٠٠٠ مرة من هذه النطاقات أيضًا. يحقِّق مصادم الهادرونات الكبير أهم إنجازاته بتحقيق التصادم بين حزمتي بروتونات عُجِّلَتَا إلى مستوًى مرتفع للغاية من الطاقة يفوق أي مستوًى تمَّ التوصل إليه من قبلُ على سطح الأرض، وتحتوي حزم البروتونات في مصادم الهادرونات الكبير على بضعة آلاف من مجموعات الجسيمات، تشمل ١٠٠ مليار من البروتونات المتصافة أو المتوازية التي تتركز في حزم صغيرة تدور في النفق الموجود تحت الأرض. ويوجد كذلك في المصادم ١٢٣٢ مغناطيسًا فائق التوصيل حول الحلقة للحفاظ على البروتونات داخل أنبوب الحزم، بينما تعجِّل المجالات الكهربائية هذه الحزم لتصل بها إلى مستويات عالية من الطاقة. وهناك مغناطيسات أخرى (٣٩٢ مغناطيسًا على وجه التحديد) تُعِيد توجيه الحزمتين بحيث تتوقَّفَان عن التدفق كلٌّ منهما بجوار الأخرى وتتصادمان بدلًا من ذلك.
عند التقاء البروتونات، تتصادم الكواركات والجلوونات أحيانًا بقدر هائل من الطاقة في منطقة شديدة التركيز، الأمر الذي يشبه كثيرًا تصادُمَ الحصى الموجود داخل بالون معًا. ويوفر مصادم الهادرونات الكبير هذا القدر الهائل من الطاقة، الأمر الذي يساعد في ارتطام المكونات الفردية للبروتونات المتصادمة معًا. تشمل هذه الجسيمات الكواركين العلويين والكوارك السفلي، وهي الكواركات المسئولة عن شحنة البروتون، لكن في ظل الطاقات الموجودة في مصادم الهادرونات الكبير، تحمل الجسيمات الافتراضية أيضًا قدرًا كبيرًا من طاقة البروتون. وبالإضافة إلى الكواركات الثلاثة التي تساهم في شحنة البروتون في مصادم الهادرونات الكبير، يتصادم «بحر» البروتونات الافتراضي أيضًا.
عندما يحدث ذلك — وهنا يكمن سر فيزياء الجسيمات برمتها — يمكن أن تتغيَّر أعداد الجسيمات وأنواعها. والنتائج الجديدة لمصادم الهادرونات الكبير من المفترض أن تمنحنا مزيدًا من المعرفة بشأن المسافات والأحجام الصغيرة، وإلى جانب منحنا معلومات حول البنية التحتية المحتملة، من المفترض أن يوضِّح لنا المصادم كذلك جوانب أخرى من العمليات الفيزيائية التي قد تكون ذات صلة بالمسافات الصغيرة. وطاقات مصادم الهادرونات الكبير هي الحد التجريبي النهائي القصير المدى، على الأقل لفترة من الوقت.
تجاوز حدود التكنولوجيا
أنهينا بذلك رحلتنا التمهيدية في النطاقات الصغيرة التي يمكن الوصول إليها بواسطة التكنولوجيا الحالية، أو حتى المُتخيَّلة، لكن القيود الحالية للقدرة البشرية على الاستكشاف لا تقيد من طبيعة الواقع. وحتى إن بدا أننا سنواجه صعوبةً في تطوير تكنولوجيا تمكِّننا من استكشاف نطاقات أصغر كثيرًا، فسيظل بإمكاننا محاولة الاستدلال على البنية والتفاعلات في هذه النطاقات باستخدام النقاشات الرياضية والنظرية.
لقد قطعنا شوطًا كبيرًا منذ عصر الإغريق، فصرنا نعرف الآن أنه في غياب الأدلة التجريبية، يستحيل التيقُّن مما يوجد في هذه النطاقات الدقيقة التي نبغي فهمها، لكن حتى في ظل غياب القياسات، يمكن للأدلة النظرية أن ترشدنا فيما نجريه من استكشافات، وتشير إلينا بالنهج الذي يمكن أن تنهجه القوى والمادة عند نطاقات الأطوال الأدق حجمًا. ويمكننا التحقق من الاحتمالات التي يمكن أن تساعد في تفسير الظواهر التي تحدث عند نطاقات قابلة للقياس، والربط بينها، حتى إن لم يكن من الممكن الوصول للمكونات الأساسية على نحو مباشر.
لا نعلم إلى الآن أيٌّ من أفكارنا التنبُّئية النظرية ستثبت صحتها، هذا إن حقَّقت أيٌّ منها ذلك بالفعل. لكن حتى دون الوصول مباشَرةً للمسافات الصغيرة للغاية عن طريق التجارب، فإن النطاقات التي لاحظناها تقيِّد ما يمكن أن يوجد باستمرار؛ وذلك لأنها تمثِّل النظرية الأساسية التي تحدِّد في النهاية ما نراه. ومعنى ذلك أن النتائج التجريبية — حتى في نطاقات المسافات الكبرى — تحدُّ من الاحتمالات وتحفِّزنا على التكهُّن في اتجاهات محددة.
وبما أننا لم نستكشف بعدُ هذه الطاقات، فمعلوماتنا عنها محدودة. ويتكهن البعض أيضًا بوجود فراغ هائل — أي ندرة في الطاقات والأطوال ذات الأهمية — بين الطاقات والأطوال الموجودة في مصادم الهادرونات الكبير وتلك التي تنطبق على مسافات أقصر أو طاقات أعلى. ولعل ذلك يرجع إلى افتقار للخيال أو البيانات المستخدمة، لكن في نظر الكثيرين، النطاق المثير التالي يتعلَّق ﺑ «التوحيد».
فأحد أكثر التوقعات إثارةً بشأن المسافات القصيرة يتعلَّق بتوحيد القوى على المسافات القصيرة، وهو المبدأ الذي يشحذ المخيلة العلمية ومخيلة العامة على حدٍّ سواء. وفقًا لهذا السيناريو، يفشل العالم الذي نراه من حولنا في الكشف عن النظرية الجوهرية الأساسية التي تضم جميع القوى المعروفة (أو على الأقل جميع القوى بخلاف الجاذبية) وما تتسم به من جمال وبساطة. وقد عمد الكثير من الفيزيائيين إلى البحث بكدٍّ عن مثل هذا التوحيد منذ إدراك وجود أكثر من قوة واحدة للمرة الأولى.
ومن بين هذه النتائج المحتملة تحلل البروتون. وفقًا لنظرية جورجي وجلاشو — التي تقترح تفاعلات جديدة بين الكواركات واللبتونات — من المفترض أن البروتونات تتحلَّل، ومع الوضع في الاعتبار الطبيعة الخاصة لاقتراح هذين العالِمَين، يمكن للفيزيائيين حساب معدل حدوث هذا التحلل، لكن لم يُعثَر حتى الآن على أي دليل تجريبي على التوحيد، بعيدًا عن اقتراح جورجي وجلاشو، ولا يعني ذلك بالضرورة خطأ فكرة التوحيد؛ فربما تكون النظرية أكثر تعقيدًا مما اقترحاه.
توضِّح دراسة التوحيد أن بإمكاننا توسيعَ نطاقِ معرفتنا ليتجاوز حدود النطاقات التي نلاحظها ملاحظةً مباشِرة. فباستخدام النظريات، يمكننا استنتاج ما تأكَّدنا تجريبيًّا من أنه طاقات لا يمكن الوصول إليها. وأحيانًا، يحالفنا الحظ، فتفرض التجارب الجيدة نفسها، ما يسمح لنا باختبار ما إذا كان ما توصَّلنا إليه من استنتاجات يتفق مع البيانات أم إنها استنتاجات ساذجة. ففي حالة نظريات التوحيد الكبرى، سمحت تجاربُ تحلُّلِ البروتونات للعلماء بالدراسة غير المباشرة للتفاعلات عند مسافات أدق مما يُسمَح بملاحظتها مباشرةً. وأحد الدروس المستفادة من هذا المثال هو أننا نحصل أحيانًا على معلومات دقيقة مهمة بشأن المادة والقوى، بل نصل أيضًا إلى سبل لتوسيع نطاق آثار تجاربنا لتشمل الطاقات الأعلى والظواهر الأكثر شمولًا، عن طريق التنبؤ بنطاقات المسافات التي تبدو للوهلة الأولى أبعد من أن تكون ذات صلة.
هذا الافتقار للفحص الدقيق التجريبي لطول بلانك يمكن أن يتجاوز كونه مظهرًا لمحدودية الخيال أو التكنولوجيا أو حتى التمويل لدينا، فعدم القدرة على الوصول إلى المسافات الصغيرة يمكن أن يكون قيدًا حقيقيًّا تفرضه قوانين الفيزياء. ومثلما سنرى في الفصل التالي، توضِّح لنا ميكانيكا الكم أن الفحص الدقيق للمسافات الصغيرة يتطلب طاقات عالية، لكن بمجرد أن تصير الطاقة المُحاصَرة في منطقةٍ صغيرةٍ كبيرةً للغاية، تنهار المادة مخلفة ثقبًا أسود، وفي هذه المرحلة، تكون الغلبة للجاذبية، وتؤدي زيادة الطاقة إلى جعل الثقوب السوداء أكبر حجمًا، وليس أصغر، وهو الأمر الاعتيادي في المواقف العيانية المألوفة حيث تلعب ميكانيكا الكم دورًا محدودًا وحسب. نحن لا نعلم كيف نستكشف أي مسافة أصغر من طول بلانك. وزيادة الطاقة لا تفيد، كما أن الأفكار التقليدية بشأن الفضاء لا تنطبق على هذا الحجم الدقيق.
في محاضرة ألقيتُها مؤخَّرًا، وبعد أن أوضحت الوضع الراهن لفيزياء الجسيمات واقتراحاتنا بشأن الطبيعة المحتملة للأبعاد الإضافية، ذكَّرني أحد الأشخاص بعبارة كنتُ قد نسيت تصريحي بها عن الحدود المحتملة لمفهوم الزمكان، وسُئِلت كيف يمكنني التوفيق بين التكهُّنات المتعلقة بالأبعاد الإضافية وفكرة تعطُّل الزمكان.
وبغض النظر عمَّا إذا كان تعطُّلُ الزمكان صحيحًا أم لا، فإن إحدى الخصائص المهمة لطول بلانك التي من المؤكد أن تُثبِت لنا المعادلاتُ صحتَها، هي أنه عند هذه المسافة، ستصير الجاذبية — التي تتسم بقدرتها الضعيفة عند تأثيرها على الجسيمات الأساسية عند مسافات يمكننا قياسها — قوة قوية مكافئة للقوى الأخرى التي نعرفها. فعند طول بلانك، لا تنطبق الصيغة القياسية للجاذبية وفقًا لنظرية النسبية لأينشتاين. وعلى عكس المسافات الكبرى التي نعرف كيف نُجرِي بشأنها التنبؤات بحيث تتَّفِق جيدًا مع القياسات، لا تتسق ميكانيكا الكم والنسبية عندما نطبِّق النظريات التي نستخدمها بوجه عام في هذا النظام الدقيق، بل إننا لا نعلم كيف نحاول إجراء التنبؤات. تقوم النسبية العامة على الهندسة المكانية الكلاسيكية. وعند طول بلانك، يمكن للتفاوتات الكمية أن تتسبَّبَ في تكوُّن زبد الزمكان ببنية كبيرة للغاية تمنع تطبيق الصيغة التقليدية للجاذبية عليه.
لذا، ولكي نتناول التنبؤات الفيزيائية في نطاق بلانك، نحتاج إلى إطار مفاهيمي جديد يجمع بين ميكانيكا الكم والجاذبية في نظرية واحدة أكثر شمولًا تُعرَف باسم «الجاذبية الكمية». والقوانين الفيزيائية التي تنطبق بفعالية على نطاق الكم لا بد أن تكون مختلفة كليةً عن القوانين التي أثبتت نجاحها مع النطاقات القابلة للرصد، وفهم هذا النطاق من المحتمل أن يتضمَّنَ تحوُّلًا جوهريًّا في النموذج الفكري، شأنه شأن التحول من الميكانيكا الكلاسيكية إلى ميكانيكا الكم. وحتى إن لم نتمكن من إجراء القياسات عند أدق المسافات، أمامنا فرصة لمعرفة النظرية الأساسية للجاذبية، والمكان، والزمان، من خلال التكهنات النظرية التي تتطور باستمرار.
وهكذا، قد يتوارد على الذهن سؤال منطقي يتعلَّق بما إذا كانت دراسة نظرية الأوتار تستحق ما يُبذَل فيها من وقت وموارد أم لا. كثيرًا ما يُطرَح عليَّ هذا السؤال: ما الذي يدفع أي شخص لدراسة نظرية من المستبعد تمامًا أن تؤدي إلى نتائج تجريبية؟ يرى بعض الفيزيائيين الاتساق الرياضي والنظري سببًا كافيًا لدراسة هذه النظرية، وهذه الفئة من العلماء تعتقد أن بإمكانهم تكرار النجاح الذي حقَّقه أينشتاين عند تطويره نظرية النسبية العامة التي اعتمد فيها إلى حدٍّ كبيرٍ على الدراسات النظرية والرياضية الخالصة.
لكن هناك دافعًا آخَر لدراسة نظرية الأوتار، وهو ما أراه مهمًّا للغاية، هذا الدافع هو أن هذه النظرية يمكن أن تقدِّم — بل قدَّمَتْ بالفعل — أساليبَ جديدة لتناول الأفكار التي تنطبق على النطاقات القابلة للقياس، ومن هذه الأفكار «التناظر الفائق» ونظريات «الأبعاد الإضافية» التي سنستعرضها في الفصل السابع عشر، وهذه النظريات يكون لها نتائج تجريبية بالفعل في حال تناولها مسائل فيزياء الجسيمات. وفي الواقع، إذا أثبتت بعض نظرياتِ الأبعاد الإضافية صحتَها، وفسَّرَتِ الظواهرَ التي نشهدها عند طاقات مصادم الهادرونات الكبير، يمكن أن تظهر أدلة نظرية الأوتار في نطاق الطاقات الأضعف من طاقات المصادم بكثير. لن يكون اكتشاف التناظر الفائق أو الأبعاد الإضافية دليلًا على صحة نظرية الأوتار، لكنه سيثبت صحة فائدة العمل على الأفكار المجردة، بما في ذلك الأفكار التي ليست لها نتائج تجريبية مباشرة، هذا بالطبع فضلًا عن كونه شاهدًا على فائدة التجارب في الفحص الدقيق للأفكار، حتى تلك التي تبدو للوهلة الأولى أفكارًا مجردة.