الإيمان بما «نراه»
لم يتمكن العلماء من حل لغز تكوين المادة إلا بعد تطوير أدوات مكَّنَتْهم من النظر داخلها، وكلمة «النظر» هنا لا تشير إلى الملاحظات المباشِرة، لكن إلى الأساليب غير المباشرة التي نتبعها لاستكشاف الأحجام الدقيقة التي لا يمكن الوصول إليها بالعين المجردة.
نادرًا ما يكون ذلك سهلًا، لكن برغم التحديات والنتائج المناقضة للبديهة التي تُسفِر عنها التجارب أحيانًا، فإن الواقع يفرض نفسه. فيمكن للقوانين الفيزيائية — حتى على مستوى النطاقات الدقيقة — أن تؤدِّي إلى نتائج قابلة للقياس تُصبِح في النهاية قابلةً للوصول إليها بالاستقصاءات الأكثر براعةً. وما نتمتع به حاليًّا من معرفة بشأن المادة وكيفية تفاعلها، هو نتاج تراكم سنوات عديدة من الفحص الدقيق والابتكار والتطور النظري الذي سمح لنا بأن نفسِّر على نحو مُتَّسِق العديدَ من نتائج التجارب. وبفضل الملاحظات غير المباشِرة، استدلَّ الفيزيائيون — وفي مقدمتهم جاليليو منذ قرون مضت — على ما يوجد داخل المادة.
سنتناول الآن الوضع الحالي لفيزياء الجسيمات والأفكار النظرية والاكتشافات التجريبية التي أدَّتْ جمعيها إلى ما نحن عليه الآن. ولا مناص أن يتخذ الوصف هنا شكل القائمة؛ إذ إنني سأعدِّد المكونات التي تتألَّفُ منها المادة التي نعرفها وكيفية اكتشاف هذه المكونات، وتكون هذه القائمة أكثر إثارةً للاهتمام عندما نتذكَّر السلوكيات المتباينة تمامًا لهذه المكوِّنات المتنوعة على النطاقات المختلفة. على سبيل المثال، الكرسي الذي تجلس عليه الآن يمكن اختزاله إلى هذه العناصر، لكن ثمَّةَ سلسلة طويلة من الاكتشافات التي تنقلنا من هذا المستوى إلى ذاك.
الأطوال الموجية القصيرة
لذا، علينا التحلِّي بمزيد من البراعة — أو القسوة، حسب وجهة نظرك للأمر — لنستكشف ما يحدث على مستوى النطاق الدقيق للنواة، ويتطلب ذلك أطوال موجية قصيرة. ولا عجب في ذلك؛ فلك أن تتخيَّل موجة افتراضية يساوي طولها الموجي حجم الكون بأكمله. لا يمكن لأي تفاعل لهذه الموجة أن يحمل معلومات تكفي لتحديد مكان أي شيء في الفضاء، وإذا لم تحتوِ هذه الموجة على ذبذبات أصغر حجمًا تمكِّننا من تحليل بنية الكون، فلا سبيل أمامنا لتحديد مكان أي شيء باستخدام هذه الموجة ذات الطول الموجي الضخم وحسب، وسيكون الأمر أشبه بتغطية كومة من الأشياء بشبكة، ثم التساؤل عن مكان محفظتك وسطها، فلا يمكنك العثور عليها إلا إذا كنتَ تتمتع بقدر كافٍ من الدقة يسمح لك بالنظر إلى الداخل على مستوى النطاقات الأصغر حجمًا.
وباستخدام الموجات، ستحتاج إلى نقاط عُلْيَا ونقاط دُنْيَا مع مسافات فاصلة صحيحة — أي تنوعات بالنطاق الذي تحاول تحليله، أيًّا كانت ماهيته — لتتمكَّنَ من التعرُّف على مكان شيء ما أو شكل هذا الشيء أو حجمه. ويمكنك التفكير في طول موجي بحجم الشبكة، فإذا كان كل ما أعرفه هو أن ثمة شيئًا داخل هذه الشبكة، فلا يمكنني التصريح إلا بأن هناك شيئًا داخل منطقة يساوي حجمها حجم الشبكة. ولإضافة أي شيء إلى هذا القول، يتطلَّبُ الأمرُ إما شبكة أصغر حجمًا أو وسيلة أخرى للبحث عن تنوعات على نطاق أكثر حساسيةً.
وتنصُّ ميكانيكا الكم على أن الموجات تقدِّم احتمالية للعثور على الجسيم في أي مكان بعينه. وهذه الموجات قد تكون موجاتٍ مرتبطةً بالضوء، أو قد تكون الموجات التي تخبرنا ميكانيكا الكم بأن كل جسيم منفرد يحملها سرًّا. والطول الموجي لهذه الموجات يوضِّح لنا الدقة المحتملة التي يمكن أن نأمل في الوصول إليها عند استخدامنا لجسيم أو إشعاع ما لفحص المسافات القصيرة.
تنص ميكانيكا الكم أيضًا على أن الأطوال الموجية القصيرة تتطلب طاقات عالية، ويرجع ذلك إلى أن ميكانيكا الكم تربط بين الترددات والطاقات، والموجات ذات أعلى مستوًى من التردد وأقصر طول موجي تحمل القدر الأعظم من الطاقة؛ ومن ثم فإن ميكانيكا الكم تربط بين الطاقات العالية والمسافات القصيرة، موضحةً أنه لا يمكن سبر أغوار المادة إلا من خلال التجارب التي تعمل في إطار طاقات عالية، وهذا هو السبب الرئيسي وراء حاجتنا إلى آلات تعجِّل من الجسيمات عند مستويات عالية من الطاقة، إذا أردنا استكشاف باطن المادة.
وتشير العلاقات الموجية الميكانيكية الكمية إلى أن الطاقات العالية تسمح لنا باستكشاف المسافات الدقيقة والتفاعلات التي تحدث فيها. ولا يمكننا دراسة هذه الأحجام الصغيرة إلا باستخدام الطاقات العالية؛ ومن ثَمَّ باستخدام الأطوال الموجية الأقصر. وعلاقة عدم اليقين في ميكانيكا الكم — التي تنص على أن المسافات القصيرة ترتبط بقيم زخم كبيرة — علاوةً على العلاقات بين الطاقة والكتلة والزخم التي تقدِّمها النسبية الخاصة، كلها تضفي دقة إلى هذه العلاقات.
يوضِّح لنا ذلك أن الطاقات العالية التي نستكشفها حاليًّا تقودنا إلى أحجام أصغر، وأن ما يتكوَّن من جسيمات هو سبيلنا لفهم القوانين الفيزيائية الأساسية التي تنطبق على هذه النطاقات. وأي تفاعلات وجسيمات جديدة عالية الطاقة تظهر في نطاق المسافات القصيرة، تحمل مفاتيح حل ألغاز ما يُعرَف بالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، وهو النموذج الذي يصف فهمنا الحالي لمعظم عناصر المادة وتفاعلاتها. وسوف ننتقل الآن إلى عرض بعض أهم اكتشافات النموذج القياسي، والأساليب التي نستخدمها حاليًّا لتطوير معرفتنا بعض الشيء.
اكتشاف الإلكترونات والكواركات
لقد كُشِف الستار عن وجهتَيْ رحلتنا الأولية داخل الذرة — وهما: الإلكترونات التي تدور حول النواة، والكواركات التي ترتبط معًا بالجلوونات داخل البروتونات والنيوترونات — تجريبيًّا باستخدام مسابير تستخدم طاقات أعلى؛ ومن ثَمَّ تستكشف مسافات أقصر. ولقد رأينا أن الإلكترونات داخل الذرة ترتبط بالنواة من خلال التجاذُب المتبادَل بفعل شحناتها المتضادة، وتمنح قوة التجاذب النظام المترابط — أي الذرة — طاقةً أقل من مكوناتها الفردية المشحونة وحدها؛ لذا إذا أردنا عَزْلَ الإلكترونات ودراستها، ينبغي إضافة ما يكفي من الطاقة من أجل «تأيينها»؛ أي تحرير الإلكترونات بانتزاعها. وبمجرد أن تُعزَل الإلكترونات، يتمكَّنُ الفيزيائيون من معرفة المزيد عنها بدراسة خصائصها، مثل شحنتها وكتلتها.
أيضًا، استنَدَ اكتشاف الكواركات داخل البروتونات والنيوترونات من خلال التجارب إلى أساليب مشابِهة لتجربة رذرفورد في بعض النواحي، لكنَّه تطلَّبَ طاقات أعلى من طاقة جسيمات ألفا التي استخدمها رذرفورد. وهذه الطاقات الأعلى تطلَّبَتْ بدورها معجِّلَ جسيماتٍ يمكنه تعجيل الإلكترونات والفوتونات التي تنبعث عن هذه الإلكترونات بقدر كافٍ من الطاقة العالية.
كان أول معجِّل جسيمات دوراني يُسمَّى «سيكلوترون»؛ نظرًا للمسارات الحلقية التي تُعجَّل فيها الجسيمات داخله. شيَّدَ إرنست لورانس أول سيكلوترون في جامعة كاليفورنيا عام ١٩٣٢، ولم يتجاوز قطر ذلك المعجِّل قدمًا، وكان ضعيفًا للغاية وفقًا للمعايير الحديثة، والطاقة التي أنتجها كانت أبعد ما يكون عن مقدار الطاقة اللازم لاكتشاف الكواركات؛ الأمر الذي لم نتمكَّنْ من تحقيقه إلا من خلال عدد من التطورات في تكنولوجيا المعجِّلات (التي أدَّتْ أيضًا إلى عدد من الاكتشافات المهمة).
وقد «اكتشف» الفيزيائي البريطاني بول ديراك المادة المضادة رياضيًّا لأول مرة في عام ١٩٢٧ عندما كان يحاوِل التوصُّل إلى معادلة تصف الإلكترون، والمعادلة الوحيدة التي توصَّلَ إليها وكانت تتسق في الوقت نفسه مع مبادئ التناظر المعروفة، دلَّتْ على وجود جسيم يماثِل الإلكترون في كتلته ويعارِضه في شحنته، وهو الجسيم الذي لم يَرَه أحدٌ من قبلُ.
شحذ ديراك زناد فكره كثيرًا قبل أن يعلن إذعانه لتلك المعادلة، ويعترف بحتمية وجود هذا الجسيم الغامض. واكتشف بعد ذلك الفيزيائي الأمريكي كارل آندرسون البوزيترون في عام ١٩٣٢، مُبرهِنًا على صحة ما أكده ديراك قائلًا: «لقد كانت المعادلة أكثر ذكاءً مني.» ولم تُكتشَف البروتونات المضادة — الأثقل وزنًا بكثير — إلا بعد أكثر من عشرين عامًا.
ولعب اكتشاف البروتونات المضادة دورًا مهمًّا، ليس فقط فيما يتعلَّق بتأكيد وجودها، وإنما أيضًا في إثبات تناظُر المادة والمادة المضادة في قوانين الفيزياء، وهو التناظر الضروري لكيفية عمل الكون. في نهاية الأمر، يتألَّف العالم من مادة، وليس مادة مضادة، ومعظم كتلة المادة العادية تحملها البروتونات والنيوترونات، وليس نظائرهما المضادة. وهذا اللاتناظر بين المادة والمادة المضادة يلعب دورًا مهمًّا في العالم كما نعرفه، لكننا لا نعرف إلى الآن كيفية نشوئه.
اكتشاف الكواركات
في الفترة ما بين عامَيْ ١٩٦٧ و١٩٧٣، قاد جيروم فريدمان، وهنري كيندَل، وريتشارد تيلور، سلسلةً من التجارب أثبتَتْ وجود الكواركات داخل البروتونات والنيوترونات. وقد أجرى هؤلاء العلماء أبحاثهم في معجِّل خطي كان يعجِّل الإلكترونات في خط مستقيم، على عكس مُعجِّلَيْ سيكلوترون وبيفاترون السابقين له. وقد كان المركز الذي يحوي ذلك المعجِّل يُسمَّى «مركز معجِّل ستانفورد الخطي»، وهو موجود في مدينة بالو ألتو. انبعثت فوتونات عن الإلكترونات التي عمد ذلك المعجِّل إلى تعجيلها، وتفاعلت هذه الفوتونات العالية الطاقة — ومن ثَمَّ، ذات الطول الموجي القصير — مع الكواركات داخل النوى. قاس فرديمان وكيندل وتيلور التغيُّر في معدل التفاعل عند زيادة طاقة التصادم، وتوصَّلوا إلى أنه في غياب البنية الداخلية للجسيم ينخفض معدل التفاعل، أما في وجود بنية داخلية للجسيم، ينخفض معدل التفاعل لكن على نحو أبطأ بكثير مقارَنَةً بالحال عند غيابها. ومثلما حدث في اكتشاف رذرفورد للنواة قبل ذلك الحين بسنوات عدة، تشتَّتَ الجسيم المقذوف (الفوتون في هذه الحالة) على نحو مختلف عمَّا هو الحال إذا كان البروتون مجرد جسيم أصم يفتقر إلى البنية الداخلية.
لكن حتى مع إجراء التجارب بالقدر المطلوب من الطاقة، لم يتوصَّلِ العلماء إلى الكواركات على الفور؛ فكان لا بد من تقدُّم الجانبين التكنولوجي والنظري إلى مرحلة يمكن معها التكهُّن بنتائج التجارب واستيعابها، فأوضحت التجارب والتحليلات النظرية الدقيقة، التي أجراها الفيزيائيان النظريان جيمس بجوركين وريتشارد فاينمان، أن المعدلات وافَقَتِ التنبؤات الخاصة بوجود بنية داخلية للنواة؛ ومن ثَمَّ أثبتَتِ اكتشاف بنية داخل البروتونات والنيوترونات؛ ألا وهي الكواركات. وبفضل هذا الاكتشاف، حاز فريدمان وكيندل وتيلور على جائزة نوبل عام ١٩٩٠.
ما كان أحدٌ ليأمل في استخدام عينيه المجردتين لرؤية الكوارك أو خصائصه على نحو مباشِر، وكان لا بد من اتباع الأساليب غير المباشرة، ومع ذلك أثبتت القياسات وجود الكواركات؛ فقد تأكَّدَ وجودها بفضل التوافق بين التنبؤات والخصائص التي تم قياسها، وأيضًا بفضل الطبيعة التفسيرية لفرضية الكوارك قبل كل شيء.
طوَّر الفيزيائيون والمهندسون بمرور الوقت أنواعًا مختلفة وأعلى جودةً من المعجِّلات، تتناول نطاقات تتزايد كبرًا، بحيث تعجِّل الجسيمات عند مستويات أعلى من الطاقة؛ فأنتجت المعجِّلات الأكبر والأعلى جودةً جسيماتٍ عاليةَ الطاقة استُخدِمت لاستكشاف البنى على نطاق مسافات تتزايد قصرًا. والاكتشافات التي حقَّقتها هذه المعجِّلات شكَّلت «النموذج القياسي» بكشفها الستار عن كل عنصر من عناصره.
التجارب الثابتة الأهداف في مقابل مصادمات الجسيمات
تُعرَف التجارب التي أدَّتْ إلى اكتشاف الكواركات — والتي يتم فيها توجيه حزمة الإلكترونات المعجَّلة نحو مادة ثابتة — بالتجارب «ثابتة الأهداف»، وتتضمن هذه التجارب حزمة واحدة من الإلكترونات تُوجَّه نحو مادة تمثِّل هدفًا سهلًا.
لكن ثمة ميزة مهمة تتسم بها التصادمات بين حزمتين، وهي أن بإمكان هذه التصادمات الوصول إلى مستويات أعلى من الطاقة. ولعل أينشتاين كان من الممكن أن يخبرنا الآن بسبب تميُّز المصادمات عن التجارب الثابتة الأهداف، فيرجع هذا التميز إلى ما يُعرَف باسم «الكتلة الثابتة» للنظام. ورغم اشتهار أينشتاين بنظرية «النسبية»، فقد رأى ذلك العالم أن الاسم الأنسب لها هو «النظرية الثابتة»، فكان الهدف الحقيقي لأبحاثه هو التوصُّل إلى طريقة تمكِّنُنا من تجنُّب الانخداع بإطارٍ مرجعيٍّ معينٍ، والتوصُّل إلى الكميات الثابتة التي يتميز بها النظام.
لعلك ستدرك هذه الفكرة على نحو أوضح عند تطبيقها على الكميات المكانية، مثل الطول؛ فطول أي جسم ساكن لا يعتمد على موضعه في المكان، فالجسم له حجم ثابت لا علاقة له بك أو بملاحظاتك، على عكس إحداثياته التي تعتمد على مجموعة تقديرية من المحاور والاتجاهات التي تحدِّدها أنت.
أوضح أينشتاين، كذلك، كيفيةَ وصف الأحداث على نحو لا يعتمد على موضع الراصد أو حركته. والكتلة الثابتة مقياس للطاقة الكلية؛ فتوضِّح لنا مدى ضخامة الجسم الذي يمكن أن ينشأ عن الطاقة التي يحتوي عليها النظام.
لنفترض، مثلًا، أننا أحدثنا تصادمًا بين حزمتين تحملان القدر نفسه من الطاقة، ولهما نفس الزخم، لكن بقيمة مضادة. سوف تتصادمان، ويبلغ حاصل جمع زخمهما صفرًا، يعني ذلك أن النظام بأكمله مستقر بالفعل؛ ومن ثَمَّ فإن إجمالي الطاقة — مجموع طاقة الجسيمات داخل الحزمتين — يمكن تحويله إلى كتلة.
أما التجارب الثابتة الأهداف، فتختلف كليةً عن ذلك؛ إذ يكون زخم الحزمة كبيرًا، في حين لا يكون للهدف أي زخم. ولا تُستغَل كل الطاقة لإنتاج جسيمات جديدة، لأن النظام الذي يجمع بين الهدف وحزمة الجسيمات المصطدمة به يظل مستمرًّا في الحركة. ونظرًا لهذه الحركة، لا يمكن تحويل كل الطاقة الناتجة عن التصادم إلى جسيمات جديدة؛ لأن بعض الطاقة تظل في صورة طاقة حركية. وقد تبيَّنَ أن الطاقة التي تتوفر لتكوين الجسيمات تساوي الجذر التربيعي فقط لناتج طاقة الحزمة والهدف، ومعنى ذلك أنه — على سبيل المثال — في حالة رفع مستوى الطاقة لحزمة البروتون بمقدار ١٠٠ مرة ومصادَمَتِها ببروتونٍ ساكنٍ، فإن الطاقة التي ستتوفر لتكوين جسيمات جديدة ستزيد بمقدار عشر مرات فقط.
يوضِّح لنا ذلك أن ثمة اختلافًا هائلًا بين تصادمات الأهداف الثابتة والتصادمات بين حزم الجسيمات، فمقدار الطاقة الناتجة عن تصادم حزمتَيْ جسيمات أكبر بكثير من ضِعف الطاقة الناتجة عن تصادم حزمة جسيمات بهدف ثابت. ولعلك افترضت ذلك على الأرجح، لكن هذا الافتراض يستند إلى أسلوب تفكير نيوتن الذي لا ينطبق على الجسيمات النسبية في الحزمة التي تتحرك بسرعة الضوء تقريبًا. فالفارق في صافي الطاقة الناتجة عن تصادمات الأهداف الثابتة والتصادمات بين الحزم، أكبر بكثير مما يمكن افتراضه؛ وذلك لأنه مع السرعة المقاربة لسرعة الضوء، يظهر مفهوم النسبية. لذا، عندما نرغب في الوصول إلى مستويات مرتفعة من الطاقة، لا يكون أمامنا خيار سوى اللجوء لمصادمات الجسيمات التي تعمل على تعجيل حزمتين من الجسيمات عند مستوًى عالٍ من الطاقة قبل إحداث التصادم بينهما. وتعجيل حزمتين معًا يسمح بتحقيق مستوًى أعلى من الطاقة؛ ومن ثَمَّ إحداث تصادمات أكثر تأثيرًا.
ومصادم الهادرونات الكبير أحد نماذج مصادمات الجسيمات، ويعمل هذا المصادم على إحداث تصادُم بين حزمتين من الجسيمات توجِّههما المغناطيسات بحيث تستهدف كلٌّ منهما الأخرى. وتتمثل المعايير الأساسية المحددة لقدرات المصادمات — مثل مصادم الهادرونات الكبير — في: نوع الجسيمات المتصادِمة، وطاقتها بعد التعجيل، و«درجة سطوع» الماكينة (أي قوة الحزمتين المجتمعتين؛ ومن ثَمَّ عدد أحداث التصادم التي تقع).
أنواع المصادمات
بعد أن توصَّلْنا إلى أن تصادُمَ حزمتين يمكن أن ينتج عنه قدر أكبر من الطاقة (ومن ثَمَّ يمكِّننا من استكشاف مسافات أقصر) مقارَنَةً بالتجارب الثابتة الأهداف، يكون السؤال التالي هو: ما الذي سنُجرِي له التصادم؟ يقودنا هذا السؤال إلى بعض الخيارات المثيرة للاهتمام. بالتحديد، علينا أن نقرِّر نوع الجسيمات التي سنقوم بتعجيلها لتشارك بعد ذلك في عملية التصادم.
من الأفكار الجيدة استخدامُ مادة متوفرة بالفعل على سطح الأرض. يمكننا، من الناحية النظرية، مصادمة جسيمات غير مستقرة معًا، مثل الجسيمات المعروفة باسم «الميوونات» التي تتحلل سريعًا إلى إلكترونات، أو مصادمة الكواركات الثقيلة، مثل الكواركات القميَّة التي تتحلل إلى مادة أخف وزنًا.
في هذه الحالة، سيلزم علينا إنتاج هذه الجسيمات أولًا في المختبر؛ لأنها ليست متوفرة بشكل مباشر، لكن حتى إن قمنا بإنتاجها وتعجيلها قبل تحلُّلها، سيلزم علينا التأكُّد من أن الإشعاع الناجم عن التحلل سينحرف بأمان. جميع هذه المشكلات يمكن تخطِّيها، خاصةً في حالة الميوونات التي لا تزال جدوى استخدامها كحزمة جسيماتٍ خاضعةً للبحث، لكنها لا ريب تفرض مزيدًا من التحديات التي لا نواجِهها مع الجسيمات المستقرة.
بناءً على ما سبق، سنبدأ بالخيار الأكثر وضوحًا؛ أَلَا وهو الجسيمات المستقرة المتوفرة على سطح الأرض ولا تتحلل، ونعني بذلك جسيمات الضوء أو على الأقل التكوينات المستقرة المترابطة لجسيمات الضوء، مثل البروتونات. سيتطلب الأمر، كذلك، أن تحمل الجسيمات شحنة كهربائية، ليكون من الممكن تعجيلها باستخدام مجال كهربائي. يتركنا ذلك أمام خيارين هما البروتونات والإلكترونات، وهي الجسيمات التي توجد بوفرة.
أيهما نختار؟ كلٌّ منهما له مميزاته وعيوبه. ميزة الإلكترونات أنها تؤدي إلى تصادمات جيدة وواضحة، وهي أيضًا جسيمات أساسية، وعندما نُحدِث تصادمًا بين إلكترون وشيء آخَر، لا يُقسِّم الإلكترون طاقته على العديد من البنى الثانوية. فبقدر ما نعلم، لا يوجد بنى ثانوية داخل الإلكترون، ولما كان الإلكترون لا ينقسم، يمكننا متابعة ما يحدث عند تصادمه مع أي شيء آخَر متابعةً دقيقةً.
لا ينطبق ذلك على البروتونات. ويمكننا أن نذكر هنا ما أوضحناه في الفصل الخامس من أن البروتونات تتكون من ثلاثة كواركات تربطها معًا قوة نووية قوية، من خلال تبادل الجلوونات بين الكواركات بحيث «تلصق» كل هذه الأجزاء معًا. وعندما يتصادم أحد البروتونات عند مستوًى عالٍ من الطاقة، يتضمن التفاعل المهم — أي الذي قد ينتج عنه جسيم ثقيل — جسيمًا واحدًا فقط داخل البروتون، على غرار الكوارك المنفرد.
هذا الكوارك لن يحمل، بالتأكيد، طاقة البروتون بأكملها؛ لذا حتى إن كانت طاقة البروتون عاليةً جدًّا، فستكون الطاقة التي سيحملها الكوارك أقل بكثير. سيظل الكوارك يحمل قدرًا كبيرًا من الطاقة، لكنها ليست بالقدر نفسه الذي يمكن أن يحتوي عليه إذا نقل البروتون كل طاقته إليه.
وفوق كل ذلك، تتصف تصادمات البروتونات بالفوضى. يرجع ذلك إلى أن الجسيمات الأخرى الموجودة داخل البروتون تظل عالقةً داخله، حتى إن اشتركت في التصادم الفائق الطاقةِ الذي نهتم به. وستظل الجسيمات الباقية تتفاعل تفاعلات قوية (وهي تفاعلات خليق بها هذا الوصف)، ويعني ذلك أنه سيوجد قدر هائل من النشاط يحيط بالتفاعل الذي نهتم به (ويحجبه).
إذن، ما الذي قد يدفع أي شخص للتفكير في مصادمة البروتونات؟ ما يدفعنا للتفكير في ذلك هو أن البروتون أثقل وزنًا من الإلكترون، بل إن وزنه في الواقع يزيد بنحو ٢٠٠٠ مرة عن وزن الإلكترون، وقد ثبتت أهمية ذلك عند محاولتنا تعجيل البروتون للوصول إلى مستوًى مرتفع من الطاقة. فللوصول إلى هذا المستوى المرتفع، تعجل المجالات الكهربية الجسيمات حول حلقة بحيث تزيد درجة تعجيلها مع كل جولة متعاقبة، لكن الجسيمات المعجَّلة تبث إشعاعات، وكلما خفَّ وزنها، زاد مقدار ما تبثه من هذه الإشعاعات.
يعني ذلك أنه رغم ميلنا لمصادمة الإلكترونات الفائقة الطاقة، فإن هذا أمر مستبعد في الوقت الحالي، ويرجع ذلك إلى أنه يمكننا تعجيل الإلكترونات لتصل إلى مستويات مرتفعة للغاية من الطاقة، لكن هذه الإلكترونات العالية الطاقة تفقد نسبةً كبيرةً من طاقتها عندما تُعجَّل في دائرة (لهذا سُمِّي «مركز معجِّل ستانفورد الخطي» في بالو ألتو بولاية كاليفورنيا، الذي عمل على تعجيل الإلكترونات، بالمصادم الخطي). لذا، من حيث كلٍّ من إمكانية الاكتشاف والطاقة الخالصة، يكون للبروتونات الأفضلية، فبوسع البروتونات أن تعجَّل وصولًا إلى مستوًى عالٍ من الطاقة يسمح لمكوناتها الثانوية من الكواركات والجلوونات بحمل كمية من الطاقة تفوق تلك التي يحملها الإلكترون عند تعجيله.
وفي الواقع، توصَّلَ الفيزيائيون إلى الكثير من معرفتهم عن الجسيمات من كلا النوعين من المصادمات؛ تلك التي تصادم البروتونات والأخرى التي تصادم الإلكترونات. المصادمات التي تعجل حزمة من الإلكترونات لا تعمل بالطاقات العالية التي وصلت إليها معجِّلات البروتونات الفائقة الطاقة، لكن التجارب على المصادمات التي تتضمن حُزَم الإلكترونات توصَّلت إلى قياسات أكثرَ دقةً من أي مصادم بروتونات قد يخطر ببال أي شخص. وعلى وجه التحديد، في تسعينيات القرن العشرين، حقَّقت التجارب التي أُجرِيت في مركز معجِّل ستانفورد الخطي ومصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير (يا لهما من اسمين لا تتوقَّف بساطتهما عن إدهاشي أبدًا!) الموجودين في سيرن؛ دقةً مذهلةً في إثبات صحة تنبؤات النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.
وهذه التجارب التي تناولت «القياسات الدقيقة للقوة الكهروضعيفة» استفادت من العديد من العمليات المختلفة التي يمكن التنبؤ بها باستخدام المعلومات المتوفرة عن التفاعلات الكهروضعيفة. على سبيل المثال، قاست هذه التجارب كتل الأجسام الحاملة للقوة الضعيفة، ومعدلات التحلل إلى أنواع مختلفة من الجسيمات، وحالات اللاتناظر بين الجزأين الأمامي والخلفي للكواشف التي توضِّح المزيد من المعلومات عن طبيعة التفاعلات الضعيفة.
وتُطبِّق القياسات الدقيقة للقوة الكهروضعيفة فكرةَ النظرية الفعَّالة بوضوح؛ فعندما يُجرِي الفيزيائيون ما يكفي من التجارب لتحديد المتغيرات القليلة للنموذج القياسي، يصير من الممكن التنبؤ بأي شيء آخَر. يتحقَّق الفيزيائيون من اتساق جميع القياسات، ويبحثون عن الانحرافات التي من شأنها إيضاح ما إذا كان هناك شيء ما غير موجود. ووفقًا لما تَمَّ التوصُّل إليه حتى الآن، تشير القياسات إلى أن النموذج القياسي يعمل بنجاح مذهل، وهو النجاح الذي يُغنِينا عن أي أدلة نحتاج إليها لمعرفة ما لا يضمُّه النموذج القياسي من جسيمات، فيما عدا أن تأثيرات ما لا يضمه من جسيمات — أيًّا كانت — على طاقات مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، لا بد أنها تأثيرات ضئيلة للغاية.
يتضح لنا مما سبق أنه كي نحصل على المزيد من المعلومات حول الجسيمات الثقيلة والتفاعلات العالية الطاقة، علينا إجراء أبحاث مباشِرة عند مستويات من الطاقة أعلى بكثير من المستويات التي تمَّ التوصُّل إليها في مركز معجِّل ستانفورد الخطي ومصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير. فتصادمات الإلكترونات لن تصل ببساطة إلى الطاقات التي نعتقد أننا بحاجة إليها للإجابة عن سؤال: ما الذي يمنح الجسيمات كتلتها؟ ولماذا تتسم هذه الكتلة بما تتسم به من خصائص؟ على الأقل لن يحدث ذلك قريبًا؛ ومن ثَمَّ فنحن بحاجة إلى التصادمات بين البروتونات.
لذلك، قرَّرَ الفيزيائيون تعجيل البروتونات بدلًا من الإلكترونات داخل النفق الذي بُنِي في ثمانينيات القرن العشرين ليضم بين جنباته مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير. وأوقفت في النهاية سيرن أعمال مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير لإفساح المجال للإعداد لمشروعها الضخم الجديد؛ أَلَا وهو مصادم الهادرونات الكبير. وبما أن البروتونات لا تفقد قدرًا كبيرًا من طاقتها في صورة إشعاع، فإن مصادم الهادرونات الكبير سيعزِّز من هذه الطاقة ليصل بها إلى مستويات أعلى بكثير على نحو أكثر كفاءةً. وتتصف تصادمات البروتونات بقدر من الفوضى يفوق تصادمات الإلكترونات، كما أن تجاربها تزخر بالعديد من التحديات، لكن بفضل حزم البروتونات، يمكننا الحصول على طاقات عالية بما فيه الكفاية لإيصالنا إلى الإجابات التي كنَّا نسعى إليها منذ عقود طويلة.
جسيمات أم جسيمات مضادة؟
لا يزال أمامنا سؤال آخَر علينا الإجابة عنه قبل أن نقرِّر ما سنجري التصادم له. فالتصادم يتضمن حزمتين، وما توصلنا إليه حتى الآن هو أن الطاقات العالية تفرض أن تتكون إحدى الحزمتين من البروتونات. لكن السؤال الآن هو: هل ستتكون الحزمة الأخرى من جسيمات (بروتونات) أم جسيمات مضادة (بروتونات مضادة)؟ للبروتونات والبروتونات المضادة الكتلة نفسها؛ ومن ثَمَّ فهي تبثُّ إشعاعات بالمعدل ذاته؛ لذلك لا بد من استخدام معايير أخرى لاتخاذ القرار بشأن أيٍّ منهما يلزم استخدامه.
من الجليِّ أن البروتونات تتميز بوفرتها، في حين لا نرى الكثيرَ من البروتونات المضادة حولنا، ويرجع ذلك إلى أن البروتونات المضادة تفنى مع البروتونات الوفيرة لتتحوَّل إلى طاقة أو إلى جسيمات أخرى أولية. وبناءً عليه، ما الذي قد يدفعنا لإنتاج حزمة من الجسيمات المضادة؟ ما الذي يمكن جَنْيُه من ذلك؟
لعل الإجابة عن هذا السؤال هي: الكثير. أولًا، التعجيل يكون أيسر في هذه الحالة نظرًا لإمكانية استخدام مجال مغناطيسي واحد لتوجيه البروتونات والبروتونات المضادة في اتجاهين متعارضين، لكن السبب الأهم يتعلَّق بالجسيمات التي يمكن أن تتكون نتيجة لذلك.
هذه الجسيمات الناتجة يمكن — من الناحية النظرية — أن تكون جسيمات جديدة وفريدة تختلف شحنتها عن شحنات جسيمات النموذج القياسي، والجسيم والجسيم المضاد المتصادمان لا يكون لهما شحنة صافية، وينطبق ذلك على الجسيم الفريد أيضًا والجسيم المضاد له. لذا، رغم أن شحنات الجسيم الفريد يمكن أن تختلف عن جسيمات النموذج القياسي، فإن زوج الجسيم والجسيم المضاد ستبلغ شحنتهما معًا صفرًا، ويمكن أن يُنتَجا من الناحية النظرية.
لنطبِّق الآن هذا المنطق على الإلكترونات. إذا أحدثنا تصادمًا بين جسيمين متساويين في الشحنة، مثل إلكترونين، فلن ينتج عنهما سوى جسيمات تتساوى في شحنتها مع الجسيمين المتصادمين (أيًّا كانا)، فيمكن أن ينتج عن هذا التصادم جسيمًا فرديًّا بشحنة صافية مقدارها اثنين أو جسيمين مختلفين، مثل إلكترونين يحمل كلٌّ منهما شحنة واحدة. وهذا أمر مُقيِّد.
وقد استخدمت مصادِمات الطاقة العالية مؤخَّرًا حزمةً واحدةً من البروتونات وأخرى من البروتونات المضادة، وتطلب ذلك بالطبع وسيلةً لإنتاج البروتونات المضادة وتخزينها، والبروتونات المضادة المخزَّنة تخزينًا جيدًا كانت أحد أهم إنجازات سيرن، وقبل تأسيس المنظمة لمصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، أنتجت مختبراتها حُزَمَ البروتونات والبروتونات المضادة العالية الطاقة.
ومن العوامل المحورية التي أدَّتْ إلى نجاح هذه التجاربِ الأسلوبُ الذي طوَّره فان دير مير لتخزين البروتونات المضادة، الأمر الذي يمثِّل مهمة صعبة حقًّا؛ لأن البروتونات المضادة تسعى دومًا للعثور على بروتونات يمكن أن تتبدَّد معها. وفي العملية التي ابتكرها فان دير مير، والمعروفة باسم «التبريد العشوائي»، حركَّتِ الإشاراتُ الكهربية لمجموعة من الجسيمات جهازًا «دفَعَ» بدوره أي جسيم يتمتَّع بزخم عالٍ، ما أدَّى في النهاية إلى تبريد مجموعة الجسيمات بأكملها، فقلَّتْ سرعتها؛ ومن ثَمَّ لم تتبدَّدْ على الفور أو تصطدم بالحاوية، وتمكَّنَ بذلك فان دير مير من تخزين البروتونات المضادة.
لو كانت البروتونات جسيمات أساسية، لَصَحَّ هذا التصوُّر، لكن البروتونات — كما أوضحنا في الفصل الخامس — تتألَّف من وحدات ثانوية، وهي الكواركات التي ترتبط معًا بالجلوونات. وحتى لو كانت الكواركات الاتجاهية الثلاثة جميعها (الكواركان العلويان والكوارك السفلي) التي تحمل شحنة البروتون متواجِدةً داخله، فلن يفيد ذلك كثيرًا؛ إذ إن إجمالي شحنة كواركين اتجاهيين لا تبلغ صفرًا أبدًا.
مقارنة بين أنواع المصادمات المختلفة | |||
---|---|---|---|
المعجِّل/عام الافتتاح | الجسيمات المُتصادِمة | الشكل | حجم الطاقة |
المختبر/الموقع | |||
مصادم ستانفورد الخطي ١٩٨٩ مصادم ستانفورد الخطي/مينلو بارك، كاليفورنيا | إلكترونات وبوزيترونات | خطي | ١٠٠ جيجا إلكترون فولت ٣٫٢ كيلومترات |
تيفاترون ١٩٨٣ فيرميلاب/باتافيا، إلينوي | بروتونات وبروتونات مضادة | حلقي | ١٩٦٠ جيجا إلكترون فولت ٦٫٣ كيلومترات |
مصادم (مصادمات) الإلكترونات-البوزيترونات الكبير (١ و٢)* ١٩٨٩ / ٢٠٠٠ سيرن/جنيف، سويسرا | إلكترونات وبوزيترونات | حلقي | ٩٠ جيجا إلكترون فولت/٢٠٩ جيجا إلكترون فولت ٢٦٫٦ كيلومترًا |
مصادم الهادرونات الكبير ٢٠٠٨ سيرن/جنيف، سويسرا | بروتون وبروتون | حلقي | ٧٠٠٠–١٤٠٠٠ جيجا إلكترون فولت ٢٦٫٦ كيلومترًا |
رغم ذلك، فإن معظم كتلة البروتون ليست نتاج كتلة الكواركات التي يحتوي عليها، وإنما تأتي كتلته في الأساس من الطاقة التي تعمل على ربط أجزائه معًا. والبروتون، الذي ينتقل بزخم عالٍ، يحتوي على قدر كبير من الطاقة، وفي ظل هذا القدر الكبير من الطاقة، تحتوي البروتونات على بحر من الكواركات والكواركات المضادة والجلوونات، بالإضافة إلى ثلاثة كواركات اتجاهية مسئولة عن شحنة هذه البروتونات. ومعنى ذلك أنك إذا فحصت بروتونًا عالي الطاقة، فلن تجد ثلاثة كواركات اتجاهية فحسب، وإنما ستجد أيضًا بحرًا من الكواركات والكواركات المضادة والجلوونات التي يبلغ مجموع شحناتها صفرًا.
ومن ثَمَّ، عندما نفكِّر في استخدام تصادمات البروتونات، علينا توخِّي الحذر في المنطق الذي نعتمد عليه بقدر أكبر مما نتوخاه مع الإلكترونات؛ فالأحداث المشوقة حقًّا هي التي تنتج عن تصادم الوحدات الثانوية. وتشتمل التصادمات على شحنات الوحدات الثانوية، وليس شحنات البروتونات. وبالرغم من أن الكواركات والجلوونات لا تساهم في شحنة البروتون الصافية، فإنها تلعب دورًا في تكوين هذه الشحنة. عندما تتصادم البروتونات، يمكن أن يصطدم أحد الكواركات الاتجاهية الثلاثة الموجودة في البروتون بكوارك اتجاهي آخَر، ولا تبلغ الشحنة الصافية في التصادم صفرًا، وعندما لا تتلاشى الشحنة الصافية للحدث، يمكن أن تقع أحيانًا أحداث مثيرة تتضمن المجموع الصحيح للشحنات، لكن التصادم لن يتمتع بالقدرات الهائلة التي تتمتع بها التصادمات التي يبلغ صافي شحنتها صفرًا.
لكن الكثير من التصادمات المثيرة للاهتمام ستحدث، بسبب البحر الافتراضي من الجسيمات الذي يسمح لأحد الكواركات بالالتقاء بكوارك مضاد، أو لجلوون بالتصادم مع جلوون آخَر؛ ما يؤدِّي إلى تصادمات لا تحمل أي شحنة صافية. وعندما ترتطم البروتونات معًا، يمكن لأحد الكواركات داخل بروتونٍ ما أن يرتطم بكوارك مضاد داخل بروتونٍ آخَر، وإن لم يكن ذلك ما يحدث في أغلب الأحيان. وجميع العمليات التي يمكن أن تحدث — بما في ذلك العمليات الناتجة عن تصادم الجسيمات — يكون لها دور عندما نتساءل عمَّا يحدث في مصادم الهادرونات الكبير، وتصبح هذه التصادمات الخاصة ببحر الجسيمات، في الواقع، أكثر احتمالًا مع تعجيل البروتونات إلى طاقات أعلى.
لا تحدِّد شحنة البروتون الإجمالية الجسيمات التي ستتكون؛ نظرًا لأن الجزء المتبقِّي من البروتون يواصل حركته، متجنِّبًا التصادم. والأجزاء التي لا تتصادم في البروتون تحمل بقيةَ شحناتِ البروتون الصافية، ثم تتلاشى في أنبوب الحزم. كانت تلك الإجابة الدقيقة عن السؤال الذي طرحه عمدة مدينة بادوَا، وهو: إلى أين تذهب شحنات البروتونات أثناء تصادمها في مصادم الهادرونات الكبير؟ تتعلق هذه الإجابة بالطبيعة المركبة للبروتون والطاقة العالية التي تضمن تصادُم أصغر العناصر التي نعرفها على الإطلاق — أي الكواركات والجلوونات — فقط.
وبما أن أجزاء معينة فقط من البروتون هي التي تتصادم، وهذه الأجزاء يمكن أن تكون جسيمات افتراضية تتصادم بصافي شحنة يبلغ صفرًا، فإن الاختيار بين مصادم البروتونات والبروتونات وبين مصادم البروتونات والبروتونات المضادة ليس واضحًا تمامًا. بينما كان الأمر يستحق التضحية في الماضي باستخدام المصادمات المنخفضة الطاقة لإنتاج البروتونات المضادة، من أجل ضمان وقوع أحداث مثيرة للاهتمام، فإنه في ظل طاقات مصادم الهادرونات الكبير لا يُعَدُّ ذلك خيارًا واضحًا؛ فمع الطاقات العالية التي ينتجها هذا المصادم، يحمل بحر الكواركات والكواركات المضادة والجلوونات نسبةً كبيرة من طاقة البروتون.
وهكذا، فإن مصادم الهادرونات الكبير هو مصادم بروتونات، وليس بروتونات وبروتونات مضادة، ومع ما يجريه من تصادمات كثيرة — يسهل تنفيذها في ظل تصادم البروتونات معًا — يتمتع هذا المصادم بإمكانات هائلة.