عودة الحلقة للعمل
التحقتُ بالدراسات العليا في مجال الفيزياء في عام ١٩٨٣، بينما طُرِحَتْ فكرة إنشاء مصادم الهادرونات الكبير للمرة الأولى في عام ١٩٨٤، معنى ذلك أنني انتظرت تشييد هذا المصادم مدة ربع قرن من مسيرتي الأكاديمية. والآن، وبعد طول انتظار، صرتُ أنا وأصدقائي نشهد أخيرًا البيانات الصادرة عن مصادم الهادرونات الكبير، ونبني توقعات واقعية بشأن المعلومات الدقيقة التي يمكن أن تكشف عنها التجارب قريبًا فيما يتعلق بالكتلة والطاقة والمادة.
يُعَدُّ مصادم الهادرونات الكبير حاليًّا أهم جهاز تجريبي لفيزيائيي الجسيمات على الإطلاق، ومع بدء تشغيل المصادم، صار زملائي الفيزيائيون أكثر توترًا وتشوقًا، وهو ما يمكن تفهُّمه. فلا يمكنك الدخول إلى أي قاعة ندوات دون أن تسمع تساؤلات بشأن ما يحدث، مثل: ما مقدار الطاقة التي ستحقِّقها التصادمات؟ ما عدد البروتونات التي ستحتوي عليها الحُزَم؟ طمح الفيزيائيون النظريون في استيعاب التفاصيل الدقيقة التي مثلت من قبلُ في الغالب مفاهيم مجردة للعاملين في مجال الحسابات والمفاهيم، وليس في مجال تصميم التجارب أو الماكينات. وكان العكس صحيحًا أيضًا؛ بمعنى أن الفيزيائيين التجريبيين تاقوا على نحو غير مسبوق لسماع أحدث الافتراضات، ومعرفة المزيد عمَّا يمكنهم البحث عنه واكتشافه.
بل إنه أثناء المؤتمر الذي عُقِد في شهر ديسمبر من عام ٢٠٠٩، والذي كان من المفترض أن يتناول موضوع المادة المظلمة، أخذ المشاركون يعلِّقون بحماس على مصادم الهادرونات الكبير الذي انتهى لتوِّه من أول عملية ناجحة من التعجيل والتصادم. آنذاك، وبعد اليأس الذي كاد يصيب العاملين على هذا المصادم واستمر أكثر من عام، غمرت البهجة الجميع؛ فسعد الفيزيائيون التجريبيون بحصولهم على البيانات التي يمكنهم دراستها لفهم الكواشف على نحو أفضل، كما اغتبط الفيزيائيون النظريون باحتمال حصولهم على بعض الإجابات في القريب العاجل. كان كل شيء يسير على أفضل وجه؛ فالحُزَم بدا أنها تعمل على نحو جيد، والتصادمات حدثت بالفعل، والتجارب تسجِّل كل ذلك.
لكن الوصول إلى هذه المرحلة المهمة وراءه قصة طويلة، وقد خصَّصْتُ هذا الفصل لروايتها وعرض ما انطوت عليه من عقبات.
يا له من عالم صغير!
سبقت قصة سيرن قصة مصادم الهادرونات الكبير بعدة عقود من الزمان؛ فبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بفترة قصيرة، طُرِح أول تصوُّر لمركز تعجيل أوروبي تُجرَى فيه تجارب لدراسة الجسيمات الأولية. رغب آنذاك العديد من الفيزيائيين الأوروبيين — الذين هاجَرَ بعضهم إلى الولايات المتحدة وظل البعض الآخَر في فرنسا وإيطاليا والدنمارك — في أن يشهدوا عودة العلوم المتقدمة إلى بلادهم، واتفق الأمريكيون والأوروبيون على أنه من مصلحة كلٍّ من العلم والعلماء تعاوُنُ الأوروبيين في هذا المشروع المشترك، وأن تعود الأبحاث إلى أوروبا ليتمكَّنوا بذلك من إصلاح آثار الدمار وانعدام الثقة التي خلَّفتها الحرب التي انتهت لتوِّها.
شُيِّدت منشأة سيرن عن قصد في منتصف أوروبا بموقع يمر بالحدود السويسرية الفرنسية بالقرب من جنيف. يتسم الموقع بجماله الأخَّاذ الذي يدفعك لزيارته إذا كنتَ ممَّن يفضِّلون المناظِرَ الطبيعية؛ فهو يشمل أرضًا زراعية وتجاوره جبال جورا، إلى جانب جبال الألب القريبة للغاية أيضًا منها. والفيزيائيون التجريبيون في المنظمة هم بالأحرى مجموعة من الرياضيين، نظرًا لتمكُّنِهم من ممارسة رياضات التزلج وتسلُّق الجبال وركوب الدراجات بسهولة ويسر. والموقع الذي تقع فيه المنظمة ضخم، إذ يغطِّي مساحةً من الأرض يمكن الركض فيها حتى الإنهاك، مما يحافظ على اللياقة البدنية للباحثين. وتحمل الشوارع التي تمر بها لزيارة الموقع أسماء الفيزيائيين المشهورين، ومنها على سبيل المثال «طريق كوري»، و«طريق باولي»، و«طريق أينشتاين»، لكن الهندسة المعمارية المُتبَعة في بناء المنشأة كانت ضحية العصر الذي شُيِّدت فيه، وهو أواخر الخمسينيات؛ حيث انتشرت المباني المنخفضة ذات الطابع العالمي التي تخلو من أي مظهر جمالي؛ ومن ثَمَّ تفتقر مباني المنشأة لمظاهر الجمال، وتمتد فيها الأروقة الطويلة والمكاتب ذات المظهر العقيم، وما زاد الأمر سوءًا أن المبنى عبارة عن منشأة علمية. ليس عليك سوى النظر إلى مباني دراسة العلوم في أي جامعة لتدرك ما أتحدَّث عنه هنا؛ فهي المباني الأكثر قبحًا في أي حرم جامعي، لكن ما يبعث البهجة والحياة في المكان (إلى جانب المناظر الطبيعية الخلَّابة) هو العاملون فيه، وأهدافهم وإنجازاتهم العلمية والهندسية.
ويمكن دراسة تطوُّر سيرن وما تجريه حاليًّا من عمليات عن طريق تناول صور التعاون الدولي التي انطوت عليها؛ فلعل هذه المنظمة المشروع الدولي الأكثر نجاحًا على الإطلاق. حتى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت الدول قد خرجت لتوِّها من صراع مع بعضها البعض، شارَكَ علماء ينتمون إلى اثنتي عشرة دولة مختلفة في هذا المشروع المشترك.
لقد اكتشف علماء سيرن هذه البوزونات بالفعل. والآن، ومع وجود مصادم الهادرونات الكبير، صارت هذه المنظمة تمثِّل محورَ فيزياء الجسيمات التجريبية بلا منازع. رغم ذلك، لم يكن هذا المتوقع بأي حال من الأحوال عند طرح فكرة المصادم للمرة الأولى؛ فكان من المنتظر من المصادم الأمريكي الفائق ذي الموصلية الفائقة، الذي صدَّق عليه الرئيس ريجان في عام ١٩٨٧، أن تفوق طاقته طاقة مصادم الهادرونات الكبير ثلاث مرات، حال مواصلة دعم الكونجرس له. ورغم عدم دعم حكومة كلينتون في البداية لذلك المشروع، الذي شرعت فيه حكومة الجمهوريين السابقة، تغيَّرَ ذلك الوضع بعد استيعاب الرئيس كلينتون للأمر. وفي يونيو عام ١٩٩٣، حاوَلَ كلينتون الحيلولة دون إلغاء المشروع بإرساله خطابًا إلى ويليام ناتشر، رئيس لجنة الاعتمادات المالية التابعة لمجلس النوَّاب الأمريكي، أخبره فيه بما يلي: «أودُّ إبلاغك باستمرار دعمي للمصادِم الفائق ذي الموصلية الفائقة … فالتخلي عن هذا المشروع في هذه المرحلة يعني مجازفة الولايات المتحدة بمكانتها الرائدة في العلوم الأساسية، وهي المكانة التي لم ينازعها أحدٌ عليها لأجيال عدة. تمر بلادنا بظروف اقتصادية عصيبة، لكن الحكومة تدعم هذا المشروع كجزء من استثماراتها الواسعة النطاق في مجال العلم والتكنولوجيا … وأطلب منك ها هنا دعم هذه الجهود المهمة الزاخرة بالتحديات.» وعندما التقيت بهذا الرئيس السابق في عام ٢٠٠٥، ذَكر موضوع المصادم الفائق ذي الموصلية الفائقة، وسألني عما خسرناه جرَّاء التخلِّي عن ذلك المشروع، وأقَرَّ سريعًا بأنه رأى أن الإنسانية قد خسرت فرصةً في غاية الأهمية.
في الوقت الذي قضى فيه الكونجرس على ذلك المشروع، تكَبَّدَ دافعو الضرائب نحو ١٥٠ مليار دولار في أزمة القروض والمدخرات، وهو ما يتجاوز بكثير التكلفة المحدَّدة للمصادم والبالغة حوالي ١٠ مليارات دولار. على الجانب الآخَر، يصل العجز السنوي الأمريكي ٦٠٠ دولار عن كل مواطن، وتكلفة الحرب على العراق أكثر من ٢٠٠٠ دولار عن كل مواطن. وإذا كان المصادم الفائق ذو الموصلية الفائقة قد شُيِّد، لَكُنَّا قد توصَّلْنا بالفعل إلى نتائج تخصُّ فيزياء الطاقات العالية، وكنَّا بلغنا مستويات من الطاقة أعلى بكثير مما سيحقِّقها مصادم الهادرونات الكبير. ومع انتهاء أزمة القروض والمدخرات، تأثَّرْنا سريعًا بالأزمة المالية في عام ٢٠٠٨، ولزم علينا جمع قدر من الأموال أرهق دافعي الضرائب.
وتكلفة بناء مصادم الهادرونات الكبير — البالغة ٩ مليارات دولار — مساوية تقريبًا للتكلفة التي اقتُرِحَتْ للمصادم الفائق ذي الموصلية الفائقة، فتبلغ التكلفة نحو ١٥ دولارًا لكل مواطن أوروبي؛ أي ما يساوي سعر كوب جعة لكل مواطن أوروبي في العام في وقت تشييد مصادم الهادرونات الكبير، كما يقول زميلي بسيرن، لويس ألباريث جومي. وتقييم قيمة الأبحاث العلمية الأساسية، كتلك التي تُجرَى في مصادم الهادرونات الكبير، ينطوي دومًا على صعوبات. لكن الواقع يشير إلى أن الأبحاث الأساسية هي القوة الدافعة وراء ظهور الكهرباء، وشبه الموصلات، والشبكة العنكبوتية العالمية، وجميع صور التقدُّم التكنولوجي الأخرى التي أثَّرت في حياتنا تأثيرًا هائلًا. تشجِّع هذه الأبحاث أيضًا التفكير العلمي والتكنولوجي الذي ينتشر في جميع جوانب النظام الاقتصادي، وقد يكون من الصعب التكهُّن بالنتائج العملية لمصادم الهادرونات الكبير، لكن ما لا يصعب التكهُّن به هو قدرات العلم. وأعتقد أنه لا خلاف في هذا السياق على زيادة احتمال جَنْي الأوروبيين لقيمة ما أنفقوه من أموال في هذا المشروع.
تتطلب المشروعات الطويلة الأمد إيمانًا، وتفانيًا، وشعورًا بالمسئولية. مثل هذه الالتزامات صار من الصعب رؤيتها في الولايات المتحدة؛ فقد أدَّتْ رؤيتنا السابقة في الولايات المتحدة إلى تطورات علمية وتكنولوجية هائلة، لكن هذا النوع من التخطيط الضروري طويل الأمد يزداد ندرةً الآن. وعلينا الاعتراف هنا بأن المجتمع الأوروبي لا يزال قادرًا على السعي وراء مشروعاته حتى يراها واقعًا أمام عينيه؛ فقد وُضِع التصور الأول لمصادم الهادرونات الكبير منذ ربع قرن، وتمت المصادقة عليه في عام ١٩٩٤، لكنه مشروع طموح لم يُؤْت ثماره سوى الآن.
بالإضافة إلى ما سبق، وسَّعت سيرن نطاق شعبيتها الدولية بحيث لم تقتصر على الدول الأعضاء بها البالغ عددها ٢٠ دولة فقط، وإنما امتدت لتشمل ٥٣ دولة أخرى شاركت في التصميم والإنشاء واختبار الأجهزة، وصار يشارك في المنظمة الآن علماء ينتمون إلى ٨٥ دولة. ورغم أن الولايات المتحدة ليست إحدى الدول الأعضاء الرسمية بالمنظمة، فإن عدد الأمريكيين الذين يعملون فيها على التجارب الرئيسية يفوق أي جنسية أخرى.
يبلغ إجمالي عدد العلماء المشاركين في المنظمة نحو ١٠ آلاف عالم؛ أي ما يساوي حوالي نصف عدد فيزيائيي الجسيمات في العالم بأسره، وخُمس هذا العدد موظفون بدوام كامل ويقيمون بالقرب من المنظمة. ومع بناء مصادم الهادرونات الكبير، صارت الكافيتريا الرئيسية بالمنظمة مكتظَّة بالوافدين عليها إلى الحد الذي أصبح من الصعب طلب الطعام فيها دون أن تصطدم الصينية الخاصة بك بفيزيائي آخَر؛ المشكلة التي يساعد التوسُّع الجديد الذي تشهده الكافيتريا في التخفيف منها.
وفي ظل الجنسيات المختلفة التي تضمها المنظمة، سيُصدَم أي أمريكي عند دخولها عند سماعه اللغات واللهجات العديدة التي تتردَّد في الكافيتريات والمكاتب والأروقة. سيلفت انتباه الأمريكي أيضًا السجائر، والنبيذ، والبيرة؛ الأمور التي من شأنها أيضًا تذكيره باغترابه عن وطنه. يعلِّق البعض كذلك على الجودة الفائقة للكافيتريات، وهذا ما أخبرني به أحد طلَّابي المبتدئين، والذي عمل في المنظمة خلال فصل الصيف. لكن الأوروبيين — بما يتمتَّعون به من ذوق رفيع في الطعام — يجدون أن هذا التقييم لجودة الكافيتريات موضع شك.
تتنوع الأعداد الكبيرة من الموظفين والزائرين بسيرن ما بين مهندسين وإداريين وفيزيائيين عديدين يُجْرُون التجارب بالفعل، إلى جانب ما يزيد عن ١٠٠ فيزيائيٍّ يشاركون في قسم النظريات في أي وقت. والمنظمة ذات هيكل هرمي يتولَّى فيه المديرون والمجلس مسئولية جميع شئون السياسات، بما في ذلك القرارات الاستراتيجية المهمة. ويُعرَف رئيس المؤسسة بالمدير العام، أما مجلس المنظمة، فهو الجهاز المسئول عن القرارات الاستراتيجية المهمة، مثل التخطيط للمشروعات ووَضْع جداول زمنية لها. وتولي المنظمة اهتمامًا خاصًّا بلجنة السياسات العلمية التي تمثِّل المجلس الاستشاري الرئيسي الذي يساعد في تقييم المقترحات وفائدتها العلمية.
تتسم، أيضًا، المشروعات التجريبية التعاونية الكبيرة، التي يشارك فيها الآلاف من العلماء، بهيكل خاص بها؛ فيتوزَّع العمل وفق مكونات الكواشف أو أنواع التحليل، فيمكن أن تكون مجموعة جامعية معينة مسئولة عن جزء واحد محدَّد من الجهاز أو نوع واحد معين من التفسير النظري المحتمل. والفيزيائيون النظريون في سيرن يتمتعون بحرية تفوق تلك التي يتمتع بها الفيزيائيون التجريبيون فيما يتعلق بالعمل على أي شيء يرونه مهمًّا. وقد يرتبط عملهم أحيانًا بالتجارب التي تُجرَى في المنظمة، لكن الكثيرين منهم يعملون على أفكار أكثر تجريديةً لن تخضع للاختبار في أي وقت قريب.
وأخيرًا، فإن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن فيزيائيي الجسيمات في سيرن وجميع أنحاء العالم متحمسون بشأن مصادم الهادرونات الكبير، وهم يعلمون أن أبحاثهم المستقبلية ومستقبل المجال ذاته يعتمد على التشغيل الناجح والاكتشافات التي ستتم في غضون الأعوام العشرة إلى العشرين القادمة، هذا فضلًا عن إدراكهم التحديات التي ينطوي عليها الأمر، لكن جميعهم على ثقة بجوانب التفوق التي يتمتَّع بها هذا المشروع.
سرد مختصر لتاريخ مصادم الهادرونات الكبير
لين إيفانز هو المهندس الذي تولَّى مسئولية تشييد مصادم الهادرونات الكبير، ورغم استماعي إلى خطابه الرائع في ويلز عام ٢٠٠٩، لم ألْتَقِ به إلا مؤخرًا في مؤتمرٍ عُقِدَ في كاليفورنيا في بداية عام ٢٠١٠، وقد كان توقيتًا مناسبًا؛ إذ كان المصادم يعمل أخيرًا وفق ما كان مخطَّطًا له. وبالرغم من أن هذا الرجل الويلزي لم يَنَلْ ما يستحقه من التقدير، فقد كان السرور واضحًا على وجهه في ذلك اليوم.
ألقى لين خطبةً رائعةً بشأن الإنجازات التي حقَّقها وما اعترضه من مشكلات منذ شروعه في تشييد المصادم. أخذ يروي لنا عن البداية الفعلية للفكرة في الثمانينيات عندما أجرت سيرن الدراسات الرسمية الأولى حول خيار إنشاء مصادم بروتونات عالي الطاقة، وبعد ذلك روى لنا عن لقاء عام ١٩٨٤ الذي يعتبره أغلب الناس الطرحَ الرسميَّ للفكرة للمرة الأولى. التقى الفيزيائيون آنذاك مع مشيدي المصادم في مدينة لوزان السويسرية لطرح فكرة مصادمة حزم البروتونات معًا بطاقة تبلغ ١٠ تيرا إلكترون فولت، وانخفض هذا المقدار المُقترَح ليصل إلى ٧ تيرا إلكترون فولت في التنفيذ النهائي. وبعد نحو عقد من الزمان، في ديسمبر ١٩٩٣، قدَّمَ الفيزيائيون خطةً جريئةً لمجلس سيرن، وهو الجهاز المتحكِّم بالمنظمة في القرارات الاستراتيجية المهمة. تمثَّلَتْ هذه الخطة في تشييد مصادم الهادرونات الكبير خلال السنوات العشر التالية، عن طريق تخفيض الجهود في جميع البرامج التجريبية الأخرى بالمنظمة إلى الحد الأدنى لها، فيما عدا مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير. لكن المجلس رفض الخطة آنذاك.
في البداية، كانت إحدى الحُجَج المناهضة لمصادم الهادرونات الكبير هي المنافسة الهائلة التي يفرضها المصادم الفائق ذو الموصلية الفائقة، لكن هذا التخوُّف زال مع توقُّف ذلك المشروع في أكتوبر ١٩٩٣. وهكذا، صار مصادم الهادرونات الكبير هو الاقتراح الوحيد للمعجل الفائق الطاقة؛ ومن ثَمَّ تزايَدَ اقتناع الكثير من الفيزيائيين بأهمية المشروع. وفوق كل ذلك، حقَّقَتِ الأبحاث المتعلقة بالمصادم نجاحًا هائلًا. ترأَّسَ روبرت أيمار — الذي صار بعد ذلك رئيسًا لمنظمة سيرن أثناء مرحلة تشييد مصادم الهادرونات الكبير — لجنةَ مراجعة في نوفمبر ١٩٩٣ قضَتْ بأن المصادمَ قابلٌ للتنفيذ، واقتصاديٌّ، وآمِنٌ.
لكن العقبة الأساسية التي واجَهَها تخطيطُ مصادم الهادرونات الكبير تمثَّلَتْ في تطوير مغناطيسات على قدر كافٍ من القوة، ويمكن إنتاجها صناعيًّا للإبقاء على البروتونات ذات المستوى العالي من التعجيل في حالة دوران دائم في الحلقة. وكما رأينا في الفصل السابق، فرض حجم النفق القائم آنذاك بالفعل أكبر التحديات الفنية التي واجَهَها المصادِم؛ إذ كان نصف قطره ثابتًا؛ ومن ثَمَّ كان على المجالات المغناطيسية أن تكون ضخمة. وصَفَ لين بحبور في خطابه «الدقةَ السويسرية» للنموذج الأولي للمغناطيس الثنائي القطب البالغ طوله ١٠ أمتار، الذي نجح المهندسون والفيزيائيون في اختباره عام ١٩٩٤؛ فوصل العلماء إلى ٨٫٧٣ تسلا في محاولتهم الأولى، وكان هذا المقدار الذي كانوا يهدفون إليه بالفعل، كما كان دلالةً واعدةً للغاية على نجاح المشروع.
لكن لسوء الحظ، ورغم أن التمويل الأوروبي أكثر استقرارًا من التمويل الأمريكي، فرَضَتِ الضغوطُ غير المتوقعة في هذا الشأن مشكلات بشأن تمويل سيرن أيضًا. فواجَهَتْ ميزانية ألمانيا، التي كانت تساهم بمعظم تمويل المنظمة، أزمةً جرَّاء عملية إعادة التوحيد التي شهدتها البلاد في عام ١٩٩٠؛ ومن ثَمَّ خفضت ألمانيا مساهماتها في المنظمة، وانضمت إلى المملكة المتحدة في عدم الرغبة في أي زيادة كبيرة في ميزانية المنظمة. وقد كان كريستوفر ليولين سميث — الفيزيائي النظري البريطاني الذي خلف كارلو روبيا (الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل) في شغل منصب المدير العام للمنظمة — مشابهًا لسلفه في المنصب من حيث الدعم القوي لمصادم الهادرونات الكبير. وقد خفَّف ليولين سميث بعض الشيء من المشكلات الخطيرة المتعلقة بالميزانية، وذلك من خلال حصوله على تمويل من سويسرا وفرنسا، وهما الدولتان المضيفتان اللتان كان تشييد المصادم وتشغيله على أراضيهما سيعود عليهما على الأرجح بأكبر قدر من الفائدة.
انبهَرَ مجلس سيرن بكلٍّ من التكنولوجيا المقترَحة والحل المتعلِّق بالميزانية، ووافَقَ على تشييد مصادم الهادرونات الكبير بعد ذلك بفترة وجيزة في ١٦ ديسمبر عام ١٩٩٤. بالإضافة إلى ذلك، أقنع ليولين سميث والمنظمةُ الدولَ غير الأعضاء بالانضمام إلى المشروع والمساهمة فيه؛ فانضمت اليابان له في عام ١٩٩٥، والهند في عام ١٩٩٦، ثم روسيا وكندا بعد فترة وجيزة، والولايات المتحدة في عام ١٩٩٧.
وبفضل إسهامات الدول الأوروبية وغيرها من الدول الأخرى، تمكَّنَ مصادم الهادرونات الكبير من تجاوُز الشرط المنصوص عليه في المعاهدة الأصلية التي اشترطَتِ التشييدَ والتشغيلَ على مرحلتين، على ألَّا تتضمَّنَ المرحلة الأولى سوى ثلثَيْ عدد المغناطيسات. من الناحية العلمية والتكلفة الكلية، كان المجال المغناطيسي المنخفض خيارًا سيئًا، لكن الهدف الأساسي من هذا الشرط تمثَّلَ في إتاحة الفرصة للميزانيات بتحقيق التوازن كل عام. وفي عام ١٩٩٦، عندما خفضت ألمانيا من مساهمتها ثانيةً في المشروع بسبب تكاليف إعادة التوحيد، بدا الموقف المالي سيئًا مرةً أخرى. لكن في عام ١٩٩٧، تمكَّنَتْ سيرن من تعويض خسارتها عن طريق اللجوء للقروض للمرة الأولى من أجل تمويل عملية الإنشاء.
بعد سرد لين للحقائق المجردة المتعلقة بميزانية المشروع، انتقل في خطابه إلى بعض المسائل المبهجة، فوصف أول «سلسلة اختبار» للمغناطيسات الثنائية القطب — أي اختبار المغناطيسات المتجمعة معًا في تكوينٍ قابِلٍ للتشغيل — وأُجرِيت في ديسمبر ١٩٩٨. وقد أثبَتَ نجاحُ هذا الاختبار قابليةَ الاستمرار والتنسيق في العديد من مكونات مصادم الهادرونات الكبير، وكان علامةً بارزةً في تطويره.
وفي عام ٢٠٠٠، وبعد إيقاف العمل بمصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، تمَّ تفكيكه لإفساح المجال لتركيب مصادم الهادرونات الكبير. لكن رغم تشييد مصادم الهادرونات الكبير في نفق مُشيَّد بالفعل، واستخدامه لبعض العاملين والمرافق والبنية التحتية التي كانت موجودةً بالفعل، استلزَمَ الأمر العديدَ من ساعات العمل والموارد قبل تحويل مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير إلى مصادم الهادرونات الكبير.
والمراحل الخمس لتطوير مصادم الهادرونات الكبير تضمَّنَتْ هندسةً مدنيةً لبناء التجاويف والهياكل اللازمة لإجراء التجارب، وإقامة الخدمات العامة اللازمة لتشغيل كل شيء، وإدخال خط التبريد للحفاظ على المعجِّل باردًا، وتجهيز جميع عناصر الماكينة بما في ذلك المغناطيسات الثنائية القطب وجميع التوصيلات والكابلات المرتبطة بها، وأخيرًا تشغيل جميع الأجهزة لضمان عملها كما هو متوقَّع.
بدأ المخططون في سيرن عملهم بجدول زمني دقيق للتنسيق بين هذه المراحل المختلفة للبناء، لكن كما هو معلوم للجميع، حتى أفضل الخطط يمكن أن تفشل، ولا حاجة للقول إنَّ هذا ما حدَثَ بالضبط.
كانت المشكلات المتعلِّقة بالميزانية مصدرَ إزعاجٍ دائمًا، ولَعلِّي أتذكَّر الآن الإحباط والمخاوف التي انتابتنا نحن — العاملين — في مجال فيزياء الجسيمات في عام ٢٠٠١ أثناء انتظارنا حلَّ هذه المشكلات، لنكتشف في النهاية مدى السرعة التي يمكن لبعض مشكلات الميزانية الخطيرة أن تُحَلَّ بها، الأمر الذي سمح باستمرار تشييد المصادم. فتعاملت إدارة منظمة سيرن مع عجز التكاليف، لكن على حساب اتساع المنظمة وبنيتها التحتية.
لكن حتى بعد أن حُلَّتْ هذه المشكلات المتعلقة بالتمويل والميزانية، ظلَّتْ هناك مشكلات أخرى تحيط بتشييد المصادم؛ فوصف لين في حديثه كيف أن سلسلة من الأحداث غير المتوقعة أدَّتْ دوريًّا إلى الإبطاء من سرعة بناء المصادم.
ما كان أحد، بالتأكيد، من المشاركين في حفر تجويف «تجربة اللولب المركب للميوونات» ليتوقع العثور على فيلا رومانية من عصر الغاليين يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي أثناء الحفر، فكانت حدود تلك الفيلا موازيةً لحدود المزرعة التي لا تزال موجودةً حتى الآن. وتوقَّفَ الحفر إلى أن فحص علماء الآثار ذلك الكنز المدفون الذي تضمَّنَ بعضَ العملات المعدنية من أوستيا وليون ولندن (وهي المدن التي كانت تُعرَف باسم أوستيوم، ولجدونوم، ولندنيوم في الوقت الذي كانت فيه هذه الفيلا آهِلة بالسكان). من الواضح أن الرومانيين تفوَّقوا في سكِّ عملة مشتركة لهم على أوروبا المعاصرة التي لا يزال اليورو لم يحلَّ فيها محلَّ الجنيه الاسترليني والفرانك السويسري بعدُ، الأمر الذي شكَّل إزعاجًا بالأخص للفيزيائيين البريطانيين في سيرن الذين لم تتوفَّر لديهم العملة التي يمكنهم دفع أجرة التاكسي بها.
على عكس الصعاب التي واجهتها تجربة اللولب المركب للميوونات، مرَّتْ عملية حفر تجويف كاشف أطلس (جهاز المصادم الحلقي) دون عراقيل نسبيًّا. وقد تضمَّنَ حفْرُ هذا التجويف إزاحةَ ٣٠٠ ألف طن متري من الصخور، والمشكلة الوحيدة التي واجَهَتِ القائمين على هذا العمل تمثَّلت في أنه بمجرد إزالة الصخور، بدأت أرضية التجويف في الارتفاع قليلًا، بمعدل نحو ملِّيمتر واحد كل عام. قد لا يبدو ذلك قدرًا كبيرًا، لكن هذه الحركة كان من شأنها نظريًّا التداخل مع المحاذاة الدقيقة لأجزاء الكاشف؛ لذا لزم على المهندسين تركيب أجهزة قياس حساسة. كانت هذه الأجهزة على درجة عالية من الفعالية سمحت لها ليس فقط بالكشف عن حركات كاشف أطلس، وإنما أيضًا بتسجيل إعصار تسونامي عام ٢٠٠٤، وزلزال سوماترا الذي تسبَّبَ في ذلك الإعصار، هذا فضلًا عن أحداث أخرى وقعت فيما بعدُ.
كانت عملية بناء تجربة أطلس على عمق كبير تحت الأرض مبهرة حقًّا، فتمَّ صبُّ السقف على سطح الأرض وتعليقه باستخدام الكابلات، في حين بُنِيت الحوائط من أسفل حتى صار من الممكن إقامة السرداب عليها. وفي عام ٢٠٠٣، أُقِيمَ احتفالٌ للانتهاء من أعمال الحفر عَلَتْ فيه أصداءُ الأبواق الجبلية الطويلة التي نُفِخ فيها داخل التجويف، الأمر الذي وصفه لين بأنه كان ممتعًا للغاية. وبعد تركيب الجهاز التجريبي وتجميعه، أُنزِلت المكونات واحدًا تلو الآخَر حتى استُكْمِلَ تجميع تجربة أطلس بهذا الأسلوب الأشبه بوضع «سفينة ورقية داخل زجاجة».
على الجانب الآخَر، ظلَّتِ العقبات تواجِه إعداداتِ تجربة اللولب المركَّب للميوونات، فواجهت التجربة مجدَّدًا مشكلةً أخرى أثناء الحفر؛ إذ اكتُشِفَ — لسوء الحظ — أن مكان التجربة لم يقع أسفله موقع أثري نادر فحسب، وإنما أيضًا نهر جوفي. ومع هطول الأمطار الغزيرة ذلك العام، فوجئ المهندسون والفيزيائيون بأن الأسطوانة البالغ طولها ٧٠ مترًا التي أدخلوها في الأرض لنقل المواد إلى أسفل قد غطست بعمق ٣٠ سنتيمترًا، وللتعامل مع هذا العائق المؤسف، أقام الحفَّارون جدرانًا جليدية بمحاذاة جدران الأسطوانة بهدف تجميد الأرض وتحقيق الاستقرار للمنطقة، لزم كذلك تركيب بِنى داعمة لتحقيق الاستقرار للصخرة الضعيفة المحيطة بالتجويف، وتضمَّنَتْ هذه البِنى بَراغِيَّ يصل طولها إلى ٤٠ مترًا؛ ومن ثَمَّ لا عجب أن الحفر لإجراء تجربة اللولب المركب للميوونات استغرق أكثر من الوقت المتوقَّع له.
ما أنقذ الموقف هو الحجم الصغير نسبيًّا لتجربة اللولب المركب للميوونات. ونظرًا لهذا الحجم، كان الفيزيائيون التجريبيون والمهندسون قد فكَّروا بالفعل في إقامة التجربة وتجميعها على سطح الأرض؛ فتشييد المكونات وتركيبها فوق سطح الأرض أيسر بكثير، كما أنه سريع نظرًا للمساحة الواسعة التي تسمح للعمل بالتوازي. اتسم هذا التشييد فوق سطح الأرض كذلك بميزة مهمة أخرى؛ أَلَا وهي أن مشكلات التجويف ما كانت لتؤخِّر عملية الإنشاء.
رغم ذلك — وكما قد تتصور — كان إنزال ذلك الجهاز الضخم إلى باطن الأرض أمرًا صعبًا للغاية، وقد سنحت لي فرصة التفكير في ذلك عند زيارتي للتجربة للمرة الأولى في عام ٢٠٠٧. وبالفعل، لم يكن إنزال الكاشف بالمهمة اليسيرة، فبدأ إنزال الجزء الأكبر منه إلى مسافة ١٠٠ متر في الحفرة بواسطة رافعة خاصة بسرعة منخفضة للغاية تبلغ ١٠ أمتار في الساعة، وبما أن المساحة الفاصلة بين التجربة وحوائط النفق لم تتجاوز ١٠ سنتيمترات، استلزم الأمر الهبوط ببطء ووجود نظام مراقبة دقيق. أُنزِلت خمس عشرة قطعة من الكاشف في الفترة ما بين نوفمبر ٢٠٠٦ ويناير ٢٠٠٨، وتم ذلك في توقيت عصيب؛ إذ جاء إنزال آخِر قطعة مقارِبًا على نحو وشيك للتاريخ المحدَّد لبدء العمل في مصادم الهادرونات الكبير.
تلَتْ مشكلةَ المياه التي واجهتها تجربة اللولب المركب للميوونات أزمةٌ في تشييد جهاز مصادم الهادرونات الكبير نفسه، كان ذلك في يونيو عام ٢٠٠٤؛ إذ اكتُشِفَ آنذاك وجود مشكلات في خط توزيع الهليوم المعروف باسم «خط توزيع التبريد». توصَّلَ الباحثون في سيرن، الذين بحثوا في الأمر، إلى أن الشركة الفرنسية التي تولَّتْ ذلك المشروع الإنشائي قد استبدلت بالمادة المصمَّمة خصوصًا لذلك الغرض في التصميم الأصلي للمشروع ما وصفه لين بأنه «مُباعِد زهيد التكلفة»؛ فأصيبت تلك المادة البديلة بتشققات، مما سمح بحدوث انقباض حراري في الأنابيب الداخلية. ولم تكن تلك القطعة التالفة الوحيدة؛ ومن ثَمَّ لزم فحص جميع التوصيلات الأخرى.
بحلول ذلك الوقت، كان قد تَمَّ تركيب جزء من خط التبريد، إلى جانب إنتاج العديد من الأجزاء الأخرى بالفعل، ولتجنُّب عرقلة سلسلة التوريد، والتسبُّب في مزيد من التأخير، قرَّرَ المهندسون في سيرن إصلاح ما تمَّ إنتاجه بالفعل، وتكليف جهة التصنيع بحلِّ المشكلة قبل تسليم الأجزاء المتبقية. وقد أسفرت العمليات الصناعية بالمنظمة، والحاجة لتحريك الأجزاء الكبيرة للماكينة وإعادة تركيبها، عن تكبُّد مصادم الهادرونات الكبير تأخيرًا لمدة عام، لكن ذلك التأخير كان أقل بكثير من السنوات العشر التي خشي لين وآخَرون من أن يتعطَّل فيها العمل إذا ما تدخَّلَ المحامون في الأمر.
دون الأنابيب ونظام تبريد، ما كان من الممكن تركيب المغناطيسات؛ ومن ثَمَّ ظلَّتِ المغناطيساتُ البالغ عددها ألفًا في ساحة انتظار السيارات بسيرن. ورغم أن تلك الساحة ضمَّتْ في أحيان كثيرة أحدث سيارات المرسيدس والبي إم دابليو، فإن المغناطيسات التي بلغت قيمتها مليار دولار تجاوَزت على الأرجح صافي القيمة المعتادة لمحتويات تلك الساحة. ومع أنها لم تتعرض للسرقة، فإن ساحة انتظار سيارات لم تكن بالمكان الأمثل لتخزين المعدات التكنولوجية، وكان من الحتمي حدوث مزيد من التأخير نتيجةً للحاجة لتخزين المغناطيسات بما يتَّفِق مع المواصفات الأولية لها.
عام ٢٠٠٥ أوشكت أزمة أخرى على الحدوث. تعلَّقت تلك الأزمة بالمجموعة الثلاثية الداخلية المُصمَّمة في مختبر فيرميلاب في الولايات المتحدة واليابان. تعمل هذه المجموعة الثلاثية الداخلية على إحداث التركيز النهائي لحزم البروتونات قبل تصادمها، وتضم ثلاثة مغناطيسات رباعية الأقطاب مع توزيع للطاقة والتبريد، ومن هنا استمدت اسمها. تعطلت هذه المجموعة الداخلية أثناء اختبارات الضغط، ورغم ما انطوى عليه هذا العطل من إحراج وتأخُّرٍ مزعجٍ، تمكَّنَ المهندسون من إصلاحه داخل النفق؛ ومن ثَمَّ لم يتسبَّب في قدر هائل من التأخير في نهاية الأمر.
بوجه عام، شهد عام ٢٠٠٥ قدرًا أكبر من النجاح مقارَنَةً بالعام السابق له. فافتُتِح تجويف تجربة اللولب المركب للميوونات في فبراير من ذلك العام، وإنْ لم يشهد الافتتاح موسيقى الأبواق الجبلية. ومن الأحداث المهمة كذلك التي شهدها شهر فبراير إنزالُ أول مغناطيس تبريد ثنائي القطب. وجدير بالذكر أن تشييد المغناطيسات كان له أهمية كبيرة في مشروع مصادم الهادرونات الكبير، وقد يسَّرَ التعاون الوثيق بين سيرن وجهاتِ التصنيع التجارية إنشاءَ تلك المغناطيسات في حينها وعلى نحو اقتصادي، فمع أن هذه المغناطيسات قد صُمِّمت في سيرن، فقد أنتجتها شركات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا. في البداية، تقدَّمَ المهندسون والفيزيائيون والفنيون في سيرن بطلبٍ للحصول على ٣٠ مغناطيسًا ثنائي القطب في عام ٢٠٠٠، بهدف إخضاعها للفحص الدقيق لضمان جودتها ومراقبة تكلفتها قبل التقدُّم بالطلب النهائي للحصول على ما يزيد عن ١٠٠٠ مغناطيس في عام ٢٠٠٢. لكن سيرن حملت على عاتقها مسئولية توفير المواد الخام والمكونات الأساسية من أجل تحقيق أعلى مستوًى من الجودة والاتساق والحد من التكلفة. ولتحقيق تلك الغاية، نقلت المنظمة ١٢٠ ألف طن متري من المواد داخل أوروبا، مستخدمةً في ذلك ١٠ شاحنات كبيرة في المتوسط يوميًّا على مدار أربعة أعوام، ولم يكن ذلك سوى جانب واحد فقط من الجهود المبذولة في مشروع مصادم الهادرونات الكبير.
بعد توصيل المغناطيسات، خضعت جميعها للاختبار وتم إنزالها بعناية عبر العمود الرأسي إلى داخل النفق الموجود بالقرب من جبال جورا التي يطل عليها مقر سيرن، ومن هناك نقلتها مركبة خاصة إلى وجهتها النهائية عبر النفق. ونظرًا لضخامة تلك المغناطيسات وابتعاد جدران النفق عن تركيبات المصادم ببضع سنتيمترات فحسب، تم إرشاد تلك المركبة أوتوماتيكيًّا باستخدام خط مرسوم على الأرضية يُكشَف عنه بصريًّا. تحركت المركبة للأمام بمعدل لا يزيد عن ميل واحد في الساعة من أجل الحد من الاهتزازات؛ معنى ذلك أن نَقْلَ مغناطيس ثنائي القطب من نقطة الإنزال إلى الجهة المقابلة في الحلقة استغرَقَ سبع ساعات.
وفي عام ٢٠٠٦؛ أي بعد خمسة أعوام من الإنشاء، تمَّ توصيل آخِر المغناطيسات الثنائية القطب البالغ عددها ١٢٣٢ مغناطيسًا. وفي عام ٢٠٠٧، كان الحدث المهم وهو إنزال آخِر مغناطيس تبريد ثنائي القطب، وإجراء أول عملية تبريد ناجحة لقطاع يبلغ طوله ٣٫٣ كيلومترات لتصل درجة حرارته إلى الدرجة المحدَّدة له وهي −٢٧١ درجة مئوية، ما سمح بتوصيل التيار الكهربي للجهاز بأكمله للمرة الأولى، ودوران عدة آلاف من وحدات الأمبير عبر المغناطيسات الفائقة التوصيل في ذلك القطاع من النفق. وكما جرت العادة في سيرن، تم الاحتفال بالحدث بشرب الشمبانيا.
أُغلِق قسم ترموستات الحرارة المنخفضة المستمر في نوفمبر ٢٠٠٧، وبدا كل شيء جاهزًا على أكمل وجه. بَيْدَ أن كارثة أخرى كادت تحدث، تضمَّنَتِ الكارثة تلك المرة ما يُعرَف باسم «وحدات الإعداد القابلة للتوصيل الكهربي». لم نكن نتابع كافة التقارير المتعلقة بمصادم الهادرونات الكبير في الولايات المتحدة، لكن أخبار هذه الكارثة الوشيكة وصلت إلينا، وقد أخبرني أحد الزملاء العاملين في سيرن بالمخاوف التي تتعلَّق بتعطُّل هذه القطعة، فضلًا عما يمكن أن ينتج عن ذلك من مشكلات في جميع أرجاء الحلقة.
تمثَّلَتِ المشكلة في الفارق البالغ نحو ٣٠٠ درجة بين درجة حرارة مصادم الهادرونات الكبير في درجة حرارة الغرفة ودرجة حرارته بعد تبريده عند تشغيله؛ فلهذا الفارق تأثير هائل على المواد المُصنَّع منها المصادم؛ إذ تنكمش الأجزاء المعدنية بالبرودة وتتمدد بالحرارة، والمغناطيسات الثنائية القطب نفسها تنكمش بضعة سنتيمترات أثناء عملية التبريد. قد لا يبدو ذلك قدرًا كبيرًا بالنسبة لجسم يبلغ طوله ١٥ مترًا، لكن البكر يجب وضعه في حدود دقة تبلغ عُشْر الملِّيمتر للحفاظ على المجال المغناطيسي المتناسق القوي اللازم لتوجيه حُزَم البروتونات على النحو الملائم.
ومن ثَمَّ، لتكييف الجهاز مع هذا التغيُّر، زُوِّدَتِ المغناطيسات الثنائية القطب بأصابع خاصة تمتد للخارج من أجل ضمان استمرار الكهرباء عند تبريد الماكينة، وتنزلق إلى مكانها ثانيةً عند ارتفاع الحرارة. لكن بسبب بعض مسامير البرشام المعيبة، سقطت تلك الأصابع بدلًا من أن ترتد إلى مكانها. الأسوأ من ذلك هو أن كل الوصلات البينية كانت عرضةً لهذا العطل، ولم يكن من الواضح أيها به مشكلة؛ ومن هنا كان التحدي في التعرف على كل مسامير البرشام المعيبة وإصلاحها، دون التسبُّب في قدر هائل من التأخير.
تجدر الإشادة هنا ببراعة المهندسين في سيرن؛ إذ توصَّلوا إلى وسيلة بسيطة لاستغلال اللاقط الكهربي الموجود على بُعْدٍ كلَّ ٥٣ مترًا بطول الحزمة، والذي تم تركيبه في البداية بهدف حثِّ الأجهزة الإلكترونية بواسطة مرور الحزم. ركَّبَ المهندسون جهازَ ذبذبةٍ في جسم بحجم كرة الطاولة، يمكن إرساله عبر النفق على طول المسار الذي ستسلكه الحزم. بلغ طول كل قطاع ثلاثة كيلومترات، وكان بإمكان تلك الكرة الاندفاع داخل هذه القطاعات لتحثَّ الأجهزة الإلكترونية في كل مرة تمر بها على أحد اللاقطات الكهربية. حينئذٍ، يمكن للمهندسين التدخُّل وإصلاح المشكلة دون الاضطرار لفتح كل وصلة بينية على طول مسار الإشعاع. وقد تندَّرَ أحد الفيزيائيين في مصادم الهادرونات الكبير على ذلك الأمر قائلًا إن التصادمات الأولى بالمصادم لم تكن بين البروتونات، وإنما بين كرة طاولة وأصبع منهارة.
بعد ذلك الحل الأخير، بدا المصادم جاهزًا للعمل، وما إن تَمَّ تركيب جميع الأجهزة به حتى صار من الممكن بدء تشغيله. وفي عام ٢٠٠٨، تعالَتْ دعوات الكثيرين مع إجراء أول اختبار لتشغيل المصادم بعد انتظارٍ دَامَ طويلًا.
سبتمبر ٢٠٠٨: الاختبارات الأولى
يكوِّن مصادم الهادرونات الكبير حُزَمًا من البروتونات، وبعد سلسلة من تعزيزات الطاقة، يدفع المصادم بهذه الحُزَم إلى داخل المعجِّل الحلقي النهائي. بعد ذلك، يرسل هذه الحزم بأرجاء النفق لتعود إلى وضعها الأولي بالضبط، ما يسمح للبروتونات بالدوران عدة مرات قبل أن تنحرف على فترات منتظمة لتتصادم بقدر عالٍ من الكفاءة. كل خطوة من هذه الخطوات تتطلب اختبارها على حدة.
تمثَّلَ الاختبار الأول الأساسي في التحقُّق مما إذا كانت الحزم ستدور بالفعل داخل الحلقة أم لا، وهو ما تأكَّدَتْ إمكانيته بالفعل. فبعد تاريخ طويل من التجارب والمحن، أطلقت سيرن في سبتمبر ٢٠٠٨ أول حزمتَيْ بروتونات في المصادم، ولم تواجِه في ذلك سوى أقل قدر من المشكلات؛ ما أدَّى إلى نتائج فاقَتْ كافة التوقعات. في ذلك اليوم، ولأول مرة، عبرت حزمتَا البروتونات بالتتابع النفقَ الضخمَ في اتجاهين متقابلين. تضمنت تلك الخطوة الواحدة إعدادَ عناصر الحقن، وبدْءَ تشغيل عناصر التحكم والمعدات، والتأكد من أن المجال المغناطيسي يمكنه الحفاظ على البروتونات داخل الحلقة، وأن جميع المغناطيسات تعمل وفق المواصفات ويمكنها العمل على نحو متزامن. وشهد مساء يوم التاسع من سبتمبر المرة الأولى التي تكون فيها هذه السلسلةُ من الأحداث جاهزةً للتطبيق، وقد عمل كل شيء كما هو مخطَّط له — بل أفضل — عند إجراء الاختبارات في اليوم التالي.
وصف جميع مَن عملوا في مصادم الهادرونات الكبير يوم العاشر من سبتمبر عام ٢٠٠٨ بأنه يوم لا يُنسَى. وعند زيارتي للمكان بعد شهر من ذلك التاريخ، سمعت قصصًا عديدة عن السعادة الغامرة التي شهدها ذلك اليوم. تتبَّعَ الناس آنَذاك مسارَ نقطتين من الضوء على شاشة الكمبيوتر بحماس منقطع النظير؛ نجحت الحزمة الأولى في العودة إلى دورتها الأولى، وسلكت — مع انحراف طفيف — المسار ذاته الذي كان من المخطَّط أن تسلكه في خلال الساعة الأولى من انطلاقها. دارت الحزمة في بادئ الأمر حول الحلقة لبضع دورات، ثم خضعت كل دفعة متتالية من البروتونات لتعديل بسيط عمل على دوران الحزمة سريعًا مئات المرات. بعد ذلك بفترة وجيزة، فعلت الحزمة الثانية نفس الأمر، مستغرقةً نحو ساعة ونصف لتتبع مسارها السليم بالضبط.
بلغ لين من السعادة ما جعله لا يعلم شيئًا بشأن البث الحي آنذاك لما يحدث من غرفة التحكم، حيث كان المهندسون يتابعون المشروع، عبر شبكة الإنترنت حيث أُذِيعت الأحداث ليتسنَّى لأي شخص متابعتها. شاهَدَ الكثير من الناس هاتين النقطتين على شاشات أجهزتهم، حتى إن المواقع اضطرت للإغلاق لتجاوزها أقصى سعة لها. جلس الناس بجميع أنحاء أوروبا — بلغ عددهم مليونَيْ نسمة وفق تقارير المكتب الصحفي بسيرن — متسمِّرين أمام الشاشات بينما كان المهندسون يعدلون مسار البروتونات لتمكينها من الدوران بنجاح حول المحيط الكامل للحلقة. وفي تلك الأثناء، ملأت الإثارة أرجاءَ سيرن، إذ تجمَّعَ الفيزيائيون والمهندسون في القاعات لمشاهدة الحدث ذاته، في تلك اللحظات بدت التطلُّعات المتعلقة بمصادم الهادرونات الكبير واعدةً للغاية. كان اليوم ناجحًا على نحو مذهل.
لكن بعد تسعة أيام فقط، تحوَّلَتْ تلك السعادة الغامرة إلى إحباط. كان من المفترض اختبارُ ميزتين جديدتين مهمتين آنذاك. لزم، أولًا، تعجيل الحزم داخل حلقة المصادم لتصل إلى مستوًى أعلى من الطاقة مقارَنَةً بحالها في الاختبار الأول الذي لم يستخدم سوى طاقةِ حقن الحزم التي حملتها البروتونات عند دخولها للمرة الأولى في حلقة المصادم. أما الجزء الثاني من الخطة، فتمثَّلَ في مصادمة هذه الحزم، وهي الخطوة التي مثَّلَتْ بالطبع نقطةً مهمَّةً للغاية في تطوُّر المصادم.
لكن في اللحظة الأخيرة يوم ١٩ سبتمبر، ورغم ما اتبعه المهندسون من اعتبارات واحتياطات عديدة، فشل الاختبار، وعند تنفيذه جاءت نتائجه كارثيةً؛ فقد أسفَرَ خطأٌ بسيطٌ في لحام الغطاء النحاسي الخارجي، الذي يصل بين اثنين من المغناطيسات المتصلة بعدد قليل للغاية من صمامات إطلاق الهليوم العاملة، في تأخُّرٍ دَامَ عامًا كاملًا قبل التمكُّنِ أخيرًا من إجراء أول مصادمة بين البروتونات.
تسبَّبَتِ الكميةُ الضخمة من الهليوم المتسرِّب في موجة انضغاطية هائلةٍ نتج عنها انفجارٌ، وفي أقل من ٣٠ ثانية، أسفرت الطاقة الناتجة عن هذا الانفجار عن إزاحة بعض المغناطيسات عن أماكنها وتدمير الفراغ داخل أنبوب الحزم، وإتلاف العزل، وتلويث ٢٠٠٠ قدم من أنبوب الحزم بالسخام. تحطَّمَ إثر ذلك عشرة مغناطيسات ثنائية القطب بالكامل، في حين تعرَّضَ ٢٩ مغناطيسًا آخَر لتلفيات استلزمت استبدالها. وغني عن القول أن ذلك لم يكن ما نطمح في حدوثه، ولم يكن أحدٌ بغُرَف التحكُّم على علم بما يحدث حتى لاحَظَ أحدهم تشغيل أحد أزرار الإيقاف في النفق بأحد أجهزة الكمبيوتر بسبب الهليوم المتسرب، وبعد ذلك بفترة وجيزة، أدركوا فقدانهم للحزمة.
علمتُ بهذه التفاصيل أثناء زيارتي للمنظمة الأوروبية بعد ذلك الحادث المؤسف ببضعة أسابيع. يجدر التذكُّر هنا أن الهدف النهائي للتصادمات هو مركز طاقة كلية تبلغ شدته ١٤ تيرا إلكترون فولت، لكن اتُّخِذَ قرار بتخفيض الطاقة إلى نحو ٢ تيرا إلكترون فولت فقط للتشغيل الأول، من أجل ضمان سَيْر كلِّ شيء على النحو الصحيح. وفيما بعد، خطَّط المهندسون لزيادة الطاقة لتصل إلى ١٠ تيرا إلكترون فولت (أي ٥ تيرا إلكترون فولت لكل حزمة) لعمليات تسجيل البيانات الأولى.
لكن الخطة صارت أكثر طموحًا بعد التأخُّر البسيط الناتج عن تعطُّل أحد المحولات يوم ١٢ سبتمبر، فواصَلَ العلماء اختبار قطاعات النفق الثمانية بطاقة وصلت إلى ٥٫٥ تيرا إلكترون فولت أثناء الفترة الزمنية التي وفَّرَها هذا التأخُّر البسيط. وتوفَّرَ لديهم ما لزم من الوقت لاختبار سبعة من بين هذه القطاعات الثمانية، فتأكَّدوا من أن هذه القطاعات قادرة على العمل على نحو سليم بطاقة أعلى، لكن لم تسنح لهم الفرصة لاختبار القطاع الثامن، ومع ذلك قرَّروا المضي قُدُمًا ومحاولة إجراء التصادمات بطاقات أعلى؛ نظرًا لأنه لم يبد أن هناك أي مشكلة.
سار كل شيء على ما يرام إلى أن حاوَلَ المهندسون رفع مستوى الطاقة بالقطاع الأخير الذي لم يخضع للاختبار. ووقع الحادث المُعطِّل عندما ارتفعت الطاقة من نحو ٤ إلى ٥٫٥ تيرا إلكترون فولت، الأمر الذي تطلَّبَ تيارًا كهربيًّا تتراوح شدته ما بين ٧٠٠٠ و٩٣٠٠ أمبير، وكانت تلك اللحظة الأخيرة التي يمكن أن يقع فيها أي خطأ، وقد وقع بالفعل.
خلال العام الذي تأخَّرَ فيه المشروع، تم إصلاح كل شيء بتكلفة بلغت حوالي ٤٠ مليون دولار، ورغم أن إصلاح المغناطيسات والإشعاع استغرَقَ وقتًا، فلم يكن ذلك بالمهمة المستحيلة؛ إذ توفَّرَ ما يكفي من المغناطيسات الاحتياطية التي يمكن إحلالها محلَّ المغناطيسات الثنائية القطب التي تعذَّرَ إصلاحها، والبالغ عددها ٣٩ مغناطيسًا. وإجمالًا، تم استبدال ٥٣ مغناطيسًا (١٤ مغناطيسًا رباعي الأقطاب، و٣٩ مغناطيسًا ثنائي القطب) في قطاع النفق الذي تعرَّض للحادث. بالإضافة إلى ذلك، تم تنظيف ما يزيد عن أربعة كيلومترات من أنبوب الحزم المفرَّغ، وتركيب نظام مقيد جديد لمائة مغناطيس رباعي الأقطاب، وإضافة ٩٠٠ منفذ جديد لتسريب ضغط الهليوم. هذا إلى جانب إضافة ٦٥٠٠ كاشف جديد إلى نظام حماية المغناطيسات.
تمثَّلَ الخطر الأكبر في وجود ١٠ آلاف مفصل بين المغناطيسات، وهي المفاصل التي كان من الممكن أن تتسبَّبَ في نفس المشكلة. تم تحديد الخطر، لكن كيف يمكن لأحد الوثوق في أن هذه المشكلة لن تعاود الظهور في بقعة أخرى بالحلقة؟ تطلَّبَ الأمرُ آلياتٍ للكشف عن أي مشكلة مماثلة قبل أن تُسفِر عن أي أضرار. وأثبت المهندسون أنهم على قدر المسئولية مجدَّدًا؛ فالنظام الذي حدَّثوه صار يبحث الآن عن حالات الانخفاض البسيطة في الجهد الكهربي التي من شأنها الإشارة إلى وجود مفاصل مقاوِمة، الأمر الذي يشير بدوره إلى وجود صدع في النظام المُغلَق الذي يضمُّ المُبرِّدات التي تحافِظ على برودة الماكينة. استلزم الحذر، كذلك، بعض التأخيرات من أجل تحسين نظام صمامات تسريب الهليوم وإجراء مزيد من الفحوصات للمفاصل والأغطية النحاسية للمغناطيسات نفسها، وهي العناصر التي يمكن أن تتسبَّبَ في تأخُّر الوصول إلى أعلى مستويات الطاقة التي صُمِّم مصادم الهادرونات الكبير للعمل عندها. لكن في ظل جميع الأنظمة الجديدة التي تعمل على مراقبة مصادم الهادرونات الكبير وتحقيق الاستقرار له، كان لين وآخَرون غيره على ثقةٍ بأن حالات ارتفاع الضغط، التي تسبَّبَتْ في التلف سيتم تفاديها.
لقد حالفنا الحظ، إلى حدٍّ ما، عندما تمكَّنَ الفيزيائيون والمهندسون من إصلاح الأعطال قبل بدء العمليات الفعلية وإطلاق الحزم في التجارب. كلَّفَ الانفجار مصادم الهادرونات الكبير عامًا من التأخير قبل التمكُّن من بدء اختبار الحزم ومحاولة إجراء التصادمات مجدَّدًا. العامُ فترةٌ زمنيةٌ طويلةٌ، لكنها ليست طويلة للغاية في حال كان الهدف هو التوصُّل إلى النظرية الأساسية للمادة التي عكفنا على دراستها على مدى الأربعين عامًا الأخيرة، بل على مدى آلاف الأعوام إذا نظرنا للأمر من نواحٍ عدة.
لكن في يوم ٢١ أكتوبر من عام ٢٠٠٨، التزمت إدارة سيرن بجزء من خطتها الأولية. ففي ذلك اليوم، انضممتُ إلى ١٥٠٠ فيزيائي وقائد عالمي خارجَ جنيف للاحتفال بالتدشين الرسمي لمصادم الهادرونات الكبير، وهو الاحتفال الذي أُعِدَّ له مقدَّمًا استبشارًا بنجاح المشروع، قبل أن يتوقَّعَ أحدٌ الأحداثَ الكارثية التي وقعت قبل ذلك التاريخ ببضعة أسابيع. حَفِلَ اليوم بالخُطَب والموسيقى، فضلًا عن الطعام الشهي الذي يمثِّل عنصرًا مهمًّا في أي حدث ثقافي أوروبي. كان الاحتفال ممتعًا وتثقيفيًّا، رغم توقيته السابق لأوانه، وبالرغم من القلق بشأن حادث شهر سبتمبر، ملأ الأملُ نفوسَ الجميع بأن هذه التجارب ستُلقِي الضوء على بعض الألغاز المتعلقة بالمادة، وضعف الجاذبية، والمادة المظلمة، وقوى الطبيعة.
رغم عدم رضى العلماء بسيرن عن التوقيت غير الموفَّق للاحتفال، فقد كان في نظري أشبه باستبصار لنجاح هذا التعاون الدولي. لم يكن هدف فعاليات الحدث تكريم الاكتشافات، وإنما تقدير إمكانات مصادم الهادرونات الكبير وحماس الدول العديدة المشاركة في إنشائه. وكانت بعض الخُطَب مشجِّعة ومُلهِمةً حقًّا، فتحدَّثَ رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا فيون، عن أهمية البحث الأساسي، وكيف أن الأزمة المالية العالمية ينبغي ألَّا تعرقِل التقدُّم العلمي. أما الرئيس السويسري، باسكال كوشيبين، فتحدَّثَ عن فضل الخدمة العامة، في حين تحدَّثَ وزير العلوم والتكنولوجيا والتعليم العالي بالبرتغال، البروفيسور خوسيه ماريانو جاجو، عن ضرورة تقديم العلم على البيروقراطية، وأهمية الاستقرار لإقامة المشروعات العلمية المهمة. كان العديد من الشركاء الأجانب يزورون سيرن للمرة الأولى من أجل الاحتفال بيوم التدشين، والشخص الذي كان يجلس بجواري في الاحتفال كان يعمل في الاتحاد الأوروبي بجنيف، لكنه لم تَطَأْ قدمُه قطُّ مقرَّ المنظمة من قبلُ، وبعد أن شاهَدَها، أخبرني — والحماس يملؤه — بأنه ينوي العودة لزيارتها مجدَّدًا مصطحِبًا زملاءه وأصدقاءه.
نوفمبر ٢٠٠٩: النجاح أخيرًا
عاد مصادم الهادرونات الكبير للعمل أخيرًا يوم ٢٠ نوفمبر عام ٢٠٠٩، وفي هذه المرة حقَّقَ نجاحًا مذهلًا. فلم تدر حزم البروتونات للمرة الأولى منذ عام فحسب، وإنما حقَّقَتْ تصادمًا أيضًا بعد بضعة أيام لتصدر وابلًا من الجسيمات التي دخلت بعد ذلك إلى التجارب. وصف لين بحماس كيف أن المصادم عمل على نحو أفضل مما توقَّعَه، وهي الملاحظة التي رأيتها مشجِّعة، لكنها غريبة بعض الشيء في الوقت نفسه؛ لأنه من المفترض أن لين كان مسئولًا عن جعل المصادم يحقِّق أكبر قدر ممكن من النجاح.
ما لم أفهمه آنذاك هو مدى سرعة عمل جميع الأجزاء على النحو الصحيح مقارَنَةً بما هو متوقَّعٌ استنادًا إلى الخبرات السابقة مع المعجلات الأخرى. فسَّرَ لي ماوريتسيو بيريني — وهو عالم تجارب إيطالي شابٌّ شارك في تجربة اللولب المركب للميوونات — ما كان يقصده لين؛ فأوضح لي أن الاختبارات، التي استغرقت ٢٥ يومًا في فترة الثمانينيات وأُجرِيت على حزم الإلكترونات والبوزيترونات بمصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير في النفق نفسه، قد تمَّتِ الآنَ في أقل من أسبوع، وحزم البروتونات مستقرة وتتبع ما هو مخطَّط لها بالضبط. ظلَّتِ البروتونات في الخط الخاص بها، ولم يُكشَف إلا عن انحراف عدد قليل منها فقط. نجحت المعدات البصرية في عملها، وكذلك اختبارات الثبات، وعمليات إعادة ضبط المحاذاة، وتماشَتِ الحُزَم الفعلية بدقةٍ مع برامج الكمبيوتر التي حاكَتْ ما يُفتَرَض أن يحدث.
في الواقع، فُوجِئَ الفيزيائيون التجريبيون عندما أُبلِغوا يوم الأحد في الساعة الخامسة مساءً — أي بعد يومين فحسب من بدء دوران الحزم المُحدَّثَة — بأن يتوقَّعوا حدوث التصادمات في اليوم التالي؛ فقد توقَّعوا أن الفترة الزمنية بين أول عملية إطلاق للحُزَم بعد الإغلاق والتصادمات الفعلية التي يمكنهم تسجيلها وقياسها ستطول عن ذلك. كانت تلك الفرصة الأولى التي سنحت لهم لاختبار تجربتهم باستخدام حزم بروتونات حقيقية، بدلًا من الأشعة الكونية التي استخدموها أثناء انتظارهم لتشغيل الجهاز، لكن ذلك الإخطار السريع بحدوث التصادمات عنى أن الوقت المتاح أمامهم ضيِّق للغاية من أجل إعادة تهيئة «الإشارات» التي تحدِّد لأجهزة الكمبيوتر التصادماتِ التي عليها تسجيلها. وصف لي ماوريتسيو ما انتابهم من توترٍ نظرًا لعدم رغبتهم في إفساد هذه الفرصة بأي تصرُّف أحمق. ففي مصادم تيفاترون، فسَدَ الاختبار الأول نتيجة لحدوث رنين مؤسف بدوران الحزم في نظام القراءة. لم يرغب أحدٌ في مشاهدة ذلك يحدث مجدَّدًا. صاحَبَ هذا القلق، بالطبع، قدرٌ هائلٌ من الإثارة لدى كلِّ مَن همَّه الأمر.
أخيرًا، أُجرِي يوم ٢٣ نوفمبر أول تصادم في مصادم الهادرونات الكبير. تصادَمَتِ الملايين من البروتونات بطاقة حقن ٩٠٠ جيجا إلكترون فولت. معنى ذلك أنه بعد سنوات من الانتظار، صار من الممكن للتجارب جَمْعُ البيانات؛ أي تسجيل نتائج تصادمات البروتونات الأولى في حلقة مصادم الهادرونات الكبير. فنجد، مثلًا، العلماءَ بتجربة تصادم الأيونات الكبيرة — وهي إحدى التجارب الأصغر حجمًا في المصادم — قد قدَّمُوا مطبوعًا مبدئيًّا (بحثًا لم يُنشَر بعدُ) بهذه البيانات يوم ٢٨ نوفمبر.
لم تمر فترة طويلة حتى جرى تعجيل بسيط لإنتاج حزم بروتونات بشدة ١٫١٨ تيرا إلكترون فولت، وهي الحزم الدوَّارة الأعلى على الإطلاق في مستوى الطاقة، وبعد أسبوع واحد من أولى تصادمات مصادم الهادرونات الكبير، يوم ٣٠ نوفمبر، وقع التصادم بين هذه البروتونات ذات المستوى الأعلى من الطاقة، وتجاوز صافي مركز الطاقة الإجمالية البالغ شدته ٢٫٣٦ تيرا إلكترون فولت أعلى مستويات الطاقة التي سبق الوصول إليها من قبلُ، محطِّمًا بذلك الرقم القياسي لمختبر فيرميلاب الذي ظلَّ محتفظًا به على مدى ثمانية أعوام.
سجَّلت ثلاثُ تجارِب بمصادم الهادرونات الكبير تصادمات بين الحُزَم، ووقعت عشرات الآلاف من هذه التصادمات على مدى الأسابيع القليلة التالية. لم تُستخدَم هذه التصادمات في اكتشاف نظريات فيزيائية جديدة، لكنها أفادت كثيرًا في الجزم بأن التجارب قد نجحت بالفعل، ويمكن استخدامها في دراسة خلفية النموذج القياسي؛ أي الأحداث التي لا تشير إلى أي شيء جديد، لكنها قد تتداخل مع الاكتشافات الفعلية.
شعر الفيزيائيون التجريبيون في جميع أنحاء العالم بالرضى عمَّا وصل إليه مصادم الهادرونات الكبير من مستويات غير مسبوقة من الطاقة. وجدير بالذكر أن المصادم قد حقَّق ذلك في وقت عصيب، فكان من المفترض إغلاق الجهاز من منتصف ديسمبر حتى مارس من العام التالي؛ ومن ثَمَّ كان لا بد لذلك أن يحدث في ديسمبر أو يتأخَّر عدة أشهر أخرى. وقد عبَّر جيف ريتشمان — وهو عالم تجارب من مدينة سانتا باربرا يعمل في المصادم — عن هذه الحقيقة بسعادة في مؤتمر حول المادة المظلمة كنتُ أحضره معه؛ إذ كان قد تراهَنَ مع أحد الفيزيائيين بمختبر فيرميلاب على أن المصادِم سيحقِّق تصادمات بمستويات من الطاقة أعلى من مصادم تيفاترون قبل نهاية عام ٢٠٠٩، وقد عكسَتْ سعادته أيهما فاز بالرهان.
وفي ظل سلاسة عمل التجارب والماكينات بعد إعادة التشغيل عام ٢٠٠٩، اختتم لين خطابه بكلمات راقت لمستمعيه، إذ قال: «الآن، وبعد أن انتهينا من مغامرة إنشاء مصادم الهادرونات الكبير، سنبدأ في خوض مغامرة الاكتشاف.»