توفيق والثورة
لندع عرابيًّا في رأس الوادي، ولننظر ماذا كان من أمر شريف ووزارة شريف. وهنا نبادر إلى القول بأن هذه المرحلة من تاريخ مصر الحديث كانت أهم المراحل جميعًا منذ الحملة الفرنسية، وأدقها وأبعدها أثرًا فيما هي مقبلة عليه بعد من مراحل …
ظن الناس أن قد انجلت الغاشية على نحو ما صور بلنت ولكنهم لم يكونوا يعلمون، أو لم يكن يعلم إلا القليلون منهم أن وراء هذا الصفو كدرًا، وأن سماء السياسة كانت يومئذ كسماء الطبيعة تصفو هنيهة لتتلبّد بعدها بالسحب المركومة، ولتتلاقى في جوانبها أبابيل سود من الغربان الناعبة فتكون حلكتها بعد الصفو أقبح ما تكون منظرًا، وأشد ما تكون إيلامًا للنفوس وإزعاجًا للخواطر.
وكيف كان يُرجى دوام الصفاء وقد كانت الشِّباك منصوبة، وقد أخذ الصائدون يدفعون الفريسة إليها دفعًا بعد أن أعياهم الأمر فلم يستطيعوا أن يأخذوها بالحيلة، أو أن يعصبوا عينيها كما كانوا من قبل يفعلون؟!
كيف كان يُرجى الصفاء، وقد كان الخديو يضمر عكس ما يظهر كأن لم يكفه ما أصاب البلاد من جراء سياسته وتنكّره للحركة الوطنية، وإيجاده بما فعل الثغرة التي كانت تنفذ منها الثعالب وبنات آوى إلى صميم حركتها وقلب نهضتها؟!
وما أشبه توفيقًا في ذلك الموقف بل في أكثر مواقفه كما أسلفنا بملك فرنسا لويس السادس عشر، ذلك الملك الذي كان يدفع الثورة في بلاده دفعًا، والذي يُعزى إلى سياسته الملتوية المذبذبة أن تنكبت تلك الثورة منهاجها السلمي العاقل، واندفعت في سبيلٍ جَرَتْ فيها الدماء، وتجمعت على جانبيها الأشلاء.
ظهر ذلك الملك للنواب أول الأمر في جلد الأسد، ثم ما لبث أن استخزى بعد وثبة ميرابو، ولكن الشائعات طافت بأهل باريس أن الملك أخذ يستعدّ ويجمع حوله الجند، فما لبث أن جرت الدماء في باريس ودكّ الناس الباستيل رمز العبودية والجبروت، ثم رأى أهل باريس بين الدهشة من الملك والزِّراية عليه والتهزؤ به أنه يركب في جماعة من النواب كان في مقدمتهم ميرابو فيزور باريس ويطوف بأنحائها، ويمرّ بخرائب الباستيل مظهرًا عطفه على الثورة والثوار، ولكنه يعود بعد ذلك فيأتي من معاني التحدّي والنَّزَق ما يجعل الشعب يذهب فيقتحم عليه غرف قصره في فرساي ويعود به إلى باريس ليكون رهينة فيها، ويتمّ الدستور فيرفع إليه فيوافق عليه. ولكن ريثما يعد العدة للهرب، ثم يضبط المسكين وفد أوشك أن يجتاز الحدود فيقضي عليه هذا العمل، وتمضي الثورة في طريقها مجنونة لا تلوي على شيء حتى تأكل آخر الأمر نفسها.
ولقد كان توفيق يسلك تجاه الثورة العرابية مسلك لويس تجاه الثورة الفرنسية مع فارق واحد، وهو أن الخديو، كان من ورائه الإنجليز، فلما لجأ إليهم توفيق كما هرب لويس لم يقضِ هذا العمل عليه، وإنما قضى على مصر …
تخلص توفيق من رياض وقد كان يسعى إلى التخلص منه. فكيف كان يريد أن يسلك مع شريف مسلكه مع رياض ولقد كان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الديمقراطية والاستبداد؟!
عادت الظروف من جديد تبين للخديو بأجلى وضوح أن الطريق الوحيد هو الانضمام إلى الحركة الوطنية ومشايعتها في صدق وإخلاص، ففي ذلك منجاته من تطرف هذه الحركة وجموحها، وفي ذلك منجاة البلاد من تدخل الأجانب باسم المحافظة على عرش الخديو، ثم من احتلال البلاد باسم القضاء على الفتن والقلاقل …
ولكن الخديو تنكّب هذا الطريق فدفع تيار الثورة بمسلكه هذا ليعجّ عجاجه، وليس في نفسه الآن إلا أن يتخلص من هذه الحركة الوطنية التي وضعت السلطة موضعها الطبيعي في يد الأمة …
ومن أعجب الأمور، بل من أقبح المظالم أنه لما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه فيما بعد من عنف وجموح حمل زعماؤها كل أوزارها وخرج عرابي المسكين بالنصيب الأوفى من هذه الأوزار، وهي لو عرضت على حقيقتها، وردّت فيها الأمور إلى أصولها لرُدّ ما يعزى إلى عرابي أو أكثره إلى الخديو دون أن يكون في ذلك أقلّ تجنٍّ على هذا ولا أدنى تحيز لذاك …
لقد ألقى الخديو بنفسه في أحضان الإنجليز منذ استعان بكلفن يوم عابدين ومنذ أن جعل كوكسن رسوله إلى عرابي وهو على رأس جنده أمام القصر، فلقد ظهر هذان بمظهر من يعطف على توفيق ومن يستنكر على عرابي ما فعل، وقرَّ في نفس توفيق أنهما وليّاه وأن بني مصر أعداؤه …
منذ ذلك الحين صار الإنجليز في ظاهر الأمر أسناد الخديو وفي حقيقته ثعالب تحتال على اصطياد الفريسة. وسيظل هذا شأن توفيق حتى يدخل عاصمة مصر بعد هزيمة الجيش المصري، في حراسة الإنجليز وحمايتهم، فيصطف عساكرهم، من المحطة إلى قصره وتحيط بعربته كتيبة منهم وتستقبله على أبواب القصر كتيبة بالنشيد الملكي البريطاني … بل إننا نستطيع أن نقول إن ركون توفيق إلى الإنجليز يرجع إلى يوم خلع أبيه، فقد رأى أباه يخلع بنفوذ هؤلاء الإنجليز لدى السلطان، فآثر أن يركن إلى الأقوياء علّهم يرضون عنه! ونكرر القول إن منجاته ومنجاة مصر كانت في ركونه إلى الحركة الوطنية، ولكن كيف كان يركن إلى من ينتزعون منه السلطة ليردوها إلى الأمة صاحبتها الحقيقية، ولا يركن إلى من يتظاهرون لديه أنهم يظاهرونه ليزيدوا سلطاته ويقضوا على مناوئيه؟
سار شريف على نهج حكيم فأرضى الأجانب أو عمل على إرضائهم بقبوله المراقبة الثنائية، وأرضى الوطنيين بتحقيق الآمال الوطنية، ولكنه ما لبث أن رأى هؤلاء الأجانب لا يدعون وسيلة لضم الخديو إليهم إلا اتّبعوها، حتى لقد ترك شريف بعد أمد قصير يعمل وحده، وكأنما وضع الخديو نفسه بنفسه في عزلة …
ولو أنها كانت عزلة عن الوطنيين دون اتصال الأجانب، وبخاصة الإنجليز، لهان أمرها، ولكن توفيقًا سوف يخلق أول الأمر بعزلته رِيبة ومخاوف في قلوب المصريين، ثم تنقلب الحال إلى كراهة وتؤدي الكراهة إلى المقاومة من جديد، ولقد كان أمام توفيق في الواقع هيئتان: الوطنيون بزعامة شريف، والعسكريون بزعامة عرابي، وكان يستطيع بشيء من حسن السياسة ألا يدع مجالًا لتدخل العسكريين من جديد، ولقد رأى بنفسه ما كان من أمر هذا التدخل بالأمس القريب …
افتتح مجلس شورى النواب في اليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٨٨١، وقد جاء في خطاب توفيق في حفلة الافتتاح ما يأتي: «أبدي لحضرات النواب مسروريتي من اجتماعهم لأجل أن ينوبوا عن الأهالي في الأمور العائدة عليهم بالنفع، وفي علم الجميع أني من وقت ما استلمت زمام الحكومة عزمت بنية خالصة على فتح مجلس النواب، ولكن تأخر للآن بسبب المشكلات التي كانت محيطة بالحكومة، فأما الآن فنحمد الله تعالى على ما يسَّر لنا من دفع المشكلات المالية بمساعدة الدول المتحابة ومن تخفيف أحمال الأهالي على قدر الإمكان، فلم يبقَ مانع من المبادرة إلى ما أنا متشوِّق لحصوله، وهو مجلس النواب الذي أنا فاتحه في هذا اليوم باجتماعكم.»
•••
هذا هو كلام الخديو فهل كانت هذه نياته؟ تلك هي المسألة … ونرى أن خير ما نجيب به هو أن ننظر في الحوادث التي تلت ذلك، ومنها يستبين إلى أي حد كان الخديو ينوي أن يعمل كما يقول.
دأب الذين كانوا يعملون من وراء ستار، أو دأبت الثعالب وبنات آوى على تخويف الخديو من ناحيتين: ناحية الحركة الوطنية، وناحية تركيا، موحين إليه في الأولى أن حكم الدستور معناه ضياع سلطة الخديو، وفي الثانية أن تركيا لا ترتاح إلى توفيق وأنها تبيّت له ما لا يحب، وغرض هؤلاء الذين يعملون في الظلام واضح، وهو أن يركن الخديو إليهم ليخلص من هذا كله.
أما عن حكم الدستور فكان ذلك يقتضي حقًّا أن يتنازل الخديو عن جانب كبير من السلطان المطلق إلى نواب الأمة، وتلك هي المشكلة، وما كانت مشكلة مصر وحدها، بل لقد كان لها مثيلات في جميع ما شهد العالم من حركات دستورية، فما نجم الخلاف بين الملكية والشعب في فرنسا إبان ثورتها الكبرى إلا من هذه الناحية، وما استمرت القلاقل قرونًا بين الملكية والشعب في إنجلترا إلا بسبب ذلك، وما استقرَّت الأمور في الدولتين إلا حينما أثبت الشعبانِ قوتَهما.
وإذن فكان لابد أن يتفاقم الخلاف بين الشعب والخديو في مصر حتى يُثبت الشعب قوتَه أو يتنازل الخديو عن مبدأ الحكم المطلق، ومن هذا الخلاف أتيحت الفرصة للثعالب …
•••
وأما عن تركيا فقد كان توفيق يستريب ويخاف من سياستها … فكّر السلطان أولًا أن يرسل جيش احتلال إلى مصر ليعيد فيها نفوذ الخلافة سيرته الأولى قبل عهد محمد علي، ولكن إنجلترا وفرنسا ما زالتا به حتى استطاعتا بالسياسة حينًا وبالتهديد بعد ذلك حينًا حتى أقلع عن هذه الفكرة، ولقد أفادتا من ذلك فائدتين: بقاء الوضع في مصر على ما هو عليه بحيث يسمح لهما بالتدخل في شئونها، والتأثير على الخديو أنهما هما الملاذ والسند …
ولقد كان الأمير عبد الحليم بن محمد علي في الآستانة يدسّ الدسائس ويسعى سعيًا متصلًا لخلع توفيق وتولي حكم مصر بدلًا منه، وكانت سيرة ذلك النشاط تزعج توفيقًا وتقلق مضجعه …
وأخيرًا أوفد السلطان وفدًا إلى مصر برئاسة علي نظامي باشا، وقد فعل السلطان ذلك دون علم الدول الأوربية، ولم تعلم بذلك الحكومة المصرية إلا عند قيام الوفد …
وكان عرابي قد كتب إلى السلطان قبل يوم عابدين، ولعل السلطان أوجس خيفة من الحركة القائمة في مصر، وظن أنها حركة تنطوي فيما تنطوي عليه على فكرة انفصالية ترمي إلى خلع سيادة الأتراك …
وكان عبد الحميد يومئذ يقاوم الحرية في بلاده ويبطش بالداعين إليها، ومكث الوفد أيامًا بمصر، ثم رحل فقرر عند السلطان نيابة عن الخديو أن البلاد هادئة ليس فيها ما يخيف، وجاء على لسان رئيس الوفد أن رجال العسكرية والزعماء جميعًا يؤكدون ولاءهم للسلطان، وأنه لذلك يثني عليهم ولا يخالجه شكٌّ في حركتهم …
•••
وقامت إنجلترا وفرنسا بمظاهرة بحرية في مياه الإسكندرية إذ أحضرت كل منهما بارجة إلى الميناء، فلما سألتهما الحكومة المصرية عن سبب ذلك أجابتا أن سفينتيهما تغادران الإسكندرية في اليوم الذي يسافر فيه الوفد العثماني عائدًا إلى الأستانة، وقد تم ذلك فعلًا حينما غادر الوفد البلاد، ومعنى ذلك أن الدولتين لن تسمحا للسلطان حتى بمجرد النظر في أحوال مصر، ومعنى ذلك أيضًا أن يُلقيا في روع الخديو أن يلجأ إليهما إذا لزم الحال حتى ضد السلطان نفسه …
ورب قائل يقول: إن في مسلك تركيا ودسائس عبد الحليم ما يدعُ للخديو العذر في الاعتماد على الدولتين، ولكن هذا زعم باطل، فرجال مصر جميعًا وإن لم يكونوا في تلك الأيام يفكرون في الخروج على السلطان، إلا أنهم كانوا لا يسمحون له أن يتعدى الفرمانات المقررة، وهبْ أن للخديو العذر في أن يخاف جانب السلطان، فهل كانت الدولتان تحميانه إلا لغرض؟ وهل كان هذا الغرض إلا رغبة كل منهما أن تحل محل السلطان؟
إن الحوادث جميعًا كانت تشير للخديو إلى الطريق الوحيد الذي كان عليه أن يسلكه، ولكنه اختار الانحياز إلى إنجلترا منذ حادث عابدين كما أسلفنا القول مع تظاهره بأنه يعطف على أماني البلاد، وفي ذلك الخطر كل الخطر، وفيه مسئولية الخديو عن اتجاه الحوادث بعد ذلك إلى تلك السبيل التي أفضت بالبلاد إلى كارثة الاحتلال، ومع هذا فإن بعض المصريين كانوا إلى عهد قريب ولعل منهم من لا يزال حتى اليوم يقرن الاحتلال باسم عرابي كلما ذكر هذا الاسم، فإذا قلت لهم: إن عرابيًّا هو الذي جرّد سيفه وقاد جيشًا من المصريين ليصدَّ الاحتلال، وبذل من الجهود وحمل من الأعباء ما لا يبذل أو يحمل مثله إلا أولو العزم من الرجال، وأنه لولا ما أحاط به من خيانة لم يُحِطْ مثلُها بقائد قبله لكان النصر حليفَه لا محالة، حملوا كلامك هذا على المبالغة، وصعب عليهم أن يصدقوه، وقد أضلّهم كُتّاب الاحتلال وصنائع الاحتلال …