الثعالب وبنات آوى
قُدِّرَ على شريف أن يلاقي عنتًا شديدًا من مسلك الخديو من أول الأمر … وأخذت وزارته تشق طريقها في حذر شديد بين تلك الصعاب القائمة، وكان أعظمها دسائس الأجانب وتوثّبهم في ذلك الوقت، ولقد هال هؤلاء الأجانب انبعاث الروح الوطنية؛ إذ رأوا فيها بوادر القضاء على ما كانوا يُمنُّون به أنفسهم في مصر …
وسارت سفينة الحكم بين هذه التيارات المختلفة، تنكّر الخديو لقضية الدستور، ونشاط المدافعين عن هذه القضية، وتربّص الدولتين بالحركة جميعًا …
كان طبيعيًّا أن تفيق البلاد على صيحة عرابي، وأن تنطلق النفوس من عقالها، فلقد أتيح للناس قدرٌ من الحرية وهم إليها عطاش تتحرق نفوسهم، فبدأ الوطنيون يعبِّرون عما احتبس في صدورهم منذ عزل إسماعيل، وعادت الصحف تعبر عن مساوئ التدخل الأوربي، وتندد بأساليب الدخلاء في مصر، أولئك الذين سلبوها أقواتها بالحيلة، وحالوا بينها وبين أمانيها زمنًا بالإرهاب والبطش، والذين كان يحتلّ الكثيرون منهم المناصب المصرية الخطيرة ويؤجرون على أعمالهم فيها — إن كان ثمة لهم فيها من أعمال — أجورًا غالية من خزانة مصر الفقيرة …
وأخذت جريدة «الطيف»، وكان يصدرها عبد الله نديم تقاوم البهرج الزائف الذي أخذ يلتمع في مصر، فيخطف سرابه أبصار الجاهلين، والذي سماه الأوربيون مدنية ليكون لهم منه سلاح من طراز خاص يضيفونه إلى أسلحة الدسّ والكيد التي سلطوها على البلاد، وحمل الكرام الكاتبون على المراقص وحانات الخمور ودور المجون ومواخير الدعارة وغيرها من عباءات الفسوق التي كان يذيعها في مصر أولئك الذين جعلوا من مبررات تدخلهم في شئون البلاد رغبتهم في هداية أهلها إلى المدنية! …
وأخذ صيت عرابي يطغى على صيت جميع الرجال من حوله حتى البارودي وشريف، وكان لهما الحكم والجاه، والحقّ أن القلوب قد تعلّقت بعرابي تعلقًا يستحيل معه أن يعتزل السياسة أو تعتزله السياسة، بعد أن خطا في تاريخ قومه تلك الخطوة الجريئة التي كان النجاح حليفها …
أخذنا على عرابي أنه حينما طلب إليه أن يخرج من القاهرة بفرقته اشترط أن يكون ذلك بعد صدور أمر الخديو بدعوة مجلس شورى النواب، فهل نأخذ عليه أنه تدخل في الأساس الذي يجتمع عليه المجلس؟ فقد كان يرى شريف أن يكون ذلك وفق لائحة سنة ١٨٦٦، أي أول لائحة للمجلس وقد وضعت في السنة التي أنشئ فيها، على أن يضع بالتعاون مع مجلس الوزراء لائحة جديدة تجعل منه مجلسًا نيابيًّا يلائم حال البلاد، وبعد معارضة شديدة وافق عرابي على ذلك …
وتدخل عرابي في مسألة أخرى وهي الميزانية المخصصة لإبلاغ الجيش ثمانية عشر ألفًا من الجند، ولقد أبدت المراقبة المالية عدم موافقتها على المبلغ اللازم كله، وبعد أخذ ورد وافق عرابي على ما تيسر دفعه من هذا المبلغ على أن يوفّر الباقي من وجوه أخرى.
لقد قطع عرابي على نفسه عهدًا كما أسلفنا ألا يتدخل في شئون الحكومة القائمة، وعلى هذا الأساس قَبِلَ شريف رئاسة الوزارة، لذلك نرى أن تدخل عرابي في الأمور التي ذكرناها يوجب ملامته، ولن يشفع له أنه كان يطلب الخير، ولن يخفف من اللوم عليه أنه رضي آخر الأمر ولم يسبب للحكومة عنتًا، فهذه الأمور من اختصاص الحكومة، وهي لا تمس جوهر قضية البلاد.
ووجْهُ اللوم على عرابي أنه هيَّأ لأعداء الحركة القومية في مصر أن يمعنوا في تصويرها صورة عسكرية بحتة سببها تدخُّل الجند في شئون الدولة.
لم يَنِ أعداء هذه الحركة الوليدة عن مناوأتها في مصر وفي خارج مصر، وإلى هذه المناوأة يرجع سبب جموح هذه الحركة والتوائها على شريف ثم خروجها آخر الأمر من يده، ولو أنه قدِّر لمصر في تلك الأيام العصيبة أن سلك الخديو غير ما اختار لنفسه من مسلك فآزر كبير وزرائه ضد ما كان يحاك للبلاد من دسائس لأمكن أن يسير شريف بالسفينة إلى شاطئ السلامة، لكن الخديو — وا أسفاه — لم يكتف بعدم المؤازرة، بل لقد التجأ إلى الأجانب، فكان عمله هذا أقوى مساعد على نجاح سياستهم …
وكان كلفن العضو الإنجليزي في لجنة المراقبة المالية وإدوارد مالت قنصل إنجلترا في مصر هما اللذان يُحكمان الشّباك حول الخديو، وكانت لهما سياسة ماهرة غادرة تقوم على أسس أحكم وضعها أولهما وفق ما تعلم في الهند، فهما يُظهران الولاء للخديو فيدسان له بذلك السمّ في الملق، ثم هما يخوِّفانه أبدًا من تركيا والعرابيين جميعًا فيذران قلبه هواءً، وهما بعد ذلك يضللان الرأي العام في بلادهما ويرسلان التقارير السرية عما يجب أن يتبع إلى وزير الخارجية الإنجليزية …
وكانت وسيلتهما في تضليل ذلك الرأي العام السيطرة على الصحف بالسيطرة على مراسليها، وكان كلفن نفسه مراسلًا لإحدى الصحف، وكان مراسل التيمس يستقي منه المعلومات، أما شركتا روتر وهافاس فقد كان يعطى لكل منهما ألف جنيه في العام من خزائن مصر! وقل أن نصادف في تاريخ السياسة عملًا أشبه فجورًا من أن تحارَب قضية شعب بنقود من خزانته.
وكانت الحركة الوطنية تلاقي أشنع الكيد خارج مصر من جانب الصحافة أول الأمر، إلى أن منيت بعد هذه المقدمة بالتدخل الرسمي الفاجر الذي لم يدعْ في تاريخ العالم عرفًا إلا خرج عليه ولا قاعدة إلا سخر منها وحطَّمها تحطيمًا …
أخذ محررو الصحف في إنجلترا وفرنسا ينددون بثورة مصر ويسخرون من نهضة مصر، ولو أنهم كانوا يحترمون المبادئ التي نادت بها بلادهم حقًّا لمنعهم ذلك مما فعلوه …
وماذا جنت مصر يومئذ حتى تستقبل أوربا حركتها بأسوأ ما تستقبل به الحركات؟ ألم تجرِ في أوربا الدماء أنهارًا في سبيل أمثال تلك المبادئ التي كان ينادي بها المصريون؟ وكيف تكون نغماتها عذبة مشتهاة إذا تغنَّت بها أوربا ثم تكون ممجوجةً مملولة إذا هتف بها الشرقيون؟!
هذا شعب ينفض عنه غبار القرون، ويخطو نحو الحرية كما خطت أوربا، ثم هو يذبُّ الأجانب عن قوميته وقد ثقلوا عليها بامتيازاتهم الأثيمة الظالمة ثقل الحشرات والهوام، فماذا كانت ترى أوربا في هذا من معاني الفوضى والهمجية ولم يصحب حركةَ المصريين عدوانٌ على أولئك الأجانب على ما كانوا يلاقونه منهم من عنت وإفساد؟ إلا أنها السياسة والأطماع الاستعمارية تقلب عرف الناس نكرًا وتجعل المبادئ التي ينادي بها دعاة الإنسانية في نظر الساسة أحلامًا لا تجد لها مستقرًّا إلا في رؤوس الحمقى من الفلاسفة ورؤوس الأغرار من مصدقيهم … أما الساسة فقد كانوا لا يتوانون عن الكيد، ولا يفتُر لهم سعي في تلمُّس السبيل التي يستولون بها على الفريسة، وكان موقف إنجلترا وفرنسا من مصر ينطوي على كثير مما يبعث الألم والضحك معًا. وكم من المآسي ما تَضحك منه النفوس ضحكات لن يبلغ الدمع مبلغها!
كان موقف الدولتين كموقف رجلين يطمعان في استلاب شيء، وكلاهما يريده لنفسه دون الآخر، ولكنه يموِّه على صاحبه، ويفهم كلاهما حق الفهم أن أن الآخر يدرك حقيقة موقفه منه، ولكنهما على الرغم من ذلك يتغابيان ويضلّلان!
هذا هو موقف الدولتين على مسرح السياسة في تلك الأيام، ولكم شهد المتفرجون يومئذ من الأساليب الميكيافيلية وأوضاعها، ولكم شهدوا من أساليب غيرها لو قورنت هذه بها لكانت منها كالحسنات، ثم يسدل الستار والمتفرجون من أهل مصر لا يملكون أن ينطقوا بكلمة استهجان لما رأوا، بل لقد فرض الاحتلال عليهم أن ينظموا أناشيد المدح وإلا عُدَّ سكوتهم جحودًا وعنادًا. وأيّ شيء أنكى وأوجع من أن يُرغَم شعب على تقبيل الأيدي التي استلبته حقوقه والأغلال التي دارت حول عنقه؟
وليس في هذه العبارة أول شاهد على السياسة الإنجليزية فحسب، بل إن فيها خلاصة هذه السياسة، فستتربص إنجلترا بالحركة حتى يحين الوقت وحتى تستطيع أن تعمل بمفردها دون فرنسا …
وكان شريف يقظًا يفطن إلى دقة الموقف، ويدرك مرامي السياسة الإنجليزية وأساليبها، ولذلك كان لا يفتأ يحضُّ أنصار الحركة الوطنية على اتِّباع الحكمة ومجانَبَة الشطط؛ حتى لا يكون من أعمالهم وأقوالهم ما تسيء أوربا تأويله فتسوء بذلك العاقبة …
وأخذ فريق من رجال الحركة الوطنية يعاونون شريفًا على تثبيت قواعد سياسته، وكان من أثر ذلك أن تنازل عرابي عن رأيه في الموقفين السالف ذكرهما، وكان من أثر ذلك أن خففت الصحف من لهجتها وكفكفت من غلوائها، ولقد كان للشيخ محمد عبده فضل كبير في توجيه العناصر الوطنية نحو هذا المسلك، فآثرت مصر أن تركن إلى الحكمة وإن نفوس بنيها لتضطرم بالثورة …
ولكن الأفق ما لبث أن تجمعت في حواشيه الغيوم، وأحسّت السفينة بوادر عاصفة قوية ما عتمت أن هبت شديدة عاتية نفد لها صبر الرّبّان أو كاد، وتلك هي أزمة الميزانية الشهيرة، وهل كانت الثعالب تعجز عن خلق ما تشتهي من أزمات؟
فرغ شريف من إعداد لائحة المجلس ثم عرضها على النواب، وشدَّ ما كانت دهشتهم أن رأوا شريفًا يقرر فيها ألا يكون من اختصاص المجلس عند النظر في الميزانية البحث في جزية الباب العالي والدين العام وكل ما فرضه قانون التصفية على الخزانة من نفقات …
وهال النواب وأغضبهم أن يكون ذلك باتفاق شريف مع المراقبين، فرفضوا ذلك وأصروا على أن ينظروا الميزانية كاملة، وعدوا ذلك من الحقوق التي لا تقبل مساومة مهما يكن الأمر …
وأخذ شريف المسألة من الناحية العملية، فلم يشايع النواب في نظرياتهم، وأخذ يطلب إليهم الأناة والحذر، ويريهم عواقب التطرف والتعجل، ولكنهم لم يلتفتوا إليه، وظهرت في الوزارة نفسها بوادر التفكك، فلقد كان البارودي يطمع في الحكم بعد شريف، فكان لذلك يؤيد الوطنيين في موقفهم سرًّا.
وكان سلطان باشا رئيس المجلس ينقم على شريف أن لم يسلكه في سلك وزارته؛ فوجد في الخلاف القائم فرصة ينال بها من شريف، فسرعان ما اتهم شريف بالاعتدال، ثم حُمل اعتداله على الجبن والضعف. ثم بلغ الأمر حد اتهامه بالخيانة …
ووقف شريف يواجه العاصفة في صبر وجَلَد، وهو يؤمِّل أن يجنح النوَّاب إلى السلام والاعتدال، واقترح عليهم تأجيل النظر في هذه المسألة حينًا، ونشط الشيخ محمد عبده في معاونة شريف، وكان مما ذكره في هذا الصدد قوله: «لقد ظللنا ننتظر حريتنا مئات السنين أفيصعب علينا أن ننتظرها بضعة شهور أخرى؟»
ثم بدا على الأفق بعد حين ما يبشر بقرب انكشاف الغمة، فلقد أخذ النواب يتدبرون في عاقبة هذا التشدد، وبدأ العقل يتغلَّب شيئًا فشيئًا على العاطفة.
وخُيِّل لشريف أن الأزمة بسبيل أن تُحلّ، ولو أنه اطلع على الغيب لعلم أنها كانت تتضاعف ويشتد خطرها لتتخذ في النهاية الوضع الذي سوف يغير تاريخ هذه البلاد!
لمح الصائدون في هذه العاصفة الفرصة المرتقبة! … وهيهات أن يضيع هؤلاء فرصة طال بهم انتظارها، إن الخلاف قائم بين الوزارة والمجلس فليعملوا على زيادة هذا الخلاف، وليدفعوا بالخديو ليخطو أول خطوة بعد يوم عابدين ضد الحركة الوطنية فيخسر بذلك الوطنيين والعسكريين جميعًا، ويفقدوا هم الثقة فيه كل الفقد فيقرب بذلك من الأجانب أو على الأصح يزداد قربًا منهم.
ولن يعدم الإنجليز وحلفاؤهم أن يخلقوا ألف مبرر لما يفعلون، ومن أيسر الأمور عليهم أن يعلنوا أن البلاد تشيع فيها الفوضى، وأن الأجانب ومصالحهم تكتنفهم الأخطار من كل صوب، وأن الخديو بات يخشى على عرشه ولا مخرج له مما هو فيه، بل ولا مخرج لمصر مما هي فيه من خلل وارتباك إلا أن يضرب على أيدي الثائرين المفسدين في الأرض …
ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أنهم بينهم وبين أنفسهم غيرهم بينهم وبين الشعوب الشرقية، فهم لا يقبلون من هذه الشعوب ما يعدونه عندهم من مفاخر الإنسانية، وإنهم ليرمون أهل هذه الشعوب بأشنع التهم وأقساها، فالتَّأَلُّم من المظالم التي تنصب على رؤوسهم تمرُّد، والسعي إلى الحرية فوضى وهمجية، والدفاع عن البلاد وذبُّ الدخيل عنها وحشية وإجرام! … على أن هذه سنة الحياة بين القوي والضعيف منذ كان الإنسان يتخذ سلاحه من الحجر وينحت مأواه في الجبل …
ولقد كانت الدولتان تعملان على الكيد للحركة الوطنية في مصر قبل انعقاد المجلس، وكانت بينهما مراسلات في هذا الصدد، وكانت فرنسا هي المحرِّضة هذه المرة! فرنسا التي كانت سياستها منذ فشل الحملة الفرنسية تدور على مناوأة النفوذ الإنجليزي في مصر! …
ولي المسيو ليون جمبتا أمر وزارة الخارجية في فرنسا في شهر ديسمبر سنة ١٨٨١، فسرعان ما اتصل بوزير خارجية إنجلترا اللورد جرانفل محدثًا إياه في شأن مصر، مبينًا له وجوب تضامن الدولتين في العمل إزاء ما يجري هناك من أمور.
وحار جرانفل أول الأمر ماذا يجيب به على هذه الدعوة؟ فهو إن قبلها أصبح مقيدًا بالعمل مع فرنسا، وإن هو رفضها قطع على دولته الطريق وجعل لفرنسا المكان الأول في شؤون مصر …
وتلقّى جرانفل من مصر أنباءً فاجرة مالت به إلى الطريق التي اختارها …
كانت مشكلة ميزانية الجيش لا تزال قائمة بين عرابي والمراقبين، فأرجف المرجفون أن عرابيًّا يعتزم أن يأتي بثورة جديدة لإسقاط وزارة شريف وتنصيب البارودي مكانه …
وكتب السير إدوارد مالت وهو رجل مسؤول، إلى اللورد جرانفل يشكو من تدخل عرابي، ويتساءل في لهجة ساخطة بَرِمة: كيف يستطيع شريف أن يقوم على رأس الحكومة مع وجود عرابي صاحب النفوذ الفعلي في البلاد؟ وهكذا يسمح هذا الرجل لنفسه أن يكذب فيرمي عرابيًّا بما هو بريء منه؛ إذ يصوره في صورة المتعسِّف الذي تدفعه المآرب الشخصية، ولا يستحي بعد ذلك أن يكتب إلى رئيسه ينبئه بخضوع عرابي لرأي المراقبين! … ولكن جرانفل كان قد خطا نحو فرنسا خطوة لا يمكنه النكوص بعدها …
وكان مستر بلنت قد أرسل برنامج الحركة إلى جريدة التيمس، وفيه أقوى حجة على براءة هذه الحركة من عناصر الثورة أو المساس بحقوق الأجانب المالية، وكان يأمل بلنت وأصدقاؤه من الوطنيين أن يكون لنشر هذا البرنامج أثره الحسن في نفس جرانفل، ولكنه نشر في أول يناير سنة ١٨٨٢ بعد أن قضي الأمر، فلقد وافقت إنجلترا على وجهة نظر فرنسا في يوم ٣١ ديسمبر، أي عقب اجتماع المجلس بخمسة أيام …
ولم يكن في الإمكان يومئذ السير على منهاج أفضل من هذا المنهاج الحكيم، الذي كان خليقًا أن يبعث الطمأنينة في نفوس الساسة من الدولتين، وكذلك لم يكن هناك برهان على حسن نيات الوطنيين أقوى مما نشرته التيمس لمستر بلنت وهو شاهد عدل من الإنجليز للمصريين …
ولكن المسألة لم تكن مسألة اقتناع، وإنما كانت نيَّة مبيتة، وهيهات أن تجري الأمور في السياسة على الإقناع والاقتناع، فدوافع الأقوياء إلى العمل في ذلك المضمار أطماعهم، وبرهانهم أسلحتهم، وما يكون الكلام إلا تعلة الضعيف، وما أشبه كلام الضعفاء في مثل هذه المواقف بصراخ الفريسة قبل تمزيقها …
ويذكر بلنت سببًا لانحياز إنجلترا إلى فرنسا فيقول: إن إنجلترا كانت تسعى إلى عقد معاهدة تجارية مع فرنسا فيها فائدة كبيرة للتجارة الإنجليزية، ومن أجل ذلك هاودت إنجلترا فرنسا، وطاوعتها فيما تقترح في شؤون مصر، فباعت إنجلترا بذلك مصر إلى فرنسا …
وما نظن أن إنجلترا كانت من الغفلة بحيث تتنازل عن أغراضها في مصر من أجل مثل هاتيك المعاهدة التجارية، وإنما الذي نفهمه أن إنجلترا كانت تراوغ فرنسا لتفوز بهذه المعاهدة ثم تقف من فرنسا بعد ذلك فيما يتعلق بمصر موقف الاتفاق في الظاهر، بينما تعمل في الباطن وفق ما تمليه عليها أطماعها، ومما يؤيد ما نقول التحفّظ الذي أبدته إنجلترا وأقرَّتْه فرنسا ومؤداه «أن الحكومة الإنجليزية يجب ألا تعدّ مقيدة بسبب هذه المذكرة بسلوك خطة خاصة إذا ما بدا لها أن العمل ضروري». ولسوف نرى من سياسة إنجلترا في مصر ما يؤيد ما نقول.
تم الاتفاق بين الدولتين، وكان المجلس في مصر كما تقدَّم يخالف الوزارة في مسألة الميزانية، وكان بعض الوطنيين يعملون على الخروج من المأزق بالحسنى، ولاحت في أفق السياسة بوادر انكشاف الغمة …
وأي كلام يمكن أن يعبر عما تنطوي عليه هذه المذكرة من لؤم وفجور؟ ما معنى الإشارة إلى بقاء سمو الخديو على العرش؟ وما شأن الدولتين حتى تهتما بهذا الأمر؟ وبأي حق تضطلعان بمنع أسباب الارتباكات الداخلية والخارجية؟ وعلى أي أساس يقوم ادعاؤهما وجود هذه الارتباكات؟ وكيف يجوز أن يعتمد الخديو عليهما، ويستمدّ الثقة منهما مع وجود السلطان؟
هذه هي المذكرة المشتركة التي أشار إليها بلنت بقوله: «هذه المذكرة المشؤومة التي إليها يُرَدُّ كل ما وقع من المصاعب أثناء ذلك العام، والتي أفقدت مصر حريتها كما أفقدت جلادستون شرفه، وكما أفقدت فرنسا نفوذها في وادي النيل.»
ولا تسل عما أحدثته هذه المذكرة الحمقاء من سوء الأثر في مصر، لقد بلغ من إثارتها الشعور وإحراجها الصدور أن نقم عليها مالت وكلفن وتمنيا لو لم تكن! وقد كانا يريدان ألا تكون بمثل هذه الصراحة الطائشة.
وكانت النتيجة الطبيعية أن انضم المعتدلون من رجال الحركة الوطنية إلى العسكريين، وهو على خلاف ما كانت تنتظره الدولتان في غباء مضحك أو في غفلة لا ندري كيف وقعا فيها، إلا أن تكونا أرادتا إيقاظ الفتنة، وهو خير ما يفسر هذا الذي نحار فيه.
رأى عنصرا الأمة، الرجعية المسلحة … بل رأوا الغدر الأثيم يتهدد قضيتهم، وانبعثت الصيحات من كل مكان أن إنجلترا ألقت بنفسها في أحضان فرنسا، وأن فرنسا تريد أن تصنع بمصر ما صنعته بتونس، ولذلك يجب الاتِّجاه إلى السلطان والمناداة بمبدأ الجامعة الإسلامية لمقاومة هذه الحركة الأثيمة …
وعظم سخط المصريين جميعًا حين علموا أن الخديو قد قبل هذه المذكرة، ولم يكتفِ بهذا القبول المشين، فكتب إلى القنصلين يشكر حكومتيهما على ما تبديان من عطف نحوه، وفي هذا دليل صريح على أن الخديو آثر الانحياز إلى جانب الدولتين، ونسي موضعه من السلطان، ولم يعبأ بما يجد في مصر من الغضب على مسلكه …
وضاع كل أمل في تهدئة الخواطر، فأصرّ مجلس شورى النواب على موقفه في وجوب نظر الميزانية، ورأى شريف في المجلس إجماعًا ضده وحماسة ما رأى مثلها من قبل، ولقد رغب جرانفل في ملاينة الأعضاء في هذه المسألة كأنما يريد أن يعالج بعض خطئه، ولكن جمبتا رفض ذلك بحجة أنه يُسقط هيبة الحكومتين أمام الوطنيين! وما أعجب أمر هذا الرجل الذي يرى أن الهيبة تكتسب بالحماقة!
هذا ما ذكره مالت نفسه، ولكن جرانفل لم يعبأ به، وأرسل إلى جمبتا ينبئه بموافقة الحكومة الإنجليزية على آرائه، ونسي جرانفل أو تناسى أنه كتب إلى مالت قبل ذلك بنحو شهرين يقول له مشيرًا إلى حرية المصريين الوليدة: «إن الحكومة الإنجليزية إذا ما رغبت في نقص تلك الحرية أو العبث بتلك النظم التي يرجع وجودها إليها فإنها تتبع سنة تخالف تقاليد تاريخها الوطني … ليس من شيء يحملنا على سلوك خطة أخرى غير قيام حالة فوضوية في مصر.»
فليت شعري ما الذي حدث في مصر حتى تخالف إنجلترا على هذه الصورة أجمل تقاليد تاريخها الوطني؟ إلا أنها السياسة التي لا تتورع عن شيء ولا تستحي من شيء، وليتدبر في هذا الموقف مَنْ لا يزالون في هذا الشرق يتحدثون عن الضمير البريطاني والشرف البريطاني …
حاول شريف أن يحصل على مذكرة تفسيرية يستعين بها على تسكين الخواطر، فرفض جمبتا حتى هذه المذكرة، وعاد جرانفل فشايعه في هذا مشايعة عمياء على الرغم من نصح الناصحين من الإنجليز والوطنيين …
ولست أدري كيف كانت ضمائر هؤلاء الساسة تطاوعهم مع هذا على أن ينعتوا رجال مصر بالفوضى، وأن يصوروهم أطفالًا في السياسة لا يدرون ما يأخذون وما يدعون؟ ولكن ما لي أعود إلى حديث الضمائر والأمر أمر السياسة وجشع السياسة؟
وضاقت بشريف السبل فلم يدر ماذا يفعل، ووقفت السفينة لا تستطيع حراكًا، والريح من حولها عاصفة وليس في الجو بارقة أمل، والنواب لا يفتر إصرارهم ولا تنقطع زمجرتهم …
وعاد مالت يحذّر جرانفل فقال في صراحة: «إن التدخل المسلح سيصبح أمرًا محتومًا إذا تشبَّثنا بمنع المجلس من التصويت على الميزانية، ومع ذلك فجميع الحكومات تهتم بمنع ما يوجب هذا التدخل الذي إذا أقدمت عليه الدولتان وحدهما أدى إلى سوء المنقلب في هذا البلد.»
ولينظر في كلام مالت أولئك الذين يعودون باللوم على عرابي إذا ذكر الاحتلال والتدخل المسلح في شؤون مصر، ومتى يعلم هؤلاء أنه لو لم يوجد عرابي لعمل الإنجليز على خلقه؟
على الرغم من تحذير مالت أبلغت الحكومة المصرية رسميًّا في اليوم العشرين من شهر يناير سنة ١٨٨٢، أن المجلس لن ينظر في الميزانية إلا إذا أخل بالأوامر العالية التي أنشئت بمقتضاها المراقبة الثنائية …
وكان المجلس قد جنح إلى الاعتدال على الرغم من أنه يرى تدخل الدولتين عملًا لا موجب له، فتساهل تساهلًا لا يدع مجالًا لاتِّهامه بالشطط أو التورُّط، فقبل أن يقتصر نظره في الميزانية على القدر الباقي منها بعد الجزية وقانون تصفية الديون والالتزامات الدولية …
ولكن الدولتين أَبَتَا عليه حتى هذا، وأكدتا لشريف أنهما لن يقبلاه بحال، وهذا في الحق هو الشطط، بل هذه هي الفتنة، والمسألة لا تحتاج إلى بيان، فما كانت مسألة الميزانية إلا ذريعة للتدخل الفاجر ردًّا على نجاح الثورة القومية بعد يوم عابدين، فقد كان هذا النجاح مؤذنًا كما يبدو لأول وهلة بانقضاء عهد سيطرة الأجانب على البلاد … ولئن تظاهر مالت وأمثاله من الإنجليز بأنهم لا يريدون التدخل فذلك كلام يسبق كل رغبة في التدخل تأتي من جانب المستعمرين … والذي يفطن إليه المرء في غير طول نظر أن مالت كان ينصح بعدم التدخل لأنه كان يريد أن يبعد فرنسا فلا يحب أن يكون التدخل مشتركًا، وإنما يحب كل الحب أن تكون الفريسة من نصيب إنجلترا وحدها.
قال بلنت يصف لقاءه كلفن وقت اشتداد الأزمة بين شريف والنواب: «كان الخصام بين النواب وشريف في أشد حالاته، فسأله عن رأيه في الموقف فقال: إنه يراه خطيرًا جدًّا. وكان من الأمور الواضحة أن زعماء الحركة القومية قد صمَّمُوا على إسقاط شريف، فإذا نجحوا في ذلك فإنه كما قال يقطع صلته بهم، ثم أخبرني بأنه غيّر آراءه تغييرًا تامًّا فيما يتصل بهؤلاء؛ فإنه ظنهم يجنحون إلى التعقل، ولكنه يرى ألا سبيل إلى تعقلهم، ولذلك سيبذل قصارى جهده للقضاء عليهم إذا وصلوا إلى الحكم، فسألته: كيف يتسنى له أن يقترح ذلك، وكيف يعترض حركة أقرَّها أخيرًا، وقد خرجت عن طوقه وطوق كل شخص غيره؟ كيف يتسنى ذلك إلا بنفس التدخل الذي كنا نحاول جميعًا أن نتجنَّبه؟ فقال: إنه غيَّر رأيه حول التدخل كذلك، وإنه يراه الآن ضروريًّا، ويرى أنه لا مناص منه، وسوف لا يألو جهدًا في العمل عليه، فاعترضته مبينًا أن التدخل معناه الحرب والحرب معناها ضمّ مصر، فقال: إنه يدرك هذا المعنى كلَّ الإدراك … إن ما يحدث في مصر قد شوهد مثله مرات في الهند، وإن إنجلترا لن تتخلى عما تمّ لها من النفوذ في مصر، ومن العبث الكلام في حقوق المصريين وأخطائهم، فذلك ما لا يصح اعتباره، ثم كرَّر ما سلف أن قاله عن تحطيم الحركة القومية والحزب الوطني مضيفًا إلى ذلك أنه لم يعد يجعل آراءه هذه سرًّا من الأسرار.»
وذكر بلنت كذلك كتابين جاءاه من صديقين له في إنجلترا أحدهما من الأحرار، وهو جون مورلي، والآخر من المحافظين، وهو ليتون. وكان قد كتب إليهما يسألهما عطفهما على الحركة القومية في مصر، فأما أولهما فيقول: «إني أشك في أن مشروعاتك تصادف نجاحًا في هذا الوقت، إن مصر لسوء حظ أهلها ميدان للتنافس الأوربي، وستمنع تسوية شريفة فيما يهمّ مصالح أهلها لكي يتمشى ذلك مع ما يلائم فرنسا، وليست لي حيلة في ذلك، فإنها تلك النقمة التي نزلت بالدنيا ألا وهي: السياسة العليا التي ستفسد كل شيء.»
وأما ثانيهما فيقول: «إن هذه الفئة القليلة من الشعب الإنجليزي التي تفكر في الأمور الخارجية، قد امتلأت أذهانها من قبل واضطربت أفكارها بسبب ذلك الوضع الخاطئ الذي ننساق إليه في مصر، ويكادون يخافون أكبر الخوف من الجهر بآرائهم عن الموضوع، ويظهر لي أن آراءهم واهية، وفي رأيي أن هذه أولى ثمار تلك السياسة الخاطئة من أساسها التي أدّت بنا إلى أن نفقد التعاون مع ألمانيا والنمسا، ووضعتنا في الواقع تحت رحمة فرنسا، تلك الدولة التي لا يمكننا أن نعقد معها تحالفًا على أساس متين يدعو إلى الاطمئنان.»
وما نظننا بحاجة بعد هذا الذي يذكره بلنت إلى الرّدِّ على الذين يرون أن تمسك النواب بنظر الميزانية هو سبب ما مُنيت به البلاد من التدخل الأجنبي …
ولما وجد النواب شريفًا يميل إلى موافقة الدولتين، سار وفد منهم إلى الخديو فطلبوا عزله، وتعيين رئيس للوزارة يستطيع أن يسير مع نواب البلاد في سياستهم.
وسقطت وزارة شريف في اليوم الثاني من فبراير سنة ١٨٨٢. ويرى بلنت أن من عوامل سقوطها كذلك تهديد كلفن بالتدخل العاجل، وحلّت محلها وزارة البارودي بعد ثلاثة أيام، وهي الوزارة التي سوف تُعرف باسم وزارة الثورة …