أماني الصلح
لم يكن جهد أحمد عرابي منحصرًا في المطالبة بالدستور، بل كانت تنطوي نفسه على كثير من الأماني التي يتوق إلى أن يراها حقائقَ ماثلة أمامه.
كانت تخالج نفسه منذ صلته بسعيد باشا رغبات في الإصلاح مبعثها تعصبه لقوميته ذلك التعصب المحمود الذي انبعث في نفسه مما كان يراه من حرمان بني قومه في وطنهم من كل ما يشعرهم بالعزة والكرامة، بينما يتمتع بالسيادة أجلاف من الشراكسة، لم يكن لهم من حق في هذه البلاد إلا أنهم بقية هؤلاء المماليك الذين اشْتُرُوا أول أمرهم كما تُشْتَرَى السلع في الأسواق!
وكان يفطن هذا الجندي الثائر أو هذا الوطني الصادق العقيدة إلى أن الإصلاح المنشود، ينبغي أن يأتي من الأعماق فيبدأ بهؤلاء الفلاحين الذين هم عصب القومية المصرية، فمتى صلح حال هؤلاء واستشعروا في وطنهم الكرامة والعزة، قامت القومية المصرية على أساس وطيد، ومضت مصر قدمًا في طريق الرقيّ والمجد، وعزَّت على الطامعين والكائدين …
وكانت أماني هذا الرجل تظهر في خطبه التي يلقيها في شتى المناسبات، فكان كثير الإشارة إلى القضاء على الاستبداد والعناية بالعلم والمعرفة. ولكن شيئًا أشبه بخطة موضوعة يتبين في حديث له مع صديقه الإنجليزي مستر بلنت، ونحب أن يتدبر من يحبون عرابيًّا، ومن لا يزالون يكرهونه في هذا الحديث، ففيه جانب شخصية هذا الرجل الذي مسخ البهتان والعدوان شخصيته، وما كان الإنجليز — لعمر الحق — يرضون أن يكون عرابي داعية إصلاح وزعيم قومية، ويكونون هم من قضوا عليه تحقيقًا لمآربهم الاستعمارية ثم يدعون مع ذلك أنهم جاءوا لإصلاح مصر والقضاء فيها على عوامل الفوضى … لذلك عملوا على إنكار كل معنى من معاني الجدّ والنهوض في تاريخه، وتعمّدوا أن ينظروا إليه نظرة الرجل المدلّ بحكمته وتجربته إلى الطفل الذي يدعي لنفسه ما ليس له. ومن أدلة ذلك أن الجهل والغرور في مقدمة الصفات التي ينعته بها كتّاب الاحتلال، وإنهم ليعلمون بينهم وبين أنفسهم أن همة هذا الرجل وجرأته وما كان يبتغي لقومه من ضروب الإصلاح جديرة بأن تجعل منه زعيمًا أنجبته مصر، كما تنجب الأمم الزعماء، وأن تلك الصفات في أحمد عرابي المصري الفلاح لن تختلف في جوهرها عما يُعْزَى من صفات إلى أبطال الوطنية والقومية في غير مصر من أمم الأرض.
قال بلنت بعد كلام طويل جاء في صدد شرائه حديقة الشيخ عبيد بين المرج والمطرية، ولنعد إلى زيارتي التوديعية لعرابي قبل سفري. ففي هذه المناسبة تناولنا بالحديث جميع المسائل التي كانت تدور فيها المناقشات وقتئذ بين رجال الحركة القومية والتي كانت تتضمن خططهم في سبيل الإصلاح وآمالهم ومخاوفهم في الداخل والخارج.
وإن الأسابيع القليلة التي قضاها عرابي في منصبه السامي قد أكسبته نضجًا وقوّت عزيمته، فتناول معي الأمور بكل ما يمكن من سداد في الفكر ولغة الحوار.
ولقد أكَّد لي تأكيدًا وثيقًا أنه وأصحابه الوزراء يتطلعون أكبر التطلع إلى تفاهم ودي مع الحكومة الإنجليزية على كافة المسائل القائمة بينهم وبين وكلائها في القاهرة. على أنه اشتكى في شدة من مالت وكلفن؛ فإن صنعهما الأخير والدور الذي أخذاه في معركة تشويه الحركة الوطنية في الصحف البريطانية يدلّان على عداوتهما … ثم قال عرابي: إنه لن يقوم سلام في القاهرة طالما أنه ليس لدينا غير هذين نتعامل وإياهما لأننا نعلم أنهما يدبِّران لنا السوء في السر وإن لم يبدُ ذلك في العلن، وسوف ننأى بجانبنا عنهما كليهما، ولكن ليس معنى ذلك أننا لهذا نريد أن نخاصم إنجلترا، فليرسل إلينا مستر جلادستون من يشاء غيرهما لنتعامل معه ونحن نتلقاه مرحبين بأذرع مبسوطة.
وتكلم عرابي كلامًا طويلًا عن الإصلاحات التي كان يفكر فيها محمود سامي والوزراء، تلك الإصلاحات التي وضع معظمها في ثبت الحسنات التي أسداها الاحتلال البريطاني إلى مصر والتي ادَّعاها اللورد كرومر لنفسه. ومن أمثلة تلك الإصلاحات إبطال السخرة التي أنزلها الأغنياء من الباشاوات الترك بالفلاحين وإبطال احتكار هؤلاء الأغنياء مياه الريّ عند زيادة النيل، ثم حماية الفلاحين من زبانية الربا من اليونانيين الذين وضعوهم بين براثنهم معتمدين على عيوب المحاكم المختلطة، وتناول التفكير في الإصلاح حتى ذلك العلاج الأخير لهذه النكبة الزراعية، ذلك العلاج الذي طالما جعله اللورد كرومر من مفاخره بوجه خاص، ألا وهو إنشاء مصرف زراعي تحت إشراف الحكومة …
وتكلم عرابي فيما تكلم فيه من المسائل عن إصلاح العدالة التي تطرق إليها الفساد في صورة مخيفة، وعن تعليم الرجال، بل وتعليم النساء كذلك، وعن طريقة الانتخاب التي تنتقى للبرلمان الجديد، وعن مشكلة الرق …
وقد تكلم طويلًا عن هذه المشكلة الأخيرة، وذلك لأن الموظفين الأوربيين في الإدارة المختصة بالقضاء على الرق، قد بدأوا كما بدأ غيرهم من الموظفين الأجانب يبدون مخاوفهم من أن النظام الاقتصادي الجديد للحكومة الوطنية سوف يؤدي إلى إنقاص رواتبهم، ولذلك عمدوا إلى ادعائهم أن نهضة الإسلام سوف تفضي إلى انتعاش تجارة الرقيق، وأظهر لي عرابي مبلغ ما في ذلك الكلام من ضعف الحجة قائلًا: إن الذين لا يزالون يمتلكون الرقيق في مصر أو الذين يريدون امتلاك الرقيق إنما هم أمراء الأسرة الخديوية وأغنياء الباشاوات، أولئك الذين توجّه ضد مظالمهم حركتنا القائمة، حركة الفلاحين القومية، وإنه حسب مبادئ الحرية الجديدة سوف يكون الناس جميعًا منذ الآن سواسية لا فرق بينهم بسبب الجنس أو اللون أو الدين، وإن انتعاش تجارة الرقيق لهو آخر شيء يمكن أن يتمشى مع هذه المبادئ …
وتناول آخر الأمر ما يتصل بضرورة الاستعداد الحربي لما يتوقع من حرب، ذلك الأمر الذي كان يعنيه بصفة خاصة لأنه جندي ولأنه وزير الحرب. وقد تحدث عن هذا في بساطة ونشاط …
قال: إن الحكومة القومية سوف لا تضع السلاح أو تغفل عما يجب من الحذر حتى تتوطد دعائم النظام الدستوري وتعترف به أوربا. وأعرب عن أمله ألا يتجاوز المخصصات الحربية التي اتفق عليها مع كلفن، وألا يضطر أن يزيد عدد المجنّدين عن الثمانية عشر ألفًا الذين تسمح بهم الفرمانات، فإذا استمرّ تهديدهم بالتدخل المسلّح فإنهم سوف يتبعون الأسلوب البروسي القائم على فكرة قصر مدة الخدمة، وبهذا يصلون إلى إيجاد قوة كبيرة هي بمثابة جيش احتياطي تحت السلاح.
وسألني عرابي رأيي عن مبلغ إمكان التصادم، فقلت في جلاء إنه كما يتبيّن لي مما تفاخر به كلفن أمامي من نية العمل على وقوعه، ومن لهجة الصحف التي وجهها لتتمشى مع ذلك، فإن الخطر حقيقي، وإن غرضي من ذهابي إلى إنجلترا هو أن أقضي على حملة الكذب التي بدأت، بكل ما في وسعي. وسيكون ما أدعو إليه هناك هو السلام وخلوص النيّات. ولكني من جهة أخرى لست أنصح له إلا بأن يظل على ثباته وعزمه، فإن خير وسائل السلام أن يستعدّ المرء للدفاع، وإن كبار أعداء مصر ليسوا بين صفوف رجال الحكومات كما هم بين صفوف رجال المال، وإن هؤلاء سوف يترددون طويلًا قبل أن يحرضوا على هجوم مسلح إذا عرفوا أن ذلك يعرض مصالحهم في مصر لخطر حرب طويلة الأمد كثيرة النفقات، وإن أمة مسلحة قد عقدت العزم على الدفاع عن حقوقها لأمة يصعب أن يُبطَش بها. وأذكر أني اقتبست له أبياتًا من بيرون تبدأ بقوله: «لا تثق في طلب الحرية بالفرنجة.» وقد وافق على ذلك الكلام موافقة قوية، وأظن أن ذلك كان آخر ما دار بيننا من كلام، وقد وعدته أنه إذا وصلت الأمور إلى أسوأ ما تصل إليه فسوف أعود لآخذ بنصيبي بين صفوفهم في المعركة من أجل الاستقلال.»
وبعد، فإن نظرة في هاتيك الأماني التي كانت تتمثل في خاطر أحمد عرابي تُرينا بُعْد ما بين هذا الرجل في صورته الحقيقية وبينه في صورته التي صورها المغرِضون.
ثار هذا الرجل ثورته فأثبت في سجل القومية المصرية يومًا لا يمحى هو يوم عابدين المشهود، بل لقد أضاف أحمد عرابي بما صنع في ذلك اليوم فصلًا إلى تاريخ الحرية في هذا الوجود …
وظفر أحمد عرابي بالدستور، ثم التفتَ بعد الدستور إلى الإصلاح الاجتماعي في ظل هذا الدستور، ثم رأى الإنجليز يتربصون به وبمصر، فأخذ يعدّ العدة للمقاومة، ولسوف يجدّ الجدّ فتجتمع فيه آمال أمة وتتمثل فيه بطولة شعب يطلب الكرامة، ويرى التاريخ لأول مرة مصريين من صميم قرى مصر يخوضون الحرب في سبيل مبادئ سامية.
فماذا كان يطلب منه أكثر من ذلك ليعترف له خصومه بالزعامة والبطولة؟ أكلّ ذنبه عندهم أنه هزم؟ ألا ما أصدق قول القائل: «ولام المخطئ الهبل.»
على أن الخيانة والخنوع من جانب فريق من المصريين كما سنرى من الحوادث هي التي سوف تودي به وبحركته …
ولو أن عرابيًّا انتصر يوم التّلِّ الكبير، أو لو أن الخديو كان في صفه وكان المصريون جميعًا من ورائه وواتاه الحظ فظفر برد الإنجليز عن مصر، أكان يجد بنو مصر في تاريخهم رجلًا قبله يستحق أن يقرنوه به؟
ألا إن خصوم هذا الرجل إنما يخاصمونه لأنهم يجهلونه فليقرأوا تاريخه في غير تحيُّزٍ وليطرحوا من نفوسهم ما بثه فيها الاحتلال، ومن أضلهم عن الحق الاحتلال …