مراوغة وتربص
جدير بنا ألا ننسى ما أسلفنا الإشارة إليه في أكثر من موضع، ألا وهو موقف الدولتين إحداهما من الأخرى موقف المراوغة والمداراة، ذلك الذي كان طرفاه أول الأمر جمبتا وجرانفل.
ولقد تغير هذا الموقف تغيرًا أساسيًّا من جهة فرنسا حينما حلّ دي فرسنيه في الحكم محل جمبتا، وذلك أن هذا الرجل قد انتهج في المسألة المصرية نهجًا جديدًا ما لبث أن بيّنه لإنجلترا حين ولي الحكم …
وقد ألقيت إلى فرسنيه مقاليد الحكم كما ذكرنا قبل أن يخلف البارودي شريفًا بخمسة أيام، فكتب إلى الحكومة الإنجليزية أنه لا يميل إلى أي تدخل عسكري في مصر، سواء أكان هذا التدخل من جانب إنجلترا وفرنسا مجتمعين، أم من جانب كل منهما على حدة، وأنه كذلك يرفض كل الرفض أن يقرّ أي تدخل من جانب الباب العالي.
ولعل جرانفل قد رأى فيه سياسة فرسنيه ما يسهل عليه الوصول إلى غرضه، مع ما قد يبدو لأول وهلة من أنها تؤدي إلى عكس ذلك، وذلك لأنه يستطيع الآن أن يلزم دي فرسنيه بسياسته التي وضعها بنفسه، بينما يلتمس هو الأسباب لتتدخل حكومته بمفردها، ولن يعدم أن يتخذ من الحوادث مبررًا لتدخله، فإن لم يجد فما أيسر خلق الحوادث واستغلالها … حتى إذا سنحت الفرصة أفلت من فرنسا وانقضَّ على الفريسة وحده.
وإذا بدا لتركيا أن تتدخل فلتستتر إنجلترا خلف فرنسا؛ لأن فرنسا هي التي تعلن أنها تمانع في تدخل الباب العالي، وأن إنجلترا لتمانع أكثر مما تمانع فرنسا حتى لا تعود مصر إلى حوزة السلطان فتضيع على إنجلترا كل آمالها، ولكنها تلقي هذه الممانعة في مهارة على عاتق فرنسا فتزداد نيَّاتها خفاءً، وتزداد في نفس الوقت قربًا من غايتها.
وكان جمبتا يشير أبدًا بالالتجاء إلى القوة ضد الوطنيين في مصر، ومن هنا جاءت المذكرة المشتركة، وكان يرى أن تتدخل الدولتان سريعًا تدخلًا عسكريًّا في مصر، ولكن جرانفل تباطأ وراح يبيِّن له ما تنطوي عليه هذه السياسة من أخطار، وإنه ليخفي في نفسه ما يخفي. ولقد جاء كلام جرانفل هذا إلى جمبتا في رسالة وصلته قبل سقوط وزارته بيوم واحد، وجاء في خاتمة هذه الرسالة قوله: «إن حكومة جلالة الملكة توافق على أن للدولتين مركزًا خاصًّا في مصر، وذلك بناءً على الاتفاقات الدولية وعلى الظروف القائمة، وإنها كذلك تعتقد أنه قد تنجم بعض المتاعب من دعوة عدة دول في مسألة حكومية كهذه، ولكن حكومة جلالة الملكة تكل إلى الحكومة الفرنسية أن تنظر فيما إذا لم يكن الموقف يتطلب الاتصال بالدول الأخرى كخير وسيلة لتناول حالة من الحالات يتبين أنها ذات مساس بالفرمانات السلطانية وعلاقات مصر الدولية.»
وقد كانت السياسة الإنجليزية تدور منذ حملة بونابرت على مقاومة نفوذ فرنسا في وادي النيل، ثم الاستيلاء عليها متى أمكن ذلك، وبخاصة بعد فتح قناة السويس، دون مراعاة أي شيء في سبيل الوصول إلى هذا الغرض …
واستفهم فرسنيه الحكومة الإنجليزية ماذا أرادته بذلك الاحتياط الذي أبلغته جمبتا بعد موافقتها على المذكرة المشتركة، فكان الجواب أن الحكومة البريطانية تحتفظ لنفسها بتعيين نوع العمل إذا لم يكن من العمل بدٌّ، وفي تقرير وجوب العمل أو عدم وجوبه على وجه العموم …
ثم أراد جرانفل أن يخفِّف من وقع هذا الكلام في نفس فرسنيه، فذكر أنه ليس في مصر ما يدعو إلى القلق فإن الوزارة الجديدة تجهر برغبتها في المحافظة على تعهدات مصر الدولية، وإذا وقع ما يقتضي التدخل فإن الحكومة الإنجليزية تجعل أساس ذلك تضامن أوربا مع وجوب اشتراك السلطان في كل خطوة وفي كل مفاوضة يؤدي إليها هذا التدخل.
وفي تلك الأثناء كان كلفن ومالت يحكمان دسائسهما في البلاد ويباعدان بين الخديو ووزرائه، ولا يتوانيان في خلق الضرورة التي تقضي بالعمل!
وكانت الحكومة الإنجليزية التي تقف من فرنسا ذلك الموقف الذي أشرنا إليه تفكِّر في ذلك الوقت في إعداد حملتها على مصر! ففي اليوم الخامس عشر من شهر مارس، أي بعد استلام البارودي أزمّة الحكم بأربعين يومًا، زار مستر بلنت السير جارنت، ولسلي الذي سوف يكون عما قريب قائد الحملة على مصر، فدار بينهما الكلام عن هذا المشروع، يقول مستر بلنت: «ففي اليوم الخامس عشر من شهر مارس ذهبتُ لمقابلة سير جارنت ولسلي وجرت بيني وبينه محاورة تستحق أن تذكر في اهتمام، فبعد حديث قصير عن قبرص اتَّجه الكلام إلى مصر، وما عسى أن يكون لدى القوميين من مقاومة إذا وقع تدخُّل، وسألني رأيي في ذلك، فقلت إنهم بالضرورة سيحاربون، ولن يقتصر الأمر على الجند، بل سيشاركهم الناس جميعًا، وربما لجأوا بعد ذلك إلى وسائل أخرى، فرفض أن يصدِّق أن الجيش سوف ينهض لحرب ما، فصممت على عكس ذلك وقلت له: إنهم إذا أرسلوه لقهر مصر فيجب عليه أن يسير في ستين ألفًا على الأقل، وبهذا قد بالغت في تصوير المسألة بلا ريب لأني أردت أن أجعلها صعبة، بحيث إنه يجب على الحكومة أن تفكر مرتين قبل الإقدام عليها. ثم أخبرني من تلقاء نفسه أنهم شاوروه مرتين أو ثلاثًا أثناء الشتاء في احتلال عاجل، وأكد لي مع ذلك أنه لا يحب التدخّل، وأن القيام باحتلال مصر عمل لن يقابله الجيش بالاستحسان، وأنه هو نفسه سوف يؤسفه جدًّا أن يناط به هذا العمل، وأعرب لي أنه خير لمصر كثيرًا أن تسرِّح جيشها وتعتمد على حماية أوربا، ولكني أخبرته بأني لا أستطيع أن أفصح للمصريين بذلك، وأن الأمة التي تنوي الحرب نية صادقة قلما هاجمها عدوٌّ، فقال: إنه ليس هناك ما يسمى بالشرف في الحرب، وإنه إذا كانت المسألة مسألة حرب فيجب ألا يثقوا بنا أكثر مما يثقوا بأية أمة أخرى … ثم تكلّم بعد ذلك عن الطرق الحربية المؤدية إلى القاهرة كطريق بونابرت على الضفة اليسرى للنيل، ثم طريق الصحراء بوجه خاص بين ترعة السويس والدلتا، ولقد شعرت أنه إذا ما أنزلت جنود إنجليزية في مصر فعلًا فإنها ستسير في الطريق الثاني، ولكني كنت حريصًا ألا أدلي إليه بما يكون فيه أقل فائدة له من المعلومات. ولم أبد إلا الضحك عندما سألني بين الجد والمزاح عما إذا كنتُ أرافقه لأدلّه على الطريق إذا ما بلغت الأمور حدًّا ترسل معه حملة.»
ويكفي هذا الحديث وحده للدلالة على ما كانت تبيته إنجلترا لمصر وما كانت تراوغ به فرنسا …
وبينما كانت تدبر الدسائس لمصر في الداخل والخارج، لم يكن للوزارة المصرية من وسائل الدعاية شيء ما، فكان أعداؤها يتقوَّلون عليها ما شاءوا وما شاءت لهم أطماعهم، حتى لقد صُوِّر زعيم الحركة الوطنية في مصر أحمد عرابي صورًا بلغت أقصى حدود الغرابة، فهو تارة رئيس عصابة من المتمرِّدين الخارجين على القانون والنظام، وهو طورًا داعية إسماعيل اشتراه بالمال ليعمل على إعادته إلى مصر، وهو بالإضافة إلى هذا عند بعض الإنجليز أسباني أو فرنسي في زي مصري، إلى غير ذلك من الأقاويل التي لا ندري أنقابلها بالألم أم السخرية!
وانطلقت الصحف تذيع في الناس الأراجيف في غير حياء أو فتور، وليس لمصر لسان يدافع عنها إلا بلنت، فلقد سافر هذا الرجل الحرّ كيما يقابل كل من لهم صلة بالمسألة المصرية ليريهم وجه الحق في هذه القضية، وليصحح ما جاز على عقول بعض الساسة من خداع، وليكاشف الذين يدَّعون أنهم لا يعلمون الحق بما يعلم هو من الحق لعلهم يرجعون إليه.
ولقد قابل جماعة من النواب ومن رجال المال، ثم ما زال يسعى حتى ظفر بمقابلة جرانفل وزير الخارجية فتحدث إليه عما لديه من المعلومات ودافع عن قضية الحرية في مصر بكل ما في طوقه من وسائل الدفاع، ولكن شدّ ما كانت دهشته وألمه عندما انطلق جرانفل نفسه يخبره أن لديه من المعلومات ما يؤيد عنده أن عرابيًّا إن هو إلا صنيعة إسماعيل، وأن المسألة من أولها إلى آخرها ما هي إلا سلسلة من الدسائس لإرجاع الخديو السابق إلى عرشه!
وعول بلنت بعد ذلك على مقابلة جلادستون، وقد كانت شهرته قائمة على أساس ميله إلى الحرية، والأخذ بيد الشرقيين جميعًا لينهضوا من سباتهم، فلما مثل بلنت بين يديه اندفع يتحدث عن الحركة الوطنية في مصر في حماسة وطلاقة، وظل جلادستون صامتًا ينصت إليه كأنه مقبل عليه مؤمن بما يقول يقدِّره حق قدره، قال بلنت: «ثم سألني عن الجيش المصري، وسبب ظهوره في المسائل الوطنية، فإنه خشي عاقبة ذلك، فأوضحت له تاريخ الحركة كلها، وأكدت له أن ما زعمه البعض عن تدخُّل الجند أمر مبالغ فيه، وأن ما أذيع من الأنباء عن الجند وتوعّدهم النواب ليست إلا مفتريات، وقلت: إنه ليس هناك من سبب لما تبديه مصر من الاستعداد إلا خوفها من الاعتداء والتدخل.»
ولكن ماذا كان ينتظر بلنت من جرانفل وجلادستون، ولم تكن المسألة مسألة إقناع وحجة؟ ماذا كان يأمل بلنت ولم تكن المسألة ماذا يجب أن يعمل، وإنما كانت متى ينفّذ ما انعقدت النية عليه؟
وإني لأحس فيما قرأته مما كتبه بلنت عن مقابلته لجرانفل وجلادستون أنهما كانا ينظران إليه نظرتهما إلى غِرٍّ لا يفهم ما يجب أن يتبعه الإنجليزي في معاملة الشعوب الشرقية، أو إلى ناشئ في السياسة لا يدري أن الكلام شيء والخطط المرسومة شيء آخر …
ولقد علق كرومر في كتابه «مصر الحديثة» على مساعي بلنت فقال: «ومن هؤلاء الذين عطفوا على القضية نرى أبرزهم مستر ولفرد بلنت، ولقد عاش مستر بلنت زمنًا بين المسلمين، وكانت له لذة شديدة في كل شيء يتصل بهم وبدينهم، ويظهر أنه كان يعتقد في إمكان إحياء الإسلام على قواعده الأصلية، وقد تصادف أنه كان في مصر في شتاء سنة ١٨٨١، ١٨٨٢، فألقى بنفسه بكل ما تبعثه الطبيعة الشاعرية من حماسة في جانب القضية العرابية وأصبح مرشدها وفيلسوفها، كما أصبح الصديق لعرابي وأتباعه، ورأى مستر بلنت أنه كان يعنى بحركة هي إلى حد معين حركة قومية بلا نزاع، وفشل في أن يفهم فهمًا كافيًا تلك الحقيقة، وهي أن سيادة الحزب العسكري كان فيها القضاء على العنصر القومي في الحركة. وكان في وقت ما يعمل وسيطًا بين السير إدوارد مالت والقوميين.
ولكن هذا الاختيار لم يكن موفقًا، لأنه يتبين بأجلى وضوح مما ذكره بلنت في كتابه عن مساعيه أنه فيما عدا بعض المعرفة باللغة العربية لم يكن على شيء من الصفات اللازمة لتحقيق النجاح في مسألة لها ما لهذه المسألة من دقة وصعوبة، ولقد نصح للقوميين أن يعنوا بالجيش وإلا غالتهم أوربا، وكان يعني النصيحة بلا ريب، ولكنها كانت في غير وقتها كما كانت خبيثة، فلئن كان ثمة من خطر من جهة الغزو الأوربي فإن موطن هذا الخطر كان في انضمام الحزبين الوطني والعسكري، أكثر مما كان في انفصالهما، ولقد كان من السهل على السياسي المجرب أن يدرك هذا، ولم يكن للمستر بلنت تجربة سياسية ذات قيمة، وإنما كان رجلًا متحمسًا يحلم بيوتوبيا عربية.»
هذا ما يراه كرومر في بلنت، وليس عجيبًا أن يكون هذا رأي كرومر، وهو من أساطين الاستعمار، في رجل مثل بلنت كان بلا مراء من كبار الأحرار، وإنما نورد رأي كرومر هذا لأنه يكشف عن جانب من أساليب المستعمرين الإنجليز في محاولة طمس الحقائق في سبيل الوصول إلى ما يطمعون فيه من أغراض، وهو من ناحية أخرى يشف عما كان يمكن أن يقابل به مسعى رجل مثل بلنت في دوننج ستريت إبان تلك الظروف التي نتحدث عنها، ظروف مقاومة الوزارة الوطنية في مصر …
ولم يكن ينتظر أن يصيب بلنت غير الفشل، وقد كانت وزارة جلادستون تتعجّل الحوادث لتفلت من فرنسا وتنفرد بوضع يدها على مصر حتى تخلص من الموقف الحرج الذي وضعها فيه فرسنيه، فلقد ذهب هذا الوزير في تجنّب العدوان على مصر إلى حد أنه كتب إلى قنصل فرنسا في القاهرة يأمره «أن يلزم خطة التحفظ والحذر، وإن كان ذلك لا يمنعه من أن يحسن صلته بكل حكومة في مصر تحترم الاتفاقات الدولية وتحافظ على النظام».
ولقد زاد فرسنيه على هذا أن استدعى المسيو دي بلنيير العضو الفرنسي في المراقبة لما كان يعلم من مسلكه نحو الحركة الوطنية في مصر، وباستدعاء دي بلنيير خلا الجو لكلفن ومالت، فَرَاحا ينفثان سمومهما ويتعجّلان الحوادث في غير أناة ولا استحياء.
ومضت إنجلترا تتربص بمصر كما يتربص الوحش بالفريسة، وبعد شهرين من سحب دي بلنيير وقع في القاهرة ما عرف بحادث المؤامرة الشركسية.
وسيرى القارئ فيما يلي كيف استغلّ مالت وكلفن هذا الحادث العادي دون أي وازع من ضمير أو قانون أو عرف، فلننظر ماذا كان من أمرهما وأمر الخديو في هذا الحادث الذي لولا أطماع السياسة وتربّص القويّ بالضعيف ما كان ليُثير شيئًا مما أثار من متاعب للوزارة، وما كان ليلد ما ولد من أحداث …