بغي وعدوان
وكيف كانت ترجى لمصر السلامة، والإنجليز وراء الخديو يتربصون ويكيدون؟ لقد آن لمالت الآن أن يدعو حكومته إلى التدخل المسلح فقد حانت الساعة وواتت الفرصة، ولن يهمّ إنجلترا أن تكون هي المدبرة لكل ما حدث فلن يكون احتجاج الضعفاء إلا صرخة ضائعة ولن يكون منطقهم إلا ثرثرة، وشكواهم إلا تبجحًا.
لم تكن في البلاد ثورة ولا خاف فيها أجنبيٌّ على حياته أو متاعه، ولكن أعوان السوء صوروها يومئذ صورة منكرة انزعجت منها أوربا أشد الانزعاج، مع أن هؤلاء كانوا يعلمون حقيقة الأمر ويوقنون أن المسألة لا تعدو أن تكون خلافًا بين الوزارة والخديو ما كان ليبلغ ما بلغه من الشدة لولا تدخلهم على ذلك النحو الأثيم الذي بينا.
لم تكن البلاد في مثل تلك الحال من الفوضى التي ذكرها المبطلون، وحسبنا أن نورد هنا بعض ما جاء في كتابين أرسلهما عرابي باشا أن نورد هنا بعض ما جاء في كتابين أرسلهما عرابي باشا إلى مستر بلنت، وكان ذلك في أوائل شهر أبريل أي قبل الأزمة التي نحن بصددها بنحو شهر، قال عرابي: «وفيما يتصل بنا فنحن نشكرك على ما أسديت من صنيع يهمّ مصر وإنجلترا معًا، وإنا نأمل أن تكون إنجلترا أقوى صديق يعيننا على وضع نظام طيب مؤسس على الحرية وعلى أن نحذو حذو الأمم الحرة المتمدنة.
وأما عن نصيحتك التي تعطفت فأسديتها إلينا، فإنا نشكرك عليها، ونرجو منك أن تقول عنا إننا لا نألوا جهدًا في المحافظة على الهدوء والنظام، لأننا نعدّ ذلك واجبًا من أهم واجباتنا، وإنا لنحاول أن نحظى بالنجاح، ونستطيع أن نؤكد لك أن الهدوء الآن يشمل كل شيء، والسلام يسود البلاد كلها، ونحن نبذل غاية ما في وسعنا ومعنا إخواننا الوطنيون للدفاع عن حقوق من يقيمون في بلادنا، بصرف النظر عما ينتمون إليه من الأمم، وإنا نحترم كافة المعاهدات والاتفاقات الدولية كل الاحترام، ولن نسمح لأحد بالمساس بها ما دامت الدول الأوربية تحافظ على علاقاتها الوديّة بنا …
أما عما يهددنا به كبار أصحاب المصارف ورجال المال في أوربا، فإنا سنحمل ذلك في ثبات وحكمة، ففي رأينا أن ذلك الوعيد لن يضر إلا أنفسهم وإنه ليؤذي تلك الدول التي يضللونها.
وإن غرضنا الأوحد هو أن تتخلص بلادنا من العبودية والظلم والجهل، وأن نرفع بني مصر إلى مستوى يستطيعون معه أن يحولوا دون أي رجعة للاستبداد، الذي كان يضع مصر فيما سلف من الأزمنة في زوايا الإهمال …
وإن هذا الذي أكتبه إليك هو ما يفكر فيه كل مصري حر العقل محب لبلاده …»
هذا ما يقوله عرابي الذي يصوره مالت نزقًا جاهلًا مستبدًّا، والذي ظلَّ فريق من بني قومه حتى يومنا هذا لا يجدون له في خواطرهم من صورة إلا ما صور الاحتلال، فإذا ذكرت للرجل منهم عرابيًّا راح يتلو عليك ما لقّنه في المدرسة وا أسفاه من أوصاف هي أبعد ما تكون عن حقيقة هذا الرجل المظلوم، ومن أغراض شتان بينها وبين ما كان يبتغيه لقومه هذا الزعيم المفتَرَى عليه.
أجل! لا زلنا مع بالغ الأسف نسمع حتى اليوم من بعض المصريين ومنهم من له في الناس مكانته، قَدْحًا في عرابي، فإذا جادلناه لا نجد لديه من علم إلا أن عرابيًّا كان طائشًا جاهلًا، لا يدري شيئًا من شئون بلاده، إلى أمثال تلك العبارات المحفوظة التي لا تغتفر لصبي في المدرسة، وإذا كان عذر هؤلاء عن قدحهم أنهم يجهلون تاريخ هذا الرجل، فإنا لن نجد لهم عذرًا عن هذا الجهل، فذلك هو العذر الذي يوصف بأنه أقبح من الذنب …
لينظر هؤلاء فيما بيَّنَّا من آمال هذا المصلح وفيما قدمنا من أدلة بسالته وحميّته، وليتدبروا في هذا الذي يكتب لصديقه بلنت، وليسألوا أنفسهم بعد ذلك: ألا يزالون يرون في هذا الرجل جنديًّا طائشًا مغرورًا لا يدري من أمور بلاده شيئًا.
إن هذا الذي يقوله عرابي لبلنت هو ما كان يرجوه المصريون من إنجلترا قبل الاحتلال، وهو الذي ظلوا يرجونه منها بعد الاحتلال حتى يوم الناس هذا، وكم تكرر في مصر من أشباه ونظائر لهذا الموقف؟ وكم جاء مثل هذا الكلام على ألسن غير لسان عرابي، ولكنا نحجز القلم عن الاتجاه إلى غير ما نحن فيه، وقصارانا أن نقول إن السياسة الإنجليزية في مصر هي هي وإن تغيَّر الزمن واختلفت على موضع الزعامة الرجالُ …
وقد أكّد عرابي نياته في كتابه الثاني ومما جاء فيه قوله: «إننا نميل أشد الميل إلى التفاهم على روابط الصداقة والمصالح المشتركة بيننا وبين الدول التي تربطنا بهم علاقات، فإنه بالصداقة وحدها يستطيع من لهم حقوق في بلادنا أن يجنوا ثمار المعاهدات والعقود التي نجد من واجبنا العمل على احترامها وحمايتها، فإذا وقع خلاف فإنه لا يؤثر فينا فحسب، ولا تكون نحن أكثر تأثرًا به من غيرنا، وإنما تتأثر به الدول الأخرى جميعًا وبخاصة إنجلترا. ولا يخفى على السياسي الواسع العقل ما يكون من فوائد لإنجلترا من وراء مصادقتنا ومعاونتنا في كفاحنا …
وفيما يتعلق بالمراقبة فكن على يقين أنه ليس هناك ما يحول بينها وبين أداء واجبها حسب الحقوق التي قررتها الاتفاقات الدولية. ولم يكن في نيتنا قطُّ ولا في نية أحد في هذه البلاد أن يمسّ حقوق المراقبين أو يعتدي على أية معاهدة دولية …
ولئن كان ممثلو الدول في بلادنا مخلصين حقًّا لواجباتهم ولمصالح دولهم فلن يجدوا خيرًا من معاونتنا في جهودنا القومية الحقَّة، وليثبتوا بأعمالهم ما يعدوننا به في أقوالهم …
لقد صممنا أن نبذل كل ما في وسعنا لكي يكون لبلادنا موضع بين الأمم المتمدِّنة، وذلك بنشر المعرفة في البلاد، والمحافظة على الوحدة والنظام، والقضاء بالعدل بين الجميع، ولن يردنا شيء عن عزمنا قيد أنملة، ولن يخيفنا وعيد ولا تهديد أو يلوينا عن قصدنا، ولن نخضع إلا لشعور الصداقة التي نتقبَّلها ونقرُّها بكل ما في وسعنا …
أما عن هدوء البلاد، فليس هناك أيّ قلق، ونحن نحاول الآن أن نقضي على ما خلفته لنا الحكومات السالفة من مساوئ …
فلندعُ الله أن يهدي المفكِّرين من رجال السياسة في أوربا إلى الصواب، وعسى أن يعنوا بمعرفة أحوال بلادنا وبذلك يؤدون صنيعًا إلى بلادهم كما يؤدون إلى بلادنا بتقوية روابط المودة، نسأل الله أن يهيئ لنا جميعًا التمتُّع بنعمة السلام والمودة …»
ويذكر بلنت تعقيبًا على كتاب عرابي أن الشيخ محمد عبده كتب إليه كذلك يؤكد له في ذلك الوقت قيام النظام والسلام في مصر …
لم تكن البلاد إذن في حالة تدعو إلى القلق إلا إذا كان الخلاف بين الخديو ووزرائه مشكلة تستدعي حتمًا تدخل الدول الأوربية لحلها، فما يتسنى علاجها إلا على هذه الصورة.
لم يكن هذا الخلاف إلا الذريعة التي باتت إنجلترا تتحيَّنها لتخطو الخطوة التي كانت سياستها طوال القرن التاسع عشر متجهة في مصر إليها، وكانت إنجلترا قد صمَّمَت أن تقطع العقدة إذا لم يتيسَّر لها حلها، فبقطع تلك العقدة تصيب في الواقع غرضين: السيطرة على مصر، وهذا قصارى آمالها في الشرق، والتخلص من مشاركة فرنسا إياها فيما هي فيه من شئون مصر، وهذا ما كانت مصلحتها توجب الإسراع في تنفيذه.
والإنجليز قوم نبغوا في أن يأخذوا كل شيء وألا يعطوا شيئًا، وأن يستبطنوا دخيلة كل عدو أو حليف دون أن يكشفوا له عن شيء مما تنطوي عليه نفوسهم، ولهم في ذلك أساليب يعد نجاحهم فيها من أكبر أسباب تفوقهم …
لذلك تقدم هؤلاء ليلعبوا إحدى لعباتهم السياسية وقد سهَّلَتْ عليهم سياسة فرسنيه الأمر، فقد رأى هذا أن تبتعد إنجلترا وفرنسا عن التدخل المسلّح في شؤون مصر، وفاته أنه إن استطاع أن يوجه سياسة بلاده نحو هذا الهدف فما له حيلة في إنجلترا إن استعصت عليه أو غدرت به …
وتقدم فرسنيه يعرض على إنجلترا مقترحات لحل المشكلة، فطلب على لسان سفيره في إنجلترا أن ترسل الدولتان سفنًا من أسطوليهما إلى مياه الإسكندرية، وأن تطلب الحكومتان إلى تركيا ألا تتدخل في شؤون مصر في ذلك الوقت، ولكن فرنسا لا تعارض إذا حضرت بعثة عثمانية إلى مصر بدعوة من الدولتين على أن يكون عملها محدودًا وأن تكون تحت مراقبتهما.
ورأى فرسنيه أن تحاط روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا بما تتخذه إنجلترا وفرنسا حيال المسألة المصرية، على أن تكون تعليمات تلك الدول إلى سفرائها في الأستانة عين تعليمات الدولتين …
أما عن الخديو فقد عدلت فرنسا عن رأيها في خلعه، ذلك الرأي الذي كانت ترى قبل ذلك أنه لو اتبع كان قضى على كثير من الصعاب …
وكان فرسنيه يريد من المظاهرة البحرية أن يلقي الرعب في قلوب الوزراء ليقلعوا عن مقاومة الخديو فينتهي ما كان بينه وبينهم، ولقد وافق جرانفل على مقترحات فرسنيه في جملتها، ورأى أن يبلغ الباب العالي، واحتاط للمستقبل بقوله إنه قد تعرض عليه في المستقبل مقترحات أخرى …
ولكن فرسنيه لم يَرَ هذا الرأي، لأنه لم يكن يرغب في التقرب إلى تركيا، ولذلك رفضه بادئ الأمر، على أنه عاد فقبله بعد إلحاح جرانفل، وكتب إلى سفيره بالأستانة أن يبلغ السلطان أنه «ليس من المستبعد أن تقدم اقتراحات أخرى إلى تركيا فيما بعد».
وأراد جرانفل أن يبعد عن نفسه وعن حكومته تهمة الرغبة في التدخل في شؤون مصر، فاقترح أن تُدعَى الدول الأوربية إلى إرسال سفن إلى الإسكندرية تقف إلى جانب السفن الإنجليزية والفرنسية، وما كان جرانفل جادًّا فيما يقول، فإنه كان على يقين أن اقتراحه هذا سيقابل من فرنسا بالرفض، ولو كانت لديه شبهة أن ستقبله فرنسا ما تقدَّم به، بل لو أن هذا الاقتراح كان من جانب فرنسا لعارضت فيه إنجلترا أشدَّ المعارضة … ولو أن إنجلترا كانت جادَّة في مقترحها هذا لبذلت قصارى جهدها لتَحْمِل فرنسا على قبوله، ولكنها اكتفت بأن تبلغ فرسنيه على لسان وزيرها أنها تأسف ألا تقرّها فرنسا على وجهة نظرها، وأنها تعد من الخطأ عدم دعوة الدول إلى الاشتراك في تلك المظاهرة، ولكن بما أن فرنسا قد ذهبت في الموافقة على السياسة البريطانية إلى مثل ما ذهبت إليه فإن إنجلترا لا يسعها إلا أن توافق فرنسا على ما ترى …
وآمن فرسنيه بنزاهة السياسة الإنجليزية، ولو كان غير فرسنيه في موضعه لآمن بها كما آمن هذا، فلم يكن يدور بخلد أحد يومئذ أن إنجلترا كانت تترقَّب الفرصة لتنقضّ على الفريسة وحدها دون فرنسا، ولا ظهر من عملها ما يبعث على الرِّيبة …
ولكن الإنجليز خير من انتصح بنصائح مكيافلي في هذا العالم وخير من حذقها، ولو قد تأخّر الزمن بهذا الرجل لأخذ عنهم مبادئه ولوجد في أساليبهم وخططهم أبلغ أمثلة كتابه …
الحق أن هذا المكر كان يدقّ على فرسنيه وغير فرسنيه من أُولي الدهاء والخبرة من الرجال، وما كان ليفطن إلى هذا إلا من يسيء الظن بإنجلترا فيكون مبعث فطنته سوء الظن لا حسن الفهم، ونحن إنما نفطن إلى مرامي هذه السياسة بعد أن تكشَّفت عنها حجب الدهاء وتعاقبت عليها السنون، ولقد فطن إليها فرسنيه ورجال حكومته وشعبه الأريب، يوم وقعت الواقعة وانفردت إنجلترا بضرب الإسكندرية غير حاسبة لأي شيء من حولها حسابًا.
وكانت إنجلترا تبغي من سياستها هذه أن تصرف نظر الدول عن مصر، فإن دعوة تلك الدول إلى مشاركتها في المظاهرة البحرية يظهرها بمظهر من لا غرض له إلا الصالح العام، في حين أن عملها هي وفرنسا يغضب الدول ويجعلها تميل إلى التدخل لتنال حظًّا من الغنيمة في مصر أو في غير مصر يوم يكون الحساب وتوزَّع الأسلاب.
وفضلًا عن ذلك فقد كانت إنجلترا تحذَر أشد الحذر أن تُغضب السلطان فينحاز إلى عرابي وحزبه ضد توفيق، فيظهر عرابي بمظهر المحافظ على حقوق السلطان صاحب الحق الشرعي في مصر، ضد الخديو ومشايعيه من الطامعين، وعلى ذلك فكل تُهمة بالعصيان توجَّه إلى عرابي أمام الشعب المصري إنما تذهب أدراج الرياح …
ولقد فطن مالت إلى خطورة هذا الأمر، وكتب إلى حكومته ينذرها أن إغفال تركيا من شأنه أن يضمّ النواب إلى العسكريين فيقفوا جميعًا صفًّا واحدًا ضد أوربا أو على الأقل أنه يقوِّي جانب عرابي وأشياعه.
وكانت إنجلترا في الواقع تتبع سياسة حاذقة أكبر الحذق، فهي تشايع فرنسا في منعها تدخل تركيا، ولكنها في الوقت نفسه تحرص على ألا تغضب تركيا فقد تضطر إليها يومًا ما، وفي إغضابها ما قد يثيرها فتتدخل. وتعمل إنجلترا في مصر على يد مالت عملًا متصلًا لتخويف الخديو ولإذاعة المفتريات عن سوء الحال في مصر، وذلك لتمهّد السبيل إلى غاية يفضي إليها منطق الحوادث كما تزعمه، وتلك الغاية هي التدخل المسلح على أي صورة ما محافظة على أموال الأجانب وأرواحهم في مصر، وما عليها إلا أن تتحيَّن الفرصة لتنفرد بالعمل، وهي لن تحجم أن تضع فرنسا أمام الأمر الواقع كما فعلت بإزاء محمد عليّ حين صمَّم بالمرستون على القضاء عليه … ولكنها الآن تتظاهر بالنزاهة وتحرص على الظهور بمظهر دولي في سياستها نحو مصر، فتقترح اشتراك الدول في المظاهرة البحرية تارة، وتقترح دعوة السلطان إلى حل الأزمة تارة أخرى … كل ذلك في مهارة ودقة، ولكنها مع الأسف مهارة مَنْ تَجَرَّدَ من الشرف فسهلت عليه غايته، لا لشيء إلا لأنه يسلك إليها كل سبيل، ولا عبرة عنده أي سبيل يسلك …
ولما وجدت إنجلترا أن فرنسا تصرّ على استبعاد تركيا والدول جميعًا، كتبت إلى الدول قرارًا ينفي أية نية من جانبها في احتلال مصر، وأكدت أنها لم ترد بالمظاهرة البحرية إلا إقرار السلام داخل مصر، وأنها سوف تترك مصر وشأنها إذا قُضِي على ما فيها من القلاقل، وإذا لم تنجح تلك الوسائل السلمية فسوف تتفق إنجلترا والدول على ما تراه هي وفرنسا خير سياسة تتبع …
وتحدث اللورد دوفرين سفير إنجلترا بالأستانة إلى وزير الخارجية العثماني في لهجة شديدة قائلًا: «إنه إذا لم تعمل تركيا ما من شأنه أن يسهِّل على إنجلترا خطتها فسوف تزيد إنجلترا عدد القطع في الإسكندرية وتطيل أمد بقائها جميعًا هناك.»
ولكن السلطان آلمه وأغضبه أن توجد السفن الإنجليزية والفرنسية أمام الإسكندرية، فلم يكفَّ عن احتجاجه وإعلان سخطه، مما زاد الموقف حرجًا وتعقدًا …
وبينما كانت فرنسا وإنجلترا تتبادلان الرأي على النحو الذي نذكر، كان الحنق في مصر على الخديو يزداد يومًا بعد يوم، وما زال الناس في قلق وخوف من موقفه ومشايعته الإنجليز على هذه الصورة حتى وصلت السفن إلى الإسكندرية.
ولقد أخذ بعض الناس على الوطنيين أنهم لم يخلعوا الخديو في ذلك الوقت ويتصلوا بتركيا لتعين على مصر غيره، والواقع أنها مسألة دقيقة، فمن الناحية الوطنية كان يرى الوطنيون ضرورة خلعه، وحجتهم أن السكوت معناه التفريط في جانب الوطن، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا يرون أن عملهم هذا ينقلب وبالًا عليهم في ظروف كتلك الظروف التي أذاعت فيها أوربا عنهم المزعجات من الشائعات …
وفي هذه الآونة وقع في صفوف النواب ما تخجل أشد الخجل من ذكره، فقد انحاز كبيرهم سلطان إلى الإنجليز بعد أن تودَّد إلى الخديو كما أسلفنا، وشايعه عدد من النواب، ولم يكن للوطنيين من عاصم في هذه المحنة إلا الاتحاد والثبات، وكأنما تأبى الأيام إلا أن تجعل من أبناء مصر بعضهم لبعض عدو، وكان ذلك لكثرة ما يتكرر منهم، من طباعهم التي فطروا عليها. ولطالما نكب هذا الشرق المسكين بتخاذله وانقسام أبنائه بعضهم على بعض مع أنهم يرون أبدًا أن الظالمين الطامعين فيهم من أهل الغرب في الكيد لهم بعضهم أولياء بعض …
وكان انحياز سلطان والمستضعفين من النواب إلى إنجلترا أولى ثمرات المظاهرة البحرية، فإن سلطانًا حينما علم بها من الخديو فكر وتدبر فرأى أن المستقبل للخديو وللإنجليز، فلما حضرت السفن اطمأنَّ إلى الإنجليز، وآثر أن يبادر بالانحياز إليهم لتكون له الحظوة والمكانة عند أولي الجاه والبأس يوم يتخلَّصون من عرابي على أية صورة …
وأمثال سلطان هذا إنما يعملون لأشخاصهم فحسب، وعلى ذلك فهم عبيد القوة وإن تعاظموا، وهم أضعف الناس وإن تطاولوا، وهم أحرص الناس على عرض الدنيا وإن تظاهروا بالنبل والعفة، وهم إنما يدلون بجاه من يركنون إليهم من الأقوياء إدلال الخادم بسيف سيده، وسنرى يوم يكافأ سلطان بالذهب لا يحصي له عدًّا ويُنفَى عرابي من الأرض، وتصادر أملاكه التي رزقه الله، ولا يُبقي له الإنجليز في مصر صاحبًا ولا ولدًا …
ونشط مالت وأعوانه من جديد يذيعون أسوأ الأنباء عن مصر، وبخاصة عن عرابي وحزبه، حتى لقد وقف جرانفل في مجلس اللوردات في اليوم الخامس عشر من شهر مايو سنة ١٨٨٢ يتوعَّد مصر ويتهددها، ويصرِّح في غير حياء منه مما يكذب به على العالم أن النواب والأمة جميعًا في جانب الخديو!
ويعلق روثستين على هذا الرد الذي أخفته الحكومة الإنجليزية بقوله: «إن الذي نريد أن نقوله هو أن هذه الرسالة أكبر دليل على سياسة السير إدوارد مالت وبرّه بالإنسانية. ولا ريب أنه لم يكن يقصد إظهارها. وإن الإذن بنشرها فيما بعد لمما يؤخذ مرة أخرى على مقدرة اللورد جرانفل السياسية، وإن فيها دليلًا واضحًا على أن كل ما كانوا يخافونه من الأخطار التي يتعرض لها الأوربيون بسبب السيادة العسكرية كان كله زورًا وبهتانًا ولا غاية منه إلا تهيئة السبيل للتدخّل المسلح. ومهما يكن من شيء فإن الأمر لا يخرج عن إحدى اثنتين: فإما أن تكون هذه المخاوف كلها لا أصل لها، وعندئذ تتبين لنا مقدرة السير إدوارد مالت السياسية، وإما أن تكون قائمة على أساس ثابت وعندئذ يتبين لنا مقدار برِّه بالإنسانية. وسواءٌ أكانت هذه أم تلك فإن ما قاله السير إدوارد مالت كافٍ للحكم عليه بأنه من أحط طبقات الساسة الدساسين.»
وكان بلنت لا يزال يسعى سعيه في إنجلترا، فلما أعلن جرانفل تصريحه أبرق بلنت إلى عرابي في اليوم السادس عشر من مايو يقول: «ذكر لورد جرانفل في البرلمان إن سلطان باشا والنواب قد انحازوا إلى الخديو ضدك، فإن كان هذا غير صحيح فاطلب إلى سلطان باشا أن يرسل إليَّ تكذيبًا، إذا تضامنتم فلا خوف عليكم … ألا يمكنكم إقامة وزارة يرأسها سلطان؟ على أية حال عليكم بالثبات.»
وأبرق إلى سلطان في الوقت نفسه يقول: «أعتقد أن كل من يحبون مصر يجب أن يتحدوا، لا تختلف مع عرابي، إن الخطر جسيم.»
وكذلك أبرق بلنت إلى كل من بطرس باشا وأبو يوسف ومحمود باشا الفلكي والشيخ محمد عبده والشيخ الهجرسي وعبد الله نديم يقول: «هل الحزب الوطني في جانب عرابي الآن؟ الحكومة الإنجليزية تَدَّعِي غير ذلك. إذا اختلفتم ضمتكم أوربا.»
وردَّ سلطان على بلنت فقال: «زال الخلاف الذي كان بين الخديو والوزارة ولم يبقَ له أثر. كلنا متَّفِقُون على المحافظة على الأمن والسلام وعلى مناصرة الوزارة الحاضرة.»
وتلقى بلنت كذلك برقية من الشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر نصها: «من الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام، سُوِّيَ الخلاف بين الوزارة والخديو، والحزب الوطني راضٍ عن عرابي، والجيش والأمة متحدان.»
وأبرق إليه الشيخ محمد عبده بما لا يخرج عما جاء في برقية الشيخ الإمبابي، كما يشير إلى ذلك بلنت في كتابه …
ولكن أمل بلنت ما لبث أن خاب، فإن مجيء السفن إلى الإسكندرية قد ألقى في روع الخديو أنه اليوم قادر على أن ينزل بالوطنيين والعسكريين ما يشاء من انتقام، وطالما تمنى توفيق أن تواتيه الفرصة فيشفي غليل نفسه من هؤلاء الذين كانت يده مكفوفة عنهم وإنه ليكاد يتميز من الحنق عليهم …
وأخذ سلطان ومعه فريق من المستضعفين كما ذكرنا يمالئون الخديو ويتنكرون لأنفسهم على نحو كم تمنّينا لو خلا منه تاريخ القومية المصرية …
وأدى انقلاب سلطان ومن أخذ مأخذه من أشباه الرجال إلى ازدياد حرج الوزارة، وسهل على أعداء البلاد ما كانوا مقبلين عليه يومئذ من عدوان وإثم …
وود مستر بلنت لو اتحد المصريون في تلك الآونة التي لم يكن لهم فيها من أمل إلا اجتماع كلمتهم، وإنه ليعلم ما كان يدبر لهم من كيد، والواقع أنه إن كان الاتحاد قوة في كل وقت فقد كان ضرورة كذلك في هذا الوقت. ومن هذا يتبيّن لنا مبلغ ما جره على البلاد سلطان ومن معه من أمثال هؤلاء الذين لم يخل منهم جيل في تاريخ هذا البلد المنكود، أولئك الذين يكونون عدة الغاصب أبدًا ومطيته إلى مطامعه، دون أن يخالج ضمائرهم أي ندم، أو أن يميل بهم عن نهجهم شعورهم أنهم يقترفون أشنع الآثام ويأتون أقبح ضروب الإجرام.
وضاقت بالوزارة السبل، بل لقد أخذت كل سبيل عليها، وحَزَبَهَا الأمر فما تغني فيه حيلة، فها هو ذا الخديو أداة في يد الإنجليز، وها هم أولاء بعض النواب يظهرون بمظهر الانقسام والتخاذل …
واضطرب الوطنيون ممن يشايعون الوزارة، وأخذ يتسرَّب الوهن إلى النفوس، وتناصرت وساوس اليأس على حجج العقول، فزُيِّن لبعض الوطنيين أن يتخلَّصوا من الخديو فيأخذوه غيلة سرًّا أو علانية فما لهم مما هم فيه مخرج غير هذا.
لم يعمل سلطان بما أشار به بلنت في برقيته، فإنه لم يبق يومئذ على حب بلاده، وإنما غدا من الإمّعات الطامعة، ولقد رأى الدنيا مقبلة على الخديو مدبرة عن عرابي، فآثر أن يكون له على الخديو يد فينال عنده الحظوة في غدٍ كما أسلفنا، ولكنه ظلّ على الرغم من ذلك يتذبذب بين الجانبين شأنه في ذلك شأن كل إمعة، فبينما نراه يعارض الوزارة في موقفها من الخديو إذا به يرسل تلك البرقية التي أشرنا إليها في اليوم السادس عشر من شهر مايو إلى بلنت ردًّا على برقيته.
أما الوزارة فقد رضيت أن تخطو في ذلك الموقف العصيب خطوة نحمدها لها كل الحمد، بل إنا لا نجد من عبارات الثناء ما يفي بما فعلت في ظرف كهذا الظرف.
لم تهتمّ الوزارة بما عسى أن يفسر به عملُها من ذلة وخوف، فتوجَّه الوزراء إلى الخديو، وأعلنوا لديه ولاءهم له وعبّروا عن رغبتهم في الوئام، فمصلحة الوطن مقدمة على كل اعتبار، وإحباط كيد الكائدين هو الواجب الوطني الذي لا يقدم عليه واجب غيره، ويقال إن سلطان توسط في ذلك فأخذ دور الشفيع ليتصل بكل من الجانبين بسبب، ولعل هذا يفسر رده على برقية بلنت.
آثرت الوزارة مصلحة البلاد فقبلت أن توصف بالمذلة من أجل مصر، وكان موقفها موقف القائد الشجاع الذي يفعل ما يعتقد أنه الصواب دون أن يبالي بما عسى أن يقول الناس، فينسحب ليجمع قواته ويعيد النظر في خططه غير مكترث بما قد يفسَّر به الانسحاب في ذاته.
على أن موقف الوزارة لم يخل على أية حال من فائدة، فقد أراد الوزراء بما فعلوا أن يبطلوا حجة القائلين بوجوب التدخل لتفاقُم الخلاف بين الخديو ووزرائه، وهم إن لم ينجحوا وأصرّ الخديو على انحيازه إلى أعداء البلاد، أظهروه بمظهر المتجني الذي لا يريد أن يغفر لهم حتى في مثل هذا الموقف، ما زعم أنه كان من دواعي الخلاف، وهذا أسلوب سياسي جديرٌ بكل إعجاب …
ولا يصح أن يقول قائل إنه كان أولى بالوزارة ألا تُغضب الخديو من أول الأمر. لا يصح أن يقال ذلك بعد الذي بيَّنَّاه من مكر السياسة الإنجليزية، فالنية مبيَّتة من قبل على الْتِهام مصر، ونعود فنكرر ما قلناه إنه لو لم يوجد عرابي لعمل الإنجليز على خلقه …
وكأن الذين ينكرون على الوزارة إغضابها الخديو من أول الأمر يريدون أن يقولوا إنه كان على الوزارة أن ترضى بالحكم المطلق ووأد الدستور، وتسلط الشراكسة، وإذلال مصر بالقضاء على حركتها القومية الناشئة حتى لا يغضب الخديو، أعني أنه إذا خُيِّرَ الوطنيون بين التمسك بالدستور وإغضاب الخديو، وبين وأد الدستور وإرضاء الخديو، كان عليهم أن يقبلوا الوضع الثاني وإلا كانوا طائشين مفسدين في الأرض. وهذا كلام لا يستحق أن يوضع موضع المناقشة …
لقد سلكت الوزارة المسلك الوطني الذي يتَّفق وهذه الحركة الوطنية الدستورية التي بدأت في مصر منذ عهد إسماعيل، فكانت حركة طبيعية اقتضاها تطور الأحوال، وعملت على وجودها عوامل كالتي عملت في كافة الأمم التي سبقت مصر إلى الدستور والحرية، ولقد بيَّنَّا اتجاه الوزارة، وقدمنا الأدلة على صدق وطنيتها وعلى ما كانت تتوخاه من ضروب الإصلاح …
وما كان التجاؤها إلى الخديو تنازلًا منها عن مبادئها، فهذا ما لا يتصوره عقل وإلا كانت الحركة من بدايتها إلى نهايتها لعب لاعب، وإنما أرادت الوزارة الوئام والصفاء وإزالة ما تركه حادث المؤامرة الشركسية في نفس الخديو من غضب، فهو نوع من الاعتذار والتودُّد تقتضيه مصلحة الوطن اتِّقاءً لخطر محدق بالبلاد … أما الدستور وسلطة الأمة وما يتصل بها من مبادئ الحرية والقومية فدون التنازل عنها، بل دون التساهل فيها بذل الرقاب.
وكان توفيق خليقًا ألا يميل إلى المعتدين من غير دينه، ولقد كان لهذا الاعتبار الديني شأنه العظيم في النفوس يومئذ، وكان كذلك خليقًا أن يدرك أن عدوانهم على مصر هو في ذاته عدوان على السلطان صاحب الحق الشرعي وصاحب الولاية عليه …
ولكن توفيقًا لم يعد يبالي بالسلطان؛ فلقد اطمأن إلى قوة الدولتين وبخاصة إنجلترا، وكان إلى جانبه مالت يوحي إليه ما يشاء ويزين له ما يريد ويقوي عزمه كلما آنس منه تخاذلًا عما كان يدفعه إليه، ولا ريب أن موقف الخديو كان يزداد بذلك حرجًا أمام البلاد وأمام السلطان مهما سندته الدولتان …
وأوحى مالت إلى الخديو ألا يثق بما يقول وزراؤه، وما كان توفيق في حاجة إلى هذا الذي يوحي به مالت، فهو يتطلَّع إلى الساعة التي يلطم الوزراء فيها لطمة تشفي ما بنفسه من غِلٍّ …
ولم يطل ترقُّبه تلك الساعة، ففي اليوم التاسع عشر من شهر مايو أوعزت الحكومتان إلى ممثليهما أن يشيرا على الخديو بأن يغتنم فرصة وصول السفن إلى الإسكندرية فيطيح بالوزارة، ويعهد بتأليف وزارة جديدة إلى شريف باشا أو إلى سواه ممن تتوفر فيهم مثل ثقتهما في شريف.
ورد الممثلان بأن المسألة ليست من السهولة بحيث يصنع الخديو ذلك، فلن تقوم في البلاد وزارة غير الوزارة القائمة ما دام للحزب العسكري ما له فيها من نفوذ وسلطة …
واقترح مالت أن يشير على عرابي وثلاثة من أشهر رجاله بمغادرة مصر، وبدأ فعلًا يسعى إلى ذلك فاختار أحد موظفي القنصلية الفرنسية ليفاوض عرابيًّا لأن هذا كان يعرف العربية، ولكنه رفض أن يلعب هذا الدور، ففوتح سلطان فقبل في غير خجل، وذهب يشير بذلك على عرابي فعظمت دهشة الوزير! ورفض أن يسمع بقية الحديث، وأعلن إصراره على عدم ترك مصر مهما يكن من الأمر، وأكد أنه لن يترك منصبه فضلًا عن موطنه في تلك الظروف.
ووصل هذا الحديث إلى الضباط فقابلوه بالاستياء حتى لقد صرَّح أحدهم على مسمع من أحد رجال القنصلية الفرنسية أن الجيش يمزق عرابيًّا إذا هو اعتزلهم يومئذ.
وأخذت الوزارة تتأهب لملاقاة ما كان ينذر به الموقف من جسيمات الحوادث، وصمَّمَ الوزراء ألا يقرُّوا أي تدخل لإنجلترا وفرنسا، وأن تكون إجابتهم على أي إنذار رسمي أنهم لا يعترفون بسيادة غير سيادة السلطان.
وتزايد انحياز الرأي العام إلى عرابي بقدر ما تزايد سخطه على الخديو والأجانب ومن انحاز إليهما من الإمعات والمستضعفين، وعاد بعض الذين انشقوا من الحزب الوطني ينضمون إليه في تلك الساعة الرهيبة، وشاعت في البلاد دعوى المحافظة على حقوق السلطان أمير المؤمنين وحامي حمى المسلمين …
وهنا نسأل الذين يستريبون في شجاعة عرابي وزعامته: أيرون دليل جبنه في إصراره هذا على البقاء في مكانه مخلصًا لواجبه؟ لقد كان من اليسير عليه أن يسافر إلى القسطنطينية أو إلى أوربا متحيزًا إلى السلطان أو إلى إنجلترا، وكانت إنجلترا ترحب بذلك كل الترحيب وتطرب له أشد الطرب، ولكن ما هكذا يفعل الرجال …
لقد صمم عرابي على البقاء حيث هو كما صمم سعد زغلول على البقاء في مكانه مخلصًا لواجبه حين طلب إليه في موقف من مواقف جهاده أن يذهب إلى عزبته ليقيم بها تحت مراقبة مدير الإقليم، وآثر عرابي أن يواجه المحنة والبلاء كما آثر سعد أن يُنفى من مصر، ولكن الأمة التي وضعت على رأس سعد من أجل ذلك أكاليل الغار، لا يزال فريق من أبنائها ينسبون إلى عرابي البطل أسباب الهزيمة والعار! …
وصمم عرابي على امتشاق الحسام ليجاهد في سبيل مصر أشقَّ الجهاد وأعظمه وليكن بعد ذلك ما يكون؛ فإما نصر، وإما فناء، أما مغادرة مصر في ساعة العسرة، فذلك هو الهرب الذي لا يفعله إلا الجبناء …
ولكن ماذا كان عسيًّا أن يفعل بلنت وقد نشط مالت في إذاعة أسوأ الأخبار عن مصر وإحباط كل سعي يؤدي إلى نجاتها؟
يقول بلنت في كتابه مشيرًا إلى برقياته وما جاءه عنها من ردود: «ولكن جاء الصباح فذهبت آمالي أدراج الرياح، وانقلب فوزي هزيمة، فقد كنت قضيت الليل بمنزلي بلندن في شارع جيمس رقم ١٠، وأرسلت في طلب الصحف فوجدت فيها جميعًا برقية لشركة روتر وفيها نص البرقية التي أرسلتها إلى أعضاء المجلس في مصر، وقلت لهم فيها إن أوربا ستضم مصر، وفيها أن شيخ الإسلام تبرّأ من الرد الذي جاءني باسمه، ووجدت في صحيفة ذي ستاندارد برقية من مراسلها بالقاهرة، مؤداها أن سلطان باشا صرّح له أن يكذب البرقية التي أرسلتها والتي نشرت بالتيمس، وأن برقية سلطان هذه إنما كتبت تحت تأثير الإرهاب العسكري …»
وعلى أي حال فما كان يُغني عن بلنت صدقه وحسن مسعاه، وقد رسمت السياسة الإنجليزية الخطة التي تنتهجها، ولقد كانت الحكومة الإنجليزية على علم بكل شيء، ولذلك فما كانت بها حاجة إلى دفاع بلنت وأنبائه.
وهل كانت إنجلترا تتحرَّى في المسألة وجه الصواب حتى تسير على هدى ما تعلم؟ حسب الإنجليز أن يحققوا أطماعهم التي طال بهم العمل على تحقيقها في مصر، ذلك هو الواقع الذي لا يغيره جدال مهما طال، وليجرِ بعد ذلك بلنت في مضماره ما شاء، وليطلق هذا الشاعرُ الذي يعطف على حرية المصريين وآمالهم العنانَ لخياله حسبما يريد، فلن يؤثر ذلك في مجرى الحوادث، ولن يغير شيئًا مما عقد النية جلادستون وجرانفل عليه …
والسياسة على أي حال شيء، والشعر والأحلام شيء آخر، وكثيرًا ما سخر الساسة من أماني دعاة الإنسانية، وضحكوا ملء أفواههم من هؤلاء الذين يحلمون فيتخيَّلون أحلامهم حقائق راهنة كما يتخيل الأطفال!
تلقت الحكومة المصرية، وتلقى الخديو في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو المذكرة المشتركة الثانية وفيها تطلب الدولتان: «أن يخرج عرابي باشا من مصر مع احتفاظه بلقبه وراتبه، وأن يبتعد كلٌّ من عبد العال باشا وعلي فهمي باشا إلى داخل القطر مع احتفاظهما كذلك بلقبيهما وراتبيهما وأن تسقيل الوزارة الحالية من الحكم …»
ومن أعجب الأمور أن ممثلي الدولتين قد عزيا هذا الطلب إلى ما نصح به سلطان باشا لرئيس الوزارة، فقد جاء نصه كما يأتي: «إن ممثلي فرنسا وبريطانيا العظمى الموقعين على هذا يحيطان علم عطوفتكم بأنه من حيث إن عاطفة الوطنية حملت سعادة سلطان باشا رئيس مجلس النواب وكذا رغبته في تأييد سلم مصر ورفاهيتها على عرض الشروط الآتية على عطوفتلو محمود سامي باشا رئيس مجلس النظار، إذ رأى أنها الواسطة الوحيدة لوضع حد لحالة الاضطراب في مصر …» ثم أوردا بعد ذلك الشروط أو الإنذار … ولقد أنكر الوزراء وساطة سلطان باشا كما أن سلطان تنصّل منها …
اجتماع مجلس النواب حق للشعب، ونحن نوابه، ولابد لنا أن نطلب النواب إلى القاهرة حتى لو أراد عرابي أن يوافي ما طلب من إبعاده إرضاءً للساسية الأجنبية فليفعل، أما نحن فلا نخضع لمثل هذه المطالب مهما أدى إليه الخلاف …
سلطان رجع عن رأيه إلى رأي الحاضرين مع الحيرة فيما وعد به الخديو والقنصلين وفيما اضطر إليه من موافقة الثائرين …»
قررت الوزارة في غير تردد رفض هذه المذكرة المشتركة الثانية، وأبلغ هذا الرفض إلى ممثلي الدولتين. ومما جاء فيه قول الوزارة: «إن سعادة سلطان باشا صرّح أمام الوزراء عند انعقاد مجلسهم بأن أعاد على رئيس مجلس الوزراء ذكر محادثة جرت بينه وبين قنصل جنرال فرنسا، وأنه لم يبدأ بذكر مقترحات أو إشارات لا يعنيه أن يقدمها ولا يبديها باسمه الشخصي، ولا بصفة كونه رئيس مجلس النواب فإن هذا المجلس غير ملتئم الآن، أما الطلبات المدونة في اللائحة التي قدمها قنصلا إنجلترا وفرنسا فتتعلق بمسائل داخلية تختص بالأمور الإدارية التي اعترفت الدول الكبرى دائمًا بأن حرية العمل فيها من خصائص الحكومة المصرية، ولا يمكن لحكومة الجناب الخديوي أن تولج في باب المناظرات والمباحثات في هذه القضايا بدون التعدي على الفرمانات السلطانية والمعاهدات الدولية التي حددت مقام مصر الخصوصي وبدون نقض القوانين الشورية لهذه البلاد التي هي أعظم كفالة تتكفل ببقاء الحال على ما هو عليه.»
وأصر الوزراء وفي مقدمتهم عرابي على موقفهم، هذا الموقف الوطني الجليل، وأيَّدهم كبار الضباط وأعلنوا أنهم معهم ولو أدى الأمر إلى القتال …
ولكن ماذا عسى أن يغني عن الوزارة جلال موقفها في هذه الأزمة العصيبة، ولم يمض يوم واحد حتى قبل توفيق مذكرة الدولتين، وأعلن ذلك في غير تحرُّج من هذا الفعل على شناعته البالغة؟
ولم يجد البارودي بعد ذلك مناصًا من الاستقالة، فكتب استقالة الوزارة على النحو التالي:
القاهرة في ٢٦ مايو سنة ١٨٨٢
إن جنابكم العالي قد بلغنا عند وصول الدوننمتين: الإنجليزية، والفرنسية بأنكم حررتم إلى الآستانة بطلب التعليمات، ولما كنا منتظرين ورود خطاب من الباب العالي وإذا بقنصلي فرنسا وبريطانيا الكبرى قدما لحضرة رئيس مجلس نظاركم لائحتهما بتاريخ ٢٥ مايو، وبناءً على أوامر جنابكم العالي اجتمعنا والتأم مجلسنا وقرر هذا الخطاب المرفق مع هذا، وعندما توجّهنا إلى جنابكم العالي لاستشارتكم أخبرتموننا بأنكم قبلتم لائحة وكيلي فرنسا وبريطانيا العظمى، وهذا القبول مباين لما أجمع عليه رأي كل النظار إجماعًا كليًّا، فإن قبول تدخُّل الدول الأجنبية في هذه القضية يمسُّ بحقوق الحضرة السلطانية، وبناءً على ذلك نتشرف بأن نقدم لجنابكم استعفاءنا جميعًا …»
ولم يتردد الخديو، وكان وراءه مالت في قبول استقالة الوزارة قائلًا إنه يقبلها لأن هذه هي إرادة الأمة، وفيما عدا ذلك فإنها أمور بينه وبين السلطان الذي يحترم حقوقه دائمًا. وتنفَّس الخديو الصعداء، ظانًّا أن الأمر انتهى إلى غايته، ولم يعلم أن صنيعه هذا كان معجلًا بالكارثة، بل لقد كان هذا الصنيع في ذاته هو الكارثة، فلولا ما كان من ركونه على هذه الصورة إلى الأجانب، ما أقدمت إنجلترا على تنفيذ ما بيتته طويلًا من غدر بالبلاد …
ومع ذلك فإن كارثة الاحتلال لا زالت على ألسنة بعض المصريين تنسب إلى عرابي، ذلك الرجل الذي تلفتت القلوب إليه وقد اشتدت الأزمة وأزفت الآزفة تأمل على يديه النجاة من الخطر المحدق …
إن القضية كلها يمكن تلخيصها وقد قرب دويّ العاصفة في كلمة قصيرة، هي أن خلافًا داخليًّا وقع في مصر بين الخديو المتمسك بالحكم المطلق وبين زعماء الشعب المتمسِّكين بالحكم الدستوري، فانتهز الإنجليز هذه الفرصة لتحقيق نياتهم المبيَّتة من قبل هذا الخلاف، ولم يشأ الخديو أن يتنازل عن مبدأ الاستبداد، فركن إلى الأجانب ليتخلَّص من الوطنيين، وعمل هؤلاء الثعالب على زيادة الخلاف وعلى رأسهم مالت كبير شياطينهم، حتى كانت المذكرة المشتركة الثانية وهي الضربة التي تصيب الحركة القومية في مقتل، فلم يجد عرابي وأعوانه بدًّا من دفع هذا العدوان الفاجر عن البلاد أَنَفَةً وحفاظًا ولو ذهبت أرواحهم في سبيل ذلك …
فليت شعري كيف كان ينتظر منهم أن يفعلوا غير ذلك في موقف كهذا الموقف؟ ألا فليحترموا عقولهم أولئك الذين يردون سبب الاحتلال إلى عرابي، إن كانوا يرجون لأنفسهم ولوطنهم وقارًا …