في صفوف الجيش
لم يطل بالصبي المقام بالأزهر، ولم يطل به كذلك المقام في قريته؛ فإن القدر الذي لم يشأ له أن يكون شيخًا من أشياخ الأزهر، ولا فلاحًا من فلاحي القرية، قد شاء له أن يكون جنديًّا في صفوف الجيش.
أراد سعيد باشا أن ينهض بالجيش المصري، فأمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان، كيلا يُحتقر الجندي في نظر الناس، إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء يُحشَدون ويُساقون إلى الجيش ليكونوا عسكره، أما ضباطه وقواده فكان أكثرهم من الشركس.
وكان بين من أُلحق بالجيش من أبناء الأعيان هذا الفتى الأزهري القروي، وكان يومئذ في الرابعة عشرة من عمره، وبالتحاقه بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه، ومن ذلك ترى أن كل ما ناله هذا الفتى من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر حتى سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته فيما بعد، وهي أمر لا نستطيع تحديده …
وما لبث أن رُقِّي عرابي بعد سنتين إلى رتبة ملازم ثانٍ، ثم إلى رتبة ملازم أول، فيوزباشي في نفس السنة، وكان يومئذ في السابعة عشرة، ولم يمرَّ عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام، وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته.
وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في أقل من أربع سنوات، وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القَدْر من العلم الذي أشرنا إليه، فبه تمكّن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز بها الامتحان متفوقًا، ويدلُّنا ذلك على نُدرة المتعلِّمين في ذلك الجيش، ولا شك في أن هذا الترقي السريع قد بَثَّ في نفس الفتى القروي كثيرًا من الطموح والإقدام …
على أنه كان طموحًا بطبعه، جريئًا في عصر كثيرًا ما كانت تُعَدُّ الجرأة فيه ضربًا من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه، ولسوف نرى من مواقفه في ذلك العصر ما يزيد معنى بسالته وضوحًا، ويظهرها مضاعفة.
وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الشركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبًا وكراهية لهؤلاء الأجانب …
أليست هذه النزعة فيه هي نزعته الوطنية في الجيش يوم تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانبًا من الوطنية ونحسّ معنًى من معانيها؟
ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل لقد يسرف بعضهم فيرمونه بالتبجّح قائلين: ما لهذا الفلاح وعُلْيا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في الحق ليمتدحونه بذلك من حيث لا يشعرون، ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحًا، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجُّح عرابي هذا، فما أجدره بالإعجاب والثناء!
وكيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعًا؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصريًّا؟ وهل كان يعتزُّ إلا بمصريته إذ اعتزَّ بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الإنسان إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدُّم غيره عليه في غير حق، حتى ولو كان ذلك الغير أجنبيًّا؟
كره عرابي الأجانب في الجيش كرهًا شديدًا، وبخاصة هؤلاء الشراكسة المتعصبون لأنفسهم المترفعون على المصريين، واستقر هذا الكره في أعماق نفسه، ولسوف يجرُّ عليه عنتًا كثيرًا وضيقًا، ولكنه لن يأبه لذلك، ولسوف يظل على عناده وإصراره حتى يصبح الأمر أمر الوطنيين جميعًا في الجيش لا أمر أحمد عرابي فحسب.
وظل عرابي في مرحلته الأولى في الجندية ساخطًا على هؤلاء الأتراك والشركس لا يفتُر سخطه ولا ينقطع عليهم شغبه، يكيدون له ويكيد لهم، وإنا لنلمس في هذا سببًا قويًّا من أسباب زعامته للحركة العسكرية فيما بعد، فلسوف يلتقي في دار هذا المتبرّم الساخط رؤوس الساخطين الحانقين من رجال الجندية يوم يُزْمِعون أن يشتكوا إلى الحكومة في أوائل عهد توفيق مما يلحق بهم من أذى من جرَّاء سياسة وزير الجهادية الشركسي عثمان رفقي …
ولست أدري كيف توحي قراءة تاريخ نابليون بحاجة مصر إلى حكومة شورية دستورية؟ على أن قراءة سيرة ذلك الجندي المغامر الفذّ الذي وصل إلى قمة المجد الحربي، وبلغ أَوْجَ الشهرة والجاه، توحي إلى كل من يقرؤها معاني الإقدام والبطولة، وتملأ النفس تطلُّعًا وحماسة، وعلى هذا فلا يصعب أن نتصور ما عسى تلقيه تلك السيرة من المعاني في نفس كنفس عرابي الجندي المتطلع المتوثِّب …
ويشير عرابي في مذكراته إلى أن سعيدًا كان يميل إلى المصريين في الجيش، ويريد أن يرفع عنهم ما لحقهم من غَبْن على يد الشركس، كما يشير إلى أنه كانت لسعيد نزعة وطنية تتجلى في محبته لمصر وللمصريين، وفي رغبته أن ينالوا قسطهم الحق من الترقِّي في الجيش.
وما يعنينا من ذكر هذه العلاقة بين سعيد وعرابي إلا ما فيها من إقبال عرابي على كل من يحب المصريين، فهذا الإقبال دليل على أن النزعة الوطنية القومية كانت منبعثة من أعماق نفسه، وعلى أن شغبه على الشركس والترك لم يكُ بدافع الأثرة كما يحلو لبعض الناس أن يرموه …
ويقول عرابي: إن ميول سعيد الوطنية قد تبيَّنتْ في خطبة ألقاها في حفلٍ جَمَعَ كثيرًا من عِلْيَة القوم، وقد أثبت عرابي في مذكراته بضعة أسطر تحت عنوان: خطبة المرحوم سعيد باشا، وبدأها بقوله: قال مرتجلًا.
فهل أثبت عرابي خطبة الباشا وهو يلقيها؟ إذا صح ذلك كان لكلام سعيد الذي يورده عرابي أهميته في الدلالة على اتجاه هذا الوالي يومئذ، وإذا كان عرابي يذكر ما وعته ذاكرته فحسب، فإن في هذا الذي يذكره عن سعيد ما هو كافٍ لأنْ يكشف عن نزعته. وقد جاء في هذه الخطبة قول سعيد حسبما أثبت عرابي: «وحيث إني أعتبر نفسي مصريًّا فوجب عليَّ أن أربِّي أبناء هذا الشعب وأهذِّبه تهذيبًا حتى أجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد وطَّدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.»
يقول عرابي: «فلما انتهت الخطبة خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حانقين مدهوشين مما سمعوا، وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلَّل فرحًا واستبشارًا. وأما أنا فاعتبرت هذه الخطبة أول حجر في أساس نظام مصر للمصريين. وعلى هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضعَ أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة.»
ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال مثلًا في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سانت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على أنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبَّر.
ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون، حتى المغرضون منهم، لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسه من أن عرابيًّا قد اتَّجَه منذ نشأته اتجاهًا وطنيًّا قوميًّا، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية، ففي هذه النزعة القومية نرى عرابيًّا الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرِّخين والمدافعين عن الاحتلال من كُتَّاب الإنجليز فما أبعده عن هذا! وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلُّوا حركة عرابي أقبح استغلال إلا أن يصوروه أقبح صورة، فلا يكون عندهم إلا جنديًّا جاهلًا مغرورًا، واتته الظروف فراح يخبط في حماقته لا يلوي على شيء، وما زال في جنونه يلوِّح بسيفه حتى اضطرّ آخر الأمر إلى أن يسلمه صاغرًا إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي …
ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة كما يتصوّر البعض، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية — وهي لا تخلو من الصفة الوطنية — بالحركة الوطنية العامة، ولقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تُحاك الدسائس وتُوقد نارُ الفتنة تنفيذًا لسياسة مرسومة سوف نميط اللِّثام عنها بكل ما وسعنا من حجة.
هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلّاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا، وما نشير إليها الآن هذه الإشارة في غير موضعها من سيرته إلا لنبيِّن هنا أنها نزعة أصيلة فيه جاشت بها نفسه منذ شبّ، وكانت الثورة التي نشير إليها هي مظهرها فيما بعد. كتب في ذلك مستر بلنت، وكان من أصدقاء عرابي، يقول في علاقة عرابي بسعيد: «وقد حظى عرابي، وكان شابًا حسن الطلعة، بعطفه، حتى لقد اختاره أركان حرب له ورافقه إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته، وقد كوَّن عرابي آراءه السياسية الأولى أثناء هذه الصلة القريبة بسعيد، وهذه الآراء هي المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترام باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية، وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة بين مُصلِحي ذلك العصر. فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز، بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قوامها الجنسية، وهذا جعلها أوضح في معنى القومية ومن ثَمَّ قدِّر لها أن تكون أكثر شهرة وذيوعًا.»
ولقد كان لصلة عرابي بسعيد على هذا النحو أثرها في حنق عرابي على إسماعيل، فلم يكن في قلب هذا الوالي شيء مما كان في قلب سلفه من الميل إلى المصريين، بل لعل ميلَه كان إلى الشراكسة، وقد أدى ذلك منه إلى ازدياد كراهية عرابي لهؤلاء واضطغانه عليهم، إذ يرى أن كل حظوة لهم عند الوالي إنما هي على حساب الوطنيين.
وقويت في نفسه النزعة الوطنية، وزادها قوةً اتصالُه بتلك الحركة الوليدة التي أخذت تدبُّ في جسم الأمة وقد كرثتها الكوارث من وراء سياسة إسماعيل وديون إسماعيل.
وازدادت كذلك في نفسه نزعة التمرد والسخط، وتجلت في مواقف له كان من أهمها ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له ويسعى بالوشاية به عند أولي الأمر حتى رفت من الجندية.
وكان خسرو هذا شركسيًّا، وقد رقِّي حتى أصبح في مرتبة اللواء، وصار رئيسًا لعرابي الذي كان يومئذٍ قائمقامًا للآلاي السادس. ويذكر عرابي أنه رقِّي «لا بعلمه ومعارفه، بل لكونه شركسيًّا ومن الخارجين على الدولة العلية مع إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في تلك الفتنة الدهماء التي دكدكت سياج الإسلام وكسرت شوكة الدولة العليَّة الحامية لجميع الموحدين».
ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهمًا إياه بأنه «صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية»، ثم يقول عرابي معقِّبًا على ذلك: «وما بي واللهِ من شراسة، ولكني جُبِلْتُ على حب العدل والإنصاف وبغض الظلم والإجحاف.»
ويذكر عرابي سببين للخلاف بينه وبين خسرو، أولهما أنه لم يشايعه فيما ذهب إليه من رغبة في ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية، بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطًا آخر يستحقها، وأوعز خسرو إلى أحد الضباط فدبَّر مكيدة لعرابي، فاتُّهم بإساءة استعمال سلطته، وحُكِم عليه بالحبس واحدًا وعشرين يومًا، ولكنه رفع ظلامة إلى المجلس العسكري الأعلى فقضى ببراءته.
أما السبب الثاني، ولعله فيما أحسّ أقوى السببين، فهو أن خسرو سعى سعيه حتى حرم عرابي من أرض أنعم عليه بها الخديو إسماعيل فيمن أنعم عليهم من رجال الجيش، وذلك عقب حفلة سُرَّ فيها الخديو من حسن نظام الجند.
وما زال خسرو يكيد له حتى رُفِتَ من الجندية كما أسلفنا، ولنا أن نتصوَّر مبلغ ما وقع في نفسه من السخط والثورة على خسرو وعلى الشراكسة جميعًا في شخص خسرو.
والذي يعنينا مما كان بينه وبين خسرو أنه يصوِّر لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف.
كذلك يكشف لنا ما علَّق به عرابي على هذه القصة عن ناحية من نواحي عقله، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من مصائب معددًا أسماءهم مُبَيِّنًا ما لحق بكل منهم، مُورِدًا ذلك على أنه انتقام له من الله … وفي هذا نوع من السذاجة في رأي من ينظرون إلى مثل هذه العقائد نظرة يقولون: إنها حرة، ونوع من الإيمان في نظر آخرين لا يعرفون هذه النظرة التي يصفها أصحابها هذا الوصف، كما أن فيه دليلًا على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه.
على أن خصومه قد استغلُّوا هذه الناحية الدينية من حياته استغلالًا مرذولًا؛ إذ يحاولون أن يسوقوها دليلًا على أنه كان رجلًا لا يختلف كثيرًا عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، وليتهم يشعرون أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم، وأنهم يسيئون إلى أنفسهم ولا يسيئون إليه.
كان للدين سلطان على عرابي ما في ذلك شكّ، ولكن تلك كانت نزعة العصر، على أننا نسأل: ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يُساق هذا على أنه من مساوئه وخليق به أن يُعَدَّ من حسناته؟ وهل عاب أحد هذا العيب على كرمول، وهو جندي مثله، في تزمُّته وتقشّفه وصرامته في دينه؟ وهب أن عرابيًّا كان يغلو أحيانًا فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصل بالسياسة، فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على أنه اتَّخَذ يومًا من الدين سلاحًا في غير موضعه؟ أو أنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مُبْعَدًا عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو بعد أن ظلت ظلامته لديه هذه السنوات الثلاث مهملة لغير سبب ظاهر، ولقد تأصَّل في نفسه كره الاستبداد في كافة صوره كما استقر في قلبه حب الانتقام من هؤلاء الشراكسة الذين يراهم أَذًى ونقمة على العنصر الوطني.
وطلب عرابي أن يحال على الأعمال المدنية ليبعد عن دسائس أعدائه كما يقول في مذكراته، وإنه ليذكر أنه بذل في تلك الأعمال جهدًا عظيمًا ووفّر في أحدها للخزانة مبلغًا كبيرًا كان — لولا نشاطه — ذاهبًا لا محالة إلى خزانة إحدى الشركات الأجنبية، ولكنه رأى غيره يُكافَأ مكافآت مالية. أما هو فكان جزاؤه كما يقول: «وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقّة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيالله ما أَمَرَّ وأصعبَ تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة!»
على أن بلنت يذكر في كتابه أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سببًا من أسباب نِقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمِّرين.
ولم يلبث عرابي أن أعيد إلى صفوف الجيش، وكانت الحكومة تستعدُّ للحملة الحبشية فَرَقَّتْ بعض رجال الجيش إلى مناصب أعلى مما كانوا فيها، ولم يُرَقَّ عرابي، وكان قد جعل على ديوان الحربية في ذلك الوقت الأمير حسين كامل بن إسماعيل باشا. ويقول عرابي في مذكراته: «وبعد اختيار المختارين للفرقة الثانية من الذين ترقَّوْا بحضرة الأمير المشار إليه قال للذين تأخروا عن الترقي: اجتهدوا أيها الضباط في التعليم والتمرين حتى تُدركوا ما وصل إليه إخوانكم الذين ترقَّوْا، والله يشهد وفطاحل الجهادية أن المتأخرين في الترقي هم أساتذة الذين ترقَّوْا في العلوم الحربية وهم أرقى أخلاقًا وأدبًا … ولكن الغرض يُعمي ويُصِمّ … ثم التفت الأمير إليَّ وقال بلهجة الأسف: إني طلبت من أفندينا ترقيتك إلى رتبة الميرالاي، فقال: إنك من بتوع سعيد باشا، فقاطعته الكلام، وقلت: إني لست بتاع أحد، بل خادم الحكومة والوطن وبلدي هرية رزنة بمديرية الشرقية، ولكن بتاع سعيد باشا هو راتب باشا لأنه ملكه، فقال: لا تفترْ همتك في تأدية واجباتك وإني سأبذل جهدي في ترقيتك عند ترتيب الفرقة الثالثة، فشكرت له وخرجت وأنا شاعر بأني لا أنال خيرًا في عهد والده لأني متحقق من أن خسرو باشا، وراتب باشا ورؤساء الشراكسة يعارضون في ترقيتي بكل ما في قدرتهم. وقد سمعت من أحد أمرائهم وهو رجل معتدل غير متعصب لبني جنسه على ما فيه من غلظة أنه حضر مجلسًا لأولئك الشراكسة حيث تذاكروا في اختيار الذين يريدون ترقيتهم إلى الفرقة الثالثة فعَرَض عليهم ترقيتي إلى رتبة الأميرالاي مراعاة للحق والإنصاف فأبَوْا عليه ذلك، فقال لهم: ربما تَرَقَّى قهرًا عنكم يومًا ما إذا لم يرتقِ برضائكم واختياركم وأنتم تعلمون أنه أقدم القائمقامات وأعلمهم، وفيكم من كان تحت إمرته، فالأَوْلى بكم ألا تُعَرِّضُوا أنفسكم للانتقاد، ولكنهم لم يزدادوا إلا عتوًّا ونفورًا، ولما ترتبت الفرقة الثانية والثالثة وتمَّ ترقّي الضباط، لم يقدِرْ ناظر الجهادية الأمير حسين كامل باشا على الوفاء بوعده لإصرار السردار راتب باشا على رفض ترقيتي، ومن الغريب أن الآلاي الذي تحت إدارتي ظل خاليًا من ضابط من رتبة الأميرالاي مدة ثمانية أعوام، وكنت أنا القائم بوظفية الأميرالاي بأحسن نظام وأكمل تربية وأدق تعليم وأحسن هيئة عسكرية، فما أوضح هذا الظلم المبين!»
هذا كلام عرابي، ومهما يكن من أمره فإن حرمانه من الترقية سواء أكان مردّه إلى دسائس الشراكسة أم إلى أي سبب آخر كان خليقًا أن يحمله على الثورة والسخط، وأن يميل به إلى اعتناق مبادئ الحركة الوطنية التي أخذت تشيع في نفوس الساخطين على حكم إسماعيل.
وألحق عرابي بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب، فقد كان يعمل في منصب «مأمور مهمات» بمصوع، ولقد حنق عرابي على تلك الحملة، فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل فيها بالجيش من كوارث في غير موجب، وقد اتهم لورنج القائد الأمريكي الجنس فيها بالخيانة، إذ كان يتصل عن طريق أحد القساوسة بالأحباش ويطلعهم على كل شيء …
•••
ويقول بلنت في كتابه: «إنه قد عاد من الحملة ساخطًا كما سخط العائدون على ما كان فيها من الفوضى، وإليها يرجع اتِّجاه نفسه نحو السياسة، وازدياد بغضه وغضبه، ذلك الغضب الذي كان في ذلك الحين مُتَّجهًا أكثر ما يتجه إلى الخديو.»
وفي شهر فبراير عام ١٨٧٨ وقعت مظاهرة الضبّاط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها بوادر الثورة العسكرية، ويتلخص هذا الحادث في أن عددًا من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم قد توجَّهوا إلى وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فلما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما وأشبعوا نوبار لطمًا ولكمًا، وراحوا يجرونه من شاربيه، وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية، وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خفَّ إلى هناك الخديو بنفسه في فرقة من حرسه حينما نمى إليه ذلك النبأ، وأمر الخديو بإطلاق النار إرهابًا، فأطلقت رصاصات في الهواء وفَرَّ المتظاهرون.
ولكن تهمة القيام بهذه المظاهرة وتدبيرها قد وجّهت إلى عرابي واثنين آخرين من الضباط، وعقد لهم مجلس عسكري يحاكمهم، وأصدر المجلس حكمه بتوبيخهم وفصل كل منهم عن آلايه إلى جهة بعيدة، وكان الإسكندرية من نصيب عرابي، وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين.
ويدفع عرابي التهمة عن نفسه مقرِّرًا أنه لم يكن له بد فيها قط، إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث، ذكر ذلك في مذكراته، وذكره كذلك في التاريخ الذي كتبه لمستر بلنت بناءً على طلبه عام ١٩٠٣ بعد عودته من منفاه. ولقد أطلع مستر بلنت الشيخَ محمد عبده على ما كتب عرابي، فوافق على براءته من هذا الحادث.
•••
ولقد أدَّى اتهام عرابي على هذا النحو إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل، ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع التي توجِّهه إلى الاتصال بالوطنيين بغية معاونتهم والاستعانة بهم على تنفيذ ما كانوا يأملونه من وجوه الإصلاح. قال عرابي في ذلك التاريخ الذي كتبه لصديقه بلنت، والذي أثبته هذا في آخر كتابه: «ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا فاقترحت أن نتَّحد ونخلع إسماعيل، ولو أننا فعلنا ذلك لكان خير حل للقضية؛ لأنه كان يسُرّ القناصل أن يتخلصوا من إسماعيل على أية صورة، ثم إنه كان يوفّر على البلاد ما حدث بعد ذلك من تعقد في الأمور، كما كان يوفر تلك الملايين الخمسة عشر التي حملها إسماعيل معه عندما خُلِع، ولكنه لم يكن هناك يومئذ من يقود هذه الحركة، ولذلك فإن مقترحي لم ينفَّذ وإن حاز القبول، وقد ألقى خلع إسماعيل بعد ذلك عبئًا ثقيلًا عن كواهلنا وعَمَّ الفرح، ولكن لو أنا فعلنا ذلك بأنفسنا لكان أفضل؛ إذ إننا كنا نستطيع أن نتخلَّص من أُسْرة محمد علي كلها، فإنه لم يكن فيها حاكم صالح إلا سعيد، وكنا نستطيع أن نعلن إقامة جمهورية، وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل عند كوبري قصر النيل ووافقه محمد عبده على ذلك.»
•••
ومن هذا الذي ذكره عرابي يتبيَّن مَبْلَغ حنقه على إسماعيل، ولولا أن سعيدًا كان يعطف على المصريين حقًا وأن إسماعيل لم يكن يبدو منه ما كان يبدو من سعيد من مظاهر هذا العطف، لجاز أن يتّهم عرابي بأنه يحب سعيدًا ويُبغض إسماعيل متأثرًا بدوافع شخصية.
أما عن اتهام عرابي وزميليه في هذا الحادث، فإن عرابيًّا يُورد له سببًا، فهو يتهم إسماعيل بأنه كان المحرض على هذه الفتنة ليتخلص من الوزارة الأوروبية، ولكي ينفي عن نفسه الشبهة، فإنه اتَّهم هؤلاء الضباط الثلاثة بأنهم مدبرو الحركة.