عرابي ملاذ البلاد
كان لقبول استقالة البارودي أسوأ وقع في البلاد جميعًا، وأحسَّ الناس فيها نذر الخوف وبوادر العاصفة، وقَرَّ في نفس كل وطني أن الخديو اليوم في قبضة الأجانب وبخاصة الإنجليز، وأن مالت هو الذي يحركه ويوحي إليه ما يريد …
ولم يَعُدْ خافيًا على أقل الناس دراية مغزى قبول الخديو المذكرة الثانية، ومغزى قبول استقالة الوزارة.
وأظهر توفيق صرامة لم يألفها الناس منه، فأصرَّ على قبول استقالة الوزارة على الرغم من إحجام شريف ومصطفى فهمي وغيرهما عن تأليف وزارة جديدة …
وبادر توفيق بإرسال أمر منه إلى المديرين قال فيه: «بما أن هيئة النظار الحاضرة استعفت وصار قبول استعفائها فليكن معلومًا ذلك لديكم لتصرفوا جهودكم وقدرتكم في المحافظة التامة منكم ومن مأموري المديرية الموكلة لإدارتهم والدقة والانتباه لحسن سير الأشغال والمصالح المتعلقة بكم، كما أنه من حيث إن السفن الحربية الأجنبية التي حضرت إلى الإسكندرية لم يكن حضورها إلا بوجه سلمي فقط، ولم يكن هناك شيء آخر خلاف ذلك، فليس هناك لزوم لإرسال أحد من عساكر الإمدادية الذين صار طلبهم أخيرًا بمعرفة الجهادية، بل إن الموجود منهم تحت الحضور لهذا الطرف يصير إعادته لبلده، والذي تحت الحضور من البلاد يتنبه بصرف النظر عن حضوره، وإعلان المراكز والأقسام بالتنبيه على مشايخ وعمد البلاد بهذا المضمون للعلم بعدم الاقتضاء لجمع عساكر، وانتباه كل لأشغاله وزراعته بدون اشتغاله في غير ذلك، هذا وإن الأمور المهمة التي كان قد جرى العرض عنها لنظارة الداخلية يجب أن يعرض عنها من الآن لمعيتنا إلى أن تشكّل هيئة نظارة جديدة كما هو مطلوبنا.»
وهذه أوامر من الخديو تُعَدّ بالغة الخطورة، فهو يهون من حضور السفن الأجنبية، ثم يريد أن يحبط الدفاع الوطني، وذلك بمنع إرسال الجنود التي كانت وزارة البارودي قد استدعتهم من الجيش الاحتياطي قبل استقالتها، وهو يحثّ الناس على الاشتغال بالزراعة دون غيرها أعني ألا يلبوا إذا دعا داعي الجهاد، وفوق ذلك جميعه فهو يستبدّ بالأمر كي يلقي في روع الناس أنه السيد الوحيد الذي يجب طاعته في البلاد.
وأي رضاء بالاحتلال والتمهيد له يكون أصرح مما يفعل توفيق بأوامره هذه في وقت كذلك الوقت الذي يحدق فيه الخطر بالبلاد؟
إنما يريد توفيق أن يعترض طريق ثورة مشروعة في مصر مبعثها تدخل الأجانب في شئونها الداخلية توطئة لالتهامها، وأن يُظهر عرابيًّا ومن معه بمظهر العصاة المتمرِّدين، الذين يعمل هو ومن يعضده من الأجانب على قمعهم والقضاء عليهم، وليس أكثر من هذا الذي يفعل ممالأة للعدو واندماجًا في سياسته …
ولكن ما لبث توفيق ومؤيدوه أن تبينوا أن الأمر ليس من السهولة كما تصوروا، وأن أمامهم من الصعاب ما ينوء من حمله أقدر الرجال …
وعاد مالت يقترح أن يُستعان بالسلطان ليعيد النظام في مصر، وذلك بأن يرسل ضابطًا من لدنه في أقرب وقت «وكذلك يرى توفيق أن مبعوثًا تركيًّا يمكنه أن يسمع العسكريين صوته وأن يعيد إلى مصر الهدوء».
ويتبيّن لنا مبلغ ما لقي توفيق من عسر في الاجتماعين اللذين عقدهما في الصباح وفي المساء برئاسته بسراي الإسماعيلية في اليوم التالي لسقوط الوزارة، ففي اجتماع الصباح حيث شهده النوّاب وكبار العلماء والأعيان وكبار الموظفين، عرض الخديو الوزارة على شريف باشا فاعتذر وأصر على اعتذاره، وحضر أثناء الاجتماع قنصل فرنسا العام ينبئ الخديو بأن برقية وردت عليه من حكومته تأمل فيها فرنسا أن يقبل شريف باشا الوزارة وستعضده الحكومة الفرنسية بكل جهودها، ولكنَّ شريفًا ظل على إحجامه وخوفه … ثم اشترط أن يقبل وزارة الحربية معه عمر باشا لطفي محافظ الإسكندرية فرفض ذلك عمر باشا، وعرض الخديو رئاسة الوزارة على عمر فأشفق منها …
وفي اجتماع المساء صارح الخديو المجتمِعين بأنه سوف يشكل الوزارة برئاسته وستكون له وزارة الجهادية، ثم عاد يبين للمجتمعين ما حدا به إلى قبول مذكرة الدولتين، وهدد الخديو وتوعّد وقال إنه مع عفوه عما مضى لن يسمح بعصيان أو مخالفة في المستقبل، ثم أراد أن يخفف من وقع البوارج الحربية فعاد يؤكد أنها ما جاءت إلا لأغراض سلمية …
وكل ذلك يدل على مبلغ ما أحاط بتوفيق من حيرة كما يشير إلى شدة شعوره بما يجد في نفسه من حرج مما فعل، وإن تظاهر أنه لا يبالي بشيء …
وفي هذا الكلام تحدٍّ صريح للخديو يدل على مبلغ ما كان في نفوس العرابيين من استياء منه، ومن حماسة وطنية أوقد جذوتها مسلكه بانحيازه إلى الأجانب.
وزاد الموقف خطورة أن ورد على الخديو برقية من كبار رجال الجيش والشرطة بالإسكندرية يقولون فيها إنهم لا يطمئنون لغير عرابي ناظرًا للجهادية، وإنه إذا مضت اثتنا عشرة ساعة ولم يعد عرابي إلى منصبه فهم غير مسئولين عما تفضي إليه الحوادث …
وكان مالت لا ريب فرحًا لوقوع توفيق في مأزق كهذا، فإن ظاهر الأمر يؤيد قوله إن تسلط الجيش هو سبب كل خوف، وإن كانت حقيقة الأمر تقطع بأنه هو وكلفن كما بيَّنَّا أصل كل المصائب …
ويذكر كرومر في كتابه «إن سلطان باشا وبعض النواب أخبروا الخديو في حضور القنصلين الفرنسي والإنجليزي أنه ما لم يوافق على إعادة عرابي وزيرًا للجهادية فإن حياته يحفُّ بها الخطر.»
وعلى الرغم من ذلك، كما ذكر كرومر أيضًا، فإن الخديو أصرَّ على رفضه كما جاء في تقرير مالت …
وفي نفس اليوم الذي عقد فيه الخديو اجتماعيه عقد اجتماعٌ شعبي في دار سلطان باشا وقد شهده كبار العلماء والنواب، كتب عرابي يصف هذا الاجتماع فقال: «في ليلة السبت ٢٧ مايو سنة ١٨٨٤ دعيت إلى منزل محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، فذهبت إليه ومعي إخوتي علي باشا فهمي، وعبد العال باشا حلمي، ومحمد بك عبيد، وغيرهم من الإخوان، فلما وصلنا المنزل المذكور وجدناه غاصًّا بأعضاء مجلس النواب ومعهم قاضي قضاة مصر الشيخ عبد الرحمن نافذ، والشيخ عبد الهادي الإبياري إمام المعية، وحصل الاتفاق على ملازمة الراحة والسكون وأن الخديو يرفض اللائحة الثنائية ويأمر برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية أو يعزل عزلًا، وفي أثناء ذلك حضر بحديقة المنزل جماعة من الضباط والنبهاء من الملكية وغيرهم، وصاحوا بقولهم: اعزلوا الخديو الذي دعا الأجانب للتدخل في أمرنا وتهديدنا بأساطيلهم …
ثم خرجتُ بمن معي من الضباط وتوجّهنا إلى منزل محمود باشا سامي فوجدنا كثيرًا من الذوات هناك ينتظرون ما عسى أن يحدث من مخبَّآت الدهر فقابلنا عبد الله باشا فكري الذي كان أستاذًا أو مربيًا للخديو في صغره وقال لنا: إن قتلتموه؟ فقلت له: إننا لا نقتل أحدًا بغير حكم شرعي، فلا يليق بك أن تتكلم بهذا الكلام، ثم تَوَجَّه كل منا إلى منزله.»
وسأل توفيق القنصلين ماذا يصنع فيما جاءه من الصدر الأعظم؟ وأبرق مالت إلى حكومته يقول: «لقد ذكرت للخديو أنه إذا كانت حياته معرضة للخطر، فلست أستطيع أن أنصح بشيء يخالف الخطوة التي يقترحها إذا ظهر أنها هي فرصة الخلاص الوحيدة، واقتصر مسيو سينكويكس على قوله إنه سيطلب رأي حكومته، ثم تركنا الخديو بدون أن نفضي إليه بأكثر من هذا، مع أن الخديو كان يلحّ علينا بضرورة إرسال رد عاجل إلى الصدر الأعظم.»
ووصف مالت موقف توفيق في هذا الظرف بقوله: «إن موقف الخديو موقف مؤلم أعظم الألم، فهو مهدَّد بالقتل، ثم إننا صرفناه عن الذهاب إلى الإسكندرية حيث كان في الوقت متسع لهذا، وكذلك لم نخلِّ بينه وبين الالتجاء إلى الجهة التي يأتيه منها تأييد ذو أثر، ولذلك فهو والحال كما أذكر خليق بأن يشعر شعور المرارة تلقاء ما يبدو له الآن من عواقب اتباعه نصحنا واعتماده على تأييدنا.»
وهكذا نرى مالت يضغط ضغطًا شديدًا على حكومته لتعجل بالتدخل المسلح المنشود، وكان من أثر ذلك أن كتب جرانفل دون أن ينتظر مشورة الحكومة الفرنسية إلى اللورد دوفرين في الآستانة بقول: «إن حكومة جلالة الملكة ترى الضرورة ملحة بألا يضيع السلطان شيئًا من الوقت دون أن يرسل أمرًا به يؤيد الخديو، ويرفض الاتهام الذي عزته الوزارة الساقطة إلى سموه، ويأمر كبار العسكريين الثلاثة، وكذلك رئيس الوزارة السابق إذا دعا الحال، بأن يحضروا ليشرحوا مسلكهم في القسطنطينية.»
ويتضح من ذلك أن الحكومة الإنجليزية تخطو خطوة سريعة نحو الانفراد بالعمل وتنفيذ خطتها في التهام مصر، ولا نجد في تفسير سياستها خيرًا من قول كرومر في هذا الظرف تعليقًا على الموقف: «إن النتيجة على أي حال لم تكن بعيدة، فإنه كان يتّضح يومًا بعد يوم أن عرابي لن يخضع إلا بالقوة، فإذا لم تتبع القوة المطلوبة أي جهة أخرى فإن هذا العمل يُلقَى بالضرورة على عاتق إنجلترا.»
هذا هو الذي كانت ترمي إليه السياسة الإنجليزية من جميع مراوغاتها واقتراحاتها، ولسوف تنفرد عما قريب بضرب الإسكندرية، وحجتها في ذلك تأييد سلطة الخديو تجاه عرابي الثائر الذي تحركه الأطماع والمآرب الشخصية!
واشتدَّ خوف الأجانب في مصر حين فهموا أن الخديو عاجز عن تأليف وزارة، فذهب وفد من القناصل إلى عرابي في الثامن والعشرين من مايو، وقد أشار عرابي إلى ذلك في قوله: «ولما تعاظم الخوف حضر لمنزلي جميع قناصل الدول ما عدا قنصلي إنجلترا وفرنسا يطلبون مني التأمين على رعاياهم فأجبتهم بأني قد استعفيْتُ ولا صفة لي تخوّلني تحمل هذه المسئولية العظيمة، فقالوا إن الجيش لا يخالف إرادتك، وأنت رئيس الحركة الوطنية فلا نأمن على رعايانا وأنفسنا إلا بإعطائك لنا كلمة الشرف بحفظ رعايانا، فلأجل طمأنينتهم وتسكين روعهم كتبت تلغرافًا إلى جميع مراكز العسكرية بصفة أني رئيس الحزب الوطني أرغب إليهم فيه أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأن يحافظوا على راحة العموم، وخصوصًا رعايا الدول الأجنبية، وأن يعاملوا الجميع بحسن المعاملة وكمال المجاملة.»
وقابل هؤلاء القناصل الخديو، ورجوا منه أن يعيد عرابي إلى الجهادية حفظًا للأمن في مصر وتفاديًا للأخطار.
أما الوطنيون فقد اشتد قلقهم وقد مضى يومان والخديو عاجز عن إقامة وزارة، ونشط سلطان باشا، وأكثر من مقابلة الخديو، وفي نفس اليوم الذي قابله فيه القناصل، ذهب سلطان إلى سراي الإسماعيلية وتحدث مع الخديو طويلًا، ولكنه وجد منه تصميمًا على موقفه …
واجتمع بمنزل سلطان باشا عدد كبير من النواب والعلماء والأعيان وكبار ضباط الجيش، واتفقوا على أن يذهب وفد منهم إلى الخديو يرجو منه أن يعيد عرابي وزيرًا للحربية، ففي ذلك ضمان الأمن والسلامة.
وذهب وفد مؤلف من سلطان باشا وحسن باشا الشريعي وسليمان أباظة إلى سراي الإسماعيلية وقابلوا الخديو وعرضوا عليه ملتَمَسهم أن يعيد عرابي إلى الوزارة؛ فرفض الخديو وأصر على رفضه، وبعد طول توسّلهم وتوسط سلطان باشا أجابهم الخديو إلى طلبهم قائلًا: «بما أنكم أتيتم طالبين تقليد نظارة الجهادية لسعادة عرابي باشا حيث إنكم تظنون أن هذا التعيين يساعد على حفظ النظام فلا مانع من إجابتكم …»
وإن اتفاق هذا العدد الكبير من رجالات الأمة على إعادة عرابي حتى يطمئن الناس ويتحقق الهدوء لدليل لا شبهة فيه على أن الرجل فضلًا عما تحقق له من الزعامة قد أصبح بحقٍّ ملاذ البلاد، أما الخديو فلم يعد في رأي الناس إلا أداة طيِّعة في يد مالت يصرِّفه كيف شاء …
أشار إلى ذلك روثستين في كتابه بعد أن أشار إلى احتجاج ضباط الجيش ورؤساء الشرطة في الإسكندرية على الخديو بقوله: «وسرعان ما وصل نبأ هذا الاحتجاج إلى أهل القاهرة، فقام إلى الخديو وفد مؤلَّف من رؤساء الأديان المختلفة، علماء الإسلام، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود، وطلب إعادة عرابي وزملائه، فكان ذلك مظهرًا من مظاهر إرادة الأمة غير متوقع بالمرة … وعندما قَدِمَ سلطان باشا على الخديو مهرولًا يكاد يقتله الخوف، وتوسّل إليه أن يرجع النُّظّار إلى مناصبهم وإلا كانت حياته في خطر، نقول عند ذلك أذعن توفيق وأصحابه البررة، وأعيدت الوزارة، وأرسلت الأوامر إلى الأقاليم بإلغاء أوامر التسريح السابقة … ولم تدم هذه المأساة الهزلية أكثر من ثلاثة أيام، ولكنها كانت كافية في إظهار شعور الأمة الحقيقي. وإنّ في السرعة التي أرسلت بها الأوامر إلى الأقاليم لوقف جميع وسائل الدفاع لبيانًا لسبب كره الدبلوماسيين البريطانيين عرابي ورفاقه، فقد رأوا أنه ما دام هؤلاء قابضين على أزمّة الأمور فلا يحتمل أن تقع مصر غنيمة باردة في أيدي المعتدين.»
ولكن مالت لم يَرُقْهُ هذا المظهر فكان مما افتراه فيما أبرق به إلى حكومته ما جاء في قوله: «في هذا المساء توجّه رؤساء رجال الدين وفيهم البطريرك، والحاخام، كما توجه النواب جميعًا والعلماء وغيرهم إلى الخديو، وسألوه أن يعيد عرابي وزيرًا للجهادية، فرفض الخديو، ولكنهم توسلوا إليه قائلين: لئن كان الخديو مستعدًّا ليضحّي بحياته فينبغي ألا يضحي بحياتهم هم، وإن عرابي يهددهم جميعًا بالموت إن لم يحصلوا له على موافقة الخديو، وإن حرس القصر قد ضوعف، وإن أوامر صدرت إليهم بأن يمنعوا مغادرته القصر طلبًا لرياضته المعتادة، وأن يطلقوا النار إذا حاول أن يشق طريقه بالقوة … ولم يجد الخديو أمام هذه الظروف إلا الإذعان لا لينجي نفسه، بل لينقذ المدينة من سفك الدماء.»
إلى هذا الحد يبلغ افتراء مالت فيصوِّر توفيقًا سجينًا في قصره ويجعله عرضة لأن يطلق حرسه النار عليه، وهذه رواية لم يوردْها غير مالت بين جميع من كانت لهم صلة بهذا الموقف من القناصل ومن المؤرخين. ومن الأمور البديهية أنه لم يحجم عن أن ينقل مثل هذه الشائعات المفزعة إلى توفيق نفسه ليملأ قلبه رعبًا، ويوحي إليه أن يطلب النجدة …
وفي مساء اليوم الثامن والعشرين من مايو، أصدر الخديو أمرًا إلى عرابي باشا بإعادته إلى وزارة الجهادية والبحرية هذا نصه: «ولو أنكم استعفيتم ضمن هيئة النظار التي استَعْفَت، ولكن مراعاة لحفظ الراحة والأمن رأينا بقاءكم على نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم لتعلموه وتبادروا بإجراء ما فيه انتظام أحوال العسكرية بالطريقة الكفيلة لحفظ الأمن العام على الوجه المرغوب كما هو مقتضى إرادتنا.»
يقول عرابي في مذكراته: «حضر لي رئيس مجلس النواب سلطان باشا وحسين باشا الشريعي وسليمان باشا أباظة، وسلموني أمر الخديو القاضي برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية، وأخبروني بأنهم لما وفدوا على الخديو وجدوا جميع القناصل في حضرته ما عدا قنصلي فرنسا وإنجلترا، وأنهم طلبوا من الخديو صدور أمره برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية لأجل اطمئنان العموم، فكان القناصل مع النواب على رأي واحد، وحينذاك فرح الضباط والجنود وجميع الوطنيين وسُرُّوا بذلك سرورًا عظيمًا …
وبعد ذلك توالى اجتماع قنصلي إنجلترا وفرنسا الجنرالين بالخديو ليلًا ونهارًا، ثم إني أصدرتُ منشورًا إلى قناصل الدول، وتكفّلت لهم فيه بتأييد الأمن والراحة لجميع سكان القطر المصري وطنيين وأجانب، مسلمين وغير مسلمين، وطلبت من الخديو لزوم جمع العساكر لاستكمال الآلايات على مقتضى القدر المقرر في الفرمانات السلطانية فأجابني بالموافقة على ذلك، وصدر أمر الجهادية بجمع عساكر الإمدادية نمرة٢، ونمرة ٣، استعدادًا لما عسى أن يطرأ من الحوادث.»
وأخذت الطمأنينة تحل محل القلق في نفوس الناس، إلا من كانوا يفطنون إلى حقيقة الموقف، فليست المسألة مسألة الخلاف بين توفيق وعرابي، وإنما المسألة هي نوايا السياسة الإنجليزية! ولذلك ما كانت أية تسوية داخلية لتجدي فتيلًا والإنجليز متربصون، ومالت يسعى جهده لتعكير الماء كي يسهل عليه الغدر …
والواقع أن تعلّق الناس بعرابي إلى هذا الحد واطمئنان الوطنيين والأجانب إليه، أقوى رد يدفع به باطل مالت وأشياعه ممن خوفوا أوربا من نفوذ الحزب العسكري وأنذروها بالويل والثبور، فها هم أولاء الناس من وطنيين وأجانب لا يجدون لهم ملاذًا غير عرابي ليطمئنوا على حياتهم وأمنهم …
وكان عجز الخديو كذلك عن إقامة وزارة أبلغ فشل لسياسة مالت، فإن طوائف الأمة تؤيد الجيش ما عدا سلطان ونفرًا من النواب، وما تلتف الأمة حول الجيش ورئيسه عرابي إلا لأنه اليوم في نظر الجميع أكثر مما كان من قبل أمل البلاد في إنقاذها من التدخل الأجنبي، وهل يقول أحد إن الأمة كانت في صف توفيق بعد قبوله المذكرة المشتركة الثانية؟
إذن فالقضية تزداد وضوحًا يومًا عن يوم، فهذه أمة تطلب الحرية، ولكن إنجلترا وعلى رأسها جلادستون زعيم الحرية تتهمها بالتمرد والفوضى، كي تتقدم لالتهامها، كما اتّهم الذئب الحمل في تلك الخرافة التي يقصونها على الأطفال بأنه يعكر عليه الماء، والذئب في رأس المنحدر، والحمل في أسفله؟!
وكيف كان يطيق مالت أن يضمن عرابي الأمن في مصر؟ وكيف كان يطيق أن ينجح عرابي فيما تعهد به؟ إن معناه بطلان كل حجة له، بل بطلان حجته الوحيدة التي لا يفتأ يرددها ألا وهي اختلال الأمن في البلاد، وقلق الأجانب على أموالهم بسبب تسلُّط العسكريين …
ويذكر مالت فيما يذكره لحكومته أن البلاد في حالة ذعر، وأن الأوربيين يغادرون القاهرة أفواجًا، وأن الوزارات جميعًا ما عدا وزارة الجهادية تكاد تكون معطَّلة الأعمال، إلى غير ذلك من المفتريات الفاجرة …
وللقارئ أن يتدبر في قول كوكسن: «إن كل يوم نتأخره»، ومعنى ذلك أنه كان كصاحبه مالت يستعجل دولته بالعدوان الغادر على البلاد …