العدوان الفاجر
هذا هو العدوان الذي لا نجد في تاريخ الحروب أقبح منه أو أشد منه فجورًا، والذي سوف تنطوي العصور ويظل في تاريخ الإنسانية من أبلغ الأمثلة على ما يفعل الأقوياء بالضعفاء، وفي تاريخ الاستعمار المثل الرائع على ركوب أية وسيلة إلى الغاية في غير مبالاة بما يسمى الشرف أو الحق أو العدالة …
هذا العدوان الغادر الشنيع هو إطلاق المدافع من الأسطول الإنجليزي على مدينة الإسكندرية في اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة ١٨٨٢.
وإنه لتاريخ خليق بأبناء هذا الوادي وبني الشرق جميعًا أن يذكروه، كلما تحدث متحدث عن الضمير والشرف البريطاني وعن الحضارة الأوربية بوجه عام في هذا الشرق المسكين …
وإنه لعدوان خليق بأن يخجل منه ساسة الإنجليز إذا نسوا أطماعهم فترة، وفكروا فيما ينطوي عليه من غدر وقحة …
وإنه لثأر جدير بكل أبٍ وبكل أم في هذا الوادي أن يتحدثوا به إلى أبنائهم وبناتهم، إذا أرادوا أن يغرسوا في نفوسهم الغضب لكرامة وطنهم، والاشمئزاز والنفور من الغاصب الدخيل …
وما ندري بأية وسيلة نعبر عما نحس به إزاء هذا العدوان الغادر وليس في مقدورنا أن نعبر بالكلام عما يختلج في ثنايا الصدور …
•••
قبل الخديو المذكرة المشتركة كما أسلفنا، واستقالت وزارة البارودي في اليوم السادس والعشرين من شهر مايو، وظن المتربصون بمصر أن الحزب الوطني وأن الحركة القومية قد انتهى أمرهما بسقوط الوزارة، ولكنهم ما لبثوا كما بيَّنا أن تبينوا أن الأمر أكبر مما يظنون، واضطر الخديو إلى إعادة عرابي بعد يومين وزيرًا للجهادية لحفظ الأمن والنظام …
ولكن مالت بدل أن يكف عن دسائسه أمعن فيها، وبات همه الشاغل استعجال الحوادث التي تفضي إلى احتلال مصر، وكان جرانفل بالضرورة وإياه على اتفاق، وكان من ورائهما جلادستون أحد دعاة الحرية والمشتهرين بنصرتها!
وكانت السياسية الإنجليزية قد حددت سياستها نحو مصر، وتتلخص هذه السياسة في الانفراد باحتلال مصر وتحيّن الفرصة لذلك، وهي في الواقع سياسة قديمة ترجع إلى حملة نابليون على هذه البلاد، وقد نشطتْ نشاطًا عظيمًا منذ فُتحت قناة السويس …
وكان أمام إنجلترا في الخارج عقبتان: موقف فرنسا من المسألة المصرية، وحق تركيا صاحبة هذه البلاد، وفي الداخل عقبة كؤود هي الحركة القومية بزعامة عرابي، وكان سبيلها في الخارج المراوغة والتربص، وسوف يكون سبيلها في الداخل البغي والعدوان …
ولتمض إنجلترا إذن في مراوغتها بعد المذكرة المشتركة، ولتحرص أشد الحرص، كما حرصت من قبل، على أن تظهر لفرنسا والدول جميعًا أنها لا تنوي العمل بمفردها ولتدع تركيا إلى التدخل، ولتطع فرنسا في كل ما تدعو إليه، لتفعل إنجلترا ذلك كله فليس يضيرها شيء منه، بل إنه لستار تختفي وراءه إلى حين، ولن تعدم ذريعة لانفرادها بالتدخل حين تحين الفرصة، وإنها لتفيد من تردد تركيا وتراخيها؛ إذ يهيئ لها ذلك أن تقول: إنها اضطرت آخر الأمر أن تضطلع بحماية الأجانب ومصالحهم وأموالهم في مصر …
وكانت إنجلترا منذ إرسال المذكرة المشتركة الثانية إلى وزارة البارودي تزعم دائمًا في صلتها بالدول، وخاصة فرنسا، خطورة الحال في مصر، وتبالغ في الإنذار والتخويف.
وبعد سقوط وزارة البارودي بأربعة أيام أرسل دي فرسنيه إلى السفير الفرنسي بلندن يقول «لم يعد من أمل في حل سلمي بالضغط الأدبي القائم على وجود الأسطولين الفرنسي والإنجليزي وعلى المساعي الطيبة التي يبذلها عمال الدولتين في القاهرة».
واقترح فرسنيه أن يُعْقَدَ مؤتمر دولي لحل المسألة المصرية، وكان غرضه من هذا كما فعل حين اقترح مجيء السفن إلى الإسكندرية أن يحول بين إنجلترا وبين الانفراد بالعمل؛ فقد بات يتوجس خيفة من سياستها …
وقبلتْ إنجلترا الاقتراح، وأخذتْ تعمل في نشاطٍ لتنفيذ الفكرة، مدعيةً أن الأحوال الداخلية في مصر تتطلب عملًا عاجلًا حاسمًا. ولن تخيْبَ إنجلترا في أن تجعل من المؤتمر أداة تنتفع بها في تحقيق ما تبيته …
ومما يدل على حيرة السياسة الفرنسية أن فرسنيه، كما أسلفنا، كان يرى إبان أزمة وزارة البارودي أن لا داعي إلى التدخل في شؤون مصر، وأرسل رأيه هذا إلى جرانفل على لسان سفيره في لندن …
وبعث أدميرال الأسطول الإنجليزي إلى حكومته بعد ذلك بيوم يخبرها أن مصر تنشئ طابية جديدة تجاه إحدى سفن الأسطول ويطلب إليها زيادة السفن، وقد أجابته حكومته إلى طلبه دون أن تستشير فرنسا …
من أجل ذلك اقترح فرسنيه عقد المؤتمر؛ ظنًّا منه أن في ذلك عرقلة لسياسة جرانفل، ولم يشأ جرانفل أن يرفض المقترح فيكشف سياسته، ولذلك رحب به، بل وعمل على تنفيذه …
وكان مظهر حرص إنجلترا على التجرد من الغرض حين قبلتْ اقتراح فرنسا لعقد مؤتمر أن أبدتْ رغبتها في أن تشترك تركيا في المؤتمر، ثم إنها أرادات بهذه الرغبة أن تعرقل مساعي فرنسا لعقد المؤتمر؛ إذ كانت تعلم أن تركيا لا تميل إلى هذا الاتجاه …
وكانت سياسة تركيا تجاه الدولتين في مصر تدعو إلى الدهشة والأسف، ومردُّها فيما نرى إلى أنها كانت في حيرة بين توفيق وبين عرابي، فهي إن آزرت توفيقًا فكأنما توافق على انحيازه إلى الدولتين، وهو في الواقع منحاز إليهما منذ أن خُلع أبوه. وهي إن آزرت عرابي وافقت على النزعة الدستورية الحرة في مصر وقوَّت شوكة الفلاحين ضد الأتراك والشراكسة، وقد كانت هذه اليقظة القومية التي تعد في جوهرها موجهة ضد السيادة التركية تتمثل في عرابي زعيم مصر الفلاح …
والواقع أن اضطراب سياسة تركيا نحو مصر يرجع كذلك إلى غفلتها عن كثير من دسائس الإنجليز وعن السياسة الدولية بوجه عام، ثم إلى فساد رجالها وإيثارهم مصالحهم الشخصية على مصالح الدولة، وإمكان توجيههم بالرشوة الوجهة المطلوبة ولو كان في ذلك ضياع دولتهم …
ورفض السلطان أن يشارك في المؤتمر، ولكن ذلك زاد في حرج موقفه؛ إذ كيف يرفض إرسال مندوب إلى المؤتمر وفي الوقت نفسه لا يعمل عملًا ما تجاه سياسة الدولتين في مصر؟ لذلك أوفد بعثة درويش ورأى في ذلك سببًا عمليًّا يحتج به على رفضه فكرة المؤتمر …
وجاءت بعثة درويش وقد رأينا ما كان من سياستها المزدوجة، كما رأينا عجز درويش إزاء الرأي الوطني العام وتأثره بهدايا الخديو، وتذبذبه بسبب ذلك بين حاكم مصر وبين زعيم مصر …
ورأينا إنعام السلطان على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر، وفي ذلك — فضلًا عما بيناه من معانٍ — معنى آخر هو أن عرابي لم يكن بالمتمرد ولا بالمتسلط، بل إنه الرجل الذي لاذ به الجميع لحفظ النظام، وبذلك فلا وجه لما يذيعه الإنجليز عن خطر الحزب العسكري في مصر، ومن ثم فلا حاجة إلى مؤتمر، ولا إلى تدخل من أي نوع كان …
ولكن أين هذا الأسلوب من دهاء السياسة الإنجليزية وخبثها وطول مرانها على اللؤم والمكر السيئ؟ لقد دبر الإنجليز وشركاؤهم مأساة الإسكندرية؛ لتكون حجة لهم على صحة ما يقولون … ومن هنا يتبين لنا خطر هذا الحادث المشؤوم …
ولذلك نعود بأشد اللوم على عرابي؛ لأنه أذعن لتوفيق حين جعل عمر لطفي رئيسًا للجنة التحقيق، ولأنه تراخى بعد ما كان من إقدامه أول الأمر على أثر انسحاب الإنجليز من اللجنة، وكان عليه أن يتعقب الجناة مهما كان شأنهم وأن يواجههم بالأدلة ثم يضرب على أيديهم، ولو أنه فعل ذلك للعب لعبة بعيدة الأثر في مجرى الأحداث؛ إذ كان يفضح أعداءه ويحبط كيدهم ويردهم خاسرين …
ولن يشفع لعرابي أنه آثر الحرص على مودَّة الخديو، ولا أنه خشيَّ أن يُفسر عمله بالتحدي لسلطته فيهيئ لأعدائه دليلًا على صحة ما يزعمون من تدخله وتسلطه.
لن يشفع له شيء من هذا؛ فقد اضطلع بحفظ الأمن وتعهد بذلك، وكان بعد استقالة البارودي الحاكم الفعلي بل الحاكم الوحيد، وقد أعيد إلى منصبه في الوزارة لهذا الغرض بالذات … إلا أنه لخطأ من أكبر أخطائه السياسية سوف يعود عليه وعلى مصر بأوخم العواقب.
•••
ولندع الآن موقف تركيا من المؤتمر لنعود إلى ما كان بين فرسنيه وجرانفل …
في أول شهر يونية، أي في اليوم التالي لاقتراح فرسنيه، أرسل إليه اللورد جرانفل يقترح مرة أخرى رجاء الدول العظمى أن ترسل إلى السلطان تطلب إليه إرسال جنود تركية إلى مصر، ورد فرسنيه أن الأولى أن تنظر الحكومتان: هل توافق الدول على عقد المؤتمر أم لا؟ وأجاب جرانفل بأن سؤال السلطان إرسال جنود إلى مصر ينبغي أن يكون مما يشار به على اللورد دوفرين فيما يتصل ببرنامج المؤتمر، وأظهر فرسنيه تململه من هذا الرد؛ لأن أجوبة الدول على الدعوة إلى المؤتمر لم ترد بعد …
وكان جرانفل في الواقع يماطل ويسوِّفُ؛ علَّه يستطيع أن يتخلص من عقد المؤتمر؛ وإن تظاهر أمام فرنسا أنه يرحب به …
ولما وقعت مأساة الإسكندرية عادت إنجلترا إلى تخويفها العالم من سوء الحال في مصر؛ علها تجد في ذلك ذريعتها للتدخل قبل هذا المؤتمر الذي تشير به فرنسا.
أرسل مالت إلى جرانفل بعد المذبحة بيومين أي في اليوم الثالث عشر من يونية يقول: إن بعثة درويش قد فشلت فشلًا تامًّا في مهمتها، وأن مندوب السلطان اضطر إلى الخضوع لسلطة عرابي، وأنه أدلى إلى ممثلي الدول بقوله: إنه تحت ضغط الظروف الملحة يشارك عرابي باشا في تنفيذ أوامر الخديو، وإنه وزع الأوسمة على العرابيين وعلى الخديوين، وأن تأثيره قد ذهب.
وأراد فرسنيه أن يأخذ الطريق على السياسة البريطانية بفكرة أخرى فأعلن أنه بعد سيطرة عرابي على الموقف «قد تهيأ كل ما يمكن من تسوية المسألة المصرية بالاتفاق مع عرابي».
واهتم الإنجليز في مصر، أكثر من قبل، بإذاعة الأنباء عما يزعمونه من سوء الحال؛ وذلك كي يردوا على قول درويش وقول السلطان من أن الحال هادئ لا يستدعي شيئًا من القلق …
وأراد جرنفل أن يستغل حادث الإسكندرية قبل أن تظهر حقيقته فكتب في اليوم الثالث عشر من يونية دون الرجوع إلى فرسنيه، إلى القناصل الإنجليز في الدول المختلفة بأن يعرضوا على هذه الدول اقتراحًا مؤداه أن يطلب إلى السلطان إرسال جنود إلى مصر بشروط معينة؛ أهمها: عدم الاعتداء على الفرمانات المقررة …
ورأى فرسنيه ألا يدع إنجلترا تتصرف وحدها فوافقها مرغمًا مشترطًا أن يكون هؤلاء الجنود خاضعين لأوامر الخديو العليا، وقبل جرانفل هذا الشرط، وإنه ليجعل من هذا كله ستارًا لنياته … ثم كتب فرسنيه إلى قناصله؛ لتفعل كما فعل القناصل الإنجليز …
واتفقت الدولتان على عقد المؤتمر عاجلًا بمشاركة إنجلترا أو بغير مشاركتها؛ إذ إن السلطان كان لا يزال على رفضه بحجة أن (درويش) قد نجح في مهمته، وأن وزارة شُكلت في مصر وعادت الأمور إلى مجراها العادي.
وبعد شيء من الأخذ والرد اجتمع المؤتمر في الآستانة في اليوم الثاني والعشرين من شهر يونية دون أن يحضر فيه أحد من قِبل السلطان.
ولندع المؤتمر ريثما ننظر نظرة إلى الحال الداخلية في مصر …
وكانت الشائعات تنتشر في الإسكندرية — ولم يمضِ على الفتنة يوم — أن الأوربيين يستعدون لهجوم جديد فاجتمع رؤساء الجند وكتبوا إلى القناصل؛ ليطلبوا إلى رعاياهم السكينة والنظام، وأصدر القناصل نداءً للأوربيين يحثونهم فيه على التزام السكينة …
وغادر الخديو القاهرة في اليوم الثالث عشر من يونية إلى الإسكندرية بحجة الاصطياف حسب عادته كل عام وصحبه درويش باشا، وقد ودعه عرابي في المحطة، وقبل تحرك القطار أوصى الخديو عرابي بالسهر على الأمن وأخذ الحيطة لمنع وقوع أي حادث …
وقد أستراب الناس في سفر الخديو فجأة عقب الفتنة، وفسروا ذلك بأنه أراد أن يبتعد عن عرابي وحزبه؛ ليكون في حمى الأسطولين بالإسكندرية، وأحسوا في هذا السفر المفاجئ شيئًا من الخوف وقالوا: إن الخديو على علم بقرب وقوع الحرب …
ونجد دليلًا آخر في برقية لمالت — سلفت الإشارة إليها — يصف فيها موقف الخديو فيقول عن الإنجليز: إنهم هم الذين صرفوه عن السفر إلى الإسكندرية. ومعنى ذلك أنه لولا مساعيهم لسافر إليها.
وفي الإسكندرية قوبل الخديو بفتور، وقد أطلقت المدافع تحية له واصطف الجند على الجانبين حتى سراي رأس التين، وقد وَجِل الناس عند سماع المدافع؛ ولم يكونوا يعلمون بمجيء الخديو، وظنوها مدافع الحرب …
وزاره القناصل في سراي رأس التين عدا قنصلي فرنسا وإنجلترا؛ إذ كانا بالقاهرة، فأعرب لهم عن أسفه لما حدث يوم الفتنة، ووعدهم بأن يوجه عنايته حتى لا يحدث شيء من هذا في المستقبل …
ويورد عرابي في مذكراته أن الخديو طلب جنودًا إنجليزية؛ «لأنه لا يصح أن يطلب جنودًا عثمانية من عامل إنجليزي مثل كلفن».
ووقع ما أسرَّ به الخديو إلى كلفن وقعًا مؤلمًا في النفوس وعادت إليها عوامل الخوف، وزادت هجرة المهاجرين من الأجانب في حالة أشبه بالذعر كأنما تنتظر الحرب بين ساعة وساعة، أو ترتقب فتنة أشد هولًا من الفتنة السالفة …
وظل عرابي في القاهرة، وكان بيته حسب المعتاد يمتلئ كل يوم بالناس وفي مقدمتهم زعماء الحركة الوطنية ومن أبرزهم نديم ومحمد عبده والهجرسي والشريعي والسيد حسن العقاد، وكبار رجال الجيش مثل البارودي وعبد العال وعلي فهمي وكان حديث هؤلاء لا ينقطع عن موقف توفيق من الأجانب وخاصة منذ سفره إلى الإسكندرية، وعن نيات درويش، الذي كان يكرهه نديم أشدَّ الكرهِ ويوجس منه خيفة، وطالما أعلن إلى أصحابه أنه لا يأمن الأتراك بوجه عام ولا يدري هل جاء درويش للقضاء على عرابي أم للقضاء على توفيق …
وكان عرابي يغشى بيت البارودي كثيرًا؛ حيث يجتمع أنصاره فيتحدثون أحاديثهم السياسية، ويذكر صابونجي في كتاب له أرسله إلى بلنت: «أن الناس كانوا ينهضون وقوفًا على جانبي الطريق إذا أبصروا عرابي في عربته ويهتفون قائلين: «الله ينصرك يا عرابي» …
ومما يذكره صابونجي كذلك أنه بينما كان في بيت الشريعي باشا؛ حيث كان هو وعرابي وسامي ونديم والهجرسي وعبد العال وعلي فهمي ضيوفًا على صاحب الدار، إذ دخل ضابط ومعه كتاب من سيدة أجنبية تطلب حماية عرابي، وقد نصح الناس لها بالهجرة من القاهرة، فطلب إليه عرابي أن يكتب لها مؤكدًا حماية عرابي إياها كما يحمي نفسه …
وكان عرابي شديد الشك في نيات توفيق، فإذا تحدث عما تم بينهما من صلح قال: إنه من جانبه لا يخون عهدًا، ولكنه إذا وجد الخيانة من غيره نقض عهده، وإذا غشه الخديو «فسيدفع له من جنس عملته».
وسأله صابونجي رأيه في حليم فقال: «إنه يفضله على توفيق، ولكنه يرى أنه لو تخلص توفيق من تأثير مالت فكل شيء يسير سيرًا حسنًا، ولقد أضل كلفن صاحبه مالت، ولقد سببا ضررًا بليغًا لدولتهما كما سببا ضررًا بليغًا لمصر وذلك بتشويههما الحقائق».
وتحدث عرابي عما يتوقع من حرب فقال: «لن نكون نحن المعتدين، ولكننا سنقاوم كل من يعتدي علينا، نحن أمة مخلصة نعترف بالجميل لمن يأخذ بأيدينا ويعيننا على إصلاح وطننا، ونحن لا نبغي إلا الإصلاح، ولكن الذين يريدون أن يغشونا سوف يجدون منا كل غش».
ويصف صابونجي زيارته للشيخ الإمبابي شيخ الجامع الأزهر ذات يوم بصحبة عرابي، فيقول: إن الشيخ كان جالسًا على وسادة فنهض واقفًا وتقدم خطوات يلقي عرابي محتفيًا به، وقد خلع عرابي نعليه عند دخول الحجرة؛ إجلالًا للشيخ وقبل يده، وكان مع الشيخ نفر من العلماء فتقدموا وسلموا على عرابي وحفوا من حوله مرحبين، وقد طلب عرابي من الشيخ أن يذيع في الناس نداءً يحثهم فيه على الهدوء والسكينة ويطلب إليهم — وفق تعاليم الدين الإسلامي — ألا يعتدوا على أموال اليهود والنصارى ولا على أرواحهم، ووعده الشيخ بإذاعة هذا النداء …
•••
وكان يسرُّ الإنجليز ويهمهم أن تبقى البلاد بغير وزارة ففي ذلك ما ينتحلونه لإثبات مزاعمهم عن الفوضى الداخلية، وتسلطِ عرابي، وعجز الخديو، وما إلى ذلك من البهتان …
وكان يُرضي الخديو كذلك أن يُشهد الدول على أنه طالما توجد السلطة في يد عرابي فلا أمل في تأليف وزارة ولا رجاء في إصلاح الحال …
وكذلك كان يرى توفيق أن تأليف وزارة معناه الرجوع إلى حكم الدستور؛ إذ لا يمكن لوزارة ما أن تحكم البلاد حكمًا مطلقًا، وهو يتطلع إلى اليوم الذي يقضي فيه على هذا الدستور الذي سلبه مشيئته وألقى بها في يد الأمة، وكان أكبر ما يغيظ توفيقًا أن يصل الحزب الوطني أو حزب الفلاحين في مصر — كما كان يسميه الأتراك — إلى ما وصل إليه، وبلغ به الحنق أنه كان لا يطيق سماع اسم عرابي الذي تتمثل فيه زعامة الأمة كما يتمثل مبدأ الحكم الدستوري …
فلما وقعتْ الواقعة في الإسكندرية أشفق قنصلا ألمانيا والنمسا ونصحا للخديو بإسناد الوزارة إلى رجل يرضى عنه العرابيون، وقد فطنا إلى لؤم السياسة الإنجليزية وحيرة السياسة الفرنسية وعقم السياسة التركية، وكانت دولتاهما غير مرتاحتين إلى استئثار إنجلترا وفرنسا بالمسألة المصرية، وقد أظهر بسمارك شيئًا من العطف على عرابي في قوله: «إن عرابي قد غدا قوة يحسب لها حسابًا» ولعله بهذا كان يرمي كذلك إلى مناوأة الدولتين …
ولم يكن ليقوى توفيق على تبعة بقاء مصر بلا وزارة، فأقل ما يقال في ذلك: إنه عاجز عن إقامة وزارة، لذلك قبِل على رغمه مشورة القنصلين: الألماني والنمسوي، وعرض الوزارة على راغب باشا فقبلها في اليوم السابع عشر من يونية، وصدرت المراسيم بتألفيها في اليوم العشرين منه …
ولم يكن راغب باشا من الموالين للخديو؛ ولذلك وافق عرابي عليه؛ فقد أرسل إليه الخديو ينبئه بإسناد الوزارة إليه ويدعوه إلى معاونته، وجاء رد عرابي بالموافقة وبالثناء على راغب، وظل عرابي في وزارة راغب وزيرًا للجهادية والبحرية …
ولقد خاف جرانفل أشد الخوف من دخول ألمانيا في النزاع، فلم يكن بسمارك بالسياسي الذي يؤمَن جانبه، بل إنه وحده بين ساسة أوربا الذي يلفُّ لفَّ الإنجليز ويدور دورانهم ويمكر مكرهم أو أشد من مكرهم …
ولا يفوتنا أن نلاحظ مغزى إخبار توفيق عرابيًّا بإسناد الوزارة إلى راغب، فكأنما يقول بذلك: إنه يستأذنه؛ لأنه هو المتسلط، ثم إنه يطلب معونته. قال: «فليكن في علمكم إحالة مقام الرئاسة لعهدة الباشا المشار إليه، وكونوا جميعًا يدًا واحدة في المساعدة والمعاونة وصرف الاقتدار والإمكان له فيه انتظام الإدارة وحسن السير في الأعمال واستتباب الأمن والراحة بأطراف وأكناف البلاد» …
ووضع راغب باشا في كتابه الذي رفعه إلى الخديو منهاجًا لوزارته يتضح منه أنه كان ينوي أن يحكم البلاد حكمًا دستوريًّا قوميًّا، يكفل للدستور الاستقرار والتقدم، ويقطع الطريق على دسائس الإنجليز، فبعد أن أشار راغب باشا إلى احترام الفرمانات المحددة مركزَ مصر واستقلالها ومراعاة الاتفاقات الدولية المتصلة بالديون واحترام مبدأ الدستور والسير وفق أحكامه قال: «فجميع هذه الأصول الثابتة التي روعيت قبل الآن بكمال الضبط ستراعى في هيئة النظارة الجديدة بغاية الدقة بل إن هذه الهيئة ستأخذ بجميع الأسباب الموجبة لتثبيت هذه الأصول وتقوية جانبها فإنها ترى في ذلك توفيقًا بين المصالح يعود على البلاد بأجلِّ المنافع.
- أولًا: أن يصدر عفو عام ويدرج في الجرائد الرسمية باللغتين العربية والفرنسية عن كل من عليه مسؤولية أو له اشتراك في الأحداث الأخيرة، وهذا عدا المشتركين والمسؤولين في حادثة الإسكندرية وفي المواد الحقوقية، فلا يشملهم العفو …
- ثانيًا: لا يعامل أحد بجزاء إلا بعد محاكمته في مجلس بمقتضى القانون وصدور الحكم عليه …
- ثالثًا: لا تجرى مخابرات في المصالح السياسية من مأموري الحكومة مع أحد وكلاء الدول بالقطر المصري إلا من طرف ناظر خارجية حكومتكم فقط، وعليه أن يستشير مجلس النظَّار في الأمور الهامة وإن حصلت مخابرة من أحد المأمورين فلا تعتبر ولا يعتد بها١٤ …
- رابعًا: الأوامر التي تصدر بالإجراء والعمل يكون إصدارها على موجب الديكريتو العالي المؤرخ في ٢٨ أغسطس سنة ١٨٧٨١٥ …
ومما نرى الاهتمام به واجبًا علينا إيجاد الوسائل لتوسيع دائرة المعارف والصنائع وتحسين أحوال الزراعة والتجارة وكل ما يعود على البلاد بالثروة، فهذه يا مولاي هي المبادئ التي يكون عليها العمل في هيئة نظارتكم الجديدة.
من ذلك نرى أن وزارة راغب باشا كانت كفيلة ببرنامجها هذا أن تعيد السكينة والهدوء إلى مصر، وأن تُرضي الوطنيين وتضمن حقوق الأجانب المالية، ولقد وافق الخديو بكتاب رسمي إلى راغب باشا على هذا البرنامج الوطني السليم، ولن يضيره أن يوافق؛ فذلك كله في نظره من الأمور العابرة.
وكان منهج هذه الوزارة أبلغ رد على السياسة الإنجليزية وادعاءاتها، ولو أنها وجدت في مصر حاكمًا غير توفيق لنجت البلاد من الكارثة المحدقة …
ولكن ماذا كان في طوق راغب أن يفعل، وقد خاصم توفيق الدستور والوطنيين خصامًا لن يجدي معه تفاهم، وآثر الانحياز إلى الإنجليز حتى لقد أحرق القوارب جميعًا من ورائه كما يقولون …
وهل كان الإنجليز يَدَعون راغبًا ينفذ برنامجه؟ وإذن ففيمَ كانت دسائسهم الماضية جميعًا؟ وهل هم انصرفوا عن احتلال مصر حتى يدعوا هذه الوزارة وشأنها؟ لقد قابلوها بأشد الجفاء من أول الأمر، وأخذتْ أبواقهم تذيع ما كانت تذيعه عن البارودي ووزارته وأشد منه، وعادوا إلى نغمتهم القديمة المرذولة وهي أن الوزارة في يد الحزب العسكري، وسوف يدأبون — كما نرى — على اختلاق الأكاذيب، ووضع العراقيل في سبيل هذه الوزارة، وخاصة ليؤثروا على المؤتمر الذي انعقد في الآستانة بعد تأليف وزارة راغب بثلاثة أيام …
وكانت أولى هذه العراقيل امتناع كارتريت — بأمر من جرانفل — عن تمثيل إنجلترا في لجنة التحقيق التي ألفتها الوزارة للبحث عن مدبري حوادث الإسكندرية، ولم يكتفِ كارتريت بذلك، بل راح يثير الشكوك حول اللجنة متهمًا أعضاءها بممالأة العرابيين؛ خوفًا من نفوذ الحزب العسكري …
وكان توفيق لما علم بعزم الوزارة على تحقيق أسباب هذه الفتنة وتأليف لجنة جديدة بدل اللجنة الأولى التي انحلت بانسحاب الإنجليز منها، قد كتب إلى راغب يطلب إليه الاهتمام بهذا الأمر ويستنكر حوادث الإسكندرية، وغرضه من هذا أن يظهر بمظهر المحايد الذي يريد تحقيق العدالة …
•••
اجتمع المؤتمر بدار السفارة الإيطالية بالآستانة، ورأسه الكونت كورتي سفير إيطاليا بصفته أقدم السفراء.
وكانت الجلسة الأولى في اليوم الثالث والعشرين من يونية كما أسلفنا القول وفيها قرر المؤتمر إرسال مذكرة إلى حكومة السلطان ينبئها باجتماعه ويعبر عن أسفه لعدم انعقاده برئاسة وزير خارجية تركيا وعن أمله في اشتراك تركيا في الاجتماعات المقبلة.
هذا هو الميثاق الذي وقَّعتْ عليه إنجلترا على رؤوس الأشهاد، والذي لم يمضِ عليه ستة عشر يومًا حتى ضربتْ إنجلترا الإسكندرية بمدافعها الضخمة، كذلك على رؤوس الأشهاد، ولقد وقعت عليه إنجلترا التي لا تسكت قط عن التغني بشرف سياستها، بعد أن أعدت كل ما استطاعت لاحتلال مصر!
يقول روثستين: «فالطريقة التي أنفذت بها إنجلترا هذا الاتفاق تعد في تاريخ القانون الدولي من أشنع المخازي، ولا عجب إذا عني المؤرخون الذين ينتصرون لها بتحاشي ذكر ذلك الاتفاق القاطع لحججهم كلها».
والواقع أن إنجلترا كانتْ قد فرغت منذ زمن طويل من تحديد ما تعمله في المسألة المصرية، يقول كرومر في كتابه: وقد جاء دور الكلام عن المؤتمر: «ليس من الضروري أن نقف طويلًا عند إجراءات المؤتمر المملة؛ فقد كان من الأمور الجلية كما قال اللورد سالسبري في مجلس اللوردات يوم ٢٤ يولية أن المجمع الأوربي ما هو إلا وهم، وفي أحد الجانبين كانت الحكومة البريطانية ويمثلها في المؤتمر رجل من أقدر دبلوماسييي ذلك الوقت، وكان اللورد جرانفل واللورد دوفرين يفهمان تمام الفهم ماذا يريدان، ولقد رغبا في أن يوطدا النظام في مصر، وكانا يقظين إلى تلك الحقيقة التي مؤداها أنه بغير استخدام القوة المادية فلن يوطد ذلك النظام».
ومما يدعو إلى الأسف والسخرية أن تركيا ظلتْ غافلة عما تبيت إنجلترا حتى ذلك الوقت، وظلت تأمل أن يفشل المؤتمر، وكانت لا تفتأ تردد قولها على لسان سفيرها في لندن أن وزارة أُلَّفَتْ في مصر، وأن الحال في غاية الهدوء، وأن تقرير درويش باشا يدل على طاعة الجند وبُعدهم عن أي غرض سيئ.
وكان من الممكن أن يكون لكلام تركيا قيمته وخطره لو أنها اشتركت في المؤتمر واستطاعت أن تقنع به مندوبي الدول أو بعضهم فتأخذ الطريق على إنجلترا.
على أن إنجلترا لم تستهن بأقوال تركيا هذه، فهي لا تأمن أن يلقيها في المؤتمر مندوب دولة أخرى يكون لها غرض في مناوأة إنجلترا، ولذلك حرصت كل الحرص أن تصور الحال في مصر حسبما تريد هي من السوء، لا كما يشهد به الواقع.
ولقد وصل تقرير درويش إلى الآستانة في اليوم الذي اجتمع فيه المؤتمر، وأنعم على عرابي بالوسام المجيدي الأكبر بعد ذلك بيومين، وأبلغ موزروس باشا وزير خارجية تركيا جميع وكلاء تركيا لدى الدول الأجنبية مضمون ما جاء في تقرير درويش باشا، وطلب إليهم أن يبلغوا الدول باهتمام تركيا بشؤون مصر بحيث لا يدعو الحال إلى تدبير خاص، وكان يقصد بذلك عقد المؤتمر الدولي.
وكانت إيطاليا قبل عقد المؤتمر قد اهتمتْ بكلام تركيا، ولعل مرد ذلك إلى أنها كانت تميل إلى ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا وفرنسا في السياسة الأوربية بوجه عام وقد كان بسمارك يعمل في إيقاع الخلاف بين إنجلترا وفرنسا فتدخل في المسألة المصرية تدخلًا ظهر في نصيحة قنصله وقنصل النمسا للخديو بتأليف وزارة في مصر.
ويتبين اهتمام إيطاليا فيما أرسله باجت السفير البريطاني بروما إلى جرانفل من أن مانشيني وزير خارجية إيطاليا أفضى إليه بأن الكونت كورني السفير الإيطالي بالآستانة تلقى من وزير الخارجية العثماني ما يفيد بهدوء الحال في مصر بتأليف وزارة راغب باشا وأنه لم يبق هناك من داع للمؤتمر الدولي …
وكذلك اهتمت روسيا بمسألة مصر، يقول روثستين: «إن مسيو ده جيير وزير خارجية هذه الدولة قد اهتم في التعليمات التي أرسلها إلى سفرائه بمناسبة انعقاد المؤتمر بوجوب بقاء المؤتمر حتى يفصل في أمر مصر، قائلًا: إن كل حل للمسألة يأتي من غير هذا الطريق حل غير مقبول، وإنه إذا لم يكف التأثير الأدبي في تذليل الصعاب فإن المؤتمر بأجمعه يقرر ما يراه من الوسائل الأخرى، فإذا اقتضت الضرورة هذا الأمر فتركيا أحق الدول بإعادة المياه في مصر إلى مجاريها، فإن أبت تركيا ذلك؛ فقد يعهد الأمر إلى إنجلترا وفرنسا على شرط أن يرافق جيوشهما مندوبون من طرف الدول الأخرى، فإذا استقر النظام في نصابه أعيد النظر في جميع التزامات مصر الدولية بقصد إلغاء المراقبة الثنائية ووضع نظام دولي يحول دون عبث معتمدي الدول ويجعل كل تعرض آخر لشؤون مصر الداخلية أمرًا مستحيلًا».
لذلك كانت لا تأمن إنجلترا أن تعود إيطاليا أو غيرها إلى مناوءتها، فعمدت إلى التهويل في تصوير خطر الحال في مصر وأنها تنذر بأوخم العواقب.
فمن ذلك ما أذاعوه من أن أربعة عشر ألفًا من المسيحيين قد غادروا مصر، وأن ستة آلاف غيرهم ينتظرون في لهفة وصول السفن التي تقلهم من البلاد، ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أن هذه الهجرة تمت بتحريضهم وإذاعتهم أنباء السوء في الوقت الذي كان فيه عرابي يؤمن الأجانب على أرواحهم وأموالهم المرة بعد المرة والذي هدأت فيه الحال بعد الفتنة التي كانت من صنع أيديهم ألا وهي مسألة الإسكندرية النكراء!
ومنه ما أشيع عن عرابي أنه عرض على مجلس الوزراء أن يصادر أملاك كل مصري يغادر مصر، ومما يدعو إلى الضحك قول كرومر معقبًا على ذلك بأن عرابي يسلك في ذلك مسلك اليعاقبة في الثورة الفرنسية على غير وعي منه، ثم يعود فيقول: «إنه من الممكن أن يكون عرابي قد فعل ذلك بوعي منه؛ فقد أخبرت من مصدر يوثق به أنه كان في ذلك الوقت يوجه اهتمامًا كبيرًا إلى دراسة تاريخ الثورة الفرنسية»، وهكذا يكون عرابي عالمًا يقرأ ويطلع إذا شاء كرومر أن يكون العلم وسيلة لاتهامه، ويكون جاهلًا طائشًا إذا كان رميه بالجهل وسيلة لتشويه حركته القومية، وليس وراء ذلك فُجر أو لؤم …
ومنه ما أرسله كارتريت إلى جرانفل في اليوم السادس والعشرين من يونية يقول: «نظرًا لما يلوح من أن فكرة تسود الآن في الآستانة مؤداها أن وزارة راغب باشا تسير سيرًا مَرْضيًّا، وأن نفوذ عرابي يتناقص، وأنه ليس ثمة ما يدعو إلى تدابيرَ لتهدئة الحال، رأيت من الصواب أن أخبر سفير حكومة جلالة الملكة بالآستانة عمَّا لا نزال نحسه هنا من عدم الاطمئنان الذي ترد كل أسبابه إلى مسلك الحزب العسكري.»
وأطلق كارتريت في برقيته هذه العنان لمزاعمه عن لجنة التحقيق ومن ذلك قوله: «إن يعقوب باشا العضو العسكري في اللجنة والذي هو وكيل وزارة الحربية قد عارض معارضة شديدة وصمم على ألا يُجرى تحقيق مُرْضٍ، الأمر الذي أدى إلى انسحاب العضو الإنجليزي، وأن بطرس باشا وكيل وزارة العدل والعضو المدني في اللجنة قد قرر أكثر من مرة بأنه ما من شخص يجرؤ على تقديم أدلة لا يرضاها الحزب العسكري وأنه هو نفسه مضطر إلى تأييد يعقوب باشا ولو أنه يخالفه في آرائه كل المخالفة … وإنه لا يزال في السجن عدد من الأوربيين، احتجزوا هناك منذ ١١ يونية، ويرفض يعقوب باشا إطلاقهم؛ لأن ذلك يغضب الجنود وفي مثل تلك الحال لا يسأل عن حفظ النظام».
وقال عن راغب: «إنه لا يستطيع أن يعمل عملًا فيه إغضاب للجيش على أية صورة، وأذكر تأكيدًا لذلك أن لغة سعادته أصبحت مطابقة للغة عرابي».
ثم أخذ يبالغ في وصف تسلط العسكريين في جميع دواوين الحكومة وكيف يشكو المديرين في الأقاليم وسائر الموظفين من تدخل الجند في كل شيء.
وبعد ذلك بيومين أبرق كارتريت مرة ثانية إلى جرانفل: «يلقى راغب باشا صعوبة شديدة في محاولته السيطرة على العنصر العسكري في وزارته، وعلمت أن سعادته يشعر بالقنوط تلقاء ما يلقى من فشل، ويجد الجند أكثر اشتغالًا بمشروعاتهم الحربية وتدابيرهم من أن يوجهوا أي انتباه جدي إلى الوسائل المؤدية إلى الطمأنينة أو إلى الحاجة إلى خطوات جديدة يقصد بها إقرار النظام».
وعقد المؤتمر جلسته الثالثة في اليوم السابع والعشرين من يونية، وكأنما عاودت إيطاليا الشكوك في نية إنجلترا؛ فقد قدم العضو الإيطالي اقتراحًا هذا نصه: «ينبغي أن يكون معلومًا أنه ليس لأية دولة أن تقوم بعمل انفرادي في مصر ما دام المؤتمر منعقدًا».
وأحس اللورد دوفرين أن إيطاليا — وقد قبل المؤتمر هذا الاقتراح — قد ضربت مطامع إنجلترا في مقتل ولكنه بدهائه تدارك الأمر، فما زال بالمؤتمر حتى أقنعه بإضافة تحفظ إلى هذا الاقتراح مؤداه استثناء ما تقتضيه الظروف القاهرة كضرورة محافظة كل دولة على أرواح رعيتها، وقد استعان في دفاعه عن وجوب قبول هذا التحفظ بما قدمه من أنباء عن سوء الحال في مصر، ومن أعجب العجب أن المندوب الفرنسي أيده في هذا التحفظ بعد التشاور فيما بينهما!
وكتب دوفرين إلى جرانفل ينبئه بهذا الانتصار قائلًا: «إن الغرض من إضافة ذلك التحفظ إطلاق أيدينا في العمل إذا طرأ طارئ ما … وإننا في الحقيقة لم نعد اقتراح السفير الإيطالي ذا شأن كبير بعد هذا التحفظ الذي نرجع إليه عند الحاجة».
ولكن جرانفل لم يرضَ أن تكون الظروف القاهرة مقصورة على محافظة كل دولة على أرواح رعاياها فذلك مجال ضيق، وكتب إلى دوفرين ليتدارك الأمر وما كان دوفرين بالذي تعوزه حيلة إذا كان الأمر أمر خداع.
ومن غريب أمر المندوبين أنهم قبلوا هذا من دوفرين، فألغوا بذلك المقترح الإيطالي!
وفي الجلسة التالية للمؤتمر ألقى دوفرين خطبة عن الحالة في مصر، فملأها بالمطاعن على مصر وأهلها وحركتها القومية، وكان مما ادعاه: أن الفوضى قد شاعت في مصر بسبب تمرد الجيش وخروجه على سلطة الخديو، وقد اختلت الإدارة وارتبكت الحال بوجه عام، وشلت حركة التجارة، وعجزت الحكومة عن الوفاء بتعهداتها المالية، وعجز الأهالي عن سداد الضرائب …
وعقَّب على فتنة الإسكندرية واتهم الوطنيين بتدبيرها، وبالغ في الكلام عما يتعرض له الأوربيون من خطر، وأشار إلى هجرتهم المتزايدة كل يوم من البلاد، ونفى ما ذكرته تركيا من أن الحالة هادئة وأن وزارة راغب قد أعادت الأمور إلى مجراها العادي، وسمى هذه الوزارة «الوزارة الهزلية» قائلًا: إنها أداة في أيدي المتمردين، وإن الخديو سليب الإرادة لا حول له ولا قوة …
ثم قال: إن إنجلترا وفرنسا لا يسعهما السكوت على هذا الوضع في مصر، وكشف النقاب عن وجهه، فصرح بوجوب التدخل المسلح في مصر، وأهاب بالدول أن تضرب على أيدي الثائرين وأن تأخذ الثورة بالشدة وإلا استفحل نفوذها واستعصى بعد ذلك قمعها …
على أنه يرى أن هذا التدخل يجب أن يكون من جانب السلطان، ثم قال: إنه علم من مصدر يوثق به أن (درويش باشا) اعترف بإخفاقه في مهمته، وإنه لا يستطيع أن ينقذ الخديو من تسلط الجيش إلا بقوة حربية لا تقل عن عشرين طابورًا، وإن الوزارة المصرية الجديدة ما هي إلا أداة في يد عرابي، وسيبقى الخديو سليبًا من كل إرادة ما لم يُنفذ إليه جيش يعيد إليه سلطانه …
وكان يتلو دوفرين على المؤتمر البرقيات التي أرسلت إلى جرانفل ويسوقها مساق الأدلة، ولن يكون عبث بالعقول أشد من هذا مدعاة إلى السخرية والاشمئزاز! ألم تك تلك البرقيات من صنع الإنجليز؟ ولِمَ تكون هي المصدَّقة وتكون أقوال تركيا المكذبة، ولا فرق على الأقل بين هذه وتلك في قابليتها للكذب أو للصدق؟!
كان أعضاء المؤتمر يصغون إلى دوفرين ولديهم من الأنباء ما يحملهم على عدم تصديقه في كثير مما يقول، وقد صرح بعضهم فعلًا أنهم لا يستطيعون قبول هذه الآراء …
وأبرق دوفرين يزف نبأ انتصاره الجديد إلى جرانفل فقال: «أبلغتك في رسالتي السابقة عما ينزع إليه المؤتمر في سير أعماله، وأبلغك أن ما أطلعته عليه من أنباء المذبحة في بنها قد كان عظيم الوقع في نفوس زملائي، وكذلك أحدث مثل هذا الأثر في نفوسهم ما سردته من الأمثلة على طغيان الحزب العسكري وعلى مظاهر الخراب المالي الذي جاء تفصيله في برقية مستر كارتريت بالأمس، وقد كان لزميلي الفرنسي اليوم الزعامة؛ إذ أصر في حماسة عظيمة على ضرورة اتخاذ علاج ناجح للفوضى المتزايدة في مصر، تلك الفوضى التي يخشى كما قال أن تؤدي في وقت ما إلى استحالة الأقاليم الإفريقية على سكنى الأوربيين.
ظن المؤتمر كما ذكرنا أن خير وسيلة يقيد بها إنجلترا هو إقراراه مبدأ تدخل تركيا بقوة حربية، وكانت إنجلترا على يقين من أن السلطان لن يفعل ذلك؛ لتردده وارتباك شؤونه المالية والسياسية، وبعد ذلك يسهل عليها وهي لا تكف عن الإنذار بالويل من سوء الحالة في مصر، أن تضطلع هي بعبء التدخل متظاهرة أنها تفعل هذا لا على أنه ضرب من القرصنة أو الخروج على قرار المؤتمر، وإنما على أنه عمل توجيه الإنسانية والشهامة؛ لأنه دفاع عن الرعايا الأجانب في مصر ودفاع عن الأوربيين كافة، وما أسهل عليها وهي التي دبرت بالأمس مأساة الإسكندرية أن تخلق ما تدعي أنه من «الظروف القاهرة»! ألا ساء ما يفعل الأقوياء، وما أرذل ما يتبجحون به من الشرف والحق في هذا الشرق الذي لا ندري متى يفيق!
أخذ المؤتمر يدرس كيفية التدخل التركي ونظر في ذلك ثلاث جلسات، وكان دوفرين يستعجل المؤتمر ليموه عليه أن الحالة في مصر لا يقبل معها إبطاء، وأنه يقظ إلى كل ما عساه أن يحبط سعيه، وأنه يوحي إلى شياطين الاستعمار في مصر أن يحرضوا على هجرة الأوربيين وأن ينشطوا في نشر الرعب والأنباء الكاذبة.
وفي آخر شهر يونية أرسل دوفرين إلى حكومته يقول: «إن المؤتمر لم يفعل شيئًا حتى ذلك الوقت، وإنه ما لم تتخذ خطوة عاجلة فإن إطالة مدة وجوده تظهر أنه عديم الجدوى» …
وفي اليوم الثاني من يولية قرر المؤتمر «أنه إذا رفض السلطان الدعوة الموجهة إليه لإرسال جنود إلى مصر فإن المؤتمر يحتفظ بحق التعبير عن رأيه فيما عسى أن يتخذ في الفرصة المناسبة».
وقد أبرق كارتريت إلى جرانفل في التاسع والعشرين من يونية يقول: «إن هجرة الأوربيين وإعدادهم العدة للهرب بعد أن خفت زمنًا عادت إلى الزيادة في صورة شديدة، وأن الفنادق تغلق أبوابها وعمال السفن قد نقلوا مقرهم إلى مقربة من الشاطئ، وأن ما بقي من المصارف يعد العدة لنقل المواطنين إلى السفن، ومن المستحيل تصور الانهيار والخراب، الذي دهم البلد هكذا فجأة … إن الوطنيين حتى شيوخ الدين منهم، يرفعون أصواتهم اليوم ضد الحزب العسكري، ويغادر القطر عدد كبير من ذوي الاحترام من العرب كما يتزايد بصورة شديدة رحيل الأسر التركية».
وأبرق إليه أول شهر يوليو يصف سوء الشعور في القاهرة تجاه الأوربيين ويستأذن أن يسمح لهم بالهجرة.
وأبرق إليه ثاني أيام الشهر يقول: «لي الشرف أن أبلغكم إنه في جلسة مجلس الوزراء بالأمس ألح عرابي باشا وزير الحربية على زملائه ليقرروا إعلان التجنيد العام؛ توقعًا للأعمال العدائية، وقد عارض بشدة محمود باشا الفلكي وزير الأشغال وعبد الرحمن بك وزير المالية، وعلى ذلك لم يتخذ المجلس هذا القرار وفي نفس الوقت يستدعي الاحتياطي وعساكر الرديف في نشاط».
وفي اليوم السادس من شهر يولية أصدر المؤتمر في جلسته السابعة هذا القرار الخطير وذلك بعد أخذ ورد بين دوفرين ودي نواي العضو الفرنسي «أن الدول الكبرى مقتنعة كل الاقتناع بأنه أثناء وجود الجند العثماني بمصر سيحتفظ بحال البلاد المعتادة، ولا يتعرض للأمور التي أعفيت منها مصر، ولا لما خصت به من الامتيازات بموجب الفرمانات السابقة، ولا لعمل الإدارة المعتادة، ولا للنظم والاتفاقات الداخلية المبنية عليه، وأن تكون مدة بقاء الجنود الشاهانية التي سيعمل ضباطها بالاتفاق مع الخديو ثلاثة أشهر ما لم يسأل الخديو مد هذا الأجل، فإذا فعل، حدد الأجل الجديد بالاتفاق مع تركيا والدول الكبرى، وأن تتحمل مصر نفقات الاحتلال … وأنه إذا وافق السلطان — كما ترجو الدول — على هذا النداء الصادر من الدول الكبرى فإن إنفاذ المواد والشروط الآنفة الذكر يكون موضوع اتفاق آخر بين الدول الست وبين تركيا».
وأرسل المندوبون هذا القرار إلى حكوماتهم ولبثوا ينتظرون ما ترد به …
وظنوا أنهم قيدوا إنجلترا، وحالوا بينها وبين الانفراد بالتدخل في مصر، كما ظنوا أنهم حالوا بينها وبين الانفراد بتركيا والضغط عليها، وفاتهم أن إنجلترا قد أعدت عدتها لجميع الاحتمالات …
كان على إنجلترا أن تخلق هذا الظرف القاهر قبل أن تعتمد الدول هذا القرار المشترك وتقدمه إلى الباب العالي وأن تضرب الإسكندرية فتضع المؤتمر أمام الأمر الواقع، وتذر قرار المؤتمر قصاصة من الورق لا قيمة لها، فليتدبر في ذلك الذين يسخطون ويتكلمون كما تتكلم الببغاوات كلما ذكر عرابي فيردون سبب الاحتلال إليه. ليتدبر هؤلاء في مسلك إنجلترا فها هي ذي على الرغم من كل شيء تصمم على احتلال مصر؛ تنفيذًا لسياستها المرسومة سواء وُجد عرابي أم لم يوجد، فلو لم يكن عرابي لكان أي رجل غيره من الناس أو أي حادث ذريعة لها …
وكانت إنجلترا قد فكرت في الظرف القاهر فعلًا قبل ذلك وأعدت له كثيرًا من الصور فإن لم تلفح هذه لجأت إلى تلك …
ولم يتوانَ الإنجليز في مصر عن إذاعة أنبائهم المختلفة ومن ذلك ما أبرق به كارتريت في اليوم الخامس من يولية قائلًا: «في مجلس الوزراء الذي عقد بالأمس تكلم عرابي باشا كلامًا عظيم العنف ضد السلطان، وفوق ذلك فإنه أمر ضباط الجيش المصري أن يقطعوا كل صلة بدرويش باشا الذي يجب أن يفضى إليه بأن بعثته في مصر انتهت».
وبعد خمسة أيام فحسب من قرار المؤتمر أي في اليوم الحادي عشر من شهر يولية ذلك التاريخ الأسود وقع من الإنجليز عدوانهم الغادر على مصر، رغم أنف الدول جميعًا، والمؤتمر قائم في الآستانة لا يدري ماذا يفعل، وتركيا لم تبت في الأمر بعد …
وستبلغ مهزلة المؤتمر تمامها حين يعقد جلسته بعد ضرب الإسكندرية بأربعة أيام لينظر في الأمر!
فكر المؤتمر طويلًا في التدخل المسلح في مصر وقد اتخذ قراره كيف يكون هذا التدخل، ولكنه ما فكر لحظة أنه يتدخل لقتل حركة قومية صادقة في مصر قوامها الحرية، والحكم الدستوري، وإذا كانت إنجلترا موطن الحكم النيابي والديمقراطية قد أذهلتها عن مبادئها أطماعها الاستعمارية فجعلتها كعادتها في كل مواقف الاستعمار، ذات سياستين: صراحتها ونزاهتها في حكم نفسها، ونفاقها وفجرها في معاملة الأمم وخاصة أهل الشرق، وإذا كانت روسيا والنمسا وألمانيا قد انصرفت بحكم أوتوقراطيتها عن نداء الدستور والحرية، فكيف غفلت عن ذلك فرنسا موطن الثورة الكبرى ومبعث الحرية والإخاء والمساواة؟! وكيف ذهلت عنه إيطاليا المجاهدة، بلد مازيني وجاريبالدي العظيمين؟! ولكن الإنسان هو الإنسان مهما اهتدى إليه عقله من مبادئَ، ولن تزال الأثرة هي أساس كل تعامل بين أفراد هذا النوع من الحيوان مهما تبجح بعلمه وسموه، ولن تزال هي الرابطة التي تقترنه على رغمه بدواب الأرض من العجماوات …
كانت إنجلترا قد أعدت بالفعل تدبير «الظرف القاهر» قبل أن يقترحه دوفرين فاقرأ خرافة الذئب والحمل في صورة جديدة هي قصة النزاع بين بوارج الأسطول الإنجليزي وقلاع الشواطئ بالإسكندرية.
في اليوم التاسع والعشرين من مايو، أي قبل تحفظ دوفرين بنحو شهر، أبلغ السير بوشامب سيمور أدميرال الأسطول البريطاني بالإسكندرية اللورد جرانفل، كما سبق ذكره، أن المصريين يقيمون تحصينات في شواطئ الإسكندرية وأن هذا يعد عملًا عدائيًّا موجهًا إلى الأسطول، وطلب زيادة السفن وقد أجابته حكومته إلى ما طلب دون استشارة فرنسا …
وسألت إنجلترا الباب العالي عما يراد بهذا الإجراء، فردت تركيا بأنه لا تحصين هناك ولا استعداد وإنما هو إصلاح في بعض الحصون المتهدمة، ومع ذلك؛ فقد أمرت تركيا بوقفه، وأعربت تركيا عن أملها في أن يتجنب قائدا الأسطولين ما عسى أن يثير أدنى نزاع … ووقفت المسألة عند هذا الحد …
وأرسل سيمور للمرة الثانية إلى طُلْبَةَ باشا قائد حامية الإسكندرية في اليوم السادس من يولية يقول: «البارجة أنفنسبل في ٦ يولية سنة ١٨٨٢: سيدي، لي الشرف أن أحيط سعادتكم علمًا بأني علمت من مصدر رسمي أن مدفعين أو أكثر أضيفا بالأمس إلى خطوط الدفاع البحرية، وأن استعدادات حربية يجري عملها في الواجهة الشمالية للإسكندرية ضد الأسطول الذي تحت قيادتي، وأرى لزامًا علي — والحالة هذه — أن أنبه سعادتكم إلى أنه إذا لم توقف هذه الأعمال، أو إذا أوقفت، ثم استؤنفت، فإن واجبي يقضي بأن أطلق مدافعي على الأعمال الجاري بناؤها» …
ورد طُلْبَة باشا بقوله: «عزيزي الأدميرال الإنجليزي لي الشرف أن أبلغكم أني تلقيت كتابكم المؤرخ ٦ يوليو، الذي تخبرونني فيه أنكم علمتم من مصدر رسمي وضع مدفعين وأن أعمالًا أخرى جارية على شاطئ البحر، وردًّا على ذلك أؤكد لكم أنه لا أساس من الصحة لهذه الأخبار، وأنها من قبيل خبر التهديد بسد مدخل البوغاز الذي أبلغتم به وتحققتم من كذبه …
وفي اليوم السابع كتب القناصل بالإسكندرية إلى سيمور يسألونه عما إذا كان مقتنعًا برد الحكومة المصرية بشأن أعمال التحصين، ويبلغونه بأنهم على استعداد لأن يأتوا له بما يقنعه، ويرجون منه أن يبلغهم ماذا بقي لديهم من وقت لحماية رعاياهم، ثم يشيرون إلى أن ضرب الإسكندرية على أية حال يفضي إلى ضرر جسيم بالأجانب بالمدينة وبالوطنيين كذلك، كما أنه يحطم كثيرًا من الممتلكات الأوربية …
وأبرق كارتريت إلى جرانفل في اليوم التاسع يقول: «لي الشرف أن أبلغكم بأن الأدميرال السير بوشامب سيمور تلقى نبأ بأن مدفعين أضيفا إلى قلعة السلسلة تجاه الميناء الجديد، ولن يستطيع الأدميرال أن يتغاضى عن هذا العمل العدائي، ولذلك صمم على أن يفتح أفواه نيران مدافعه في مطلع شمس الثلاثاء ١١ الحالي، وسأبلغ هذا المساء القنصل العام والخديو ودرويش باشا وسأعد ما يلزم لنزول جميع الرعايا البريطانيين إلى السفن الليلة أو صباح الغد».
هذه هي قصة النزاع بين بوارج الأسطول الإنجليزي وقلاع الشواطئ بالإسكندرية أو أقصوصة الذئب والحمل في صورتها الجديدة.
وما ندري بأي كلام نعقب عليها وأي عبارات اللغة تفي بوصف سماجة السير بوشامب سيمور ذئب هذه الأقصوصة؟
ولا يستطيع المرء أن يتصور كيف يكون تحصين أمة شواطئها تلقاء سفن أجنبية تتهددها عملًا عدائيًّا يسوغ الشر والاعتداء؟! إن مَثل ذلك كمثل لص أراد أن يقتحم دارًا وسلاحه في يده والشر في معارف وجهه، فإذا تناول صاحب الدار شيئًا يدفع به عن نفسه هذا العدوان، عد ذلك منه حقًّا للص يسوغ له أن يقتله ويأخذ متاعه وداره، وليس في تاريخ العدوان كما ذكرنا أقبح من هذا ولا أشد منه فجورًا …
وكيف يجوز في عقل أن تكون قلاع الإسكندرية هي المعتدية على بوارج الأسطولِ والقلاعُ لم تنتقل إليها لتضربها وإنما جاءت السفن تهدد المدينة والمؤتمر الدولي قائم في الآستانة ينظر في المسألة المصرية؟!
إن من حق كل دولة، بل من واجبها أن تعد وسائل الدفاع عن كيانها في كل وقت وفي غير مناسبة معينة، وتكون أكثر التزامًا بأداء هذا الواجب إذا هددها عدو، ذلك ما لا يستطيع أن يماري فيه أحد.
ولكن الأدميرال العظيم السير بوشامب سيمور — أو قل: ولكن جلادستون زعيم الأحرار — وجرانفل السياسي القدير رأيا في هذا الواجب — الذي ثبت أن مصر لم تؤده فيما يتصل بحصون الشواطئ — مسوغًا لإطلاق نيران المدفعية على مدينة وادعة مسالمة كمدينة الإسكندرية … ألا ما أتعس هذا الشرق المسكين!
ويزيد في سماجة هذا التحرش السخيف من جانب الأدميرال العظيم أنه اعترف بأن أعمال الترميم أُوقفت، والحق أنه كان يظهر الهدوء ريثما ينقل الرعايا البريطانيون، فلما تم ذلك عاد إلى إنذاره، ثم لم يكتفِ بما تقدم به أول الأمر حتى طلب تسليم بعض الحصون!
ولقد طلب تسليم بعض الحصون؛ لأنه من الممكن إقامة الدليل المادي على أنه ليست هناك تحصينات وبذلك تسقط حجته — إن كانت هذه حجة — وإن ذئب الأقصوصة هذا ليعلم أن هذا التسليم لن يكون، وبذلك تواتيه الذريعة السمجة المضحكة لضرب الإسكندرية، ولقد ضربها سيمور وكوفئ على ذلك بأنه أصبح اللورد السستر!
يقول روثستين في كتابه المسألة المصرية يصف عمل إنجلترا: «إن عملها هذا كان يخشى منه عليها، ولكنه أفلح كما يفلح كل عمل وقح تقوم به دولة شديدة البطش والسلطان».
وقال أيضًا: «والحق أنه لا شيء أحط قيمة ولا أصرح نفاقًا من الحجة التي شرع بها الإنجليز في ضرب الإسكندرية».
وقال: «وهذه حجة أجاد تسخيفها المستر ريشردز في البرلمان؛ إذ قال: أجد رجلًا يحوم حول بيتي وعلامات الإجرام بادية عليه، فأبادر إلى إحضار الأقفال والمتاريس وأحكم سد نوافذي فيقول: إن هذا إهانة له وتهديد، ويحطم علي أبوابي، ويعلن أنه إنما فعل ما فعل دفاعًا عن نفسه ليس غير».
ولقد خطر لنا هذا الذي يذكره المستر ريشردز قبل أن نقع عليه، ولا ريب أنه يخطر على بال كل من يقرأ قصة هذا العدوان الغادر …
ومما يزيد الأمر غرابة ويزيد موقف إنجلترا سخفًا أنها تجعل مما أدعته من أعمال التحصين «ظرفًا قاهرًا» لتدخِّلِها، في الوقت الذي كانت قد فرغت فيه من نقل رعاياها من البلاد!
•••
بعد أن أرسل سيمور إنذاره النهائي إلى طلبة عصمت، أرسل كارتريت إلى رئيس الوزارة المصرية يقول: «سيدي الوزير: بناء على البلاغ الذي أرسله الأدميرال السير بوشامب سيمور صباح اليوم إلى قائد حامية الإسكندرية، أراني مضطرًّا إلى أن أخلي قنصلية صاحبة الجلالة، وأن أقطع في الوقت الحاضر العلاقات التي كانت بين سعادتكم وبين شخصي بصفتي وكيل القنصل العام عن جلالتها في مصر».
والواقع أن العلاقات تعد مقطوعة بين الإنجليز ووزارة راغب باشا منذ قيامها؛ فقد قابلوها كما ذكرنا بالجفاء الشديد، يتبين ذلك من ردهم على إخطار الحكومة المصرية إياهم بقيام هذه الوزارة؛ إذ لم يزيدوا على قولهم: إنهم علموا بما أخطروا به. دون أي عبارة من عبارات المجاملة المعتادة …
وقد غادر مالت القنصل العام الإسكندرية منذ اليوم السابع والعشرين من يونية وأناب عنه كارتريت وغادرها أيضًا كوكسن إبليس مذبحة الإسكندرية وشيطان يوم عابدين، وأوعزت الحكومة الإنجليزية إلى أوكلند كلفن الرقيب المالي الإنجليزي بالامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء …
ويذكر بلنت في كتابه أن رحيل مالت كان بمساعيه؛ إذ كتب إليه صابونجي وكيله بالقاهرة يقول بضرورة إخراج مالت من مصر؛ فكل الناس لاعنه وكلهم قاتله إذا بقي، فذهب بلنت إلى وزارة الخارجية والتمس نقل مالت إلى إحدى السفن وأجيب إلى طلبه.
ومهما يكن من الأمر فإن الإنجليز منذ مجيء سفنهم إلى الإسكندرية كانوا يترقبون اليوم الذي يطلقون فيه مدافعهم على المدينة …
أما الخديو فهو في كنف الإنجليز وحمايتهم منذ قبوله المذكرة المشتركة الثانية بتاريخ اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو، وذلك في ظل السفن الأجنبية، بل إنه في كنفهم منذ يوم عابدين، أو في الواقع منذ عملوا على تعيينه بعد خلع أبيه …
لهذا كان يجاري وزارة راغب؛ انتظارًا لتدخل الإنجليز، وكان في الوقت نفسه يتعجل هذا التدخل، وقد رأينا ما كان منه ومن عمر لطفي في فتنة الإسكندرية …
ولم يكن يضيره أي اتفاق مع راغب، وهو يوقن أن العاقبة للإنجليز، بل لقد كانت مداراته راغبًا سترًا لنياته أمام درويش حتى ينفض يده من كل ذلك عما قريب ويركن إلى الغالبين …
كانت البرقية الأولى من كاتريت إلى جرانفل في اليوم السابع من يولية وفيها يقول: «أتشرف بإبلاغ فخامتكم أن الخديو استدعى السير أوكلند كلفن هذا الصباح ليدلي إليه بالطريق الذي يقترح سموه اتباعه في مواقف معينة تتصل بحركاته الشخصية، إن سموه يعتزم البقاء في مصر إذا وقع الضرب، فإنه لا يستطيع كما ذكر أن يعتزل الذين وقفوا بإخلاص إلى جانبه أثناء المحنة، كما لا يستطيع أن يغادر مصر؛ إذ تهاجمها دولة أجنبية لمجرد — كما يصح أن يقال — أنه يريد أن يضمن سلامته الشخصية، وإذا حاولت تركيا الغزو ولقيت جيوشها مقاومة فإن سموه ودرويش باشا سوف يعلنان الجيش أنهما كرجلين من رعايا السلطان الموالين يعدان نفسيهما مقصرين في أداء واجبهما إذا اقرا المقاومة وعلى ذلك فإنهما يأويان بأحسن وسيلة ممكنة إلى يخت درويش باشا، وفي حالة ضرب الإسكندرية بمدافع الأسطول البريطاني سيأوي سموه إلى قصر ترعة المحمودية؛ حيث يرافقه درويش باشا، وكلما كان الفراغ من الأمر كله أسرع قل الخطر الذي يتعرض له شخصيًّا، وقد كانت لهجة سموه أثناء المقابلة كلها هادئة وكان يضبط نفسه، واختتم حديثه بأن رجا من السير أوكلند كلفن أن يطلع فخامتكم على ما اعتزمه …
ولسنا بحاجة إلى التعقيب بكلمة واحدة على كلام الخديو، فما يأتي كلام أصرح من كلامه في موقف كهذا الموقف وخاصة قوله: «إنه كلما كان الفراغ من الأمر كله أسرع قل الخطر الذي يتعرض له شخصيًّا».
ولسوف يزداد شأن توفيق وضوحًا فيما يأتي من الحوادث إن كان شأنه يحتاج إلى وضوح …
•••
لم يكن هذا التحرش السخيف من جانب سيمور ليطرأ على بال أحد، وخاصة لانعقاد مؤتمر الآستانة واتخاذه قراره بدعوة السلطان إلى إرسال جيش إلى مصر، لذلك لم تأخذ وزارة راغب باشا أهبتها لتقوية مدفعية الإسكندرية وإعدادها للقتال كما زعم الإنجليز من مزاعم اتخذوها ذريعة لعدوانهم …
وأراد راغب باشا أن يتلافى الخطب بكل ما في وسعه فاستعان — عقب تلقي الإنذار — بقنصل إيطاليا العام؛ ليدعو زملاءه القناصل؛ ابتغاء السعي لدى سيمور عسى أن يرجعوه عن عزمه، واجتمع القناصل ولكنهم لم يستطيعوا عمل شيء؛ لأنهم كانوا على يقين أن ضرب الإسكندرية غدا أمرًا مقررًا …
وأشار القناصل على راغب أن يذهب بنفسه لمفاوضة الأدميرال، فتوجه بصحبة عبد الرحمن رشدي بك وزير المالية ونجران بك سكرتير مجلس الوزراء، وقابلوا سيمور على ظهر البارجة أنفنسبل فوجدوا منه إصراره على إنذاره فأعلنوه أنهم سيرسلون ردهم في المساء، وتوجه راغب باشا لمقابلة الخديو …
وعقد الخديو مجلسًا من الوزراء وكبار رجال الدولة شهده درويش باشا؛ لينظروا ماذا يكون جواب الحكومة على إنذار سيمور.
وبعد أن تداول المجلس طويلًا انتهت أغلبيته إلى رفض ما طلب الأدميرال، وكانت المداولة في أمرين: هل تقبل مطالب الإنجليز؛ تجنبًا للعدوان. أم هل ترفض؛ إبقاءً على الكرامة القومية وتفاديًا للمذلة؟
وكانت حجة القائلين باختيار الرأي الأول أن الحصون ضعيفة لا تجدي مقاومتها، وأن الحكومة أخذت على غرة فلم تأخذ للأمر أهبته، وكان أصحاب الرأي الثاني يقولون: إن العدوان واقع لا محالة سواء قبلت مطالب الإنجليز أم لم تقبل، فلن يعجز الإنجليز عن تحرش من نوع آخر …
ورجح رأي الفريق الثاني، بيد أن الوزارة رأت أن تسلك سبيل الحكمة حتى آخر لحظة، يقول عرابي في مذكراته: «تقرر بالمجلس المذكور بأنه لا يمكن إجابة طلب الأميرال المذكور؛ لما في ذلك من الخزي والعار الذي يلحق بالمصريين إلى الأبد حيث إن الاستحكامات والطوابي المذكورة ما أنشئت إلا لحفظ الثغور، والعساكر ما وجدت إلا للدفاع عن الوطن العزيز والذود عن حياضه، فلا يجوز لهم أن يخربوا معاقلهم بأيديهم لمجرد طلب العدو الطامع في بلادهم، بل الواجب عليهم أن يدافعوا عن بلادهم ويقوموا بما تحتمه عليهم واجباتهم الحربية إلى آخر رمق من حياتهم؛ دفاعًا عن شرف الوطن، ولكن قفلًا لباب الشر وقطعًا لاحتجاجات الأميرال سيمور رئيس الدوننمة الإنجليزية رؤي أن يرسل له وفد مؤلف من عبد الرحمن بك رشدي ناظر المالية وقاسم باشا وكيل البحرية السابق ومحمد كامل باشا وكيل البحرية حينذاك وتجران بك باشكاتب مجلس النظار ويتلطفوا معه في المقال ويوضحوا بأن المصريين ليسوا أعداءً للإنجليز، وأنه لا يمكن سد البوغاز بالأحجار كما قيل، وأنه يمكن ضبط المراكب المشحونة بالأحجار عند شروعها في العمل إن وجدت … وأما إنزال المدافع فهو أمر لا يمكن قبوله؛ لما فيه من مخالفة قوانين البحرية، ولِما يتبع ذلك من الإهانة والمذلة، وإنما يمكن إجابة لطلبه وفضًّا للإشكال تنزيل ثلاثة مدافع من ثلاث طوابي إحداها طابية المكس والثانية طابية صالح والثالثة طابية برج السلسلة وأن يكتفى بذلك ردًّا لشرف الدوننمة كما يزعم … فذهب الوفد وبلغ الرسالة ثم رجع وأبلغ بأن الأميرال المذكور لم يقبل ما عرضه عليه وصمم على وجوب إنزال جميع المدافع، كما طلب، وإنما تكرم بأن عافى عساكره البحرية من معاناة مشقة إنزال المدافع وتخريب الطوابى وسمح للعساكر المصرية بأن يعانوا هذه الأعمال ويخربوا معاقلهم بأيديهم، وزاد على ذلك أنه يطلب من الحكومة أمرًا صريحًا بإعطائه طابية المكس وما وراءها من الأراضي وطابية العجمي وطابية باب العرب؛ لاتخاذها معسكرًا للعساكر الإنجليزية وأنه إذا لم يجب إلى طلباته المذكورة باشر القتال عند طلوع الشمس في يوم غد».
وأرسل الوزراء في المساء الرد الآتي على الإنذار النهائي: «لم تأتِ مصرُ شيئًا يقضي بإرسال هذه الأساطيل المتجمعة، ولم تعمل السلطة المدنية ولا السلطة العسكرية أي عمل يسوغ مطالب الأميرال إلا بعض إصلاحات اضطرارية في أبنية قديمة، والطوابي الآن على الحالة التي كانت عليها عند وصول الأساطيل، ونحن هنا في وطننا وبيتنا، فمن حقنا، بل من الواجب علينا أن نتخذ عدتنا ضد كل عدو مباغت يقدم على قطع أسباب الصلات السلمية التي تقول الحكومة الإنجليزية: إنها باقية بيننا، ومصر الحريصة على حقوقها الساهرة على تلك الحقوق وعلى شرفها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع ولا أية طابية دون أن تكره على ذلك بحكم السلاح، فهي لذلك تحتج على بلاغكم الذي وجهتموه اليوم وتنفي مسؤوليات جميع النتائج المباشرة وغير المباشرة التي تنجم إما عن هجوم الأساطيل أو من إطلاق المدافع على الأمة التي تقذف في وسط السلام القنبلة الأولى على الإسكندرية المدينة الهادئة مخالفة بذلك لأحكام حقوق الإنسان ولقوانين الحرب».
وتأهب الأدميرال العظيم لضرب المدينة، ويجدر بنا قبل أن نصف هذه المأساة الشنيعة أن ننظر ماذا كان موقف فرنسا وقد كان لها أسطول بالإسكندرية، ثم ماذا كان موقف تركيا وكان لها الحق في مصر …
في اليوم الرابع من شهر يولية أبلغ اللورد لايونز سفير إنجلترا في باريس المسيو دي فرسنيه نبأ التعليمات التي أرسلت إلى سيمور قبل ذلك بيوم باستعمال القوة ضد قلاع الإسكندرية، وسأل السفير المسيو فرسنيه عما إذا كانت فرنسا سترسل مثل هذه التعليمات إلى الأدميرال كونراد.
وكان كونراد قد أبلغ حكومته ما رأى وما علم، وقد قرر — كما أسلفنا — أنه لم يكن هناك أعمال في الحصون كما ادعت إنجلترا.
وعقد فرسنيه مجلس الوزراء، ولم تكن فرنسا رسمت لنفسها خطة بشأن هذا التحدي المفاجئ، ولم يدر بخلد فرنسا أن تجرؤ إنجلترا على هذا العمل مهما بلغ من تطلعها إلى الانفراد بضرب مصر؛ وذلك لأن المؤتمر قائم في الآستانة يدرس كيف يكون التدخل في شؤون مصر، وكانت تظن فرنسا أنها بهذا المؤتمر الذي اقترحته قد أخذت السبيل على إنجلترا فجعلت المسألة المصرية مسألة دولية.
وكذلك كانت فرنسا مطمئنة إلى أن الظرف القاهر الذي أضافه دوفرين إلى مقترح السفير الإيطالي لم يظهر بعد، وليس في شؤون مصر ما يدعو إلى القلق، وقد كان فرسنيه يقظًا إلى أن الإنجليز يبالغون في تصوير ما يزعمون من سوء الحال في مصر …
وقرر مجلس الوزراء الفرنسي لسوء حظ مصر الامتناع عن مشاركة إنجلترا فيما هي مقدمة عليه؛ وذلك لأن هذا العمل يعد خروجًا على مؤتمر الآستانة، وهو يجر إلى اعتداء لا موجب له على مصر ولا يمكن عده عملًا دفاعيًّا، هذا إلى أن الحكومة لم تعرض الأمر على مجلس النواب الفرنسي، ولا يمكنها أن تدخل في حرب بدون إقرار هذا المجلس.
وكتب دي فرسنيه إلى السفير الفرنسي بلندن ليبلغ الحكومة الإنجليزية قرار مجلس الوزراء الفرنسي وأنه أرسل التعليمات للأدميرال كونراد، أنه إذا أصر القائد الإنجليزي على ضرب الإسكندرية فعليه أن يغادر الإسكندرية بالأسطول الفرنسي ويرسو قرب بورسعيد.
وهكذا تُخلي فرنسا السبيلَ لإنجلترا لتنفرد بضرب مصر، وكم لحقت بمصر النكبات من جراء ضعف السياسة الفرنسية، ولم تنسَ مصر أن فرنسا بعد أن شدت أزر محمد علي وأغرته زمنًا بالوقوف في وجه إنجلترا تخلت عنه أمام تهديد بالمرستون وتركته ينهار وحده …
الحق أن فرنسا كانت تفطن إلى أن إنجلترا تريد أن تنفرد باحتلال مصر، ولم تأنس فرنسا في نفسها القوة لتناوئ إنجلترا مناوأة فعلية؛ خشية أن يدب الخلاف بينهما وألمانيا التي ضربتها تلك الضربة القاصمة منذ اثنتي عشرة سنة في حرب السبعين لم تزل لها بالمرصاد ولم يزل بسمارك يرمي إلى إضعاف فرنسا حتى لا تنهض من كبوتها فتثأر لما لحقها من هوان.
لهذا تغافلت فرنسا على كره منها وأفسحت السبيل لإنجلترا فأضاعت بذلك جهودها الدبلوماسية الماضية جميعًا في عرقلة السياسة الإنجليزية …
أما تركيا فقد تراخت وتهاونت في الأمر وأظهرت ضعفًا وترددًا وحيرة هي خليقة بدولة مثلها قامت على القوة والدسائس وعدمت الوسائل الدبلوماسية الصحيحة.
ومن هذه البرقية يتبين لنا مبلغ ما في السياسة التركية من حيرة وتردد، وما فيها من ضعف يتجلى في هذا التوسل باسم الإنسانية، وترينا هذه البرقية الهامة كذلك مبلغ ما في السياسة الإنجليزية من لؤم وكذب، فإن استعداد الإنجليز للرجوع عن ضرب الإسكندرية إذا عمل السلطان كما يحبون فيه أبلغ دليل على أن خوفهم من أعمال التحصينات المزعومة وعدهم ذلك ظرفًا قاهرًا للتدخل كان من أسخف الأكاذيب وأحطها، وأن ضرب الإسكندرية كان نية مفروغًا منها …
وفي نفس اليوم العاشر أبرق جرانفل في الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر إلى سفرائه في باريس وبرلين وفينا وروما وبطرسبرج والآستانة، ليبلغ كل منهم الدولة التي يوجد بها أن «المسلك الذي سلكه أدميرالنا لم يكن إلا عملًا مشروعًا لا أقل ولا أكثر للدفاع عن النفس، وأن عمله — إذا أدى سوء الحظ إلى العمل — لن يكون رائده غير هذا دون أن يكون لنا أي مأرب خفي، ولقد تبين من تقريره أن السلطات في الإسكندرية مستمرة في تدبيراتها العدائية على الرغم من أوامر السلطان ومن رغبة الخديو، ومما ذكروه لنا مرارًا من تأكيدات».
وللقارئ أن ينظر فيما في هذه البرقية من حجة الدفاع عن النفس ومراعاة مصلحة السلطان، واستمرار السلطات في الإسكندرية في تدبيراها العدائية؛ ليرى مثلًا رائعًا للسياسة الإنجليزية كيف تلجأ إلى الكذب الصريح في سبيل تحقيق أطماعها الاستعمارية! …
وفي اليوم الحادي عشر، وهو اليوم الذي حدث فيه الضرب، أبرق دوفرين إلى جرانفل في الساعة الرابعة صباحًا يقول: «حضر إليَّ الآن سعيد باشا وزير الخارجية ليسلمني مذكرته المرسلة مع هذا … وليبلغني أنه في المساء يستطيع أن يقترح عليَّ حلًّا معقولًا للمسألة المصرية، وقد طلبت إليه إيضاحًا، فقال: إن كل ما عنده الآن أن الحل سيكون معقولًا، فقلت: إنه لا مجرد دخول عضو تركي في المؤتمر ولا مجرد العودة إلى دعوة عرابي باشا إلى هنا يكون حلًّا معقولًا، فعاد يكرر قوله: إن الحل سيكون معقولًا. ورجاني أن أرسل إليكم وإلى الأدميرال سيمور ما سلف في الحال ومشفوعًا بتوصية بقصد تأجيل الإنذار لكي يدع ذلك متسعًا من الوقت يسمح بأن تصل رسالة أخرى من الباب العالي إلى فخامتكم. فقلت: إني لم أُمنح سلطة التدخل في عمل الأدميرال سيمور، وإن عبارة الحل المعقول من الغموض بحيث لا تدع لي أكثر من أن أعيد لفخامتكم ما قال بنصه، وأضفت إلى ذلك قولي: إني على أي حال سوف أرسل إلى السير بوشامب سيمور صورة برقية لمذكرة الباب العالي ولما طلبه مني أخيرًا، مقترحًا أنه في حالة ما إذا كانت التعليمات المرسلة إلى الأدميرال تسمح له بالتأجيل، أن يؤجل سعادته الضرب ثلاث ساعات أو أربع؛ ابتغاء إفساح الوقت لتصل إليكم رسالة الحكومة العثمانية إذا كنتم ترغبون أن ترتبوا عليها عملًا ما …
ومن الجلي أن عملًا كهذا إذا وقع يؤدي إلى افتيات خطير على الحقوق الملكية لصاحب الجلالة الشاهانية السلطان وعلى مصالح الإقليم، وأن الحكومة الشاهانية الواثقة من أن مجلس وزراء سان جيمس إذ ينظر إلى ما ذكر نظرة الاعتبار الجدي يتخذ الخطوات التي تؤدي إلى أن ينصرف الأدميرال سيمور عن أي عمل من طبعه أن يفضي إلى مثل هذا الوضع النهائي وأن يرسل إليه التعليمات بهذا المعنى، وأن الحكومة الشاهانية على أي حال سوف تتشرف بإخبار سفارة صاحبة الجلالة البريطانية عن القرار الذي ربما وصلت إليه غدًا الثلاثاء في الليل بشأن رسالة السفارة السالف الإشارة إليها بأعلى هذا، وبشأن البرقية الواردة من الخديو والمارشال.
هذا كان ما فعلته تركيا ولا نجد في المكاتبات الدبلوماسية أسوأ من هذه البرقيات التي تنطق بالحيرة والضعف والتسويف والارتباك …
•••
كانت مصر وحدها تتلقى ضربات الاحتلال الأولى ممثلة في الاعتداء الآثم على الإسكندرية، وسوف يبذل الوطنيون ما في وسعهم تلقاء هذا الاعتداء وإن كانوا ليوقنون أن قوتهم المادية أضعف كثيرًا من قوة اعدائهم، ولكن الحر إذا وجد نفسه في موطن يوقن فيه أنه هالك لا محالة كان عليه أن يبذل ما في وسعه من مقاومة؛ أنفة منه وحفاظًا …
ولكنا والأسف يملأ نفوسنا سنجد أول خطوة من خطى التخاذل في مسلك الخديو توفيق منذ يبدأ الضرب وسوف يكون لمسلكه بعد هذا أبعد الأثر في بث روح التردد والانقسام حتى يفضي الأمر إلى الهزيمة، وعلى الذين يعنون بتاريخ مصر أن يذكروا أن وجود توفيق باشا على رأس حكومة مصر يومئذ كان العامل الجوهري في نجاح مدبري الاحتلال …
ثم انتقل الخديو في عصر اليوم العاشر من يولية من سراي رأس التين في موكبه الرسمي إلى سراي الرمل، وسيبقى بها حتى يقع الضرب ويتبين عاقبته ثم يعود إلى رأس التين؛ حيث يتلقاه سيمور ويعد له ترجمانًا يلازمه ويضع البوارج على مقربة من القصر لحمايته.
وكان كارتريت قد أشار عليه قبل ذلك الحديث الذي أفضى به إلى كلفن، بأن يأوي إلى إحدى سفن الأسطول ولكنه رأى أن الوقت لم يحن بعد لهذه الخطوة الجريئة، كما أنه كان في شك من العاقبة …
يقول الشيخ محمد عبده: «١١ يولية، أحد الميرالايات الذين في معية الخديو قال له: ما مصير الإسكندرية لو ضربها الإنجليز؟
فأجاب الخديو: ستين سنة … وهز كتفه.
فقال الضابط: لكن السكان سيحرقونها فأرجو أن تتوسط لدى الأدميرال، والوقت لم يزل يسمح بذلك، اطلب (ذو الفقار) وبلغه أن يحافظ على المدينة فعنده من الرجال الكفاية …
فأجاب: فلتحرق المدينة جميعها ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، كل ذلك يقع على رأس عرابي وعلى رؤوس الفلاحين، وسيذوق الأوربيون عاقبة هروبهم مثل الأرانب …
ويقول بلنت في كتابه بعد أن ذكر ما أفضى به توفيق إلى كلفن: «كان هذا هو البرنامج الذي سار على وفقه الخديو ولم يخرج عنه إلا في أنه لم يذهب إلى قصر المحمودية وإنما ذهب إلى سراي الرمل على بُعد ثمانية أميال من الإسكندرية وهو مكان أكثر أمنًا في حالة إطلاق النار من مدافع سيمور.
في الساعة السابعة من صباح اليوم المشؤوم، الحادي عشر من شهر يولية سنة ١٨٨٢، أطلق الأدميرال العظيم السير بوشامب سيمور أولى قذائفه على مدينة الإسكندرية، باسم الدفاع العادل المشروع عن النفس، والدنيا كلها تشهد هذا البغي الأكبر، وليس فيها دولة يتيقظ ضميرها لما تصبه إنجلترا على الحركة القومية القائمة على السلام والدستور في مصر!
كانت حصون الشاطئ تمتد من ناحية العجمي في الغرب إلى أبي قير في الشرق وكان عددها نحو عشرين حصنًا أو طابية كما كانت تسمى ويدخل في ذلك اثنان في داخل المدينة هما كوم الناضورة، وكوم الدكة …
وإذا استثنينا الحصنين الأخيرين وهما من منشآت نابليون، وقلعة قايتباي وهي ترجع إلى القرن الخامس عشر كانت بقية الحصون من منشآت محمد علي، وقد ظلت على حالها منذ ذلك الوقت إلا بعض إصلاحات أدخلها عليها إسماعيل، وكانت مدافعها وتبلغ تسعة وعشرين ومائتين، قديمة الطراز ضعيفة، قريبة المرمى، ولولا أن إسماعيل وضع فيها تسعة وأربعين مدفعًا من المدافع القوية من طراز أرمسترنج ما صلح فيها للدفاع من شيء …
وكان الأسطول البريطاني مكونًا من ثماني مدرعات كبيرة وخمس مدفعيات وسفينة للطوربيد وأخرى لأعمال الكشف، وكانت مدافع الأسطول ويبلغ عددها سبعًا وسبعين من النوع الضخم القوي من طراز أرمسترنج …
والمعروف في الحرب البحرية أن أكبر الأخطار تعرض السفن للقلاع ذات المدافع القوية، فشتان بين ما يستند إلى الماء وبين ما يستند إلى الصخر، هذا إلى ارتفاع القلاع وتمكنها وصلتها بما تطلب من العتاد والرجال …
ولكن للسفن ميزة عظيمة على القلاع الضعيفة المدافع، فإن السفن تستطيع أن تتجمع فتدك قلعة بعد قلعة، في حين أن القلاع لا تستطيع أن يدفع بعضها عن بعض … وكذلك كان الحال مع شديد الأسف في قلاع الإسكندرية.
وكان آلاي طوبجية السواحل يتألف حسب الإحصاء الرسمي من اثنين وستين وسبعمائة وألف رجل ما بين ضابط وصف ضابط وجندي، وكان يقودهم الأميرالاي إسماعيل بك صبري … ولكنهم يوم الضرب كانوا دون ذلك كثيرًا؛ فقد ذكر عرابي في مذكراته أنهم كانوا لا يزيدون عن سبعمائة.
وكان بالمدينة من قوات الجيش أربعة آلايات، يكون اثنان منهما اللواء الثالث ويرأسه خورشيد باشا طاهر تحت قيادة الفريق إسماعيل باشا كامل، ويكون الباقيان اللواء الثاني بقيادة طلبة باشا عصمت قائد حامية الإسكندرية، وكان مجموع هذه الآلايات اثني عشر ألفًا من المشاة …
أصدر عرابي باشا تعليمات إلى صبري في الليلة السابقة للصباح المشؤوم وأبلغه أن مجلس النظار قرر ألا تجيب الحصون إلا بعد الضربة الخامسة من الأسطول، ووزع صبري ضباطه على الحصون؛ استعدادًا للمعركة، وكان يعاونه وكيله محمد بك نسيم الذي وكل إليه صبري الدفاع عن الحصون الغربية …
وكان عرابي ليلتئذ بالترسانة يصحبه محمود فهمي باشا وطلبة عصمت باشا ومحمد كامل باشا وكيل نظارة البحرية …
ووزع عرابي حامية المدينة وراء الحصون من قلعة العجمي إلى برج السلسلة وعهد إلى أورطتين من الفرسان بالمراسلة بين الحصون …
أجابت الحصون بعد خمس دقائق من ابتداء الضرب، واستمر آلاي السواحل في الدفاع وأبدى همة ونشاطًا وحماسة وطنية شهد بها كثير من الأجانب، وذلك على الرغم من عنف المدافع الإنجليزية وشدة فتكها وعظم تدميرها، ومهارة السفن الإنجليزية في الابتعاد والاقتراب والاعتصام بدخان كثيف يغطيها أثناء الضرب، وشباك قوية من الفولاذ كانت ترد عنها قذائف الحصون …
واستمر الضرب من الجانبين حتى الساعة الحادية عشر، وكانت قذائف الإنجليز تلقي النار والدمار على المدينة في شدة مروعة، وسكتت السفن قليلًا ثم استأنفت الضرب وجاوبتها الحصون حتى الساعة الثانية بعد الظهر …
واستأنف الأسطول الضرب بعد الساعة الثانية واستمر يرسل قذائفه الهائلة في شدة حتى منتصف الساعة السادسة، أي قبل غروب الشمس بنحو ساعة، ثم نزل الليل وقد سكتت الحصون فلن تجيب بعد؛ إذ قد دمرتها مدافع الأسطول تدميرًا … وتهدمت في المدينة أبنية كثيرة ومساكن واحترق بعضها، وقد هجرها كثير من أهلها منذ بدأ الضرب في هرولة ورعب.
وهكذا وقف المصريون — وإن حاقت بهم الهزيمة — موقف الدفاع والكرامة، وليس يماري أحد في أنهم فعلوا فعل القلة تحارب من تكاثروا عليها حتى تهلك أو ينثلم سلاحها …
وإنه لمما يذكر في مواطن الفخر ما أظهره نفر من أهالي المدينة من الحمية والبسالة وخاصة النساء، أشار إلى ذلك عرابي باشا في مذكراته فقال: «وفي أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء في خدمة المجاهدين ومساعدتهم في تقديم الذخائر الحربية وإعطائهم الماء وحمل الجرحى وتضميد جروحهم ونقلهم إلى المستشفيات».
وقد وصف عرابي المعركة في مذكراته فقال: «أطلقت ألكسندرة مدفعها الأول في الساعة السابعة والدقيقة أربعة وكان مركزها في الطرف الشرقي من خط القتال موجهة نحو استحكامات رأس التين …
وبعد ذلك بخمس دقائق بدت من جانب الأنفنسبل علامة الحمل العام على استحكامات الإسكندرية فأخذت السفن مونارك وبينلوب وألكسندرة وسلطان وسوبرب تطلق مدافعها على بطاريات رأس التين وطابية الفنار، فأجابتها القلاع بنار شديد حامية، وقد أصاب السفينة مونارك من أسباب الانقطاع عن إطلاق النار أكثر مما أصاب غيرها …
وكانت السفن الثلاث ألكسندرة وسلطان وسوبرب تنتقل على التعاقب من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وتطلق مدافعها على الاستحكامات إطلاقًا متواليًا وتقدمت المدفعية سينت إلى جهة رأس التين وأخذت ترميها بالنار.
وكانت السفينة أنفلكسيبل تطلق مدافع أحد برجيها على رأس التين والآخر على حصن المكس وحذت حذوها المدرعة بينلوب وكذلك المدرعة تمرير.
ولقد أصاب طابية المكس نارًا لا تبقي ولا تذر فتعطلت مدافعها ما عدا أربعة منها من العيار الأعظم؛ فقد ثابرت على رمي سفينة الأميرال «أنفنسيبل» وقد أحكمت مقذوفاتها إلى هذه السفينة جيدًا، وفي الساعة العاشرة والنصف وقعت قنبلة على مخزون البارود الكائن في طابية المكس فأشعلته وكان لدوي التهابه صوت هائل.
ثم اتجهت السفن الأربع المذكورة إلى ناحية الحصن واشتركت مع المدرعات في تدميره فتركته أثرًا بعد عين، وكذلك تقدمت السفن ألكسندرة وسلطان وسوبرب على مسافة ٧٠٠ متر من حصن فاروس وطابية أطه وأخذت في إطلاق مدافعها عليها غير غافلة عن رمي بطاريات رأس التين ببعض القنابل …
وكان إسماعيل بك صبري في الطابية أطه يدير حركة القتال في الحصنين المذكورين فصب على السفن السابق ذكرها من لهيب ناره ما اضطرها إلى طلب النجدة من المدرعتين أنفلكسيبل وتمرير وأبلى في قتالها بلاء حسنًا.
وفي نحو الساعة الثانية بعد الظهر اندفعت قنبلة من السفينة أنفلكسيبل نسفت مخزن البارود الكائن في حصن طابية أطه، وعند الساعة الرابعة خمدت نار الحصنين المذكورين إثر تخريبهما وتعطيل أسلحتهما واستشهاد رجالهما.
وفي الساعة الخامسة استأنفت المدرعتان مونارك وبينلوب إطلاق المدافع على حصن نابليون والاستحكامات الواقعة في داخل الميناء، وفي الساعة الخامسة والنصف انقطعت النار عن خط القتال بناءً على أمر الأميرال» …
وقال يصف المدافع المصرية: «ومن الأسف أن قاذفات المدافع القديمة كانت لا تصل إلى السفن الإنجليزية، ومدافع الأرمسترنج لم تكن لها المساطر التي بها تعرف المسافات وتحكم الإصابة بواسطتها اللهم إلا مسطرة واحدة كانت في محل التعليم بالعباسية «بالبوليجون» استحضرت ليلًا وسلمت إلى الشهم المقدم سيف النصر بك قومندان طابية الفنار فكان يطلق المدافع بنفسه وينتقل من محل إلى آخر ويحكم الإصابة بواسطة المسطرة المذكورة، فكانت معظم المدرعات التي تعطلت، من جراء المقذوفات التي أحكم إطلاقها، ولو كانت مدافع الأرمسترنج كلها ذات مساطر لأمكنها تعطيل المدرعات الإنجليزية بما تقذفه من القاذفات الصائبة».
ووصف جون نينيه ما فعله الأدميرال العظيم في قوله: «وكان رجال المدفعية المصرية يطلقون قذائفها في إحكام وحماسة أدهشت خصومهم الذين ظل عملهم الجهنمي متواصلًا عشر ساعات ونصف الساعة، دون أن يستطيعوا المباهاة بالنصر الحاسم، وكانت تغطي المدينة أثناء الضرب طبقات من الغبار والدخان وكان قصف المدافع يصم الآذان … وكنا حين تبدد الرياح سحب الدخان نشاهد قذائف المدافع المصرية تسقط في البحر في منتصف المسافة بينها وبين سفن الأسطول، وقد أدى رماة مدافع أرمسترنج عملهم على خير ما يرجى وذلك على الرغم من أن مدافعهم كانت أقل عيارًا من مثيلاتها من المدافع الإنجليزية وقد أصابوا سبع مدرعات إصابات بعضها خطير وبعضها ضئيل …
وكانت سفن الأسطول تجري ها هنا وهنا ترمي قذائفها وهي على مسافة بعيدة فتصيب الشاطئ ولا تستهدف للخطر، وكانت كل قذيفة تزيد على المتر طولًا وتزن ٤٨٠ رطلًا وتحتوى على ٣٧٠ رطلًا من البارود، وكان ثمن كل واحدة منها ٧٠ جنيهًا، وسقطت أولى هذه القذائف الضخمة في قلعة رأس التين دون أن تنفجر فنظر إليها الجند والضباط، وقال أحد الضباط مشيرًا إليها: هلم أيها الإخوان لتشهدوا مثلًا من إنسانية إنجلترا، وقد أدى عبارته بلهجة تنم عن الذكاء والسخرية وضحك إخوانه جميعًا، وواجهوا ما يلقى عليهم باسمين.
وكانت السفن الإنجليزية تسير مثنى مثنى في تؤدة وروعة تجاه كل طابية وتطلق عليها قذائفها حتى تدكها دكًّا، وبعد ذلك تقترب منها شيئًا فشيئًا، وتنسف ثم تفتك بالرجال فتكًا ذريعًا بنار المترليوزات المركبة في ساريات البوارج …
ولا يسعنا أن نعترف بأنها كانت مجزرة وحشية لا موجب لها ولا مسوغ ولم يكن الباعث عليها إلا الشهوة الوحشية المتعطشة إلى الدماء، وكنت أتوق إلى أن أسال أولئك الذين كانوا يضربون ويطلقون مترليوزاتهم: هل يستطيعون حين يعودون إلى بلادهم ويتحلقون حول موائد الشاي في بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عما فعلته تلك المجازر البشرية من الفتك والتخريب؟ إني لفي شك من هذا، فأية إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر من مصر على هذه الصورة الفظيعة؟
ومع هذا فما كان أروع منظر الرماة المصريين الذين كانوا خلف مدافعهم المكشوفة، كأنما هم في استعراض حربي لا يخافون الموت الذي يحيط بهم، وكانت معظم الحصون بلا حواجز تقيها ولا متاريس، ومع هذا فقد كنا نلمح هؤلاء البواسل من أبناء النيل خلال الدخان الكثيف، كأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الموت؛ قد بُعثوا ليناضلوا العدو ويواجهوا نيران مدافعه وكان القادة يزورون الحصون ويستحثون الرجال، ولقد أدى الجميع واجبهم رجالًا ونساءً كبارًا وصغارًا، ولم تكن ثمة أوسمة أو مكافآت تستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم، وإنما كانت تثير الحماسة في نفوسهم عاطفة الوطنية والثورة على ما استهدفوا له من فظائع، وهم في مواقفهم البواسل المجهولون الذين لم يفكر أحد فيما تحملوا من آلام …
وقد بدأ نقل جثث القتلى منذ الساعة العاشرة صباحًا، وظلت عربات النقل حتى هبط الليل تحمل الجثث من الحصون وتخترق المدينة إلى شارع محطة الرمل حيث المستشفى العسكري، وهناك كانت تدفن بعد المعاينة بغير احتفال في المقابر المجاورة للمستشفى …
وكان الجرحى ينقلون إلى المستشفى على عربات النقل، وكان مما يؤلم النفوس حقًّا منظر تلك العربات تقل الواحدة عشرين أو ثلاثين قتيلًا من الأهالي أو الجند وقد شدوا بالحبال على ألواح من الخشب فوق العربات، والدماء تقطر من أجسامهم …
وكانت بعض الأمهات يحتضن أبناءهن وهم يلفظون أنفاسهم، وكانت النسوة يجرين جموعًا خلف العربات نادبات صائحات، يلعنَّ من كانوا سبب هذه المجازر …
وكنت واقفًا عند منعطف «الإجبسيان بار» فمرت أمامي عربتان تحملان جثث القتلى، ولمحني النسوة هناك فصحن مولولات واستنزلن علي اللعنات؛ إذ كن يلعن كل إنجليزي وكل أوربي، وصرخن في وجهي قائلات: «أتقتلون أبناءنا وتتفرجون على جثثهم؟ اقتلوا هذا، اقتلوه»، وكاد يحاط بي لولا أن رآني أحد رجال الأمن فأنقذني وعاد بي إلى داري، وقد قل رجال الحفظ ولم أعد أرى أوربيًّا واحدًا في الشوارع والحارات؛ فقد خيم السكون الرهيب على هذه الشوارع التي كانت عامرة من قبل بالناس زاخرة بالحياة حتى غدت كأنما هي شوارع مدينة أودى بأهلها الوباء …
وكانت الدكاكين والنوافذ والأبواب مغلقة في المدينة كلها، وخيل إلي أنني في بلدة محاها الخراب الأبدي، وكانت قذائف الأسطول الضخمة تنصب على المدينة وتخترق أحياءها في كل جهة، وكانت تدور فوق رؤوسنا وهي تدوي في صورة مفزعة، وكانت تدمر المنازل هنا، وتشعل النار هناك وترسل الموت إلى كل مكان …
وقد مرت من فوق سطح المنزل الذي كنت أقيم به تجاه حمامات كارتوني بالقرب من محطة الرمل خمس قذائف من رسائل «الإنسانية الغربية» على حد تعبير أحد الضباط، وأصابت إحداها مدرسة فدمرتها، وأصابت ثلاث بعض قصور الأغنياء على مقربة من شارع باب شرقي فهدمتها، وقتلت الخامسة ١١ شخصًا وجوادين بأول شارع محرم بك، ولم يقابل هذه القذائف الفتاكة شيء من جانب المصريين؛ فقد رأى عرابي منعًا للخراب ألا تشترك قلعتا كوم الناضورة وكوم الدكة في الضرب لوجودهما وسط المدينة …
وكنت أرى بمنظاري المقرب على بعد ١٨٠٠ متر على الأكثر طابية قايتباي أو ما تسمى قلعة فاروس، قائمة بالمينا الشرقي في أقصى حاجز الأمواج الأبيض، وكانت هذه القلعة رائعة المنظر ببنائها الضخم وبروزها على صخرة تحيط بها أمواج البحر ومخاطره في ذلك البساط الأزرق من مياه البحر الأبيض المتوسط على صورة تنجذب إليها المشاعر … وكان يزينها مسجد بني منذ سنة ١٤٥٠ للميلاد، تعلوه منارة تعد من بدائع الفن العربي ومن تحفه، مزدانة بالنقوش العربية الجميلة التي يقدرها أصحاب الفنون … وكانت هذه القلعة هدفًا لضرب شديد استمر منذ شروق الشمس حتى تخربت بين الساعة ١١ ووقت الظهر … وكم كانت دهشتي إذ رأيت في نحو الساعة الرابعة مساءً سفينتين شامختين من سفن الإنجليز ترابط غربي القلعة وتقذف نيرانها من جديد على هذا البناء الذي هوت معظم مدافعه وانقلبت على الأرض …
ولكن الإنجليز الذين ضربوا قلعة برج السلسلة وقلعة كوم الدكة ولم تشتركا في الدفاع، قد أرادوا كما يبدو لي هدم هذا المسجد الجميل.
ولم يسكت المصريون تلقاء هذه الوحشية فأطلقوا بعض القذائف من مدفعين كانا لا يزالان قائمين في الجهة الغربية الشمالية من القلعة … ولكن قذائفهم لم تُجْدِهِم شيئًا؛ إذ قد انصبت عليهم القذائف الهائلة من السفن، وقد أحصيت بنفسي اثنتين وثلاثين من هذه القذائف تصوب إلى هذا البناء الأعزل الجميل وقد طاش نصفها فلم يصب الهدف تمامًا، وكانت معظم القذائف تصيب الصخور فتنسفها وتذريها في الهواء، ثم إذا بها تنصب في الماء وتنبعث ثانية في دوي هائل فتبعث في الهواء عمودًا من الماء كأنه إعصار بحري لا يقل ارتفاعه عن ٦٠ قدمًا ألا ما أشد روعة هذا المنظر …!
وهوى المسجد الصغير المسكين في منتصف الساعة ٦ مساء وقد تهدم كله ووقعت أنقاضه على ١٢ جريحًا كانوا يأوون إليه فدفنوا تحت أنقاضه …
ولقد شاهدت بمنظاري أولئك الجرحى التعساء وهم يأوون إلى المسجد حيث ماتوا، ولم يكن في الإمكان نقلهم إلى المستشفى العسكري تجاه برج السلسلة؛ إذ كانت قذائف المترليوزات المعدة للإجهاز على الجرحى تنصب منذ الصباح متصلة كالمطر فتمنع الصلة بين القلعة والأرض اليابسة على الرصيف الضيق الذي يصلها بالمدينة …
وانفجر مخزن البارود في قلعة الأطه بعد الظهر بوقت قصير فسكتت مدافع هذه القلعة التي امتازت بقوتها في الدفاع …
ووقف الضرب من جانب الأسطول في نحو الساعة السادسة مساء، وقد بث الأدميرال سيمور الموت والدمار في أنحاء المدينة وهو الذي تعهد ألا يضرب إلا القلاع، ورأيت النيران تندلع ألسنتها في جهات كثيرة دون أن يقوى أحد على إخمادها».
هذا ما ذكره جون نينيه السويسري المحايد الذي شهد الحوادث بنفسه، وأهم ما جاء في كلامه شهادته ببسالة المدافعين وقوة روحهم المعنوية على الرغم من تفوق عدوهم عليهم في عتاده، ثم تقريره أن القذائف كانت تنصب على المدينة ذاتها وأنها أحدثت بعض الحرائق، ولهذا القول أهميته؛ لأن الإنجليز الذين دبروا من قبل مذبحة الإسكندرية وألصقوها بعرابي وحزبه قد أحرقت قذائفهم المدينة اليوم فعادوا يتهمون بالحريق كذلك عرابي ورجاله!
•••
اشتد ذعر الناس حين سمعوا المدافع ترعد وترسل صواعقها المدمرة على المدينة ولم يكن لهم عهد بمثل ذلك من قبل، وتعاظم الفزع حين سرت الشائعات بين الناس بما حدث من دمار وفتك، وحين رأوا العربات تحمل جثث القتلى والجرحى، ورأوا سحب الدخان من المنازل والأبنية المحترقة تدفعها الرياح في تلك الأحوال، على أن الهول في ذاته كان يغني عن التهويل، فحسب الناس أن تتساقط القذائف عليهم من السماء فتدمر بيوتهم تدميرًا …
لذلك لاذ الناس بالهجرة فهرولوا جموعًا إلى المحطة وتزاحموا على القطارات التي أعدت لنقلهم بالمجان، ولم يتحمل كثيرون منهم التزاحم على القطارات فخرجوا من أبواب المدينة إلى حيث يبتعدون عنها فحسب لا يدرون أين يذهبون ولا يقعد بهم التعب من المشي عن طلب النجاة من الهول حتى نزلوا بالقرى والبنادر، وبلغت أفواج منهم القاهرة في حالة تبعث على الرثاء وتطلق عصى الدمع.
وقد وصف الشيخ محمد عبده هذه الهجرة وكان مع عرابي بالمدينة يوم الضرب فقال: «نحو مائة وخمسين ألفًا من السكان مجردين من كل شيء أخذوا في الحركة لغير قصد ولا لمأوى، الموت والفزع ملء نفوسهم على شواطئ المحمودية إلى دمنهور وجسر السكة الحديد من دمنهور إلى القاهرة.
كانت المهاجرة تكون خطوطًا سوداء تارة عريضة وأخرى رقيقة، متحركة في كل جهة، أشبه بسلسلة إنسانية طويلة، هنا ينزلون، هناك يمشون ببطء، لا وقاية ولا رعاية … على طرفي تضاد مع سماء صافية وأرض خضرة نضرة.
أما الهاربون فكانوا كالأعاصير أو كالماء انكسر سده فاندلق، يتصل بعضهم ببعض مزدحمين متراكمين، في حالة عقلية أشبه بالجنون سائقين أمامهم أو حاملين على ظهورهم ما خف حمله من أمتعتهم: حيوان، أثاث ضئيل، ثياب رثة، حتى بعض المفروشات التي لا قيمة لها.
على أن بني مصر قد أحسنوا إيواء المهاجرين، وجادوا بالتبرعات أينما نزل فريق منهم، وظهرت في أجمل مظهر عواطف الوطنية المصرية في القاهرة وفي القرى، وعُنيت الحكومة بأمر المهاجرين، فأسكنتهم في القاهرة مدرسة المبتديان بالناصرية، وأمدتهم بما يحتاجون إليه من مأكل وملبس …
•••
في اليوم التالي عاودت الأدميرال العظيم رغبة في الضرب، وقد أسكرته لذة النصر على تلك الحصون البالية كأنما هدمت مدافعه قلاعًا اشتد خطرها عليه فأحس ما يحسه الأبطال من نشوة بعد خوض الشدائد.
وعادت مدافعه تضرب المدينة في الساعة العاشرة، وأرسلت قذائفها على طابية قايتباي وطابية الأسبتالية.
وكان مجلس الوزراء قد اجتمع في اليوم السابق للنظر في الأمر برئاسة الخديو وحضره عرابي باشا، وبعد أن تداول الوزراء والخديو قرر المجلس الاتصال بالأدميرال وإبلاغه أن ما كان يطلبه قد تحقق له بضرب الحصون فلا داعي بعد ذلك للضرب وانفض المجلس على أن ترفع في الغد الراية البيضاء وهي راية طلب الهدنة للمفاوضة.
ورفعت الراية البيضاء على بعض الحصون وعلى وزارة الحربية، فتوقف الضرب وذهب طلبة باشا يصحبه ترجمان فصعد إلى ظهر اليخت الخديو «المحروسة» وهناك التقى بمندوب من قبل سيمور … فسأله عما يريد من رفع الراية البيضاء، فأبلغه طلبه قرار مجلس الوزراء، فأجاب المندوب في صلف وسماجة بأن الأدميرال يطلب الترخيص له بإنزال جند من بحارة السفن لاحتلال ثلاث قلاع هي: العجمي، والدخيلة، والمكس، فإن لم يأته الرد في الساعة الثانية بعد الظهر استأنف الضرب …
وهكذا يأبى الأدميرال العظيم أن يتكلم إلا بلسان مدافعه، فليس الأمر أمر تفاهم وإنما هو أمر قوي يملي إرادته على ضعيف لا يملك له دفعًا …
وطلب عصمت باشا أن يطيل الأدميرال ما تفضل به من مهلة؛ ليستطيع أن يبلغ الخديو رده ويعود إليه … ولكن سيمور رفض هذا الطلب …
وذهب طلبة باشا فعرض الأمر على الخديو، واجتمع لدى الخديو مجلس ضم الوزراء والكبراء ممن تصادف حضورهم واتفق رأي الحاضرين على أنه لا يجوز لمصر أن تسمح بنزول جنود أجنبية إلى البر، وذهب وفد برئاسة طلبة باشا يبلغ سيمور هذا القرار …
ولكن الوفد لم يجد أحدًا يتصل به؛ إذ عاد مندوب سيمور إلى السفن، وأمر سيمور في نحو الساعة الرابعة باستئناف الضرب فأرسلت أنفنسبل قذيفة واحدة على قلعة المكس، فلم تجاوب القلعة، ثم رفعت الراية البيضاء ثانية على بعض الطوابي، فوقف الضرب، وظلت السفن في موقف القتال حتى الساعة السادسة مساء وأرسل سيمور سفينة إلى الميناء وبها مندوب من قبله فلم يجد المندوب أحدًا يتفاوض معه، فعاد ينبئ الأدميرال أن المدينة تبدو وكأن ليس بها أحد …
•••
بلغ عدد الضحايا من المصريين في الإسكندرية نحو ألفين غير من جرحوا، أما الإنجليز فلم يزد قتلاهم عن خمسة وجرحاهم عن تسعة عشر، وقد ذكر عرابي أنه استشهد من رجال الطوابي وحدهم مائة رجل، وقتل هناك امرأتان من المتطوعات كانتا تعنيان بالجرحى …
أما السفن الإنجليزية، فقد أصيبت أنفنسبل ثلاث عشرة إصابة عطلت ست الأجزاء غير المدرعة منها وجرحت واحدة ستة رجال، وأصيبت سلطان بثلاث وعشرين ضربة وأتلفت سواريها ومدخنتها، واخترقت قذيفتان جدرانها غير المدرعة وتعطلت الزوارق الملحقة بأنفلكسبل، واخترقت قذيفتان درع سوبرب ومدخنتها وقد أُصيبت عشر مرات وعطل في بنلوب أحد مدافعها، ولحق ضرر حفيف بألكسندرة على الرغم من أنها أصيبت ثلاثين مرة وعطل مدفعان من مدافعها …
•••
وأما المدينة التي كانت تراوحها نسائم البحر الندية وتغاديها، فقد اندلعت فيها ألسنة النيران في صورة مروعة كأن الجحيم تزفر عليها بنارها، وقد لبثت النار بها بضعة أيام، وظلت سحب الدخان تتراكم وتنعقد فوق شوارعها الموحشة المتهدمة وخيمت الكآبة على الثغر الذي ماتت بسمتُه أيامًا طويلة نتيجة لعدوان سيمور …
ولقد ذهبت الآراء عدة مذاهب بشأن هذا الحريق، وقد حاول الإنجليز أن يعزوه إلى عرابي كما عزوا إليه من قبل مذبحة الإسكندرية التي اقترفوها، على أن التحقيق فيما بعد قد برأه منها كما برأه من مذبحة الإسكندرية كما سيأتي بيانه في موضعه …
وذهب جون نينيه إلى أن النيران كانت من فعل قذائف الأسطول، قال عن اليوم الأول: «رأيت في ذلك الصباح عددًا كبيرًا من القذائف يمر فوق داري، وسقطت بعض القذائف من ذات الحجم الأكبر تحمل اسم «الإسكندرية» في الدار المجاورة لداري، وقد قتلت القذيفة الثالثة من القذائف التي مرت فوق داري أحد عشر رجلًا وجوادين عند باب محرم بك، وهدمت وحرقت بيوت كثيرة ومبان في كل ناحية بفعل قذائف السفن».
وقال عن اليوم الثاني: «كان عدد من قبيلة أولاد علي ينهبون دكاكين المدينة وقد دخلوا إليها من ناحية القباري أو باب عمود بمبي، وقد رأيت كثيرين منهم قد قُبض عليهم وصودر ما يحملون بأمر من سليمان بك سامي أثناء محاولتهم الهرب من المدينة بمنهوباتهم، وكان عرابي باشا قد أمر قبل مغادرته المدينة بإغلاق هذا الباب لحراسة الشوارع الرئيسية وحفظ النظام فيها، كما أنه ترك فرقتين من الاحتياطي …
ويقول نينيه في موطن آخر من كتابه: «عرابي باشا» أن عدة عناصر اشتركت في هذا الحريق، منها بعض الأوربيين الذين بقوا في المدينة بقصد النهب، ومنها بعض الأروام والمالطيين من أصحاب الدكاكين؛ كي يطلبوا بعد ذلك تعويضًا كبيرًا ومنها بعض البدو من قبيلة أولاد علي، وبعض عساكر الرديف، وبعض الأشقياء الذين أخرجوا من سجن الترسانة …
وهناك من يذهب إلى أن سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس هو الذي أمر جنوده بإضرام النار في المدينة كعمل يقتضيه الدفاع إذا أراد به أن يعرقل نزول الإنجليز إلى المدينة، أو لعله فعل ذلك بدافع الحمق والغيظ من عزم الإنجليز على دخول المدينة، ولقد شهد عليه كثيرون أثناء المحاكمة، وكانت أقواله هو دليلًا عليه؛ ففيها ما يشبه الاعتراف، وخاصة اتهامه لعرابي بأنه هو الآمر بحرق المدينة؛ ليتنصل هو من التبعة، يتبين ذلك في مثل قوله:
(ج١) أمرني شفويًّا …
على أن عرابي في مذكراته يعقب على أقوال سليمان سامي في التحقيق بقوله: «الحقيقة أن سليمان بك سامي لما شاهد هول تأثير مقذوفات سفن الإنجليز حدث له هلع وطيش أثَّر على مخيلته فصار يتحفز ويميل لعمل غير العقلاء، فبدرت منه كلمات تدل على جنونه كقوله: احرق واضرب يا ولد. في حالة هياجه، وقوله: إني أمرته لكل ما يتخيله في مخيلته، ولكن أجمعتْ الشهود على أنه لم يفعل من ذلك شيئًا، وأنه خرج بآلايه من المدينة قبل الغروب، وأنه ترك المنشية وخرج إلى باب شرقي الساعة ١١ عربي ولم يعد إليها، وأن الحريق لم يبتدئ إلا بعد الغروب وبعد خروج العساكر من المدينة كشهادة سعد بك أبو جبل وعلي بك داود وغيرهم، وأن الحريق لم يكن إلا من أوباش الخدم والبدو وغيرهم من الأوربيين والفقراء الذين تخلفوا في مدينة الإسكندرية؛ ليحصلوا على شيء من الصيد والغنيمة، ولذلك لم يقل أحد بأنه رأى سليمان سامي يفعل الحريق بنفسه ولا بغيره، وعلى ذلك يكون سليمان سامي ذهب شهيد طيشه وغضبه والحساب على الله.
ومما ذكره تشرشل فيما أورده صابونجي أن الحكومة الإنجليزية عجَّلت بشنق سليمان سامي قبل أن يبوح بأسرار خطيرة تُدين الخديو؛ وذلك لأن محاميه طلب بدء التحقيق من جديد، ومواجهته بمن شهدوا عليه …
ومهما يكن من الأمر، فمن الخطأ أن يُرد الحريق إلى سبب واحد من الأسباب التي ذُكرت، والمعقول أن تسببه هذه العناصر جميعًا، وخاصة قذائف الأسطول وطيش سليمان سامي.
غادر عرابي الإسكندرية على رأس حاميتها، فلندعه الآن ولننظر ماذا كان من أمر توفيق منذ أن أوى إلى قصر الرمل …
كان مما تحرص عليه الحكومة الإنجليزية أن يظل الخديو منحازًا إليها لتمشي عند الحرب بالتفرقة بين الأمة؛ لأن من أكبر المخاطر عليها أن تكون الأمة صفًّا واحدًا حتى ولو غُلبت على أمرها؛ لأن إنجلترا في مثل ذلك الوضع لا تستطيع أن تضرب فريقًا بفريق كما تفعل في الأمم التي تستطيع أن تجعل منها معسكرين أو أكثر.
ويدلنا على اهتمام الإنجليز بهذا الأمر هذه البرقية التي وصلتْ من جرانفل إلى كارتريت في اليوم الثاني عشر من يوليو، أي في اليوم الثاني للاعتداء، قال جرانفل: «رأيت أن أرسل إليك هذا لتعمل مع الأدميرال السير ب. سيمور على بذل ما يمكن من المحاولات لاستحضار أنباء بشأن الخديو فإن حكومة جلالة الملكة تحس كثيرًا من القلق من جراء الاهتمام بسلامته ويشاركها أهل هذه البلاد» …
وكان الخديو كما ذكر نينيه يهرول إلى سطح القصر بين حين وحين في اليوم الأول يستطلع أنباء القتال، وكان يخشى جانب الجيش أشد الخوف لما يعرف عنه بينهم من أنه في جانب الإنجليز، وقد نمى إلى علمه أن عديدًا من عرب البحيرة بلغ نحو خمسمائة جاءوا في اليوم الثاني للضرب إلى مكان قريب من قصره، فلما سئلوا عن سبب مجيئهم قالوا: إنهم جاءوا لنجدة الخديو فهم عبيده وخدمه، ثم لم يقف لهم أحد على أثر بعد ذلك.
على أن هناك رواية مؤداها أن سليمان سامي قد أرسل إلى القصر في نفس اليوم نحو أربعمائة من الفرسان بقيادة البكباشي محمود منيب وكتيبة من المشاة، وأحاط هؤلاء بالسراي، فأوجس الخديو خيفة وأرسل يسأل القائد عن سبب وجود هؤلاء الجنود، فأجاب بأنهم جاءوا لحماية الخديو والمحافظة على السراي.
وذهب بعض رجال السراي يذيعون في أنحائها أنهم سمعوا من البكباشي منيب أن هؤلاء الجند جاءوا للقبض على الخديو وإرساله إلى القاهرة.
وذكر طلبة باشا في محضر استجوابه أثناء المحاكمة أن وفدًا جاء من قبل الخديو لمقابلة عرابي، وأخبرهم عرابي أنه لا يعلم بما حدث وأرسل طلبة باشا لرفع هذا الحصار فرفعه، ويقول طلبة: إنه قابل الخديو فقال له: «لماذا أحضرتم هؤلاء العساكر وحاصرتم السراي بهم، هل أنتم خائفون أن أهرب؟»
ويقول عرابي في مذكراته: «وفي صباح يوم ١٢ يوليو جاءنا رسول من قِبل الخديو يدعونا إليه، فتوجهنا مع راغب باشا؛ تلبية لدعوة الخديو، وكان في الرمل، فأبلغنا بأنه قد حضر نفر من العسكر إلى السراي، وسألني عن سبب حضورهم، فأجبته بأن لا علم لي بذلك، ولعلهم حضروا لتقوية الحرس، فقال: لا لزوم لذلك؛ فإن فرقة الفرسان الموجودة هنا كافية، فاصْدر أمرًا برجوعهم إلى مكانهم، فتوجهتُ إلى القشلاق ووجدت أربعة بلوكات من آلاي سليمان بك سامي ومعهم الصاغ علي أفندي أبو غنيمة — أو هشيمة — فسألته عن سبب حضوره مع العساكر إلى سراي الخديو؟ فقال: إن حكمدار الآلاي سليمان بك سامي أمره بذلك، فحضر لتقوية الحرس الخديو، فأمرته بالعودة إلى آلايه مع عساكره لعدم لزوم تلك القوة».
وسواء كانت رواية طلبة أو رواية عرابي هي الصحيحة، وقد تكونا صحيحتين معًا، فإن ما يستخلص منهما أن سليمان هو الذي فعل هذا، ولقد كان سليمان من أكبر المتحمسين الساخطين على الخديو وعلى الإنجليز …
وفي اليوم الثالث عشر شاور الخديو من كان معه من الأمراء والكبراء ماذا يعمل إزاء احتلال الإنجليز مدينة الإسكندرية، فلم يرض أحد أن يبقى بها وأشار عليه درويش بالسفر إلى بنها ثم إلى السويس، وأشار غيره بالذهاب إلى العاصمة، فما يليق بحاكم البلاد أن يظل مقيمًا في بلد وقعت في يد أعدائه.
ولكن هؤلاء كانوا يشيرون بذلك، على أساس أن الخديو لا ينتوي شيئًا …
والذي نلاحظه أن الكتاب الأزرق حريص كل الحرص على أن يقتصد ما أمكن في ذكر حركات الخديو وخاصة ما يظهر نياته الحقيقية نحو الاحتلال …
والواقع أن الخديو آثر أن يخطو الخطوة الأخيرة، وقد اطمأن إلى قوة الإنجليز فانضم إليهم صراحة، ونأى بجانبه عن السلطان ومندوب السلطان، أما المصريون وقادة الحركة الوطنية فما كان يعترف بهم في يوم ما.
أرسل الخديو إلى سيمور رسولًا يخبره أنه اعتزم الحضور إلى سراي رأس التين ومعنى ذلك أنه اعتزم أن يكون في رعاية الإنجليز وحمايتهم وأنه اختار لنفسه ما يحلو له …
قال بلنت يتحدث عن حصار قصر الرمل: «كان ذلك في الواقع لكي يبقى توفيق تحت المراقبة وبقصد أن يرسل إليه عرابي أنه نظرًا لأن سيمور يهدد بإعادة الضرب فإنه يرى أن يسحب الحامية، ويدعو الخديو إلى أن يبتعد معهم عن مرمى مدافع الإنجليز ومن ثم يذهب إلى القاهرة … وكان يجب على عرابي بغير شك أن يذهب بنفسه مرة ثانية ليرى أن هذه الدعوة لم تهمل لأي عذر من الأعذار، وأن يحمل معه توفيق بالقوة أسيرًا إذا لزم الأمر، فإن مثل باي تونس كان أمامه، وكان لديه مما جربه بنفسه من أساليب الخديو ما يكفي لأن يجعل من المستحيل أن يكل شيئًا إلى شرفه … ولقد كان إهمال عرابي هذا الأمر من الأخطاء الجسيمة.
على أن عرابي كان مشغولًا في الصباح بحركة إخلاء المدينة من الجند، بحيث لم يكن لديه وقت ليذهب ثانية إلى الرمل، وتمكن الخديو بعد الظهر بما بذل من «بقشيش» — كما أخبر بذلك أصدقاؤه الإنجليز — أن يفلت من حرسه إلى الإسكندرية في نفس القطار الذي أرسل ليحمله إلى القاهرة وهناك وضع نفسه صراحة تحت حماية سيمور! وقد أخذ معه جميع من كانوا في القطار بما في ذلك درويش والوزراء، وبذلك أظهرهم إلى حد ما شركاء له في خيانته».
وبلغ الخديو السراي في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم ١٣ يوليو فإذا الحرس ببابها من جنود البحرية البريطانيين وإذا بالأدميرال سيمور يتلقاه في ساحتها يحيط به عدد من كبار رجاله، ولقد هنأوا الخديو بسلامته، ودخل توفيق القصر ومن هناك سوف يعود إلى عاصمة بلاده في حماية جيش الاحتلال، فيتلقاه في قصره الثاني قواد الاحتلال مهنئين بسلامة الوصول كما استقبله في الإسكندرية سيمور …
وهكذا نرى الأمة من أول الأمر فريقين: أولياء الاحتلال وعلى رأسهم الخديو ونفر ضئيل من المصريين، والمجاهدين الأحرار يقودهم عرابي ومن ورائهم الأمة المصرية كبراؤها وعلماؤها وفلاحوها … ونعود فنكرر القول: إن موقف الخديو هذا سوف يكون أقوى عامل في نجاح الإنجليز …
وبعد فهذه قصة العدوان الغادر على مصر، قصة البغي الأكبر على بلاد كل ذنبها أنها تطالب بالحرية، والحكم الدستوري أسوة بأوربا المتمدنة، ومن أعظم الأمور إثارة للنفوس وأدعاها إلى الكفر بمدنية الغرب ومبادئه أن يأتي هذا العدوان على يد رجل مثل جلادستون … بيد أن المطامع الاستعمارية وإقامة صرح الإمبراطورية شيء، ومبادئ القومية والحرية شيء آخر! ولكن متى يفهم ذلك المغترون بضلال أوربا؟
على أن الحرية لا تعدم أنصارًا حتى في أحلك الساعات وإن لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا؛ فقد استقال مستنكرًا الضرب المستر جون برايت أحد أعضاء وزارة جلادستون؛ لأن ضميره وذمته لم يتسعا لهذا العدوان الذي وصفه بأنه «انتهاك صارخ للقانون الدولي ومبادئ الأخلاق».
ولقد احتج أحد نواب الأحرار على العدوان في الثاني عشر من يوليو بمجلس العموم قائلًا: «إنه شناعة دولية وعمل ينطوي على القسوة والجبن والإجرام».
ويقول روثستين في كتابه المسألة المصرية: «يا له من تدهور في عالم الشهرة والمبدأ مؤلم للنفس وقد يكون أشد مما شاهدناه في أيامنا مدة حرب البوير».
وقال كذلك: «إن إنجلترا قد خرقت حرمة القانون الدولي وأتت أمرًا همجيًّا لم يسبق له مثيل، أمرًا لو صدر من دولة أضعف منها لحوسبت عليه حسابًا عسيرًا» …
•••
وإنه ليحلو لبعض الكتاب والمؤرخين أن يعيبوا على عرابي وأنصاره أنهم تركوا حصون الإسكندرية ضعيفة فلم تستطع مقاومة السفن الإنجليزية بسبب ذلك، ولا ندري كيف يلقون هذا القول ولا يتذكرون أنه طالما كان الخديو في صف الإنجليز والفرنسيين منذ حضرت سفن الدولتين، لم يكن في وسع الوطنيين عمل شيء، ولقد قبل الخديو المذكرة المشتركة وقبل استقالة الوزارة الوطنية بمجرد أن واتاه شيء من القوة …
ألا فليعلم هؤلاء العائبون أن الخلاف الداخلي الذي فصلنا قضيته كان سبب كل ضعف، وماذا عسى أن يصنع حزب وطني في البلاد يخاصمه الخديو من أجل تمسكه بالحكم المطلق ورغبته في القضاء على الدستور؟
هل كانت تستطيع وزارة البارودي أن تعد العدة لمحاربة إنجلترا والخديو الذي يملك حق إبعادها عن كراسيها في صف الإنجليز؟
لقد قامت القيامة وأنذر الإنجليز الدنيا بالويل لنبأ من مفترياتهم هم، ألا وهو ما زعموه من تحصين في قلاع الإسكندرية واتخذوا من ذلك وسيلة لإنذارهم مصر ثم الاعتداء عليها، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يقال: إن الوزارة ملومة لأنها لم تقوِّ الحصون؟
•••
فإذا أضفنا إلى ذلك أن عمل إنجلترا كان مفاجئًا لا لمصر وحدها لكن للمؤتمر الدولي القائم في الآستانة تبين لنا مبلغ ما في هذا اللوم من ضعف وسخف …
على أن الوطنيين قد جاهدوا في الوطن حق جهاده وأبوا أن يسلموا بما طلبت إنجلترا إلا مكرهين، ولم يفروا أو يتخاذلوا من ضعف أو مباغتة …
والأن بعد أن أقدمت إنجلترا على عملها الإجرامي المعدوم النظير، وبعد أن ألقى الخديو بنفسه في أحضانهم، ستجاهد الأمة المصرية أصدق الجهاد، وستعد ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل، وستبدو وطنيتها وحميتها قوية رائعة على الرغم من قعود نفر من بنيها من الإمعات والمستضعفين والطامعين …