عرابي بطل الجهاد
رأى عرابي نية الخديو قبل عودته إلى رأس التين، وإنه ليعلم ما يكنه توفيق في نفسه
للحركة
القومية منذ يوم عابدين …
لذلك أيقن عرابي وأصحابه أن الحرب غدت أمرًا محتمًا بين الأمة المصرية وبين إنجلترا،
ورأوا أن الإسكندرية لا تصلح ميدانًا للقتال، وأن الدفاع عنها بعد تحطيم حصون الشواطئ
مستحيل، وهو أكثر استحالة بعد انضمام توفيق إلى الإنجليز …
وكان الخديو يأمل أن يدافع عرابي زمنًا عن قلعة العجمي، وبذلك يستطيع الإنجليز أن
ينزلوا
جندًا يقطعون عليه الطريق ويأسرونه في الإسكندرية، يقول بلنت في ذلك: «لقد كان جيشه جيشًا
مكسورًا، ولو أنه لم يفقد روحه المعنوية إلا أنه كان من السهل أن يصل إلى ذلك لو أن قوة
صغيرة نزلتْ من السفن واستولتْ على السكة الحديد وقطعت طريق ارتداده، ولقد كان من المؤكد
في
خطة الإنجليز أنهم كانوا يريدون تطويق عرابي إذا أمكن، وربما كانت تلك الحمية التي بدت
في
الدفاع على غير ما كان منتظرًا، أو كانت خدعة الراية البيضاء هي التي حالت بين سيمور
وبين
إنزال جنده».
١
ولذلك حنق توفيق على عرابي لانسحابه، ولم يكن مبعث حنقه أنه ترك المدينة بغير دفاع
كما
سيزعم عند الضرورة، قال عرابي في تقريره الذي كتبه إلى محاميه المستر برودلي في السجن:
«أصدر الخديو أمره في مجلس الوزراء إلى جنودنا ليحتلوا قلعة العجمي ويمنعوا نزول الجنود
البريطانية، فأفهمت سموه أن المشاة لا يستطيعون ذلك؛ لأنهم يتعرضون بذلك لنيران مدفعية
السفن كثيرًا، ويكونون عرضة كذلك لأن يُقطع عليهم الطريق إلى الإسكندرية، فظهر على الخديو
الغضب وقال: «لماذا تسمون أنفسكم جنودًا إذا كنتم لا تستطيعون أن تمنعوا عدوًّا من أن
ينزل
جنوده في بلادنا؟»
٢
لذلك انسحبتْ الحامية لتتخذ مكانًا حصينًا يصلح لإقامة خطوط الدفاع عن داخل البلاد،
وقد
اتخذتْ جهة كفر الدوار موقعًا لهذا الدفاع.
وهكذا ينتقل تاريخ الثورة القومية إلى فصل جديد، هو الحرب بين مصر الناهضة بالأمس
القريب
مما رزحت تحته زمنًا طويلًا من الحكم الفردي المطلق، والتي لم تستوفِ أسباب القوة المادية
بعد أن حطمتْ الدول قوى محمد علي، وبين إنجلترا ذات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها
الشمس!
ولم يكن أمام مصر إلا أن تختار أحد سبيلين: التسليم بالاحتلال وما يقضي به على نهضتها
القومية الحرة وقبول هذه المذلة طائعة مختارة، أو الحرب التي تبذل فيها الأموال والأنفس
والتي تنتهي إما إلى نصر يتحقق به كل شيء، وإما إلى هزيمة تذهب بكل شيء إلا الشرف والكرامة
…
واختارت مصر السبيل الثانية تحت راية عرابي، وتركت للخديو ومَن شايعه السبيل الأولى،
وما
كان لعرابي وأصحابه أن يفعلوا غير ما فعلوا وإلا كانت حركتهم القومية ونهضتهم الإصلاحية
هزرًا ولعبًا من أول الأمر، وما كانت لعمر الحق إلا الجد كأعظم وأجمل ما يكون الجد.
يقول بلنت في هذا الصدد: «إن خير صفات عرابي — كما أعتقد — هي إصراره على ألا ينصرف
عن
وضع كان هو الأصل في إعلانه وذلك أنه وإن كان على استعداد لأن يسالم الدنيا كلها، إلا
أنه
كان يرى من واجبه أن يدفع عن وطنه كل عدو مغير … وهذا قد أدى لبني وطنه في تلك الأسابيع
خدمة لا تقدر، خدمة أرى أن من الحق أن يذكر بها، فليس هناك شيء أكثر يقينًا من أنه لو
كان
عرابي أقل عنادًا مما كان في رفضه التهديد أو الرشوة
٣ عندما طلب إليه مغادرة مصر ولم تنشب الحرب تبعًا لذلك، لبقي الفلاحون كما كانوا
سنة ١٨٨٠ عبيدًا لسادتها الأتراك وعبيدًا للأوربيين، وماذا يرى أي وطني ما كان يمكن أن
ينتج
من إذعان عرابي؟ أهو حرية من أي نوع؟ أهو استمرار لحكم الشعب نفسه؟ أهو حكم أجنبي أخف
وطأة
مما هو عليه الآن؟
٤ لا شيء من ذلك يقينًا، إن ما كان ينتج يتضح في النظام الذي أقيم في القاهرة عقب
الحرب، أنه كان لا يخرج عن نوع من استبداد الشرطة والغدر والعقوبات الخفية، دون أن يخفف
من
ذلك أي اهتمام بعد بالقومية المصرية كما ينظر إليها بالمعنى المفهوم في أوربا، ومن الممكن
من الوجهة الشكلية أنه كان يسمح لمجلس من الأعيان أن يظل يعقد بعض جلسات، من قبيل ما
يسمى
هيئة استشارية، ولكنه لن يكون ذا قوة كما أنه لن تكون له قط روح وطنية، وكان يعاد الحكم
الشركسي أشد مما كان، وكانت تحرص الرقابة المالية — وقد قويت شوكتها بسلطة سياسية جديدة،
واهتمت بأمور مالية ومصالح أوربية بحتة — على ألا تحرر الفلاحين من سادتهم الأتراك وقد
غدَا
هؤلاء الأتراك عبيدًا لأوربا، وكانت تذهب أسطورة الحركة القومية للفلاحين هباءً في صورة
مشينة؛ لأن الشعب الذي لم يجرؤ قط على الدفاع عن وجوده جدير بالاحتقار … وكانت المطبوعات
القومية تهوى إلى مثل ما هوت إليه في تونس، وكان لا يجد المرء أثرًا للحرية المدنية ولا
للحرية الشخصية ولا لأي اعتبار للحقوق القومية، وكانت مصر في الواقع ترى كما رؤيت سنة
١٨٨٣
أرضًا لا يستطيع المرء فيها أن يزيد على الهمس ولا يأمن جاره أن يشي به …
وقد خلَّص عرابي بني وطنه على أقل تقدير من هذا كله … ولئن لم يتفق لهم أن يروا فيه
جنديًّا كما رأوا فيه وطنيًّا، فإنه أنقذهم من وصمة شنيعة، وتلك أنهم لم يحاربوا قط في
المرة الوحيدة التي أتيحت لهم في مدى تاريخهم حين واتتهم الفرصة ليدافعوا عن حريتهم».
٥
وإن عبارة بلنت هذه لتلخص القضية كلها أبلغ تلخيص وأجمله، وما نجد خيرًا منها نسوقه
للذين
ينعون على عرابي أنه حارب، ويقولون في سذاجة مثيرة: إنه حارب فجلب البلاء على مصر. كأنما
كانت هذه الحرب لعبة طرأت على خياله فلعبها … أو هكذا يفكر هؤلاء كما يفكر الصبيان …
وقفت مصر إذن تدافع عن حريتها وعن شرفها، وتخوض حربًا لأول مرة في تاريخها تحت قيادة
فلاح
من أبنائها يعاونه في القيادة فلاحون مثله، فإما إلى النصر وإما إلى القبر … وهي في أقل
ما
توصف به مظاهرة للشرف والكرامة …
•••
أُعلنتْ الأحكام العرفية في مصر ابتداء من اليوم الحادي عشر من يوليو؛ فقد أرسل راغب
باشا
إلى جميع المديرين برقية هذا نصها: «حيث ابتدأت الحرب بيننا وبين الإنجليز فبمقتضى القانون
تكون الإدارة تحت أحكام العسكرية، والخيول والبغال الموجودة جميعها بالمديريات والمحافظات
ترسل لديوان الجهادية بأثمان موافقة على الجهادية فليسرع بالمبادرة بإرسالها».
٦
وهذه البرقية صريحة في أن الحرب ابتدأت بين مصر وبين الإنجليز، وصدورها من رئيس مجلس
الوزراء لن يكون إلا بإذن من الخديو …
ومنذ أن قرر الخديو مجلس وزرائه رفض الإنذار النهائي تعتبر البلاد في حالة حرب مع
إنجلترا، وقد أصدر الخديو أمره إلى عرابي باشا بدعوة ٢٥٠٠٠ من الاحتياطي بالأقاليم، هذا
وإن
القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في اليوم العاشر من يوليو، ذلك المجلس الذي كان عرابي
غائبًا عنه، والذي أشار إليه اللورد راندلف تشرشل في مجلس العموم متعجبًا من أن الكتاب
الأزرق أغفل نشره ومبينًا أن مرد ذلك إلى أنه صريح في أن توفيقًا أعلن الحرب على إنجلترا،
نقول: إن ذلك القرار كان ينص نصًّا صريحًا على أن الحصون سترد على ضرب الأدميرال بعد
القذيفة الخامسة من جانب السفن
٧ …
ولينظر القارئ بعد هذا فيما كان من راغب وتوفيق في هذا الجهاد القومي الذي لم يكن
لعبة
وإنما كان حياة أو موتًا لأمة …
أرسل راغب باشا في اليوم الخامس عشر من يوليو إلى وكيل وزارة الجهادية بالقاهرة يطلب
إليه
إعادة المهاجرين إلى الإسكندرية؛ لأن الحالة قد تحسنت وأن «جميع من خرجوا من البلد جاز
رجوعهم إليها وإن أبوا العودة أرسلوهم ولو جبرًا».
٨
وكان راغب باشا يريد أن يقول: إن البلاد ليست في حرب مع الإنجليز مع أن الإنجليز قد
احتلوا الإسكندرية فعلًا منذ غادرتها الحامية واتخذوها قاعدة يزحفون منها إلى داخل البلاد
…
وهكذا ينقلب راغب فإذا هو من الإمعات، وإذا هذا الشيخ الذي نيف على السبعين يختار
أن يختم
حياته أسوأ خاتمة …
ولم يقف راغب عند هذا، بل كتب في اليوم السابع عشر من يوليو إلى الأدميرال سيمور
يقول —
وما أسخف وأشنع ما قال: لي حظ الشرف أن أعلن لحضرتكم أن عرابي يشتغل الآن بإعداد وسائل
للدفاع، وذلك مخالفة لأوامر الجناب الخديو، وقد صدر له الأمر بالكف عن هذه التجهيزات،
فكونوا إذن على علم بأن الجناب الخديو عزم على عزله من وظيفته، فهو لذلك وحده المسؤول
عما
يحدث، فأرجوكم أن تعلنوا مآل هذه الرسالة إلى حكومة جلالة الملكة».
٩
وإن المرء ليتملكه العجب والأسف معًا، بل الحزن العميق؛ أن يرسل رئيس وزارة مسؤول
كلامًا
كهذا إلى أدميرال دولة أجنبية معتدية لا تزال أرض الوطن مخضبة بدماء من فتكت بهم قذائفها
في
غير مسوغ!
وهل غدا سيمور حاكم البلاد الشرعي حتى يكتب له راغب هذا الكلام؟ كلا فلن يزال توفيق
حاكمها الشرعي من قبل السلطان الذي عينه، ولكن سيمور قد غدا صاحب النفوذ الفعلي في
الإسكندرية على الخديو الذي لاذ به وعلى الوزراء الذين أصبحوا منذ أن صحبوا توفيق إلى
رأس
التين أشبه بسجناء في المدينة …
وليس أدل على ما بات لسيمور من سلطة من ذلك المنشور الذي أصدره باسم الخديو في اليوم
السابع عشر من يوليو يحث فيه الناس على الهدوء والنظام ويعلن إليهم أنه مكلف بذلك من
جانب
الخديو …
وهكذا أخذ الإنجليز يخطون خطواتهم نحو احتلال البلاد
والسيطرة عليها باسم الخديو والدفاع عن الخديو الحاكم الشرعي أمام العصاة الثائرين من
بني
شعبه، تلك الدعوى التي ادعوها منذ حضور سفنهم، والتي ألقوها في روع الخديو منذ يوم عابدين
…
ولن يفسر عمل راغب إلا بأنه تم بعد اتفاق بينه وبين سيمور وتوفيق، وهذه بديهية لا
تحتاج
إلى دليل …
وأدهى وأمر من فعلة راغب وأدعى إلى الأسف والألم والدهشة جميعًا برقية الخديو الآتي
نصها
والمرسلة في اليوم السابع عشر من يوليو إلى عرابي بكفر الدوار؛ حيث أخذ يبني خطوط الدفاع
عن
الوطن في نشاط وبسالة، قال توفيق — وما أعظم ما تحس النفس من ألم وثورة تلقاء ما قال:
«اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدوننمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية وتخريبها،
إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما
يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها، والآن وقد حصلت المكالمة مع الأميرال،
فأفاد أنه ليس للدولة الإنجليزية مع الحكومة الخديوية أدنى خصومة ولا عداوة، وأن ما حصل
إنما هو في مقابلة ما كان من التهديد والتحقير للدوننمة، وأنه إذا كان بيد الحكومة الخديوية
جيش منظم وممتثل ومؤتمن فهو مستعد لتسليم مدينة الإسكندرية إليها، ولذلك إذا حضرت عساكر
شاهانية فالحكومة الإنجليزية تحترمهم وتسلم إليهم المدينة؛ فقد تحقق من هذا أن الدولة
الإنجليزية ليست محاربة مع الحكومة الخديوية وأنه تقرر من كافة الدول المعظمة بالقونفرانس
١٠ بأنه لا يصير مس امتيازات الحكومة المصرية ولا حريتها، ولا مس حقوق الدولة
العلية، بل هي تبقى ثابتة لها كما كانت، ولن يصير إرسال عساكر شاهانية لأجل استتباب الراحة
بمصر، فلذلك يلزم أن تصرفوا النظر عن جمع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية التي تجرونها
بوصول أمرنا هذا، وتحضروا حالًا إلى سراي رأس التين لأجل إعطاء التنبيهات المقتضية الشفاهية
على حسب أمرنا هذا وما استقر عليه رأي مجلس النظار».
١١
وفي هذه البرقية العجيبة — الذي لا ينتهي عجبنا منها — يحمل توفيق عرابيًّا تبعة ضرب
الإسكندرية ويعلن حُسن مقاصد الإنجليز وأنهم لا يبتغون إلا الخير لمصر! ويقول: «إن سبب
الضرب يرجع إلى الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام
عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها»!
وتناسى الخديو أنه أرسل برقية إلى السلطان في اليوم السابع من يوليو ينفي فيها حدوث
هذه
الأعمال التي يشير إليها، ويقول: «إن التأكيدات أرسلت إلى الأدميرال بنفيها».
١٢
وكانت دعوة عرابي إلى الإسكندرية خدعة مكشوفة لا تجوز على أبسط الناس عقلًا؛ بغية
القبض
عليه بحجة أنه ثائر متمرد خارج على إرادة الخديو داع إلى الفوضى، ولسنا بحاجة إلى تلمس
الدليل على صحة ما نقول، فحسبنا أن نورد نص البرقية الآتية التي أرسلها كارتريت إلى جرانفل
في اليوم الخامس عشر من يوليو، قال: «قلَّت النار قلة محسوسة، يعود الأوربيون إلى المدينة،
أنشئ شرطة من الوطنيين ليعملوا مع البحارة الأمريكان، أبرق عرابي باشا هذا الصباح من
كفر
الدوار إلى الخديو يقول: إنه سوف يسر سموه أن يعلم أن الرديف قادمون ليساعدوه في محاربة
الإنجليز وأجاب الخديو بدعوته إلى هنا، إذا حضر فسيقبض عليه، وإذا رفض فسيعلن عصيانه
وخروجه
على القانون، القاهرة هادئة كما نعتقد، الشعور القومي إلى أقصى ما نستطيع أن نراه في
جانب
الخديو، مع عرابي نحو ٤٠٠ جندي».
١٣
والواقع أن الخديو كان قد فرغ من عرابي وقضى فيه قضاءه بعزله من وزارة الجهادية قبل
أن
يستدعيه إلى الإسكندرية بيوم، تجد ذلك صريحًا في برقية لكارتريت بتاريخ اليوم السادس
عشر من
يوليو جاء فيها: «أتشرف بأن أخبركم أن الخديو عزل عرابي باشا من منصب وزير الجهادية،
وأصدر
أمره بمنع جميع المصريين من مساعدته وسيذاع هذا الأمر بكافة الوسائل التي في متناول سموه
وبناء على اقتراح الخديو أنفذ الأدميرال السير بوشامب سيمور سفينتين من سفن جلالتها إلى
أبي
قير؛ مخافة أن يقطع عرابي الساحل ويدع ماء البحر يطغى».
١٤
وهكذا يعزل توفيق عرابيًّا قبل أن يستدعيه، ولم يُعلن قرار العزل رسميًّا إلا في اليوم
الثاني والعشرين من يوليو.
ولندع لعرابي الرد على توفيق؛ فقد أبرق إليه ردًّا على برقيته يقول: «مولاي … في
شريف علم
مولاي المعظم أن الحرب التي وقعت بيننا وبين الإنجليز، وبلغت مسامع عظمتكم، وعرضت على
مجلس
نظاركم — المنعقد تحت رئاسة سموكم بحضور كثير من أعيان البلاد المنتخبين ودولت درويش
باشا
نائب الحضرة السلطانية — ولما تحقق عند جميعهم أن هذه الطلبات مضرة بالحكومة الخديوية
ومخلة
بشأن البلاد، استقر رأيهم على معارضة طلب الأميرال ولو أدى ذلك إلى الحرب، وبناء على
ذلك
قرر المجلس لزوم زيادة ٢٥٠٠٠ عسكري، وصدرت الأوامر إلى المديريات بطلبهم، وقرر المجلس
أيضًا
أنه لا تطلق المدافع من جهتنا إلا بعد إطلاق خمسة مدافع من السفن الإنجليزية، ولما ابتدأت
السفن بضرب النيران على مدينة الإسكندرية لم نقابلها إلا بعد عشرين طلقة، ولم يكن عندنا
قبل
وقت الضرب أدنى استعداد، لاستمرار الأوامر بعدم الاستعداد، ثم بعد ذلك أعلن حضرة رئيس
مجلس
النظار وناظر خارجية حكومتكم إلى جميع جهات الإدارة بصيرورة البلاد حربًا مع الإنجليز،
وأنها صارت تحت الأحكام العسكرية كما هو حكم القانون زمن الحرب … فلهذه الأسباب يا مولاي
تكون حكومتكم الخديوية المصرية محاربة لدولة الإنجليز بوجه الحق والشرع، ولم يحصل من
الحكومة ولا من عساكرها أدنى تحقير ولا ازدراء بالدوننمة كما هو معلوم لدى عظمتكم، وإنما
كانت الحرب عدوانًا من الإنجليز على الحكومة التي لم يبد منها أي شيء يستوجب الحرب، فإن
كان
الأميرال في مخابرته مع سموكم أظهر أنه عدل عن الحرب إلى السلام فذلك بعد وقوع الحرب
يعد
طلبًا للصلح وسعيًا في تجديد العلاقات، ولا يجوز أن يكون إنكارًا للحرب بالمرة وتبرأ
من
العدوان بعد وقوعهما، ولا شك في أني أطابق أفكار سموكم في الميل إلى الصلح مع حفظ شرف
البلاد والحكومة، وإن كان الأميرال يريد تسليم المدينة لجيش حكومتكم المنظم بعد أن تخربت
بمدافع السفن الإنجليزية هدمًا وحرقًا فها هو جيشها المنظم الذي لم يقع منه أدنى أمر
يخل
بنظامه، مستعد؛ لأن يستلمها بعد سحب السفن عن مياه الإسكندرية، وللمحافظة على شرف حكومتكم
الوطنية ينبغي الاستمرار على الاستعداد العسكري كما وافق رأي سموكم أولًا حتى تنسحب السفن
من السواحل المصرية خوفًا مما عسى أن يحدث من قبيل ما سبق؛ فقد صارت الحادثة الماضية
برهانًا جليًّا على أن الوعد بالسلام من الإنجليز لا يمكن الثقة به، وإنما هو لأجل شغلنا
عن
الاستعداد واقتراح مطالب مضرة بمصالح البلاد، وإنني كنت أتمنى أن تمثل بين يدي عظمتكم
لإبداء هذه الملاحظات، لكن من الأسف أنه تحقق عندي من الاكتشافات الحقيقية أن مدينة
الإسكندرية مشغولة الآن بعساكر الإنجليز، فمن المعلوم عند مولاي أنه لا يمكنني الحضور
بتلك
المدينة لهذا السبب، فإذا حسن لدى مولاي، فليصدر أمره السامي بحضور حضرات النظار أو سعادة
رئيس مجلس النظار إلى مركز الجيش للمداولة في هذا الأمر، لنكون على بينة من الحقيقة حتى
يمكننا بعد ذلك صرف العساكر وترك التجهيزات الحربية والحضور إلى المدينة، والأمر لمن
له الأمر».
١٥
•••
ووقف عرابي في خطوط دفاعه، لا لينتظر شيئًا من الخديو بعد ذلك، ولكن لينتظر كلمة الأمة
المصرية تحكم بها بينه وبين الخديو وأعوانه من الإنجليز والخوارج من المصريين، وعما قليل
ستأتيه الأنباء من أعماق مصر بأن الأمة التي مجدته بالأمس زعيمًا قوميًّا مناضلًا في
سبيل
حريتها ودستورها، ستنطوي اليوم تحت لوائه قائدًا مجاهدًا مدافعًا عن الحرية التي استخلصها
لها، وعن الدستور الذي حرس مهده، وعن شرفها الذي يمتحنه ببغية الاحتلال …
وحسبه مجدًا وفخرًا وجزاءً بما جاهد وصابر أن ترى فيه أمته رمز الخلاص وبطل الجهاد
…