أودت الخيانة بعرابي
«الولس كسر عرابي» … هذه هي الكلمة الجديدة التي حلَّت في أفواه المصريين وا أسفاه محل الكلمة السالفة «الله ينصرك يا عرابي» ولا يزال الناس في القرى حتى يومنا هذا كلما استفظع أحد الغش أو الخيانة وأراد أن يعبر عن سوء عاقبتهما قال في جد وألم: «الولس كسر عرابي» …
وها نحن أولاء نرى بعد معركتي القصاصين الثانية والتل الكبير مبلغ ما في هذه العبارة من صدق.
ولسنا نريد بذلك أن الخيانة وحدها هي التي أدت إلى الهزيمة؛ فقد كان للهزيمة عاملان آخران على قدر كبير من الأهمية ألا وهما إهمال الميدان الشرقي، وانضمام الخديو إلى الإنجليز من أول الأمر، وإنما نريد أن نقول: إن العامل الجوهري في الهزيمة كان الخيانة، بمعنى أنه لو لم يُنكب بها الجيش لكان من المرجح نجاحه في رد الغزو عن البلاد، وبعبارة أخرى لو فرضنا أن المصريين كانوا حصنوا حدودهم الشرقية كما حصنوا خطوط كفر الدوار، وردموا القناة، ثم وقعت الخيانة على الصورة الشنيعة التي ذكرناها لانحلت العزائم ووقعت الهزيمة ولو بعد حين …؛ إذ إنه ليس من الضروري أن تفعل الخيانة فعلها أثناء القتال فحسب، فمن الميسور إحداث فتنة داخلية أثناء الحصار تؤدي إلى انهيار الدفاع كله، وكنا نرى الهرب والخوف وقطع المدد عن الجيش في الخطوط وما إلى ذلك من عوامل الفشل، وما كان سلطان ومن معه يغفلون عن هذه الناحية التي بدأوا بعض خطواتهم الأثيمة نحوها فعلًا، والتي أغناهم عنها ما حدث في صفوف الجيش …
ولقد رأينا مبلغ اهتمام الإنجليز والخديو بهذا السلاح فجاءت الخيانة على عدة صور فقبائل البدو في الصحراء قد أفسدها بالمر، وجل، وسلطان، وبعض ضباط الجيش أصبحوا في جانب العدو إلى درجة لم يعرف لها نظير في تاريخ الحروب، والسلطان نفسه يعلن عصيان عرابي في الساعة الفاصلة، وليت شعري ماذا كان يصنع بونابرت نفسه لو أنه أحيط بما أحيط به عرابي؟!
وثمة صورة أخرى من صور الخيانة أحاطت بعرابي، ألا وهي حقد بعض رجاله عليه؛ إذ رأوه — وقد كان دونهم — يغدو رجل الأمة ومناط رجائها، ولعل ذلك هو ما أحفظ سلطان عليه وجعله يسعى سعيه ضده …
ولقد شك بلنت في يعقوب سامي نفسه رئيس المجلس العرفي وقال عنه: إنه تأثر كذلك بمسعى الخديو آخر الأمر، ولو أن الخديو نفاه مع من نفوا إلى سيلان: «وأن الأوراق لناطقة بالأدلة القوية على حقده على عرابي، ومن الممكن أنه بعد أن عجز علي فهمي بسبب إصابته، أن يكون بذل أقصى ما في وسعه ليضع عرابي في عزلة؛ كي يعجل انهياره في التل الكبير، فإنه بدلًا من أن تعطى القيادة لعبد العال أعطيت لرجل موال ولكنه غير كفء لها وذلك هو علي باشا الروبي».
ومن السهل على المرء أن يرى الهزيمة ماثلة في جيش هذا حاله، وأن يدرك استحالة النصر على قائد تحيط به مثل هذه المهلكات التي تكفي واحدة منها للقضاء عليه.
نقول: من السهل أن يدرك المرء ذلك حتى ولم لم يعلم ما حدث من خيانة سافرة غادرة أثناء القتال، وحسب المرء أن يذكر من هذا إرسال الخطة إلى العدو في معركة القصاصين الثانية على يد علي يوسف خنفس، وقد زاد الأمير كامل على ذلك فيما تحدث به إلى بلنت في ذلك الذي أثبته في تلك اليوميات المشار إليها «أنه حدث أثناء هذه المعركة أن كانوا نحو ١٨ ألفًا من المصريين على مقربة من نحو ٢٥٠٠ من الإنجليز فيهم دوق كنوت، ولو أن علي يوسف الذي كان يقود القلب تقدم لسحق الإنجليز وأسر الدوق، ولكنه تأخر برجاله وترك العدو يحيط بالجناحين».
ولقد رأينا كيف كانت خطة هذه المعركة محكمة الوضع ورأينا كيف أثنى عليها أحد قواد الإنجليز أنفسهم قائلًا: إنه كان يمكن بها أن يتحقق للمصريين النصر …
ولولا خيانة علي يوسف وتأخر البارودي بسبب خيانة الطحاوي لكان من أقرب الظنون إلى اليقين أن يولد في القصاصين عصر جديد في تاريخ مصر.
قال الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية» عن الجنرال ولسلي: «لم يكن الجنرال ولسلي من القواد الذين اشتهروا بالكفاءة العالية في القيادة ولا ممن امتازوا في معاركَ سابقةٍ بالنبوغ في الفنون الحربية، بل كل ما عرف عنه أنه اشترك من قبل في حرب القرم وفي بعض الحملات الاستعمارية الإنجليزية، وكان لم يزل برتبة قائمقام جنرال حين تولى قيادة الحملة على مصر سنة ١٨٨٢، فلما انتهت بهزيمة العرابيين في التل الكبير واحتلال العاصمة انهالت عليه ألقاب الشرف والتكريم، فنال لقب لورد «فيكونت» ولسلي أوف كايرو، ورتبة جنرال وغير ذلك من علامات التقدير، على أنه تولى فيما بعد سنة ١٨٨٢ قيادة الحملة على قوات المهدي في دنقلة، فانتهت بإخفاقها ومقتل غوردن باشا، وتولى سنة ١٩٠٣ قيادة الجيش الإنجليزي في حرب البوير بالترنسفال فباء بالهزيمة والخسران، وعدته حكومته مسؤولًا عن النكبة التي حلَّت بالجيش الإنجليزي، فعزلته عن قيادته وعينت بدله الجنرال اللورد روبرتس، من هذا يتضح لك أن قيادة الجيش الإنجليزي وذات الجيش الإنجليزي الذي هاجم مصر سنة ١٨٨٢ لم يكونا كافيين للظفر بها واحتلالها، لولا الانقسام الذي أضعف قوة الدفاع عنها».
والواقع أن ما يخرج به المرء من أنباء معركة القصاصين الثانية، هو شعوره بأن المصريين لم يكن بينهم وبين النصر على الإنجليز إلا خطوة فكيف لو لم تقع الخيانة؟
أما في التل الكبير فكان مثل المصريين كمثل قوم ناموا في دارهم ووضعوا على بابهم حارسًا يوقظهم إن قرب منها عدو، ولكن الحارس سار مع العدو جنبًا إلى جنب حتى وقف به على رؤوس النائمين وقال له: اضرب من تشاء في غير خوف …
لقد أحيط بجيش نابليون في وترلو ولم يكن ذلك على حين غفلة كما أحيط بجيش عرابي في التل الكبير، ففر الفرنسيون البواسل، وطلب نابليون الموت ففاته حتى الموت، ففر نابغة الحروب ونادرة العصور مع الفارين عسى أن يملك الدفاع عن باريس … وكذلك الحال في كل جيش يحاط به فإما الفرار أو التسليم أو الموت …
ولعل معركة التل الكبير — التي كانت في الحقيقة مذبحة — هي أروع مثل في تاريخ الحروب للخيانة كيف تودي بجيش من الجيوش، وماذا بعد أن يؤخذ القوم وهم نائمون؟!
هكذا كسبت إنجلترا المعركة بالذهب، وليته كان ذهبًا خالصًا؛ فقد كان رصاصًا يغطيه الذهب كما ذكر الأمير كامل للمستر بلنت، وقد ظهر في القاهرة بعد الحرب فأسرعت الحكومة إلى شرائه من السوق وكان الجنيه يباع بخمسة فرنكات أو عشرة وقد كسر الأمير بعض هذه القطع ورأى ما فيها من رصاص فكأنما تأبى إنجلترا إلا أن تخون حتى في أداة الخيانة!
تبقى بعد ذلك مسألة يوردها خصوم عرابي ساخرين منه بها جاعلين منها سببًا من أكبر أسباب هزيمته وذلك لكي يقللوا من شأن الخيانة أو لكي يصرفوا عنها النظر ويحصروها فيما زعموه من أخطاء عرابي، ألا وهي أنه سهر طول ليلة المعركة في حلقة ذكر مع جيشه وفي قراءة الأدعية مع رجال الطرق الصوفية، فلم ينم العساكر وبذلك لم يستطيعوا الحرب في الصباح.
ولسنا ندري أبلغ الاستخفاف بعقول الناس هذا الحد، فجعل هؤلاء الخراصين ينتظرون أن يجوز كلامهم هذا على الناس، أم أنهم كانوا هم البلهاء فصدقوا ما يذيعونه في الناس …؟!
وبعد، فليتهم صدقوا! وليت العساكر قد قاموا الليل يذكرون الله إذن لما استطاع العدو أن يدهمهم وهم نيام، وكيف يجتمع مثل هذا العدد في حلقة ذكر مع قائد الجيش وقد كان بين خيمته وبين خطوط الدفاع الأولى نحو أربعة آلاف متر؟
وإذا صح أن عرابي قد استدعى عددًا من رجال الطرق الصوفية أو أنهم هم الذين قدموا عليه، فأرسلهم إلى الفرق في مراكزها يستحثونهم ويستنهضونهم ويثيرون حماستهم في الله والوطن وهذا ما نعتقد أنه ما حدث، فما عيب هذا؟ وأي عيب في أن يقرأ عرابي القرآن في خيمته ويدعو الله مع نفر من رجال الدين؟ هل جعل ذلك كل عدته للجهاد فدعا الله أن يمده بالملائكة مسومين ليضربوا له العدو ثم نام؟! ألا خسئ الخراصون الأفاكون.
وأي فرق في جوهر الأمرين بين أن ينشد رجال الدين بين الفرق أناشيدهم الدينية يقصدون استنهاض هممهم وإثارة حماستهم، وبين الأناشيد التي يهتف بها الجند في كافة الجيوش الحديثة؟ وما الغرض من الموسيقى الحربية والخطب والنشرات؟ أليست كلها وسائل تبعث الروح المعنوية في الجند وتهز عواطفهم النبيلة للفداء والنضال؟ وإذا لجأ عرابي إلى الوسائل التي كانت تتفق مع البيئة ومع العصر الذي كان يعيش فيه وهي لا تخرج في جوهرها وفي الغرض منها عن وسائل الجيوش الحديثة فكيف يعد ذلك مما يسخر به منه ولا يعد مما يسجل له الالتفات إلى كل معنى يراد به بث الحمية في قلوب الجند؟
إن مرد المسألة كما قلنا إلى الرغبة في صرف الأنظار عن الخيانة وإلى الرغبة في قلب محاسن عرابي كلها مساوئ بطريقة مدبرة محكمة، جاز أكثر مفترياتها زمنًا على البسطاء.
ومن أحسن ما يذكر في هذا الصدد أن هذه الحملة الإنجليزية بالذات قد أقيمت لها الصلوات عند خروجها من إنجلترا وباركها كبير الأساقفة مع عدد من رجال الدين، وقد أورد ذلك هربرت سبنسر في كتابه «أصول علم الاجتماع» أثناء كلامه على الدين وأثره في حياة المجتمعات، ومن أجمل ما علق به على ذلك قوله: «إن هذه الحملة كانت موجهة إلى قوم يحاربون في سبيل الحرية والاستقلال».
ألا إنها الخيانة الغادرة السافرة هي التي أودت بعرابي، وكانت كفيلة بأن تودي بأي قائد غيره في مكانه، وفي التاريخ شواهد كثيرة على أثر الخيانة في انهيار الجيوش ولعلنا لم ننسَ الأمس القريب حين كان الجنرال ويفل في صحرائنا الغربية يجمع بقلته المتهيبة جموع الطليان جمعًا فيأسرهم بلا قتال؛ لأنهم كانوا فريقين: أحدهما في صف الملك، والثاني في صف الزعيم، كما كان المصريون فريقين: أحدهما في صف الخديو، والثاني في صف عرابي.
والخيانة مسألة تكمن في النفوس، ولن يستطيع أن يعرف الخونة ليردهم عن وجهتهم الآثمة قائد، وما لم يكن له وازع من ضمائرهم فإن خطرهم في الساعة الفاصلة شديد، وعلى ذلك فلن يُلام عرابي على وجود الخيانة في جيشه وقد رأينا كيف تمكن اثنان أو ثلاثة من هؤلاء المنافقين من القضاء على ذلك الجيش وهم يظهرون له الولاء والفداء، وما حيلته أو حيلة غيره في نفوس تشترى بالمال كما يشترى الرقيق؟!