يقظة ونهوض
أخذت إنجلترا وفرنسا تتنافسان في بسط نفوذهما في مصر منذ حملة بونابرت على هذه البلاد، ولكنهما وجدتا في محمد علي رجلًا يمدُّ سلطانه ولا يفقد ذلك السلطان، فاكتفت أولاهما بالعمل على تحطيمه، وفرحت الثانية بمصادقته …
وساقت الأقدار ولاية العهد لإسماعيل قبل موت سعيد، فاستبشر الناس وارتقبوا الخير في عهد هذا الأمير الذي ذاع من صفاته فيهم ما حبَّبه إليهم، وكانوا قد علموا أنه من ذوي النباهة والحزم، وبخاصة في شؤون المال، ولم يطل ترقب الناس فقد آل إليه الأمر عام ١٨٦٣.
وراحت مصر تستقبل طورًا من أطوار تاريخها. نحار أشد الحيرة ماذا نسميه وبأي الصفات ننعته … طورًا كان غريبًا حقًّا، تترك غرابته العقول في دهشة، وتكلف من يريد الإنصاف في درسه عسرًا شديدًا.
ما برحت فرنسا وإنجلترا تراقبان سير الحوادث في وادي النيل، أما فرنسا فكانت لا تني تعمل على أن تزيد نفوذها في مصر، ذلك النفوذ الذي وضعت أساسه حملتها على هذه البلاد، والذي ما فتئ يعظم ويتزايد في عهد محمد علي، وها هو ذا في عهد إسماعيل قد بلغ مبلغًا عظيمًا حينما اتصل البحران واستطاع دي لسبس أن يُجري بينهما القناة التي سوف تغيِّر مجرى تاريخ هذا الوادي … وأما إنجلترا فكانت دائبة على سياستها تحول دون ظهور قوة في مصر، وقد استراحت من محمد علي، وراحت اليوم تقف في وجه حفيده، وتحرص على أن يظل خاضعًا للخليفة، ولما التقى البحران أصبح همُّها متجهًا إلى السيطرة على مصر لتسيطر على القناة.
ونصبت كل من الدولتين شباكها وعولت كل منهما على أن تتدخل في شؤون مصر من طريق المال أولًا ثم من طريق السياسة بعد ذلك.
شهدت مصر في هذا العهد جلائل الأعمال ومظاهر الاستقلال، كما شهدت عوامل البِلى وعناصر الانحلال، شهدت يدَ التعمير تبعث الحياة والنشاط والقوة في العاصمة وعلى صفحة الوادي، وشهدت يد التخريب تهوي بمعولها في غير رحمة أو هوادة فتزلزل البنيان وتقوِّض الأركان، شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين، شهدت دوافع الحرية وشهدت نوازع الاستبداد، شهدت مواقف البطولة والصدق وشهدت مخازي الدسّ والبهتان … شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه ما تشهده الفريسة تجمَّعَتْ عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد …
أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا ولا أن تكون جزءًا من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطِّم الأصفاد وتطرح من عنقها نير الاستعباد …
ولم يمض من عهد هذا الأسير الفذ اثنا عشر عامًا حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقيّ ما لم يكن يتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي … ففي تلك الفترة القصيرة وَصَلَ بين البحرين، وشُقَّتِ الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النيل وغرينه ما يدرأ عنه رمال الصحراء، ومدَّتْ سكك الحديد وأسلاك البرق، ونُظِّم البريد ومُهِّدَت السبل، وأُقيمت الجسور، وأُصلحت الموانئ، وشُيِّدت المنائر، وبُنيت المصانع، وافتُتحت دور العلم للبنين والبنات على نحو يُذكر بالحمد والإعجاب.
وفي تلك الفترة تقلَّص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو ونظمت ولاية العهد، وسمح للوالي بمنح الألقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيرًا من الإصلاح …
وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهرًا بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوربا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصَّة «بالمونة والأحجار» تلك التي كانت هوية الخديو ومسرّة فؤاده …
ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجدِ ما زاد على خمسين مليونًا من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر، ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لتكون ملكًا لأوربا! فمِن أوربا استدانت تلك الملايين، ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لهذا الدَّيْن!
ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلًّا سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتنكَّر لمصر وتتربَّص بها الدوائر، وكان لابد للمسألة المالية أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من تغلغل الإنجليز والفرنسيين في صميم شؤون مصر.
على أن هذا التدخُّل لم يك شرًّا كله كما اعتاد المؤرخون أن يصوِّروه، وحسبنا مما انطوى عليه من عناصر الخير أن قد استيقظت على صخبه وضجيجه مصر، فانبعثت القومية المصرية ومضت مصر تنفض عن كاهلها غبار القرون على صورة أروع وأقوى مما بدا في ثورتها على نابليون ثم على كليبر، ومما ظهر من آمالها وروحها ومشيئتها يوم ذهب أبناؤها وعلى رأسهم عمر مكرم والشرقاوي يُلبسون محمد علي الكرك والقفطان دون أن يَرجِعوا في ذلك إلى السلطان …
وتراكمت الديون على مصر حتى إنها لم تك تقلُّ عن تسعين ألف ألف من الجنيهات في عام ١٨٧٥، فمن ديون سائرة كانت في ذاتها أبلغ ما نال الخديو من معاني الغبن، إلى ديون ثابتة فيها أوضح معاني الشره وأقبحها من جانب الدائنين، إلى قروض داخلية لجأ إليها «المفتش»، ذلك الذي قام على شؤون مصر المالية، فكان في ذاته عبئًا فوق ما أثقلها من عبء، ومن تلك القروض الدالة على الارتباك والخلل دَيْنا المقابلة والرزنامة …
عندئذ تحركت إنجلترا نحو هدفها، وكانت أولى حركاتها في هذا المضمار شراء نصيب مصر من أسهم القناة، اشتراه دزرائيلي رئيس وزرائها يومئذ بثمن بخس، ولم يردَّه عن ذلك عطلة البرلمان في تلك الأثناء، وكيف يفوت ذلك الداهيةَ أمرٌ كهذا الأمر يجعل مقام بلاده في القناة كمقام فرنسا أو أعظم، ويصحح خطأً وقعت فيه إنجلترا ألا وهو استهانتها بالمشروع أول الأمر ظنًّا منها أنه لن يتمَّ، ثم تراخيها في شراء الأسهم بعد ذلك رغبة في إحباطه؟
ولكن مصر بعد بيع أسهمها لا تزال في حاجة إلى المال لتدفع به بعض ما جرّه عليها المال من وبال، وأنَّى لها المال بعد هذا كله؟ وأية دولة تمدّ إليها يدها؟ إذًا فلتفكر مصر في الإصلاح، ولتفكر إنجلترا في اصطياد الفريسة.
طلب الخديو موظفًا إنجليزيًّا يدرس لمصر شؤون مالها، ويصلح ما يراه من أوجه الخلل، فتلكّأت إنجلترا أول الأمر لأنها عن دهاء وجشع تحبّ أن تتدخل ولكنها لا تحب أن تفتح أعين غيرها …
وجاء الموظف ولكنّه كان مزوّدًا من قبل حكومته بأوامر، فعليه أن يدرس وعليه فوق ذلك أن يحقق ويدقّق ثم يرفع إلى حكومته تقريرًا عما رأى! وما لهذا أراده إسماعيل، فما كان يريد والي مصر إلا أن يكون هذا الموظف مُعِينًا له على إصلاح مالية البلاد.
ورفع «كيف» التقرير إلى حكومته! وجاد دور دزرائيلي فأعلن في البرلمان الإنجليزي في غير تردد ولا استحياء أنه يرغب عن نشر التقرير لأن الخديو رجا منه ألا يفعل، ولعمر الحق ما رجا الخديو منه شيئًا ولا أشار إلى ذلك من قريب ولا من بعيد …
ذعر الدائنون، وهبطت قيمة أسهم مصر كما يقول رجال المال، وتلقَّى الخديو الصدمة العنيفة ممن أمَّل على أيديهم الإصلاح، وقال في مرارة وغيظ: «لقد احتفروا لي قبري.» وهي كلمة موجعة جامعة، فبعد هذا التصريح من جانب دزرائيلي سيكون الطوفان …
وما كان في تقرير «كيف» إلا أن مصر «تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض، منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير، وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب، والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعًا وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ»، بل لقد ذكر «كيف» في عبارة صريحة: «أن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد»، ولكنّ للسياسة مطامعها وأغراضها، ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيرًا ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخُلُق والاستقامة.
لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها، فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم، وأقيم في مصر «صندوق الدين العام»، فكان حكومةً صغيرةً من الأجانب داخل حكومتها، ثم وافق الخديو مكرهًا على تعيين مراقبين أجنبيين: أحدهما إنجليزي للدخل، والآخر فرنسي للصرف، وعيَّن لهذين موظفين من الأجانب بأجور ضخمة، وعني الخديو حقًا بإصلاح الحال يومئذ، ولكنَّ يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك.
وقَبِل الخديو فيما قَبِل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سُمِّيت «لجنة التحقيق العامة» جعل على راسها دي لسبس، ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها، برجل من رجال مصر كان يتحفَّز ويتحيّن الفرصة ليثب، وكان هذا الرجل هو محمد شريف باشا …
استدعت اللجنة شريفًا ليمثُل أمامها لتستفهمه فتعاظمه الأمر فأبَى، فأصرَّت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضًا على كرامته وكرامة منصبه فأصرَّ كما أصرت … أيمثُل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولمَ لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذن فليطلق شريف المنصب غير آسف، وقد كان ما أراد فاستقال، وهزت البلاد استقالتُه بما تنطوي عليه يومئذ من المعاني؛ فلقد كانت وثبة منه في حينها كأنما جاءت على قَدَرٍ من الأيام، ففي مصر يتوثَّب مثله رجال وتخفق بالوطنية قلوب وتضيق من تدخُّل الأجانب صدور، وقُدّر لشريف أن يكون في تاريخ وطنه من أولئك الأماثل الذين توحي مواقفهم البطولة وتخلق الأبطال!
كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب، وإلا لما كان له ما كان يومئذ من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معًا أمام لجنة من الأجانب تريد أن تَظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشدَّ الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان هذا الغضب ثورة، وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت للأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل أول رجالها ورأس أبطالها.
ورب قائل يقول: وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الاعتزال رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ نفوذ الأجانب ومبلغ ما مني به المصريون يومئذ من خور وما عرف عنهم إذ ذاك من الحرص على المناصب والألقاب يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية، هذا إلى ما سبق استقالته من تحدٍّ منه للجنة وسلطانها، ولو أن الخديو آزر شريفًا لما ترك منصبه وكان بذلك يدع اللجنة في أحرج المواقف كما أمعن في عصيانه وترفعه … ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة فيما يشبه الرجاء أن تكتفي من شريف بأن يرد على أسئلتها كتابة، ولما رفضت اللجنة ذلك لم يردّ الخديو عليها بعمل أو قول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهرًا من مظاهر الاحتجاج على تدخُّل الأجانب في شئون البلاد، فكان ذلك المظهر أول إنذار بالثورة.
أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة، ولقد جعلت اللجنة هدفها بالضرورة العمل لصالح الدائنين، ولذلك لم تألُ جهدًا في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جرَّه جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غَدْر وبهتان وزور واختلاس.
تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلَّاحون يومئذ من شقاء، ولم تراعِ في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدَّهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيرًا ما يفرُّون من أراضيهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيلٌ جارف لم يكن أقلَّ هولًا عليهم من طالبي الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم الربويون والأمراض معًا، وباتوا يتمنَّون الموت من قبل أن يلقوه!
وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون بها من الجمارك ثم لا يدفعون عنها شيئًا داخل البلاد في ظل تلك الامتيازات المشؤومة التي كانت من أكبر المساوئ في مصر، والتي قلّ أن يجد المؤرخ مثيلًا لما كانت تنطوي عليه من جَوْر، وما كانت تقوم عليه من باطل وبهتان، وكذلك تغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين تزايد عددهم في الحكومة المصرية، والذين كانوا يتقاضَوْن الأجور العالية جزاءً على ما اتَّصفوا به من الكسل وقلة المروءة وجمود العاطفة، بينما كانت مرتبات الوطنيين لا تُدفع لهم إلا في مشقة وعناء، وهي من القلة بحيث كانت تؤدي بالكثيرين إلى الاختلاس والتهاون في العمل …
واقترحت اللجنة في قرار تمهيدي أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة إلى وزراء يُسألون عن أعمالهم، أي أن تكون عليهم تبعة ما يعملون، وأن ينزل عن أملاكه نظير مبلغ معين، وكذلك تنزل أسرته عن أملاكها، كل ذلك دون أن تفكر اللجنة في أن يتنازل الدائنون عن شيء من ديونهم، وهي تعلم كيف تراكمت تلك الديون وكيف تزايدت أرباحها حتى بلغت ما بلغته.
وقبل الخديو تأليف الوزارة المسئولة، فاستدعى نوبار من أوربا وعهد إليه تأليف وزارة يتضامن أعضاؤها في التبعة وتقوم بالحكم في البلاد، ونظر المصريون فإذا وزارة المالية تسند إلى رجل إنجليزي، وإذا وزارة الأشغال تسند إلى رجل فرنسي، وهكذا يسيطر الأجانب على مصر سيطرة تامة!
ومن غريب أمر هذه الوزارة أنها كانت لا تعبأ بشيء إلا بما يرى الأجانب، فلم يكُ لمجلس شورى النواب حقّ إسقاطها، بل لم يك له حق محاسبتها، ولم يك للخديو نفسه في الواقع سلطان عليها، فكانت الوزارة بهذه الصورة سخرية من سخريات الأجانب هي في ذاتها من أبلغ نكاياتهم يومئذ بالبلاد وأهل البلاد …
على أنه سرعان ما دبَّ الخلاف بين الخديو ووزرائه، أو على الأصح بينه وبين نوبار والوزيرين الأجنبيين، فلقد كان في الوزارة رجال غير شريف يدينون بالولاء لحاكم البلاد الأعلى، ومن هؤلاء علي مبارك ورياض … وتزايد هذا الخلاف حتى أصبح إسماعيل ولا هَمَّ له إلا أن يتخلَّص من هذه الوزارة التي لم تدع له من السلطة إلا اسمها.
وسنحت له الفرصة في حادث مظاهرة الضباط الذي أشرنا إليه، فأعلن إسماعيل على أثر الحادث أنه غير مسؤول عن الأمن في البلاد ما دام محرومًا من السلطان، ومن ثم رأى نوبار أن لا قبل له بمواجهة الحال بعد ذلك فرفع إلى الخديو استقالته، وبذلك تخلص الخديو وتخلصت البلاد من تلك الوزارة التي اعتاد الناس أن يسموها الوزارة الأوربية.
وكانت تولد بالبلاد يومئذ حركة وطنية قوية، كان باعثها الأول هذا البلاء الذي كانت تعانيه، ولسوف تلتقي هذه الحركة فيما بعد بالحركة العسكرية التي هي في جوهرها غضبة قومية على أجانب من جنس آخر هم الشراكسة، وتتألف من التيارين تلك الثورة التي كان بطلها أحمد عرابي، والتي تعمَّد كثير من المؤرخين تشويهها، والتي أخطأ فهمَها عددٌ منهم ليس بالقليل من جرَّاء ما هوش وافترى كُتَّابُ الاحتلال …
وكان لهذه الحركة الوليدة مركزان: أولهما المركز الرسمي وهو مجلس شورى النواب، وثانيهما المركز الأهلي وهو بيت السيد البكري نقيب الأشراف، حيث كان يلتقي الأحرار من العلماء والنواب والأعيان وضباط الجيش الناقمين.
وكان قد هبط مصر السيد جمال الدين الأفغاني يبث فيها مبادئه ويحمل إليها قبسه، وكان جمال، ذلك الرجل الذي أطلعه الشرق ليضيفه إلى كواكبه الزُّهر، يرى أن علة العلل في هذا الشرق المغلوب على أمره أن شعوبه سليبة الإرادة، تُحكم على رغمها وتُسَخّر لحساب الحاكمين، ولا مخرج لها إلا أن تعود حرة كما كانت من قبل حرة، ولن يكون هذا إلا أن تقوم الشورى مكان الاستبداد، وأن ينسخ نور العلم ما تراكم في الشرق من ظلمات بعضها فوق بعض.
وكانت التربة في مصر صالحة لبذوره، فنمت نموًّا سريعًا يحمل على الدهشة، فما أسرع أن ظهرت في البلاد حركة حرة كأعظم وأجمل ما تكون الحركات الحرة، وراح تلاميذ جمال الدين يُذيعون في البلاد مبادئه، يقول في ذلك الشيخ محمد عبده أنبغ تلاميذه وأحبهم إليه: «وكان طلبة العلم، طلبة جمال الدين، ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر وانتبهت عقول، وخفَّ حِجَاب الغفلة في أطرافٍ متعددة من البلاد، وبخاصة في القاهرة.»
•••
وظهرت في تلك الأيام الصحافة العربية، وراح الناس يقرأون فيها نفثات الوطنية، وأخذت تهبّ عليهم من بين سطورها نسمات الحرية، فانتعشت أرواحهم، وهفت إلى الانطلاق من الأسر قلوبهم.
وأدّى اتّصال المصريين بالأجانب، وقد كثر مجيئهم إلى مصر، إلى تتبُّع الأنباء العالمية في الحرب والسياسة، فزادت معرفتهم بأحوال العالم، وقارنوا بين حال الشعوب الحرة وبين حالهم، وراحوا يستنبطون أسباب ما بانوا فيه من شقاء وذلة.
وبهذه العوامل مجتمعةً قام في مصر رأي عامٌّ يعد شيئًا جديدًا حقًا في تاريخها الحديث، فقد اشتدَّ الوعي القوميّ، وكان من أكبر بواعثه، ذلك العدوان الذي أسرف فيه الأجانب على مصر في غير حياء أو مبالاة.
أخذت تشتد الروح الوطنية وتتغلغل في النفوس، وكان شريف باشا يرقب حركة الأحرار الذين كانوا يجتمعون في بيت البكري، وكان لا يفتأ ينصح لهم ويشير عليهم بما يعملون، وكان يتمنَّى أن يَتَّخذ منهم قوة يناوئ بها الأجانب ويحدّ من سلطان الخديو، ولن يتم ذلك فيما يرى إلا أن يكون الوزراء مسئولين أمام نواب الأمة كما هو الحال في المجالس الأوربية التي تسير وفق القواعد الدستورية …
وسقطت الوزارة الأوربية، ولكنها أُلِّفَت ثانية برئاسة الأمير توفيق، فلقد رفض قنصلا إنجلترا وفرنسا أن يرأس إسماعيل نفسه الوزارة كما طلب، ولقد أرادت الدولتان على لسان قنصليهما أن يدخل نوبار الوزارة الجديدة فرفض الخديو وصمَّم على الرفض، ورأت الدولتان مبلغ حرص إسماعيل على إبعاد نوبار، فاشترطتا لقبول ذلك أن يُعطى العضوان الأوربيان في الوزارة حق «الفيتو» على قرارات مجلس الوزراء، ورضي إسماعيل بذلك، فصار للعضوين الأوربيين حق إيقاف أي قرار لمجلس الوزراء لا يوافقان عليه، ومعنى ذلك أنهما يحكمان البلاد حكمًا لا يدع للخديو في مصر سلطة أو ظلها …
وآن لمجلس شورى النواب أن يخطو خطوة ما كان أعظمَها من خطوة، نمى إلى المجلس فيما نمى إليه من أنباء الوزارة الأوربية أنها تأتمر بالمجلس وتنوي التخلص منه، فصمَّمَ الأعضاء ألا يتفرقوا وأن يظلوا في أماكنهم للنظر في شئون البلاد في تلك الآونة العصيبة … ألسنا نرى في ذلك صورة مما حدث في فرنسا في مستهل عهد ملكها لويس السادس عشر، حين اشتدت الضائقة المالية ورأى نواب الشعب وجوب العمل على وضع حد لسوء الحال؟ ولسوف تؤدي الظروف إلى أن يصبح ذلك المجلس الذي لم يكن له حول ولا قوة، هيئة تحاسب الوزراء على أعمالهم، وتملك إقصاءهم عن مناصبهم إذا تهاونوا في حقوق البلاد. ولقد كان لشريف باشا الفضل كل الفضل فيما ناله المجلس من حقوق، حتى ليُعَدّ شريف بذلك مؤسس الحركة الدستورية في مصر.
وكان المجلس في وزارة نوبار قد أرسل إلى السير ريفرز وزير المالية بدعوة ليحضر أمامه ليسأله عن بعض الأمور فسوَّفَ وماطل، ثم لم يحضر أو يرسل إلى المجلس شيئًا مما طلب المجلس أن يطلع عليه من المشروعات، وضاق المجلس بما فعل وزير المالية، وفسَّر عمله بأنه إهانة موجهة إلى الأمة المصرية في أشخاص نوابها …
وفي وزارة الأمير توفيق استصدر وزير الداخلية وهو يومئذ رياض باشا أمرًا من الخديو إلى النواب بأن مدة مجلسهم قد انتهت فعليهم أن ينفضُّوا، وذهب رياض يتلو على النواب هذا الأمر، وهنا وقف النواب وقفة جديرة بأن تفخر بها مصر فيما تفخر به من مواقف البطولة، فلقد رفضوا أن يذعنوا، وهددوا رياضًا بما عسى أن يقع من الحوادث في البلاد بسبب سياسة الوزارة، وجعلوا تبعة ذلك عليها، ولكم نرى من أوجه الشبه بين موقف هذا المجلس ومجلس طبقات الأمة في فرنسا، حين وقف فيه نواب الشعب الفرنسي يتحدَّوْن قرار الملك على أثر صيحة ميرابو المدوية التي نقلت تاريخ فرنسا من فصل إلى فصل.
ولكن النواب هنا لم يكونوا في الحقيقة يتحدَّوْن الخديو، فقد كانوا يعلمون أنه يعطف على حركتهم ليتخلَّص بهم من تدخل الأجانب في شئون مصر، ذلك التدخل الذي حرمه كل سلطة، وإنما كان النواب يتحدَّوْن الوزارة الأوربية ويريدون أن يأخذوا السبيل عليها …
وكانت مطالب المجلس يومئذ تنحصر في المسألتين الدستورية والمالية، أما أولاهما فتتلخص في أن تكون الوزارة مسئولة أمام المجلس بحيث يصبح هيئة لها مكانها الفعلي في حكومة البلاد، وأما الثانية فمؤداها أن يبحث المجلس المسألة المالية دون الأجانب، وأن يقرر في أمر الدين والضرائب ما تمليه عليه مصلحة البلاد.
وأصرَّ النواب على ما طلبوا فكانت حركتهم هذه حركة قومية إلى أقصى ما يتسع له معنى هذه الكلمة، وكان يظاهر النواب أحرار البلاد من العلماء والأعيان والتجار، الذين لم تنقطع اجتماعاتهم في بيت البكري، وأخيرًا اتفقت كلمتهم جميعًا على أن يتوجهوا إلى الخديو بما عرف باسم اللائحة الوطنية، وفيها يعترض النواب على اقتراحات ريفرز ولسن التي كانت ترمي إلى إعلان إفلاس مصر، ويقررون أن إيراد مصر يفي بدفع ديونها، ويطلبون إلى الخديو تقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام المجلس، وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام هذه الوزارة الأوربية التي ضاقت بسياستها البلاد.
ولقد وضعت هذه اللائحة لجنة من النواب تحت إشراف شريف، فكانت هذه اللائحة الخطيرة كبرى حسناته إلى هذه البلاد، كما كانت أهم خطواته السياسية وأبعدها أثرًا في مجرى الحوادث، ووقَّع على اللائحة ستون من أعضاء المجلس، ومثلهم من العلماء، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر، كما وقَّع البطريرك والحاخام، وكذلك وقع عليها عدد كبير من الأعيان والتجّار والموظفين والضباط، ودفعت بعد ذلك إلى الخديو فرأى أن قد حان الوقت ليوجه إلى النفوذ الأجنبي ضربة قوية، فالبلاد من ورائه تشدُّ أزره، ولذلك لم يتردد في الموافقة على اللائحة، وسرعان ما هزت البلاد فعلته هزة قوية، هي هزة الفرح بانتصار الحركة الوطنية والأمل في مستقبل تحطّم فيه البلاد أغلالها وتنعم بالراحة والرخاء.
واستقالت وزارة توفيق، فاتجهت الأبصار إلى شريف، واتفقت عليه القلوب والأهواء، وما لبث أن تضاعف سرور البلاد بأن أسندت إليه رئاسة الوزارة الوطنية، وأصبح شريف زعيم الحركة الوطنية ورئيس وزارة الأمة.
وراح الخديو يكيد للأجانب كيدًا شديدًا، وظهر كمن يريد أن يثأر لنفسه؛ فلم يكتف بإجابة الوطنيين إلى ما طلبوا، بل لقد ذهب إلى حد مشاركتهم مظاهر ابتهاجهم بالعهد الجديد حتى لقد حضر بنفسه حفلًا أقامه في داره السيد علي البكري ودعا إليه كبار رجال الحركة الوطنية، فكان موقف الخديو في ذلك موقف الزعيم.
وتلقَّى الأجانب الضربة ولكنهم لم يطيشوا أو يذهلوا عما يجب عليهم أن يعملوا إزاء موقف الخديو. ومن أجل ذلك لقيت وزارة شريف منهم عنتًا بالغًا، فتبددت في ضوضائهم كل دعوة إلى الحكمة، وضَرَبَ الحقد على آذانهم، وجعل الغضب على أبصارهم غشاوة …
ولكن شريفًا ظهر يومئذ بمظهر جدير بالإعجاب حقًّا، فلا هو خشي جانب الأجانب فتخاذل عما بسبيله، ولا هو مال كل الميل فانقلبت سياسته شططًا، وبذلك جمع شريف بين حمية الوطني الثائر وكياسة السياسي الماهر وروية المجرِّب البصير …
احتج الأجانب على إبعاد الوزيرين الأوربيين، واستقال كثير منهم من مناصبهم، وراحت إنجلترا وفرنسا تتهددان الخديو وحكومته وتنددان بهما، وتوجَّه الدائنون إلى المحاكم المختلطة فرفعوا أمامها القضايا.
وأعلنت لجنة التحقيق أن الحكومة مفلسة منذ أكثر من عامين، ولما عرض شريف على هؤلاء الأجانب الصاخبين استعداده لإعادة المراقبة الثنائية وفق ما كانت تقضي به تعهدات الخديو في حالة ما إذا أخرج الوزيران الأجنبيان أو أحدهما، رفضوا ذلك الحلَّ مبالغة منهم في الكيد، ورغبة في زيادة الأمور حرجًا وتعقيدًا؟ …
ولكن شريفًا لم يَلْوِهِ حرج الموقف عن وجهته، وما كانت وجهته إلا أن يجعل مردَّ الأمور إلى الأمة، ولئن كان يمقت تدخل الأجانب فإنه كان كذلك يكره استبداد الخديو بالأمر أشد الكراهية، لذلك جعل محور سياسته أن يكون الوزراء مسئولين أمام مجلس شورى النواب، وتمَّ له ما أراد؛ فجاء في كتاب الخديو إليه بتأليف الوزارة عبارات لا تقبل تأويلًا فيما يذكر الخديو أنه يرجع بالأمور إلى الأمة ويوافق على مسئولية الوزارة أمام مجلسها.
•••
بهذا كان شريف كما ذكرنا أبا الدستور في مصر؛ فإن ذلك المجلس الذي تعهده برعايته منذ نشأته سنة ١٨٦٦ قد تمت له السلطة على يديه سنة ١٨٧٩؛ فصار الحكم في مصر دستوريًّا لا تشوبه شائبة مهما يَقُلِ القائلون في طريقة الانتخاب يومئذ وجهل سواد الناس بأصول الحكم.
أجل، إن العهد الدستوري في مصر يرجع إلى سنة ١٨٧٩، وهذا الدستور إنما نالته مصر بجهاد بنيها، وما كان دستور سنة ١٩٢٣ إلا الدستور الثاني للبلاد أو بعبارة أخرى ما كان إلا توقدًا لتلك الجمرة التي ظلت مطمورة تحت رماد الاحتلال حتى جاء سعد فخلف عرابيًّا في قيادة الحركة القومية فأزاح ذلك الرماد ونفخ في تلك الجمرة فأوقد نارها.
لم تكد البلاد، وا أسفاه تفرغ من مظاهر فرحها حتى جاءت الأنباء بعزل عاهلها؛ إذ ما زالت إنجلترا وفرنسا بالسلطان حتى استطاعتا إقناعه بعزل إسماعيل؛ فخلفه على أريكة مصر ابنه توفيق، وبخروج إسماعيل من مصر فقدت البلاد الرجل الذي كان يمكن الاعتماد عليه في مناهضة نفوذ الأجانب.
ورفع شريف استقالته إلى الخديو الجديد كما تقضي التقاليد الدستورية، فطلب إليه الخديو إعادة تأليفها، وأشار توفيق صراحة في أمره وخطابه أمام مجلس الشورى ميله إلى العطف على الأماني القومية كما تظهر في الحركة الدستورية الوطنية، وسار شريف على نهجه الدستوري يدعم ما بنت يداه ويجهتد في توطيد أسسه.
ولكن توفيقًا ما لبث حين وصل إليه فرمان توليته أن تنكَّر للحركة الوطنية، فما كان في موقفه الأول إلا مُدَّعيًا يكتسب الوقت، فلما اطمأن إلى منصبه بدأ سياسته الجديدة بأن رفض أن يجيب رئيس وزرائه إلى ما طلبه بشأن توسيع مجلس الشورى، ووضع نظام الحكم على أساس دستوري ثابت، ورأى شريف في هذا نية إقصائه عن الحكم فاستقال، وجاءت استقالته هذه المرة كذلك عاملًا قويًّا من عوامل إذكاء الروح الوطنية وإشعال جذوتها.
وما كان أحوج الخديو يومئذ إلى شريف دون غيره من الرجال، أجلْ ما كان أحوجه إلى ذلك الرجل الذي كانت تجتمع فيه الرجال، وتلتقي في سياسته الآمال.
وما أشبه توفيقًا بملك فرنسا لويس السادس عشر، ذلك الملك المسكين الذي قال عنه بعض المؤرخين إنه ورث عن أسلافه الثورة والعرش معًا، فلقد تجمّعت عوامل الثورة الفرنسية قبل عهده، وما زالت تنمو وتتزايد، وما زالت تلك الأقلام الجبّارة أقلام فلتير، وروسو، وأضرابهما تحدوها وتمهِّد الطريق لها حتى جاء عهد ذلك الملك؛ فانفجر البركان وكانت الراجفة التي زلزلت فرنسا زلزالًا شديدًا.
وأرى توفيقًا قد ورث عن سلفه كذلك العرش والثورة؛ فلقد تجمعت عوامل الثورة العرابية في عهد ذلك الخديو المخلوع، ثم راحت تحدوها وتمهِّد لها أقلام جمال الدين وتلاميذه حتى جاء عهد توفيق فرجفت الراجفة.
وما كانت الثورة العرابية حركة عسكرية فحسب كما يحلو لكثير من المؤرخين أن يصوروها عن عمد، أو عن غفلة، وأن الذين يفعلون ذلك منهم ليأتون من ضروب الخطأ ما نعجب كيف يحملون على قبوله أنفسهم وعقولهم، وإنما كانت الثورة العرابية إذا أردنا وصفها في جملة هي التقاء الحركتين الوطنية، والعسكرية، واندماجهما، فلما ذهب عرابي إلى الخديو على رأس جنده في اليوم التاسع من سبتمبر سنة ١٨٨١ ذهب يحمل إليه مطالب الجيش ومطالب الأمة معًا، ومن ذلك الوقت صار سلاح الثورة السيف وقد كان سلاحها القلم، أو بعبارة أخرى حارت قيادتها بين السيف والقلم.
ما لبث المصريون كما أسلفنا أن فُجِعُوا في آمالهم بتدخل الدولتين تدخلًا جريئًا في شئونهم أدى إلى عزل الخديو وتركهم ذاهلين تتنازع أفئدتهم عوامل الحنق والخوف والتشاؤم من المستقبل.
وتولى قيادة السفينة توفيق، فما كادت تسير حتى اكتنفتها الرياح الهوج، وقامت أمامها العقبات من كل جانب، فها هم أولاء المصريون تتأجج نيران الحقد في قلوبهم على الأجانب، ولن يطيقوا بعد اليوم أي جنوح إليهم، وها هي ذي إنجلترا تتحفز وتتربص، ثم ها هي ذي فرنسا تتحين الفرص لتتغلب على منافستها، وهناك تركيا جاءت آخر الأمر تطلب أن تعيد سلطانها في مصر سيرته الأولى فتردها الدولتان المتنافستان على عقبيها.
والربان غير عليم بالسياسة وأنوائها، ولكنه على الرغم من ذلك يستغني عن أعلم رجاله بها، فتخلَّص من شريف وهو أحوج ما يكون إليه، وتنكَّر للحركة الوطنية وكان حقيقًا أن يعطف عليها عسى أن يحبه الوطنيون وعسى أن يحملهم هذا الحب على تناسي ما لحق بمنصب الخديوية من هوان صغر به في أعينهم، ولكن توفيقًا غفل عن هذا أو تغافل عنه لما رآه من إقصاء أبيه عن منصبه على ما كان له فيه من جاه وقوة.
وحل رياض محل شريف؛ فآلم ذلك دعاة الحركة الوطنية، وأزعجهم أن يروا رياضًا يجاري الخديو في استكثاره الدستور على المصريين، فيقنع بما لا يقنع به وطني مكتفيًا بمبدأ مسئولية الوزارة عن أعمالها، مستغنيًا عن مجلس شورى النواب الذي يحرص عليه الوطنيون كل الحرص.
وجاء قانون التصفية في عهد رياض؛ فازداد به الوطنيون آلامًا على آلامهم، ورأوا ما فيه من غبن شديد يتجلَّى في إلغاء دين المقايلة، وقد أخذ من جيوبهم، كما رأوا فيه ما هو أكثر من الغبن؛ ألا وهو عدم تنازل الأجانب عن شيء من الدَّيْن وهم يعلمون كيف كانت تقترض الأموال ومبلغ ما كان يصل مصر منها، وهم يعلمون كذلك ما كان من مجازفة الأجانب بأموالهم مما يلقي عليهم كثيرًا من التبعة، هذا إلى أنهم رأوا مرتبات الموظفين الأجانب في الحكومة المصرية تبقى على حالها من الارتفاع، فلم يَدُرْ بخلد من وضعوا تلك التصفية أن يراعوا ذلك في قرارهم فينزلوا بها إلى الحد اللائق …
تلك هي الحركة الوطنية، أو تلك هي نذر الراجفة، وما كانت الحركة العسكرية التي بدأت في عهد إسماعيل واستفحل أمرها في عهد توفيق إلا بعض هذه الحركة الوطنية العامة، حتى قدر أن يكون لها القيادة آخر الأمر، وأن تُسمَّى بالثورة العرابية نسبة إلى الجندي الوطني الثائر أحمد عرابي.