توفيق يدخل العاصمة
انتظر توفيق بضعة أيام ريثما تسلم بقية المعاقل كي يدخل القاهرة دخول الظافر، ولسوف يدخلها في حماية الإنجليز كما دخل البربوني لويس الثامن عشر باريس في حماية الحلفاء بعد هزيمة نابليون مما جعل الفرنسيين يقولون: إن جلالته جاء في الحقائب في عربة البضاعة.
توقفت حاميات «أبو قير» و«مريوط» و«رشيد» بعض الوقت عن التسليم، ولعل ذلك لأنهم لم يصدقوا نبأ الهزيمة، وتوقف عبد العال باشا عن تسليم دمياط مدة أسبوع، ثم لم يجد بدًّا من التسليم فسلَّم وقُبض عليه وأُرسل إلى القاهرة، أما معاقل كفر الدوار؛ فقد تركها الضباط والجند منذ أن رحل طلبة باشا إلى العاصمة واستولى الإنجليز عليها ونسفوا ما فيها من الحصون …
وفي ٢٥ سبتمبر أي بعد ١٢ يومًا من معركة التل الكبير سافر الخديو بقطاره الخاص من الإسكندرية إلى القاهرة وفي معيته كبير وزرائه شريف باشا والوزراء إلا رياض الذي كان في القاهرة يعد العدة لاستقباله …
زُينت العاصمة بالأعلام على جانبي الشوارع وفي الشرفات والمنافذ، ولكن الناس كانت ترتد أبصارهم خاسئة؛ إذ يرون بين الرايات المصرية هنا وهناك راية جديدة، هي راية الجيش المحتل …
ولم ير المصريون — وا أسفاه — على جانبي الشوارع أولئك الجنود المصريين والسودانيين الذي ألفوا رؤيتهم في مثل هذه المناسبة؛ فقد ألغى الخديو الجيش المصري بجرة قلم، وإنما رأوا نمطًا عجيبًا من الجند حمر الوجوه طوال الأجسام يضعون فوق رؤوسهم القبعات ويبعث منظرهم الرهبة في قلوب المصريين، ويشعر المصريون حيالهم بالاشمئزاز والكره الشديدين، ولكنه شعور خفي مكبوت لا يجرؤ أن يظهره أحد.
وقد بلغ عدد هؤلاء الجنود الحمر المقبعين نحو ٥٠٠٠ اصطفوا من المحطة إلى سراي الإسماعيلية، ليمر من بين صفيهم الطويلين خديو مصر القادم إلى مقر حكمه.
وبلغ القطار القاهرة في منتصف الساعة العاشرة صباحًا، ونزل توفيق فتقدم لتحيته الأمراء ثم ولسلي قائد جيش الاحتلال ودوق كنوت نجل الملكة فكتوريا، وإدوارد مالت المعتمد البريطاني، ثم محمد سلطان باشا ورياض باشا وكبار المصريين من العلماء ورجال الدولة والأعيان …
وتقدم الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري بين يدي الخديو ودعا له بالتأييد والنصر وكان يردد الحاضرون دعاءه …
وكانت المحطة مفروشة بالبسط مزينة بالرايات والرياحين، وقد حشد فيها رياض ما أمكنه حشده من أعيان البلاد وهتف رياض باشا عند مرور الخديو من بينهم: «يعيش الجناب العالي مؤيَّدًا بالنصر والإجلال» وردد الحاضرون هتافه، ويعلم الله كم كان فيهم من انبعث هتافه من قلبه، وكم كان فيهم من أيقن مع ما كان يرى حوله أن هذا نصر وأن هذا إجلال …
وكانت مدافع المحطة ترسل طلقاتها مدوية؛ تكريمًا للخديو الظافر، وكانت تجاوبها مدافع القلعة، كما كانت الموسيقى تصدح بالسلام الخديو …
وجلس عن يسار الخديو في مركبته دون كنوت وجلس أمامه ولسلي ومالت وأحاطت بهذه المركبة كوكبة من الفرسان الإنجليز، ومن خلفهم مركبات الأمراء والوزراء ورجال الدولة …
ونظر أهل القاهرة ساخطين إلى فاتحة عهد الاحتلال، ولسوف يبقى هذا السخط كامنًا في نفوسهم الجريحة حتى يأذن الله ببعث من يثور على الاحتلال …
وظن توفيق أنه استعاد سلطانه ولكنه لن يلبث حتى يجد نفسه مجردًا من كل سلطان، وحسب أن له السيادة اليوم ولكنه لن يلبث حتى يرى أن هذه السيادة تتمثل في مظاهر كاذبة … في حرس يحيط به، وفي موسيقى تصدح أمام قصوره، وفي ألقاب التمجيد تضاف إلى اسمه، أما فيما عدا ذلك فالسيادة للإنجليز، ولقد بدأ كبار المصريين يولون وجوههم قِبَل من أصبح لهم السلطان الحقيقي في البلاد …
ففي ٢٨ سبتمبر ذهب سلطان إلى رياض ومعه وفد من عمد البلاد وأعيانها، فأبلغ الوزير أن هؤلاء الأعيان يريدون تقديم هدايا من السلاح الفاخر إلى سيمور، وولسلي ولو شكرًا لهم «على إنقاذ البلاد من غوائل الفتنة العاصية» …
وأعدت الهدايا بعد سفر هؤلاء الثلاثة وأُرسلت إليهم في إنجلترا، إلى سيمور مخرب الإسكندرية، وولسلي بطل مذبحة التل الكبير، ولو، أول من دخل القاهرة من الإنجليز وآسر عرابي …
وأرسل هؤلاء كتب الشكر لسلطان باشا ومن انضم إليه من الإمعات وطلائع أعوان الاحتلال، قال عرابي في مذكراته: «وفي ٢٨ سبتمبر سنة ١٨٨٢ وفد على نظارة الداخلية محمد سلطان باشا وأحمد بك السيوفي وغيرهما من المخدوعين، وأبلغوا رياض باشا بأنهم يعتزمون أن يقدموا نوعًا من الأسلحة الفاخرة المحلاة بالجواهر الثمينة هدية منهم للأدميرال سيمور قائد الدوننمة الإنجليزية وللجنرال ولسلي قائد الجيش الإنجليزي، وللجنرال لو، الذي كان أول قادم إلى القاهرة بعد سقوط التل الكبير، فاستحسن رياض باشا منهم تلك الأريحية ورخص لهم في تقديم الأسلحة الفاخرة المذكورة للقواد المومأ إليهم، وكانوا قد عزموا قبل ذلك على أن يؤلفوا لجانًا من كل جهة ينشؤون فيها اكتتابًا لجمع نقود كافية لإنفاذ هذا الغرض ولكنهم فشلوا في ذلك واكتفوا بشراء الهدية من مالهم الخاص فأعطوا الجنرال ولسلي سيفًا مجوهرًا، وكذلك الجنرال لو، سيفًا، وأما الأميرال سيمور فأهدوه طبنجة مجوهرة بالماس مكافأة لهم على احتقارهم للأمة المصرية وإذلالها» …
وفي ٣٠ سبتمبر سنة ١٨٨٢، اصطف الجيش الإنجليزي في ميدان عابدين، في المكان نفسه حيث وقف عرابي قبل ذلك بعام، وقفته المشهورة ومعه الجيش المصري في ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ يُسمع الخديو مطالب الأمة ويعلن إليه مشيئتها …
ولا تقع عينا توفيق الآن على جنود يتحدونه بل تقع على جنود يحيونه ويحييهم رافعًا يده بالسلام العسكري وكم أثلج فؤاده أن يرى هذه القوة التي ظن أنها تسند عرشه، ولو أنه فكر قليلًا لفطن إلى أنها كانت تمتهن ذلك العرش!
وكان الخديو في المقصورة التي أعدت له يرتدي ملابسه الرسمية، وكان يحيط به الوزراء والكبراء بملابسهم وأوسمتهم الرسمية …
وكان الجنرال ولسلي والدوق كنوت على ظهر جواديهما إلى جانب مقصورة الخديو، وسارت فرق الجيش الإنجليزي أمامه حتى انتهى عرضها في ساعة ونصف ثم أبدى الخديو سروره وإعجابه وأثنى على الجيش ورؤسائه.
وقد جاء في عدد الوقائع الصادر في أول أكتوبر سنة ١٨٨٢ أنه قد «انشرحت صدور الحاضرين وأعجب الجناب الخديو المعظم بما رآه من مهارة رؤسائهم وضباطهم وحسن انتظام العساكر وكمال نظامهم وشكر الكل لهم ما قاموا به من إخماد فتنة العصاة وإطفاء ثورتهم».
ومما يدعو إلى أعظم الأسف ما نُشر عن احتلال العاصمة في هذه الجريدة في ٣١ سبتمبر أي في اليوم التالي للعرض وقد جاء فيه: «حضرت العساكر الإنجليزية إلى العباسية في غروب يوم الخميس غرة ذي القعدة فسلمت العساكر التي كانت مجتمعة فيها أسلحتها وتوجهوا إلى بلادهم من غير أن يمس أحد منهم بسوء، ثم دخلوا مصر ليلة الجمعة واحتلوا الأماكن العسكرية كالقلعة وقصر النيل وقشلاق عابدين فسلمت العساكر التي فيها أيضًا أسلحتها وتوجهوا إلى بلادهم آمنين، وبعد هذا قبض على الشقي أحمد عرابي، ومشت العساكر الإنجليزية في شوارع المحروسة بالهدوء والسكينة ولم يظهر واحد منهم أدنى شيء ينفر منه طبع أحد المصريين خلافًا لما كان يزعمه ويشيعه أحمد عرابي العاصي وأتباعه الأشقياء، ولهذا لم نر شيئًا تعطل من المصالح ولا من الأعمال لا في المحروسة ولا في ضواحيها».
وفي ليلة ٣ أكتوبر أقام الخديو مأدبة كبرى وحفلة سمر باهرة ساهرة في سراي الجزيرة؛ تكريمًا للقواد والضباط الإنجليز، وكان في مقدمة من شهدها سيمور وولسلي ودوق كنوت ومالت ولو، وفي هذه الحفلة الكبرى أنعم الخديو على ٦٠ من هؤلاء الإنجليز بالأوسمة المختلفة.
يقول عرابي في مذكراته: «وكانت تلك النياشين التي حضرت من الآستانة بطلب درويش باشا المندوب السلطاني لأجل إعطائها للضباط المصريين».