مهزلة المحاكمة
عُقدت لجنة التحقيق، أو القومسيون المخصوص كما كانت تسمى، أولى جلساتها في ١٠ أكتوبر برئاسة إسماعيل أيوب باشا، وبدأت أعمالها باستجواب أحمد عرابي باشا، وقد استغرق استجوابه ثماني جلسات، وامتد بضعة أيام، وكان مما تريد اللجنة أن تلصقه بعرابي من التهم تدبيره مذبحة الإسكندرية ثم إحراقها بعد إطلاق مدافع الإنجليز على الطوابي، وعدم مراعاة القانون الحربي الخاص برفع الراية البيضاء، وعصيان الخديو …
واستجوبته اللجنة أيامًا فلم تستطع أن تقحمه في مسألة واحدة، وإن من يطلع على محاضر استجوابه، ليزداد إعجابًا به وإدراكًا لحقيقة شخصيته، فلم يتنصل عرابي من حادث، وترفع أن يكذب أو يداجي، أو قُل إنه بطبعه لم يستطع أن يكذب، هذا إلى حضور ذهنه وقوة بديهته ومتانة حجته وشجاعة قلبه، ولولا أن هذه المحاضر تقع في قرابة مائتي صفحة ما تركنا منها كلمة واحدة إلا أوردناها، وقصارانا أن نلم بأهم ما جاء فيها …
ناقشته اللجنة في الجلسة الأولى في مظلمته إلى رياض باشا بشأن عثمان رفقي، فأجاب بما لم يخرج عن كلامه وقت تقديم هذه المظلمة، وكذلك كان الحال في إجابته عن حادث قصر النيل وقال: إن الخديو أصدر عفوه عما وقع فكأنه لم يكن …
وسُئل عن ذهابه بالجند إلى قصر الخديو «ولماذا تجاسر على هذا الفعل المضاد للنظام العسكري» يوم عابدين؟ فأجاب بقوله: «إن الأسباب التي دعتْ لذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات شأن البلاد التي لم يكن فيها قوانين، أو فيها قوانين ولم يراع فيها الإجراء على مقتضاها، فلذلك اعتمد أعيان البلاد على أبنائهم رؤساء العسكرية وتاقت أنفسهم إلى تشكيل مجلس نيابي بالبلاد يحفظ لهم حقوقهم ويدفع عنهم ما ألم بهم من المظالم … فأجمعوا أمرهم على ذلك وتحرر منهم بذلك عرضحالات وختم عليها نحو ألف من عمد وأعيان وتجار وغيرهم، ولخوفهم من البطش بهم أنابوني مع إخواني الضباط في عرض طلباتهم؛ لأننا إخوانهم وأبناؤهم وهم أهلونا يضرنا ما يضرهم وينفعنا ما ينفعهم».
ووجهتْ إليه اللجنة سؤالًا في غاية السخف هذا نصه: «لو فرض أن الحضرة الخديوية لم تسلم بهذه الطلبات فماذا كان يحصل؟» وما أعجب وأغرب أن يسأل المرء عن شيء لم يحدث! وأن هذا في سخفه ليذكرنا بقصة الخجول الذي سأل عروسه أيحب أخوها التفاح؟ فلما ذكرته أن ليس لها من أخ عاد فسألها: «أقصد إذا كان لك أخ أكان يحب التفاح؟!»
ورد عرابي على سؤال اللجنة بقوله: «لا لزوم للفرض والتقدير لأننا واثقون بكرم الخديو ووفائه بوعده» …
واتهمته اللجنة بأنه نادى مع المنادين بخلع الخديو في اليوم التالي لسقوط وزارة البارودي، فانظر إلى إجابة هذا الرجل الذي رماه خصومه بالجبن قال: «مما توضح يعلم أنه لشدة تأثير اللائحة المذكورة التي قبلها الجناب الخديو، ما كان يمكن قبولها ولو أدى ذلك إلى خلع الخديو وكنت أنا وكل الناس على هذا الرأي» …
وسئل لماذا لم يغادر مصر مع علمه بقبول الخديو اللائحة، فأجاب في شجاعة بقوله: «إن أفكار الناس وقتها وحالة البلاد وشرف الأمة منعتني من ذلك، وأما ما ذكر من لزوم موافقة النظار للحضرة الخديوية لما لها من الامتيازات الخاصة فذلك لا يكون أمرًا لازمًا في الحكومات الشورية، خصوصًا وأن جنابه الكريم أوجب على نفسه جعل الحكومة شورية وأن يشترك مع نظَّاره ونوَّاب البلاد في الرأي، ولحرص النظار على تلك الامتيازات وما رأوا في قبول تلك اللائحة من التدخل في الأمور الإدارية ومسِّ الامتيازات المصرية لم يصر قبولها كما تقدم الإيضاح بالأجوبة السابقة».
وسُئل عن رفضه ما شار به عليه درويش باشا من الذهاب إلى الآستانة فقال: «قلت له: إني أود ذلك، بل هو أعظم شيء أتمناه، ولكن لتعلق الناس بي وازدحامهم علي في كل وقت بحيث إنهم لا يمكنونني من تناول غذائي الذي هو من ألزم ضرورياتي المعيشية إلا بمشقة، أخشى أن يحولوا بيني وبين ذلك إذا علم لهم أني أريد السفر إلى خارج القطر لما يتوقعونه مما يحيق بهم من الضرر في المستقبل ويترتب على ذلك حدوث فتنة داخلية».
وانتقلت اللجنة إلى مأساة الإسكندرية فاتهمت عرابي بأنه أرسل تعليمات إلى وكيل الجهادية بإبعاد الشبهة عن الأهالي والعساكر وهذا ما يفهم منه أن الحادثة «إما أن تكون بأمركم أو بتعليماتكم» …
ونَفَى عرابي أن يكون حادث كهذا من تعليماته وهو الذي يحافظ على الأمن؛ حرصًا على سمعة مصر، وكان اتهام اللجنة ضعيفًا جدًّا في هذا الحادث فلم تجد لديها إلا كتابًا من عرابي كان قد أرسله إلى وكيل الجهادية المنتدب في لجنة تحقيق ذلك الحادث فتلته عليه وسألته هل لي علم به وكيف يقول مع ذلك: إنه لم يرسل تعليمات؟
والذي يدعو إلى الدهشة حقًّا أن هذا الكتاب مما يصح أن يقدمه عرابي دليلًا على براءته وهذا مما يدل على تخبط اللجنة، وأنها كانت تريد مجرد الاتهام لعلمها أن الحكم في نهاية الأمر معروف، فلم يكن الغرض الوصول إلى الحق وإنما هو تحقيق صوري فحسب …
وقد جاء في هذا الخطاب قول عرابي: «ولا تقبلوا كل ما يقال في جانب الوطنيين والحكومة من غير تدقيق وبحث طويل وتحقيق تعرفون صدقه وعدم تصنعه، ولا تميلوا بجانبكم لأحد من أعضاء اللجنة؛ خشية أن يخدعكم ويستميلكم لأمر ظاهره الإصلاح وباطنه الفساد … وأما ما يلزم للمراقبة العامة فيلزم أن تلاحظوا البلد وأخبارها وتتأكدوا مما تسمعونه وترونه وتبادروا بإبلاغنا أولًا بأول عن جميع الأعمال».
وأجاب عرابي بقوله: «نعم صدر مني هذا الخطاب الذي هو عبارة عن الأخذ بالحزم في إظهار الحقيقة والعمل بالحق وليس فيه ما ينكر عليه» …
وسُئل عن سبب اصراره على عدم إبطال التجهيزات بالطوابي وعدم امتثاله لأمر الخديو فقال: «إنه على حسب العادة السنوية كان جاري ترميم بعض طوابي الإسكندرية، ولما ورد تلغراف من الحضرة السلطانية إلى الحضرة الخديوية بناء على تبليغات سفير إنجلترا بالآستانة بإبطال إنشاء تجديد استحكامات الإسكندرية؛ إذ يعد ذلك تهديدًا للمراكب الحربية الإنجليزية، وصدر أمر الخديو بذلك ففي الحال صار إبطال الترميمات وتعيين من لزم من رجال المعية لمشاهدة إبطال العمل».
ومن أهم ما سُئل عنه في الجلسة سبب رفضه أمر الخديو وعدم مجيئه إلى الإسكندرية، وتُلي عليه كتاب الخديو الذي استدعاه فيه، فأجاب عرابي في صراحة وشمم قائلًا: «إن الحرب التي حصلت لم يسبق لها مثيل؛ إذ هي خارجة عن حد القياس؛ حيث إن الحرب المذكورة ما صار إجراؤها إلا بمقتضى قرار من مجلس مؤلف من النظار والذوات الاختيارية تحت رئاسة الحضرة الخديوية بحضور أعضاء الوفد العثماني، فكان إجراؤها على مقتضى الحق والقانون، ثم بعد خروج العساكر من الإسكندرية توجه الجناب الخديو من سراي الرمل إلى داخل الإسكندرية التي تركها أهلها والعساكر، فلما بلغنا ذلك تحقق لنا أن انتقال جنابه العالي إلى الإسكندرية مع حدوث المناوشات الحربية بين مقدمات العساكر المصرية والعساكر الإنجليزية إما أن يكون لأخذه أسيرًا وإما لانحيازه إلى الطرف المحارب لبلاده، فمن أجل ذلك كتبنا لوكيل الجهادية يعقوب باشا سامي بما حدث للمشاورة مع رجال الحكومة في هذا الأمر الذي لم يسبق له مثيل.
وبناء على ذلك صار عقد اجتماع عام من وكلاء الدواوين والمديرين والأمراء والعلماء وشيخ الإسلام، والقاضي السيد السادات والسيد البكري وأعيان التجار والعمد وغير ذلك، تشاوروا فيما بينهم في هذا الأمر الذي دهم البلاد، واستقر رأيهم جميعًا على إعطاء قرار بعدم استماع أوامر الحضرة الخديوية وتوقيفها عن الأعمال؛ حيث إنه توجه للطرف المحارب للبلاد وعرضوا ذلك تلغرافيًّا للحضرة السلطانية ببيان أسماء الشاهدين من أعضاء ذلك المجمع العام».
وفي الجلسة الرابعة سُئل عن صلته بنديم وهل يعلم أنه سافر الإسكندرية قبيل المذبحة فأثار فيها الفتنة وعما كان يكتبه بجريدته «الطائف». وأجاب عرابي بأنه لم يعلم بإثارة الفتنة ولم يكن له أن يمنع نديم عن كتابة ما يشاء في جريدته …
وسُئل عن سبب اختفاء حسن موسى العقاد فأجاب بقوله: «يؤخذ من هذا السؤال أني أسال عن كل من غاب من الناس ولو يوجد، مع أني لست بمأمور عليهم ولا مسؤول عنهم!»
وسُئل عن صلته بحليم باشا وهل وصلت إليه من الآستانة صورته؟ فأجاب «بأنه وصلته صورة منه وأن كثيرًا من الناس وطنيين وأجانب كانوا يرسلون إليه صورهم …
ووجهت إليه اللجنة هذا السؤال: «لما كنت بكفر الدوار هل صدر منك تلغراف إلى كل من راشد باشا قومندان خط الشرق ومحمود فهمي باشا رئيس أركان حرب بردم قناة السويس المالح وسد الترعة الحلوة؟»
وأجاب عرابي بقوله: «التلغرافات التي تداولت بيني وبين المسيو دي لسبس تعلن وتؤكد احترام قناة السويس ما دامت على الحياد ولم تُتخذ فيها أعمال حربية، فلغاية دخول السفن الحربية الإنجليزية في قناة السويس وحدوث الضرب منها في الإسماعيلية على العساكر التي كانت بجهة نفيشة كان قد حدث احترام القنال المذكور، ومن بعد ذلك حيث اتِّخِذ القنال المذكور ميدانًا للحرب — ولنا الحق في كل ما أمكن إجراؤه من الأعمال الحربية — إذ ذاك تحرر لرئيس أركان حرب محمود فهمي باشا بتلك الجهة باتخاذ ما أمكن إجراؤه من التدابير الحربية وسد الترعة الحلوة لما صار إعلان المسيو دي لسبس بأن الحالة الحربية أرغمتنا على ذلك لعدم احترام الإنجليز لحياد القنال».
وسُئل عرابي عن المجلس العرفي من شكَّله فلم يتنصل منه وقال: إن الذي شكله وكلاء النظارات بموافقته.
وأهم ما وجه إليه في الجلسة الخامسة أن ما سماه مساعدات من جانب الأمة لم يكن إلا إجبارًا لها على ذلك بالقوة فأجاب: «قد قلت في أجوبتي المتقدمة في هذا الخصوص: إنه لا يتصور أحد أصلًا حصول تهديدات بمجلس مؤلف من أعيان الأمة المصرية ورؤسائها ونبهائها يزيدون عن ٤٠٠ نفس، كما أن المساعدات والتبرعات التي كانت ترد للجيش المدافع عن البلاد مدافعة شرعية لم تكن بتهديدات أيضًا، بل من الناس من تبرع بنصف ماله ومن الناس من تبرع بماله كله ابتغاء مرضاة الله وغيرة على الوطن، ومنهم موسى بك مزار تبرع من ماله بثلاثة آلاف إردب غلال و٣٠ رأس من الخيل وألف ومائتي ثوب بفتة تبرعًا لمساعدة الجيش؛ إذ إن الحرب الشرعية إما أن تكون بالنفس والمال، أو بالمال فقط أو بالرأي، ومنهم حميد بك أبو ستيت تبرع ﺑ ١٥٠٠ إردب غلال، ومن ضمن من تبرع وافتتح باب المساعدة دوائر العائلة الخديوية وفي مقدمة الجميع دائرة والدة الخديو السابق وأغلب الذوات تبرعوا أيضًا، ولو استكشفت التلغرافات التي كانت ترد من جميع أهالي المديريات حتى من مديرية إسنا بدون واسطة مديرياتهم تعلم أن الأمة المصرية كلها كانت محاربة بمالها ونفسها، ورأيها متفق على ذلك، ولو استكشفت قوائم التبرعات لعلمت أنه لم يتأخر أحد من أولي الرئاسة في المساعدة، ومن ضمنهم دائرة سعادة خيري باشا حالة كونه لم يشهد الحرب بل كان في الإسكندرية مع الخديو عند الإنجليز، ومن ضمنهم دائرة دولتو رياض باشا وغير هؤلاء، فهل كل هذا كان رغمًا عن الناس؟ ومن ذا الذي كان يرغمهم؟!
إن هذا الأمر حق تعرفه أهل البصائر الثاقبة والضمائر الحية، وأما الذين وجدوا مسجونين في القلعة فأظنهم لا يزيدون عن مائة نفس من أرباب الجنايات المحكوم عليهم بالحبس ومحضرين من المديريات وإنه لم يصدر مني أصلًا أمر بسجن أحد في القلعة أو غيرها، وأما طلب إبراهيم باشا أدهم فذلك مبني على ما حدث بطنطا بين مهاجري الإسكندرية وبين الأوربيين، كما أن شاكرًا باشا وغيره لم يكن عزلهم من المديريات التي كانوا بها إلا بأمر المجلس الإداري لا بأمري».
وفي الجلسة السادسة اطلع عرابي على كتاب وقع عليه بأنه رئيس الحزب الوطني وسألته اللجنة سؤالًا يدل على تعسفها ولغوها قالت: «تعلمون أنه بالممالك المنتظمة ووجود الحضرة الخديوية بمقر الحكومة، لا يجوز وجود أحزاب حتى تمضوا تلك المكاتبة بصفة رئيس الحزب الوطني فهل صرح لكم من الحضرة الخديوية بذلك؟ وإذا كان لم يصرح لكم فهل جعل نفسكم رئيسًا لحزب داخل الحكومة لا يعد عصيانًا؟ وإن كنتم تركنون على عدم وجود وظيفة لكم وقت تحرير هذا الخطاب أفما كان يمكن أن توضعوا في الإمضاء ناظر الجهادية سابقًا كالجاري فيمن يرفتون من مأموري الحكومة؟» وأجاب عرابي بقوله: «من المعلوم بداهة أن مصر آهلة بأجناس وعناصر مختلفة وكل عنصر منهم يعتبر نفسه حزبًا كما أن أهل البلاد وهم حزب قائم بذاته يعتبر عند الآخرين منحطًّا عنهم ويطلقون عليه لفظ فلاحين؛ إذلالًا لهم وتحقيرًا وأولئك هم الحزب الوطني وهم أهل البلاد حقيقة، وحيث إنهم أنابوني عنهم في طلب ما يكفل لهم الحرية في حفظ الحقوق وكنت أنا القائم بطلب ذلك ولم تكن لي صفة في الحكومة في ذلك الوقت فوضعت إمضائي بذلك لما لي من حق الرئاسة على الحزب الوطني، وليكون ذلك أدعى لاجتناب ما يخل بأمر الراحة العامة — كما هو واضح بالكتاب المذكور — ولا يعد ذلك عصيانًا؛ لأن كل أمة من الأمم المتمدنة الراقية فيها أحزاب مختلفة قائمون بحفظ حرية بلادهم والدفاع عن حقوقهم».
وفي الجلسة السابعة وجه إليه السؤال الآتي: «قد وجد في الأوراق التي ضُبطت ورقة محرر فيها صورة سؤال استفتاء من العلماء عن جواز عزل الخديو لأسباب تمويهية مخترعة في تلك الصورة فها هي الورقة المذكورة اطلع عليها وأجب».
ونفى عرابي معرفته بهذه الورقة وقرر أنها ليست بخطه وقال: إنه ربما كانت مع أحد الناس وتركها على المنضدة التي كانت عليها الأوراق …
وسألته اللجنة هذا السؤال: «منذ أيام سقوط وزارة محمود سامى كنتم جارين تحرير محاضر بمنزلكم بعزل الخديو، وجارين إحضار الأهالي والعلماء لتختيمهم عليها رغمًا منهم، واستحضارهم لمنزلكم كان بواسطة ضابطين من الآلايات وأشخاص من مستخدمي الضبطية كما هو واضح من التحقيقات التي جرت بهذا القومسيون فأفيدوا عن أسباب ذلك».
وأجاب عرابي: «لما تقدمت اللائحة المقدمة من قنصلي دولتي الإنجليز وفرنسا وقبلها الخديو ولم تقبلها الوزارة، وحضر أعضاء مجلس النواب وأشيع ذلك بين الناس توافدوا أفواجًا وجماعات من المديريات والمحافظات ومصر والإسكندرية لرفض اللائحة المذكورة ورفض من يقبلها محررين بذلك عرائض ومحاضر، فهل كذلك كان كل هذا رغمًا من الناس؟ وكنت أنا مرغمًا لهم؟ الحق أن جميع المسلمين تأثروا لقبول هذه اللائحة وأنكروها، بل إن جميع المصريين أنكروها؛ لما فيها من تدخل الأجانب في أمور بلادهم الداخلية» …
وسألته اللجنة: «إلى أين توافد الناس؟ هل إلى منزلكم أو أي جهة؟ وهل كانت المحاضر التي يحررونها ترد إليكم مختومة أو تختم بمنزلكم؟ وما الذي أجريتموه في ذلك؟»
أجاب بقوله: «كانت تأتي المحاضر مختومة، وكان حضور الناس بها جهرة لا خفية وبحضور الجميع لمنزلي ولمنزل رئيس النظار محمود باشا سامي، وكانوا يأتون بها ويقدمونها إلينا إعلانًا بعدم قبولهم اللائحة المذكورة ومن يقبلها، وكان ذلك بحضور كثير من أعضاء مجلس النواب وكلهم موافقون على ذلك، وكما قلنا أولًا: إن الأمة المصرية لم تختلف في هذه الكارثة، وكانت تلك المحاضر باقية طرف أربابها وبحضور دولتو درويش باشا وتشكيل وزارة راغب باشا وصدور العفو العام صرف النظر عن هذا وذاك».
ولم يكن في الجلسة الثامنة شيء ذو بال، وعلى ذلك انتهت اللجنة من التحقيق، ومنه يتبين أن ما وجه إليه لم يعد حد الاتهام، فلم تستطع اللجنة أن تثبت عليه شيئًا مما حاولت أن تلصقه به من عصيان أو فتنة أو حريق، ولو أن هذا التحقيق أجرته لجنة عاجلة لما وجدت فيه ما يدعو إلى إرسال المتهم إلى المحكمة …
واستدعت اللجنة عددًا كبيرًا من المتهمين ومن الشهود، وليس يعنينا إلا أقوال زعماء الحركة من أصدقاء عرابي وهم: علي فهمي وعبد العال حلمي ومحمود سامي ويعقوب سامي وطلبة عصمت ومحمود فهمي … وقد نفوا جميعًا ما حاولت اللجنة إلصاقه بعرابي من التهم وخاصة فتنة الإسكندرية وحرقها …
أما تهمة العصيان التي وجهتها اللجنة إليهم جميعًا، فكانت تتلخص في أنهم أطاعوا عرابي بعد أن علموا بقرار عزله، وكان إجاباتهم عن ذلك قوية؛ إذ إنهم عللوا ذلك إلى رأي الأمة ممثلة في المجلس العام الذي قرر بقاء عرابي واستمرار القتال وعدم إطاعة أوامر الخديو.
وكانت إجابات كل من علي فهمي وعبد العال حلمي قائمة على تصوير الوقائع صورة شرعية لا أثر فيها لعصيان الخديو، ولكن لم يحاول أحدهما أن يسيء إلى عرابي أو إلى الجند بشيء …
أما البارودي؛ فقد أساء إلى الحزب العسكري بأن نسب إليهم العنف والإرهاب وقال: إن إرهابهم تناوله هو كذلك بالذات، ولكن البارودي لم يذكر عرابي بسوء ولا اتهمه بشيء …
ولما سُئل البارودي عما يعلمه عن حريق الإسكندرية أجاب بقوله: «هذه المسألة شنيعة جدًّا وكل الناس وبالجملة أحمد عرابي استقبحها».
ومما يعاب على البارودي أنه حاول التنصل من مسألة اعترف بها أكثر المتهمين ولم يجدوا فيها ما يدعو إلى التنصل منها وهي مسألة القسم الذي أدوه بقشلاق عابدين، والذي تلا عليهم صيغته الشيخ محمد عبده، ولما واجهته اللجنة بالشيخ محمد عبده قال البارودي: إن الشيخ محمد عبده يكذب، ولما واجهته بيعقوب سامي باشا عاب عليه يعقوب باشا إنكاره وذكره بأنه كان حاضرًا وأقسم مع من أقسموا، فاضطرب البارودي وناقض أقواله السالفة …
واعترف محمود فهمي بأنه أسلم نفسه للإنجليز طائعًا، وهذا يتفق مع رأي عرابي في هذا الحادث، قال محمود باشا: «أما أنا وخادمي فمسكنا ضفة الترعة البحرية قاصدين المحسمة، فسألني خادمي عن قصدي فقلت له: إننا سنتوجه لطرف الإنجليز، وأمرته بقطع غابة وتعليق منديل أبيض فيها، وحدث ذلك وتوجهنا ودخلنا عند الإنجليز في مقدمة جيشهم فقابلني ضابط إنجليزي يعرف الفرنسية ولما رآني أرتدي ملابسَ ملكية قال لي: «أنت شيخ البلد؟ فقلت له: نعم».
وسألته اللجنة: «لماذا كنت ترتدي ملابس ملكية؟»
فأجاب بقوله: «لأني لم أكن أريد الحرب، فلو كنت أريد الحرب كنت ارتديت ملابسي الرسمية وطبنجتي وحاربت» …
ولما سُئل محمود باشا فهمي عما يعرف عن حريق الإسكندرية، شهد أن عرابي اهتم بالأمر ولم يرض عنه، وأرسله في طلب سليمان سامي، فلما حضر سليمان نهره عرابي وقاله له: «إني بريء مما فعلته».
ومما يجدر بنا الإشارة إليه في هذا المقام بعض أقوال الشيخ حسن العدوي — وكان شيخًا يشرف على الثمانين فلم تقل السن ولا السجن من شجاعته شيئًا — ولندع برودلي يقص علينا ما شهده من بسالة هذا الشيخ الجليل الذي يسجل له ولأمثاله ما يشهد له التاريخ المصري …
قال برودلي: «وفي صوت كصوت الرعد سأل إسماعيل أيوب باشا الشيخَ الضعيف الطاعن في السن: ألم يوقع ويختم بخاتمه على قرار يقضي بأن سمو الخديو توفيق باشا يستحق العزل؟ وظهر على حسن العدوي كأنما استعاد حمية شبابه، واتكأ على المنضدة وبسط يده وثبت نظره في وجه إسماعيل أيوب وقال: أيها الباشا لم أرَ الورقة التي تتحدث عنها ولا يمكنني أن أقول شيئًا عما إذا كنت وقعتُ عليها أو ختمتها بخاتمي، ولكني أقول لك ما يأتي: إنك إذا أحضرت إلي ورقة تحتوي على مثل المعنى الذي ذكرته فإني أبادر بالتوقيع عليها وختمها بخاتمي في حضورك الآن، وهل إذا كنتم مسلمين هل تستطيعون أن تنكروا أن توفيقًا باشا — وقد خان بلاده وذهب إلى الإنجليز — لم يعد يصلح للحكم؟»
وسأل رئيسُ اللجنة المتهمَ عن برقية في تلك الصحيفة فيها دفاع عن عرابي إذا كان هو مرسلها؟ فقال رفعت بك: «نعم … وذلك بأمر مجلس الأمة الذي كنت أنت نفسك عضوًا فيه» …
وقال الرئيس: «إني أنفي نفيًا قاطعًا أني كنت حاضرًا أثناء بحث هذه المسألة».
وأجاب رفعت، فكان مما جبه به الرئيس قوله: «لست أتذكر ما إذا كنت سعادتك قد وقعت على سجل الجلسات، ولكني أذكر أنك ذهبت معي يوم الجمعة ١٨ أغسطس في قطار خاص وكان بصحبتنا رؤوف باشا، وعثمان باشا فوزي وحسين باشا الدرمللي، إلى عرابي بكفر الدوار لتعبر له عما ترجوه له من نجاح» …
وقال الرئيس محتدًّا: إني أمنعك عن الكلام لولا أنك تتكلم عني، وعاد رفعت يذكره أنهم جميعًا تناولوا الغداء مع عرابي، وأن طلبة طاف بهم على خطوط الدفاع وأنه — أي الرئيس — تمنى وهو الجندي القديم لو أتيح له الاشتراك في القتال، وفطن الرئيس إلى ما يرمي إليه رفعت في دهاء وكياسة، فقال: إن كل إنسان يعلن أني ذهبت إلى هناك بما في ذلك الخديو، وكان هذا بدافع حب الاستطلاع …
وأحس الرئيس كذلك أنه صار في مثل موقف المتهم فتدارك الأمر وسأل رفعت عما إذا كان ما جاء في البرقية من أفكاره، وأجاب رفعت بقوله: «نعم من أفكاري، كما أنها من أفكار كل امرئ سواي».
وسأله الرئيس: كيف سمح وقد كان مديرًا للمطبوعات أن تنشر جريدة «الطائف» مقالات فيها طعن على الخديو، فكان مما أجاب به رفعت: «إن ما قالته جريدة الطائف وما قالته غيرها من الصحف كان نتيجة لقلق الرأي العام من مسلك الخديو بعد انعقاد المجلس العام مرتين بوزارة الداخلية، وإن جريدة الطائف عبَّرت عما اعتاد أن يقوله حتى الصبية في الشارع»، وسأله الرئيس: هل معنى ذلك أنه يقر ما جاء بتلك الجريدة؟ فأجاب رفعت في شجاعة: «لقد تقرر في المجلس العام الذي انعقد بوزارة الداخلية والذي شهده العلماء والقواد والأعيان أن الخديو خرج على الشرع المقدس، وحيث إني مصري فلم يكن في وسعي أن أخرج على ما أجمع عليه الناس فأعاقب جريدة الطائف مخالفًا بذلك ما في نفسي»، ووجه إليه الرئيس هذا السؤال: «لقد ذكرتَ من قبل أن الخديو أمرك أن تحضر بعض السجلات، وأنك آثرت أن تتبع أوامر عرابي فكيف تفسر ذلك؟»
وكان مما أجاب به رفعت قوله: «حيث إن عرابي كان ناظر الجهادية والبحرية، وكانت السجلات المذكورة تتصل بعمله؛ فقد ذهبت إليه لأبلغه بأمر الخديو، ثم أسلمها لسموه، ولكن عرابي باشا أمرني ألا أسلمها له قائلًا: إني مسؤول شخصيًّا إذا فعلت ذلك. فكتبت في الحال لمحمد بك خليل أبلغه بذلك ولم أتلقَّ إلا جوابًا شفويًّا».
وبعد يومين استؤنف استجواب رفعت بك، ويذكر برودلي أنه دخل قاعة الجلسة هذه المرة وليس يبدو عليه شيء من الاضطراب …
وسأله الرئيس عما إذا كان ما جاء بهذه الأوراق يتفق مع آرائه، أم أنه أرغم على إرسالها؟ وعاد رفعت يؤكد أن البرقيات إنما أرسلت بقرار من المجلس الذي كان يمثل الرأي العام فيه أعضاء يرجع صيت بعضهم إلى عهد محمد علي، وأنه لم يُرغم على شيء …
وقال الرئيس: إنه يرى من إحدى البرقيات أنه تقرر ردم قناة السويس فهل كان ذلك من رأي المتهم؟ وأجاب رفعت بك بأنها كانت ضرورة قضت بها الحرب وأنه يأسف لذلك …
ووجه إليه الرئيس هذا السؤال: «جاء في إحدى البرقيات المرسلة إلى القسطنطينية أن المجلس العام أمر محافظ السويس بأن يبلغ الأدميرال الإنجليزي أن المجلس القائم بالقاهرة هو وحده الحكومة الشرعية في مصر، فهل كانت هذه عقيدتك؟»
وأجاب رفعت بشجاعة: «لقد قلت في اليوم السابق أن قوة سمو الخديو قد أوقفت بمقتضى قرار المجلس العام الذي عُقد في القاهرة، والذي تألف من كبار المصريين من العاصمة ومن البلاد، وبناء على ذلك أصبح هذا المجلس هو الحكومة الحقيقية لمصر، وقد أيدَته وعضدته الأمة كلها واضطلع بالدفاع عن الوطن».
وسأله الرئيس: «هل وقعتَ على هذا القرار؟ وهل كان هذا باختيارك؟» فقال رفعت: «وقعتُ عليه بمحض إرادتي ولم أجبر أنا ولم يجبر أحد غيري على التوقيع».
ورفعت الجلسة على أن تعقد في اليوم التالي، وكان أحمد بك رفعت قد أدلى بأقوال للجنة قبل مجيء مستر برودلي فيها مطاعن واتهامات لرجال الجيش بأنهم لجأوا إلى العنف والتهديد وأنه كان مرغمًا على ما فعل …
فلما عُقدت اللجنة في الموعد المحدد، سأله الرئيس عن سبب تناقض أقواله وطلب إليه أن يبين وجه الحق فقال: «إذا سمحت لي أن أتكلم في صراحة فإني أشرح هذا التناقض، وأن هذا حق يسمح به لأي مجرم عادي وأنا أطالب به».
وقال الرئيس: «يمكنك أن تفعل ذلك إذا التزمت بالمسائل التي يدور حولها الكلام».
وأجاب رفعت: «لقد عوملت أسوأ معاملة في السجن فإن إبراهيم أغا توتونجي …»
وقاطعه الرئيس قائلًا: «كف عن هذا … ليس هذا هو الموضوع، ونحن نعلم جميعًا أنه لم يشكُ من توتونجي إلا عرابي وعبد الغفار».
ورد السير شارلز ولسن قائلًا: «ليس الأمر كذلك وإني أشعر أن واجبي يقضي علي أن أقول: إنه أثناء زياراتي الأسبوعية سمعت من جميع المسجونين تقريبًا شكواهم من زيارات هذا الرجل ومن إساءاته».
واستدعى الرئيس المسيو برودلي المستشار القضائي للحكومة وسأله مستر برودلي عما إذا كانت المحكمة ملزمة بأن تسجل إجابة المتهم كلها، وأجاب بورني أنها ملزمة ولكن يجب عليه أن يوجز.
ومضى رفعت فقص على اللجنة ما لقيه من إهانة وتهديد بالموت في سجنه وقال: إنه عقب ذلك استدعي للوقوف أول مرة أمام لجنة التحقيق.
•••
قضت اللجنة نحو شهر ولم تضع يدها بعد هذه الاستجوابات على شيء تدين به عرابي، وكانت أكثر أسئلتها للمتهمين جميعًا ترمي إلى إدانة عرابي وبعد ذلك يحق عليهم بالتبعية ما حق عليه …
وسمع برودلي مثل هذا الذي ذكره عرابي من رفعت ومن سجين آخر هو خضر بك خضر، وظل في حيرة إلى أن علم من الحراس أن سليمان سامي استجوب في مقر اللجنة ساعات متوالية، فطلب برودلي من المسجونين أن يكتبوا له ما سمعوا وانطلق إلى مسكنه ضائق النفس بما أيقن أنه يدبر في الخفاء …
وكان سليمان سامي قد أُحضر من كريت فوصل إلى الإسكندرية في ٩ نوفمبر، وظل تحت مراقبة أعوان الخديو منذ أن بلغ الإسكندرية حتى دخل السجن في بناء الدائرة السنية فلم يتصل به أحد قط، وذلك أنه اتفق معه على أن يكون شاهد إثبات!
فقد طلعت جريدة الإجبشيان جازيت بعد ٣ أو ٤ أيام من حضوره تعلن للناس نبأً مدهشًا، وذلك أن سليمان بك سامي اعترف بأنه أحرق الإسكندرية وأنه فعل ذلك بأمر من عرابي باشا ألقاه إليه على مرأى ومسمع من بعض الناس، واعترف كذلك بأمر أعظم خطرًا، ألا وهو أن عرابي أرسله ليقتل الخديو بقصره في الرمل، ولكنه قابل وهو في طريقه إلى القصر، كلًّا من سلطان باشا وحسن باشا الشريعي، وحالما رأى هذين الرجلين ثاب إلى رشده وندم على اعتزامه ما اعتزم واعترف لهما به، ثم عاد أدراجه …
قال برودلي: «وكان لدى ما قاله في التحقيق كل من سلطان وحسن الشريعي فلم أجد فيه أقل إشارة إلى شيء من هذا الذي لو أنه حدث لذكره سلطان على الأقل إذا كان لديه أي سبيل لتأكيده».
وكتب برودلي إلى إسماعيل أيوب باشا يحتج ويذكر أن ما حدث في غير حضوره يخالف ما اتفق عليه، ولذلك فهو لا يتقيد بهاتيك الأقوال التي جاءت على لسان سليمان ويعدها كأن لم تكن.
وفرح رجال القصر وأعوان الخديو فرحًا عظيمًا، ولكن فرحتهم لم تطل، فإن جميع من ذكرهم سليمان سامي في كلامه عندما واجهوه في اليوم التالي أمام اللجنة رفضوا أن يشايعوه فيما ذهب إليه، وأنكر حسن الشريعي — وكان سجينًا — رواية سليمان، كما أنكرها سلطان باشا كل الإنكار …
يقول برودلي: «وكان أحد الأوربيين من أشد الناقمين على الحركة القومية حاضرًا عندما جاء وفد من قِبل اللجنة يسأل سلطانًا في داره عن رواية سليمان، ونفى سلطان نفيًا باتًّا حدوث ما سُئل عنه فقال زائره الأوربي: يا للأسف … إن إجابة مخالفة لهذه كانت تحسم الأمر كله».
ويعقب برودلي على ذلك بقوله: «فهل كانت تؤلم بقية من الضمير عقل سلطان باشا في أواخر أيامه؟ إني أظن ذلك».
وكان يرد إلى برودلي رسائل من مجهولين، مما يدل على مقدار ما كان يساور الناس من خوف، ومن أعجبها رسالة يعزوها برودلي إلى أحد الأعضاء الماسونيين، قال مرسلها: «عزيزي الأخ: النصر للحق! أتشرف بإبلاغك أن سلطان باشا ينفي أنه رأى سليمان سامي في طريقه إلى قصر الرمل، وقد أفضى إلى كثير من الناس أخيرًا بأن عرابي لم يحرق الإسكندرية ولا أصدر أمرًا بإحراقها، وذكر أيضًا أنه تحقق من ذلك بنفسه حينما ذهب إلى عرابي ليتحدث إليه بشأن الجند الذي أحاطوا بقصر الرمل يوم ١٢ يوليو، فإنه وجد عرابي خارج الباب الشرقي يسخط بأعلى صوته على أعمال النهب والحريق ويعنف الجند على ما حدث، حتى لقد أخذ من أيدي بعض الجند ما نهبوه وأمر بإحراقه، وسأله سلطان من فعل هذا؟ فأجاب عرابي: إنهم يقولون: إنه سليمان سامي … أرجو منك أن تزور سلطان، فإن لديه الكثير مما يريد أن يقوله لك … حقًّا إنه في انتظارك، وسوف يؤكد لك ما أقوله الآن … احرق هذا ولك الفضل … من أخيك؟»
ويقول برودلي: «أما عرابي فلم يبدُ عليه أنه اهتم كثيرًا بما اتهمه به سليمان ولم يؤلمه إلا شدة شعوره بما يحيط به من خيانة وهو ضحيتها … قال: إني لم يُعلم عني قط أني أسات أو ألحقت الضرر بأي مخلوق، وقد كنت أحرس الخديو في القاهرة مدة ثلاثة أشهر حراسة شديدة يومًا بعد يوم، ولو كنت أردت مرة أن أقتله لكان ذلك في وسعي في أية لحظة، فلماذا أفكر في قتله في الوقت الذي كنت أعده من أسوأ أوقاتنا جميعًا؟»
•••
هذا ما كان من أمر التحقيق وقد كان ما تبتغيه اللجنة إثبات التهم التي ذكرناها على عرابي، ولكن برودلي كان من ناحيته يعد كل ما في وسعه للدفاع لا عن عرابي وحده، بل عن كبار أنصاره …
وأول ما وجه إليه برودلي اهتمامه هو الحصول على أوراق عرابي، ففي ٢٣ أكتوبر زار برودلي عرابي في سجنه، وطلب إليه ما أخفى من أوراق، ويقول برودلي: إنه تحدث إليه طويلًا فيما يلزم من ثقة تامة بين المحامي وموكله، وفيما ينجم من خطر إذا أخفى الموكل عنه شيئًا حتى اقتنع عرابي وقال: «لكي تحصل على ما تريد لا بد لي أن أرى نجلي محمدًا أو خادمي محمد بن أحمد، فإنه لا تزال لدي أوراق كثيرة، بعد أن أُخذت كمية منها من بيتي في القاهرة وكمية من خيمتي بالتل الكبير».
واستعان برودلي بالسير إدوارد مالت والسير شارلز ولسن، حتى سمح لمحمد بن أحمد خادم عرابي بالدخول على سيده مع محاميه، ولثم محمد يد سيده في احترام شديد وناوله ورقة عرف برودلي أنها من أميرة مصرية لم يذكر اسمها من زعيمات الحركة القومية وقد رجت فيها من عرابي أن يعطي الأوراق المطلوبة لمحاميه، وأمر عرابي خادمه أن يعطي الأوراق للمستر برودلي ودله على الأماكن التي يجدها فيها، ومضى الخادم وقد وعد أن يحضرها في الصباح بعد أن أوضح له برودلي أهمية ذلك … وجاء الخادم في الصباح ومعه محمد بن عرابي فقالا: إن زوجة عرابي وقد أحاط بها الخوف قد اختفت وأخذت معها الأوراق، وإذ ذاك غضب برودلي وخاطبهما محتدًّا، فوعدا أن يبحثا مرة ثانية، ثم عادا بعد ساعتين ومعهما الأوراق المطلوبة، وفرح برودلي وزميله فرحًا عظيمًا، وحملا الأوراق إلى القنصلية الإنجليزية لتكون في مأمن وليسهر بيمان على ترجمتها …
ويقول برودلي: «لو أن معركة الدفاع استمرت حتى نهايتها لكان لهذه الوثائق التي ألقى بها عرابي في أيدينا أهمية عظيمة في إثبات براءته من تهمة العصيان».
كانت تحتوي هذه الوثائق على الكتابين اللذين جاءاه من السلطان على لساني محمد ظافر وأحمد راتب … وهما وثيقتان على أكبر جانب من الخطورة في صدد ما اتهم به عرابي من عصيان؛ لأنهما شهادتا براءته، وفيهما رضاء السلطان عن أعماله حتى قبيل هزيمته في التل الكبير …
وكان في تلك الأوراق كذلك ما يثبت كما يقول برودلي «أن الأمة كلها كانت معه» على حد تعبير عرابي نفسه؛ فقد جاءته من مصر كلها من أقصى الصعيد إلى الإسكندرية كتب عليها مئات التوقيعات من أعيان البلاد وكبرائها وعلى بعضها آلاف، وكلها تؤيد عرابي في رفضه المذكرة المشتركة الثانية وتقرر الثقة التامة به وبوزارة البارودي الوطنية، وتستنكر «اللائحة ومن يقبلها» …
ويعقب برودلي على هذه الوثائق بقوله: «إنها كانت أكثر مما يلزم لنفي تهمة العصيان في معناها العادي، وإنها لتبين أنه إن يكن قد ثار فإنما فعل ذلك قائدًا لخمسة ملايين من الأهالي وإنه كان على رأس شعب مصر كله» …
واعتمد برودلي كذلك في دفاعه على ما كتبه له أحمد بك رفعت والشيخ محمد عبده ويعقوب سامي باشا، وكان ما كتبه رفعت بك والشيخ محمد عبده يدور حول معنى عام هو أن الأمة في مجلسها الشامل قد أعلنت كلمتها وأيدت عرابي في الدفاع عن الوطن وقررت عدم إطاعة توفيق لانحيازه إلى الأجانب، وعلى ذلك فكل عمل ينسب إلى عرابي وأصحابه بعد هذا التاريخ هو عمل مشروع؛ لأنه وليد إرادة الأمة … أما يعقوب سامي؛ فقد كان أكثر اهتمامه بنفسه …
أثنى برودلي على رفعت بك لثقافته الفرنسية، وذكائه وذوقه الأدبي، كما أثنى على الشيخ محمد عبده وقال: إن له بين هؤلاء الزعماء مكانة عظيمة فهو أكثرهم علمًا وفطنة ونورًا …
وقال برودلي: إنه بزيارته لرفعت بك قد ازداد أملًا وثقة؛ وذلك لما ظهر له من شجاعته ودفاعه عن زعيمه، وتصويره إياه أنه كان زعيم شعب بكل ما تحمله الزعامة من معنى وأنه ظفر بمحبة الناس وعطفهم عليه وأن حركة مصر القومية من أقوى الحركات وأنبلها، وأن الحق سوف يظهر وسيُعرف عرابي على حقيقته وتتبين قضيته الوطنية للعالم …
أما يعقوب سامي؛ فقد انخلع عنه عزمه وكان يبكي في سجنه ويشكو مر الشكوى مما لحقه من إهانة، كضربه والبصق على وجهه، وقد تنمر لزعامة عرابي وتخلى عنه في غير خجل، ولما ناوله برودلي كتابًا من عرابي يعبر له فيه عن اهتمامه بأمره ومواساته له قال: «أرجو أن تبلغوا عرابي أني لا أستحق هذه الكلمات الطيبة التي يرسلها إلي».
وكان لا يهمل عرابي في سجنه أن يرد على كل ما يقع عليه من اتهام لقضيته، وكان يعنى بالقضية العامة أكثر مما يعنى بشخصه، وكان يبدي رأيه في شجاعة وصراحة جديرتين حقًّا بأعظم الثناء والإعجاب، وإذا كان خصومه بعد الذي قدمناه من سيرته لا يزالون في حاجة إلى برهان جديد على إبائه وقوته فليقرؤوا هذا الذي أرسله إلى جريدة التيمس من سجنه ليُنشر ويذاع على العالم، وليتدبروا ما جاء فيه عن الخديو ومسلكه، وكان ذلك ردًّا على جريدة الجوائب التي كانت تعترف ببطولته، حتى صدر قرار السلطان بعصيانه فصارت تنعته بالعاصي وقد اطلع في السجن على مقال نشرته وفيه طعن على الحركة القومية فكتب يقول: «سيدي … اطلعت في العدد ١١٠٥ من جريدة الجوائب تحت عنوان «القبض على العاصي في مصر» على مقال ذكر فيه أنه ألقي في السجن عدد كذا وكذا من الضباط والعلماء والأعيان والتجار والمديرين وشيوخ البدو، والآن يا حماة الحرية إذا كان الجند هم العصاة فلماذا ألقي في السجن من ذكر من العلماء والأعيان والقضاة حيث أذيقوا الهوان؟ وإذا كانت الأمة كلها بكافة طبقاتها تتجه اتجاهًا واحدًا وتفكر تفكيرًا واحدًا فلماذا تميزون الجند باسم العصاة؟ إني أعلن باسم الحق أنه لظلم مبين أن يعاملوا هذه المعاملة، لقد كانت الحرب وفق قانون الله وقانون الإنسان، وقد أعلنت بناء على قرار موقر لمجلس عقد برئاسة الخديو ودرويش باشا مندوب السلطان، وبعد أن غادر الجيش والأهالي الإسكندرية ذهب الخديو إلى هؤلاء الذين كانوا يحاربون أمته، الأمر الذي ينهى عنه كل قانون.
لقد أجمعت الأمة كلها على ضرورة وقف توفيق باشا لخروجه على الشرع الحنيف والقانون المنيف، وطلبت الاستمرار في أعمال الدفاع عن الوطن بقرار رفع إلى جلالة السلطان، أبعد هذا نكون عصاة؟! إننا كنا ندافع عن وطننا بطريقة تقرها شريعة الله والإنسان، وكل من يقول غير هذا كائنًا ما كان فهو عبد للهوى والمال، وأضيف إلى ذلك أن علماء الاسلام والمسلمين في كل بلاد العالم، يسلمون أننا لم نتجاوز حدود ما أنزل الله في كتابه وهم يستنكرون ما نلقى من سوء المعاملة؛ لأنه يتنافى مع العدل.
هذا ما كتبه في سجنه عرابي الجاهل الجبان! ألا ما أجمل هذا الجهل وما أعظم هذا الجبن وما أحط ما ذكره عنه المغرضون من بهتان.
وكان برودلي في شغل دائم بإعداد دفاعه الذي أقامه على ما اقتنع به من أمور هامة وصل إليها بطول أناته وإحاطته بموضوع القضية التي هو بصددها جملة وتفصيلًا، وكان من ذلك الذي اقتنع به نبل الدوافع التي دفعت عرابي في حركته من أول الأمر، وموافقة توفيق إياه حتى ١٢ يوليو، وكذلك موافقة السلطان إلى ما بعد ذلك التاريخ، هذا إلى انضمام الأمة كلها إلى عرابي مما يجعل حركته حركة قومية عامة لا حركة فردية، ويجعل سلوك عرابي مسلكًا إنسانيًّا فائقًا أثناء الحرب.
هذا من ناحية عرابي، أما من ناحية خصومه؛ فقد أعد برودلي الأدلة على سخف التهمة القائلة بإهانة الراية البيضاء وبطلان تهمتي الاشتراك في فتنة الإسكندرية وإحراقها …
ثم إنه اعتزم أن يقيم الأدلة على عدم شرعية المحكمة العسكرية في تألفيها على هذه الصورة، وعلى ما كان في إجراءات التحقيق من نقص قبل مجيئه هو وزميله، وعلى ما لقي المسجونين من إهانة وتعذيب بقصد إرهابهم قبل استجوابهم وحملهم على غير ما يريدون …
كذلك أراد برودلي أن يتبين كيف كان توفيق يطعن الإنجليز في رسائل منه إلى الآستانة، حتى إذا اطمأن إليهم ألقى بنفسه في أحضانهم وأدار للسلطان ظهره …
ولكن قوة الدفاع لا تغني شيئًا في جو كذلك الذي كان يحيط به وبزميله منذ مجيئهما؛ فقد عمدت الحكومة المصرية وخاصة رياض، ومن ورائه توفيق، إلى وضع الصعاب في سبيله هو وزميله منذ حضورهما، ولجأت لجنة التحقيق إلى أساليب أقل ما توصف به أنها ملتوية، ومن أمثلة ذلك ما كان من أمر سليمان سامي، ثم خروجها في كثير من الأحوال على الاتفاق الذي وقعه برودلي وزميله بشأن ما يتبع من أصول أثناء التحقيق وفي ساحة المحكمة …
والواقع أن السماح لعرابي بمحاميين إنجليزيين، قد ألقى الفزع من أول الأمر في نفس الخديو ورجال حكومته؛ فقد يقلب التحقيق فرحهم غمًّا ويكشف عن أمور ظنوا أنهم بانتصار الإنجليز والقضاء على عرابي قد خلصوا منها إلى الأبد، ولذلك لجأوا إلى وسائل الغش والتدليس والإرهاب وإعداد شهود الزور والتجسس على رسائل برودلي وزميله إلى حد فض الكتب، وتلك أمور جعلت عملهما محفوفًا بالخطر، وزادهما خوفًا أنه لا يبعد أن تغمض الحكومة الإنجليزية عينيها وتدع الخديو يصنع ما يشاء بعرابي وزملائه، ولم تحجم المحكمة العسكرية عن أن تعلن آخر الأمر على الرغم من كل دفاع أنها اقتنعت بإدانتهم ثم تحكم عليهم بالموت وينفذ حكمها في الحال ويسدل الستار على المأساة، وتذهب جهود برودلي وزميله عبثًا، وتتنصل إنجلترا بعد ذلك من كل تبعة قائلة: إنها فعلت ما كان في وسعها أن تفعله وهو السماح لعرابي بدفاع حر، ولم يكن في وسعها أن تتدخل في حكم المحكمة العسكرية …
وقبِل برودلي ذلك؛ لأنه سمح له بشروط معقولة لإجراء التحقيق والمحاكمة ومن أهمها، أن يسمح للدفاع بدعوة من يشاء من الشهود وأن يناقشهم بحضور المتهمين، بصرف النظر عما إذا كانوا أدوا شهادة قبل ذلك أم لا …
ولكن حدث بعد ذلك أن الحكومة المصرية — وقد كان أخشى ما تخشاه هذا الشرط — لم تتقيد بما وافقت عليه، وتجلى ذلك في شاهدين وقع عليهما برودلي مصادفة، أما أولهما فهو علي راغب وقد رأى برودلي في الممر المؤدي إلى مقر اللجنة وذلك في ٢ نوفمبر فتحدث إليه بالإنجليزية حديثًا مقتضبًا في حذر وخوف؛ إذ كان يحيط به الجند قائلًا: إن اسمه علي راغب وهو الضابط البحري الذي كان يحمل كتب عرابي إلى الآستانة ويحمل كتب الآستانة إليه، وإنه حكم عليه بالنفي إلى السودان ١٠ سنوات مع الأشغال الشاقة، ولديه معلومات تفيد قضية عرابي ويرجو أن يؤدي الشهادة عنه، ولكن حينما طلب برودلي استدعاءه بادرت الحكومة بإرساله إلى السودان ليمضي هناك ١٥ سنة لا ١٠، وأما ثانيهما فشخص يدعى كارمي كان يقيم في بيروت أثناء الحرب وكان يتمتع بالحماية البريطانية، وقد كان كاتبًا لدى أسرة الشمسي، وقد حدث أن أعيد إلى وظيفته مدير الشرقية الذي فصل وقت الحرب، وواتته الفرصة الآن للانتقام من شخصين ظن أنهما عملا على فصله وهما أمين بك الشمسي وأحمد بك أباظة، وكانا من أنصار عرابي، فجيء بهما من سجن القاهرة إلى سجن الزقازيق، حيث ألقيا في حجرة مظلمة والأغلال في أيديهما، وأرغما وهما من علية القوم على كنس السجن وتنظيفه، وتصادف أن جاء كارمي فأرسلته أسرة الشمسي إلى برودلي ليقدمه شاهدًا وسرعان ما قبضت الحكومة عليه وقد أخبرها عنه جواسيسها وأخرج من مصر عنوة إلى بيروت …
وفي ٧ نوفمبر استدعت اللجنة برودلي وزميله وسألتهما عما ينويان عمله؟ قال برودلي: «ووجدنا أننا أمام اللجنة كأنما خضعنا لنوع من الاستجواب يقصد منه القضاء على ما أعددناه من إجراءات الدفاع، كم يستغرق استجوابنا الشهود من أيام؟ ومن يوجه الأسئلة عمليًّا؟ وأي التراجمة يعول على ترجمته؟ وهل يسمح للمتهمين بالكلام؟ وهل لدينا ما يمنع عن إرسال أوراق عرابي إلى اللجنة في الحال؟ ثم أليس المسجونون في إنجلترا يقضى في أمرهم بعد استجواب هين؟ إلى أمثال ذلك من أسئلة وجدنا أنها عقبات تدل على ما تنويه اللجنة …»
وفي ١٤ نوفمبر منه مكَّن رياض باشا المستر برودلي من زيارة موكليه في السجن ما عدا عرابي بحجة أن موظفيه من الكتبة ينقلون أنباء من المسجونين إلى ذويهم خارج السجن مما يخشى منه أن يؤدي إلى هياج.
وظل الأفق هكذا مظلمًا أمام برودلي وصاحبه تتجمع فيه السحب من كل جانب، وكانا يرسلان إلى بلنت هذه الأنباء السيئة وقد طالت إقامتهما بمصر وكثرت نفقات القضية كثرة أوشكت أن تعجزه …
والحق أن بيمان قد تسقط هذ الأنباء مما كان يتحدث به همسًا في الحلقات الإنجليزية مثل مجيء دوفرين إلى مصر؛ فقد أوفدته الحكومة الإنجليزية إلى مصر لحل هذه المشكلة فبلغ القاهرة في ١٦ نوفمبر ١٨٨٢.
وأقام دوفرين بقصر النزهة يستفسر الإنجليز وغيرهم، وقد لقيه برودلي وصاحبه بقصر النزهة، يقول برودلي: «وفي حجرة من حجرات هذا القصر لقيني اللورد دوفرين وزميلي نابيير في ١١ نوفمبر، وهيأ لي في الحال الفرصة ليسمع قضيتي، فقصصت عليه كل ما حدث لنا منذ حضورنا حتى ساعة لقائه، وكان يصغي في صبر وصمت إلى قولي، ولم يتكلم إلا قليلًا، شأن السياسي المحنك، واقتنعت أنه آن للزعماء القوميين ألا ييأسوا من العدالة».
وتلقى بلنت برقية من برودلي في ١٨ نوفمبر هذا نصها: «أعتقد أنه من الممكن الوصول إلى تسوية طيبة … لا تهاجم إدارة الشؤون الخارجية … الحرص على السر أمر جوهري».
ولكن السحب ما لبثت أن تقاربت لتتجمع ثانية على الأفق حيث يتبين ذلك في الرسائل الآتية:
في ٢٠ نوفمبر أبرق برودلي يقول: «لندن تشاور دوفرين … ضعف ميل الحكومة المصرية إلى عقد تسوية؛ وذلك لظنها أن الرأي العام في إنجلترا قد تغير بسبب أقوال سليمان سامي».
وفي ٢١ نوفمبر، أبرق يقول: «أزمة خطيرة ماثلة، يؤكد أصدقاء الحكومة المصرية تصميمها على شنق عرابي لا تغادر لندن».
وفي اليوم نفسه أرسل برقية أخرى يقول فيها: «لا يعبر أي كلام في استطاعتي عن مسلك الحكومة المصرية الشائن، إنها تضرب باتفاقنا وإياها على إجراءات التحقيق عرض الحائط … إنها لا تبالي بشيء طالما أنها تعالج المسألة دبلوماسيّا لشنق عرابي».
وأبرق نابيير أيضًا في اليوم نفسه يشكو من الحكومة المصرية، ويشير إلى ما يرجى من معاونة دوفرين، ولكن الوزارة المصرية ماضية في سبيلها بسرعة نحو غايتها …
وعاد إلى برودلي شيء من التفاؤل بعد بضعة أيام، فأبرق إلى بلنت في ٢٧ يقول: «ألقيت بالبريد ما يشرح لك الموقف شرحًا كاملًا، لدي ما يجعلني أعتقد أنه لو وافق عرابي ومحمود سامي وطلبة موافقة صورية على تهمة العصيان — أعني الاستمرار في الحرب على الرغم من أوامر الخديو — فإن الحكومة المصرية توافق على نفيهم أو اعتقالهم في رأس الرجاء الصالح أو في أي جهة أخرى».
ورد بلنت في ٢٨ يقول: «لا أقبل الشروط المقترحة ورأس الرجاء الصالح بوجه خاص، سأشاور أحد أصدقائي الليلة بشأن النفقات، موقفنا من الوجهة السياسية في منتهى القوة، سيصلك الرأي القاطع بعد».
وكان برودلي قد شرح الموقف في كتابه الذي أرسله بالبريد قائلًا: «إنه لم يبقَ صعوبة في القضية إلا حادث حريق الإسكندرية فإنه وإن كان عرابي بريئًا من حرقها إلا أن في مسلكه أمورًا تجعل للاتهام سبيلًا للجدل والكلام، ومن ذلك أنه لم يبذل أية محاولة لوقف النار والنهب، كما أن صلته بسليمان سامي استمرت بعد ذلك، ولم يعاقب المسؤولين، فضلًا عن وجود أوراق فيها شراء كميات كبيرة من النفط، هذا إلى ما ظهر من الجند من الميل إلى ازدياد الحريق بدلًا من إطفائه …
واقترح برودلي أن تقبل التسوية وإلا فأمامهم محاكمة طويلة لا يؤمن معها تقلبات الرأي العام، على أنه على استعداد لخوض غمار المعركة في قوة حتى نهايتها …
وكتب نابيير كذلك إلى بلنت في ٢٧ نوفمبر يقترح قبول التسوية، وإن كان على استعداد هو وزميله للمرافعة قائلين: إنهما قادران على أن يجعلا تهمة حريق الإسكندرية هباء، وأن يجعلا من مذبحة ١١ يونيو مسألة حامية بينهم وبين خصومهم …
وفي ٢٨ أبرقا معًا إلى بلنت يقولان: «قابلنا دوفرين طويلًا، نرجو منك أن ترسل إلينا مستشاريك لتحصل على أحسن شروط ممكنة، الإبطاء يقضي علينا، اعتمد على حكمنا، لا جدوى من انتظار المعونة من إدارة الشؤون الخارجية، يميل دوفرين إلى أن يزيد تعليماته لصالحنا، يحكم دوفرين الحكومة المصرية، الدفاع عن مسألة حريق الإسكندرية يحيط به شيء من الشك، خدمات دوفرين الطيبة ضرورية جدًّا، أبرق لنا بتعليماتك، سنقابل دوفرين غدًا في الساعة العاشرة».
وأبرق نابيير إلى بلنت في اليوم نفسه: «أقول لك بشرفي: إني موافق على البرقية السالفة، الأمر يستدعي أشد الاستدعاء أن ترسل تعليماتك، ليس ثمة أي مصلحة شخصية فيما طلبنا».
وذكر برودلي في كتابه أنه منذ ٢٧ نوفمبر رغبت جميع الجهات في تسوية للموقف، فالحكومة الإنجليزية التي أعلنت من قبل عصيان الجند، والتي سمت الحركة كلها ثورة عسكرية والتي أرسلت حملة لقمعها أنفقت فيها ملايين الجنيهات لا يمكنها أن تطلق عرابي بعد هذا بلا قيد ولا شرط، ولن يوافق جلادستون على قرار مؤداه أن عرابي قد سقطت عنه تهمة العصيان بعد كل هذا، ولكن الحكومة الإنجليزية من ناحية أخرى لم تعد تقوى على إصدار حكم بالموت على عرابي، وإن كانت لا تعترض على الحكومة المصرية إذا ألقته في السجن إلى أي وقت تشاء.
وكانت تركيا تريد أن تنتهي هذه المسألة على أي وجه إلا الكابوس الذي يزعجها وهو محاكمة عرابي، ويعتقد برودلي أنها استعانت بألمانيا لتتوسط لدى دوننج ستريت لمنع ذكر ما من شأنه أن يمس السلطان من فضائحَ في القاهرة …
وفي ٢٨ نوفمبر أبرق بلنت إلى برودلي يقول: «لا أقر شيئًا أقل من نفي شريف: عدن، مالطة، قبرص في حدود هذا، أترك الأمر لحكمتك».
واتفق على أن تكون التسوية كما يأتي: تستبعد جميع التهم عن عرابي ما عدا تهمة عصيان أمر الخديو، ويقدم إلى المحاكمة متهمًا بهذه التهمة الأخيرة بها، وتصدر المحكمة حكمها عليه بالموت، ولكن مرسومًا خديويًّا بتعديل الحكم يتلى في قاعة الجلسة ويقضى بنفيه من مصر، ويصدر بعد ذلك قرار بتجريده من لقبه وممتلكاته ما عدا ممتلكات زوجته، ثم يقسم عرابي بشرفه أن يذهب إلى الجهة التي تحدد له وألا يبرحها إلا إذا سمح له بذلك …
وقد كان هذا الاتفاق من وضع اللورد دوفرين، ويقول برودلي: إن الحكومة المصرية قبلته على الرغم منها، وقد غضب رياض غضبًا شديدًا؛ إذ كان يصر على موت عرابي، وسوف يستقيل عقب تنفيذه وإن لم يذكر سبب استقالته …
وأوعز رجال السراي إلى مراسلي الصحف الفرنسية فأثاروا حملة شديدة على الإنجليز وعلى عرابي، حتى لقد أبرقوا إلى صحفهم بأن هناك اتفاقًا سابقًا بين الحكومة الإنجليزية وعرابي …
وينتقد برودلي مسلك الحكومة المصرية انتقادًا شديدًا ويقول: إنها بدل أن تظهر شيئًا من الصفح والتسامح يبعد عنها الشبهات قد أدت بما فعلت إلى إظهار نفسها بمظهر المغلوبة على أمرها … الأمر الذي لا يليق بكرامة أية حكومة، ولكن الخديو هو الذي كان يدير ذلك كله من وراء ستار.
ولم يكن عرابي حتى ٢٩ نوفمبر يعلم شيئًا من هذا كله، فلما ذهب إليه برودلي في صباح ذلك اليوم ومعه ترجمانه المستر سانتلا، قص عليه القصص وقال: لا تخف … نجوت من القوم الظالمين …
وفكر عرابي قليلًا، وقد أخذته الدهشة، ثم قال: «أعترف بصراحة أني كنت أفضل المحاكمة لأسمع أوربا كلها قضيتي، وألقى من اتهموني وجهًا لوجه في ساحة المحكمة» وتساءل عرابي: «أليس يرجى أن يفضي ما عسى أن يلقى من ضوء على المسائل المصرية في المحكمة إلى تحقيق الإصلاحات التي عجزت الحرب عن تحقيقها؟»
وذكر له مستر برودلي ما يتعرض له من الخطر من جانب محكمة كهذه؟ فتدبر، ثم قال: «إذا قبلت ما تتحدث عنه من شروط، فماذا عسى أن يكون مصير إخواني؟» وأبلغه محاميُّه أنهم سيعاملون مثل معاملته …
وأطرق عرابي لحظة، ثم صاح قائلًا: «كيف أقول: إني عاص؟! ألم أفعل ما أمر به السلطان والخديو؟! وإذا كان الخديو قد انحاز إلى الإنجليز فهل أسمى أنا عاصيًا؛ لأنى أطعت إرادة الأمة المصرية؟!»
وحار برودلي لحظة ماذا يقول، ثم أجاب بقوله: «إن الحكومة الإنجليزية لا يمكنها أن تتراجع عما أعلنته ولذلك قضت الضرورة بهذا الحل».
ولكن عرابي سأله: «وهل عاملت الحكومة الإنجليزية عدوًّا غلب على أمره من أعدائها مثل هذه المعاملة من قبل؟!»
وكان اللورد راندلف تشرشل قد سأل جلادستون هذا السؤال في البرلمان الإنجليزي قبل ذلك بثلاثة أسابيع ورد جلادستون بأن حال نابليون بعد فترة المائة يوم هي أشبه شيء بحال عرابي اليوم.
وذكر برودلي ذلك لعرابي، فقال عرابي: وأين أنا من نابليون حتى أعامل بما عومل به؟ فذكره برودلي بأن الذي عقد هذه المقارنة هو خصمه الذي يقرر مصيره.
وكتب عرابي هذا الكتاب، وذكر فيه أنه يدع للمستر برودلي أن يفعل ما يراه لصالحه «مع تذكر قضايا إخواني السياسيين وغيرهم من المواطنين المسجونين» وأنه يثق أن ذلك سوف يكون كما يشاكل شرف إنجلترا «حيث إننا أبرياء جميعًا من التهم الوحشية الموجهة إلينا».
هذا موقف عرابي المؤمن بعدالة قضيته، والذي ظن أن خصومه في مصر يريدون وجه الحق وما كانوا يريدون إلا رأسه بأي ثمن وعلى أية صورة، ولو أتيحت له محاكمة عادلة على أيدي قضاة عادلين لكانت البراءة الناصعة عاقبته في غير مشقة، فليقبل حكم الظروف وقد حرم حكم القضاء …
كان على برودلي بعد ذلك أن يعد تمثيل المهزلة مع المسؤولين، وكان برودلي قد استقال؛ لأنه «لا يستطيع الاشتراك في مهزلة سياسية كهذه» كما قال، ويذكر برودلي أن الخديو هو الذي أوعز إليه بهذا ففعله؛ مشايعة لبقية بني جنسه الفرنسيين، ولذلك كان على برودلي أن يتصل بتجران باشا الذي حل محله وقد بذل تجران أقصى ما في وسعه ليكتم غضبه من اضطلاعه بهذا العمل.
وكان على ممثلي المهزلة أن يبحثوا في القانون العثماني عن مادة تنطبق على مثل هذا العصيان، فوجدوا مأربهم في المادة ٩٦ من القانون العسكري، والمادة ٥٩ من قانون العقوبات …
وكتبت لجنة التحقيق إلى المحامين تبلغهما أنها رأت تقديم عرابي إلى المحكمة العسكرية بمقتضى هاتين المادتين وتسألهما إن كان لديهما اعتراض على هذا …
على هذه الصورة فرغ من إعداد المهزلة في ٢ ديسمبر واتفق على أن يكون تمثيلها في اليوم الذي يليه …
•••
وشاءت الأقدار لهذه القاعة التي كانت مجالًا لنواب الأمة والتي كان فيها منبر حريتهم، والتي هي الآن مقر مجلس شيوخها الموقر، ألا يشهد حكمًا كهذا على زعيم الحركة القومية في مصر أحمد عرابي باشا.
وكان تمثيل المهزلة في مكان غير هذا الحرم الشعبي الجليل؛ فقد اختيرت قاعة من قاعات مبنى الدائرة السنية حيث كان المسجونون، وحيث كان مقر لجنة التحقيق …
وفي صباح ٣ ديسمبر سنة ١٨٨٢ بدأ تمثيل المهزلة، فتأهب رؤوف باشا رئيس المحكمة العسكرية بملابسه الرسمية ووسامه المجيدي الأكبر، وتأهب بقية القضاة بأوسمتهم وملابسهم الرسمية كذلك في حجرة مجاورة.
ودخل قاعة الجلسة بعض الإنجليز من العسكريين، والمدنيين، وبعض الأوربيين وعدد صغير من الأوربيات وفريق من مراسلي الصحف الأجنبية، كالتيمس، وستاندارد، والديلي نيوز، والديلي تلغراف، والنيويورك هرالد، والجرافيك، والألستراسيون وغيرها، ولم يكن شهود الجلسة أو الملهاة يزيدون في مجموعهم عن أربعين.
قال برودلي: «… ودنا مني إسماعيل أيوب باشا وفي يده ورقة وقال: إنه يأمل ألا أعترض على قراءته من أجل بعض المظاهر فقط، عبارة من وضعه، فأجبته في غير التواء: إن له أن يفعل ما يقضي به رأيه، ولكن إذا استعملت أية رقعة غير الرقعتين اللتين اتفق عليهما فسيعلن عرابي أنه غير مذنب … فتنهد تنهيدة طويلة في هدوء ودس رقعته تحت المنشفة ولم يعرف عنها شيء بعد» …
أما الرقعتان المتفق عليهما ففي إحداهما عبارة قصيرة وقع عليها عرابي هي «إني بإرادتي وعملًا بنصيحة محامي أقر ما يتلى علي الآن من اتهام» وفي الثانية يتعهد كجندي أن يبقى في المكان الذي تحدده له الحكومة الإنجليزية وفقًا للحكم الذي يتلى عليه …
وكان مراسلو الصحف المصورة يرسمون القاعة ومن فيها تاركين موضع القضاة في أوراقهم خاليًا حتى يحضروا وكذلك موضع المتهم، وقد أعد الذين لم يبلغهم نبأ المهزلة أوراقًا كثيرة وأقلامًا يحسبون أنهم سيملأونها بالأوصاف والأنباء …
يقول برودلي: «وفي الساعة الثامنة دخل القضاة التسعة قاعة الجلسة، وجلسوا على كراسيهم ذات الظهور المخملية الحمراء، وجلس السير شارلز ولسن وراء قمطر يواجه هذا المكان، وكانت المنصة المخصصة لممثل الاتهام خالية …
أحمد عرابي باشا … أنت متهم الآن أمامنا بناء على قرار لجنة التحقيق بجريمة عصيان سمو الخديو، مخالفًا بذلك المادة ٩٦ من القانون العسكري العثماني والمادة ٥٩ من قانون العقوبات العثماني، فهل أنت مذنب أم غير مذنب؟
وقد نهض عرابي بمجرد أن أخذ رؤوف باشا يتلو هذه العبارة، فلما فرغ منها أجاب عرابي قائلًا: «إن محامي سوف يرد عني».
ونهضت وتلوت الترجمة الفرنسية لاعتراف عرابي وأبرزت الأصل العربي وعليه خاتمه وقرأه كاتب كان يجلس على مقربة من الرئيس، ونظر رؤوف باشا إلى عرابي متسائلًا، فأومأ برأسه علامة الموافقة، فأعلن الرئيس تأجيل الجلسة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر …
وفي الموعد المحدد ازدحمت القاعة بشهود الجلسة وحضر عدد غير قليل من السيدات، وكانت بينهن زوجة نابيير، وكان الطريق أمام الدائرة السنية مزدحمًا بالناس، وانعقدت المحكمة، فناول رؤوف باشا كاتب الجلسة نص الحكم وأمره بتلاوته، فتلاه … وبعد فترة قصيرة من السكون ناوله ورقة أخرى واتجه إلى عرابي قائلًا: «أحمد عرابي … ستسمع المرسوم الصادر من سمو الخديو، وتلا المرسوم المذكور» …
وكان الحكم يقضي بالموت على عرابي، والمرسوم يستبدل به النفي المؤبد، وانفضت الجلسة بعد عشر دقائق وأُسدل الستار على المهزلة …
وتقدم المهنئون إلى عرابي، وتزاحم عليه مراسلو الصحف مصافحين إياه في حماسة، وقدمت له بعض السيدات الأوربيات باقات من الزهور فتقبلها شاكرًا.
ويذكر مستر برودلي أن زوجة زميله المستر نابيير كان أمامها باقة من الزهور صغيرة كانت أعدتها لترسلها إلى عرابي بعد المحاكمة، فأخذها أحد الجالسين من غير شعور ووضعها في يد عرابي، ولقد أثار هذا كثيرًا من اللغط وخاصة من جانب أعوان الخديو؛ إذ عجبوا أن تفعل ذلك سيدة على مرأى من الناس، ولكن هذا اللغط ما لبث أن ذهب بظهور حقيقة ما حدث.
وأعيد عرابي إلى السجن ليبقى فيه ريثما ينفذ الحكم.