الحياة في سرنديب
تبلغ مساحة هذه الجزيرة التي نزل بها عرابي وأصحابه نيفًا وخمسة وعشرين ألف ميل مربع، وتكثر بها سلاسل الجبال بالجنوب ويتخللها كثير من السهول الواسعة الخصبة التي تنمو فيها غابات عظيمة وعرة المسالك كثيرة الأحراج والألفاف … وتبلغ أعلى قمة فيها ٨ آلاف قدم، ومن أشهر هذه القمم قمة جبل آدم وتبلغ ما يزيد عن ٧ آلاف قدم …
ومناخ الجزيرة استوائي ولكن إحاطة البحر بها يلطف حرارتها، ومن أشهر مدنها كولومبو وهي عاصمتها وأهم ثغورها، ثم جافنا وكندي وكالوتارا …
والتربة عظيمة الخصوبة وتكثر فيها أشجار الفاكهة والخضر وجوز الهند، ويُزرع فيها الشاي والبن والأرز والقطن والتوابل والطباق، وتعد سيلان من أعظم حقول الشاي في العالم …
ومن حيواناتها الفيلة والنمور والدببة والجاموس والغزلان، وتكثر فيها أنواع الزواحف وأنماط الطيور.
وقد حلَّ بها البرتغاليون منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي، والهولنديون منذ منتصف القرن السابع عشر، وفي سنة ١٧٨٥ امتلكها الإنجليز وكانت ملحقة بمدراس، ثم جعلوا منها مستعمرة قائمة بذاتها سنة ١٨٠١ …
ومن سكانها الأصليين قبائل السنهاليز، وأصلهم من الهنود من حوض نهر الكنج وقد حلوا بها منذ القرن السادس قبل الميلاد ولغة هؤلاء أقرب إلى الهندية الحديثة وديانتهم البوذية، ثم قبائل التامل وقد نزحوا إليها من جنوب الهند وديانتهم الهندوكية.
ويقطن الجزيرة عدد من المسلمين من أصل عربي أو من أصل هندي، وهم من أذكى سكانها وأكثرهم نشاطًا.
كما أن بها بقايا البرتغاليين والهولنديين وعددًا من الأوربيين من مختلف الأجناس وعددًا من أهل جاوة والملايو وغيرهم من الآسيويين.
ويقول عرابي في مذكراته المخطوطة: إن تعداد أهلها زمن إقامته بها كان نحو ثلاثة ملايين، منهم ٢٥٠ ألف مسلم، وأن السنهاليز والتامل أهل دعة وسكون يكرمون الغريب ويحسنون معاملته …
•••
ثم تقدمت لنا العربات فركبنا وتوجهنا إلى البيوت المذكورة، وكان قد خصص لنا بيت عظيم يسمى «ليك هاوس» ومساحة بستانه ١٤ فدانًا، وأعظم أشجاره من جوز الهند والموز وغيره، فتوجهنا إليه والناس مزدحمون على جانبي الطريق من الميناء إلى البيت المذكور يهتفون لنا بالترحيب والإكرام إلى أن وصلنا إلى المنزل المذكور، وأخذنا معنا طلبة باشا عصمت وعبد العال باشا حلمي ليقيما معنا حيث إنهما تركا عائلتيهما بمصر، وكذلك توجه محمود باشا سامي مع محمود باشا فهمي ليقيما في منزل واحد؛ لأن الأول ترك أهله وأولاده بمصر أيضًا، وانفرد كل من علي باشا فهمى ويعقوب باشا سامي في بيت على حدته لوجود عائلتيهما معهما.
ولما دخلنا البيوت المعدة لنا أخذت تلك الطوائف تتوافد علينا للسلام بوجوه باشة وقلوب مليئة بالمحبة والحنان ليلًا ونهارًا».
وكان عدد من رافقوا الزعماء السبعة من الأهل والخدم ٤١، وكانوا عند وصولهم كأبناء أسرة واحدة جمعتْ بينهم المحنة كما جمعت الصداقة من قبل ووثقت الغربة أواصر المحبة …
وبعد ثلاثة أيام من وصول الزعماء إلى الجزيرة أقام لهم كثير من أعيانها وتجارها الولائم، واشترك في ذلك المسلمون وزعماء السنهاليز والتامل، وقد استمرت تلك الولائم بضعة أيام، وكان يدعو إليها كبار سكان كولومبو، فعرفوا زعماء المصريين وألفت تلك الاجتماعات بينهم.
وأقام عرابي وأصحابه لهؤلاء وليمة كبيرة وصفها عرابي بقوله: «وبعد ذلك أقمنا وليمة جامعة لأعيان المسلمين والإنجليز والتامل والسنهاليز، وكان عدد المدعوين إليها ٢٠٠ شخص من مختلف الأجناس والمذاهب، والمعتقدات … شكرًا لهم على حسن حفاوتهم بنا».
وكانت الحكومة المصرية قد أرجأت تقرير ما يلزم ثمنًا لمعيشة كل من المنفيين حتى تعلم حال الجزيرة من حيث رخص الأسعار أو غلائها، وفي فبراير سنة ١٨٨٣ وصل إلى الجزيرة حاكم جديد هو السير أرثر جوردن فخاطب الحكومة المصرية فقررت لعرابي ٥٠ جنيه شهريًّا ولكل من أصحابه ٣٨ جنيها …
وكان عرابي وأصحابه يقضون أوقاتهم في القراءة والكتابة، وتعلم اللغة الإنجليزية وفي التزاور بينهم وبين حكام الجزيرة وأعيانها.
وكتب عرابي إلى صديقه برودلي كتابًا في ٢٤ يناير سنة ١٨٨٣، كان مما جاء فيه: «وقد لقيتنا السلطات هنا في الجزيرة بالحفاوة، وأعدوا بيوتًا لراحتنا، وزودونا بقدر كبير من الأطعمة الدسمة التي كفتنا وأسرنا بضعة أيام … ونجد الجزيرة ملائمة لسكاننا كل الملاءمة بمناخها، ونعتزم أن نرسل أبناءنا إلى المدارس المحلية، وأن نتعلم نحن اللغة الإنجليزية … ويبعث إليك إخواني وأبناؤهم خالص مودتهم، وإني أرجو أن تذكرنا لأخى أحمد بك رفعت إذا كان عندك، وإلى أمك العزيزة التي هي موضع إجلالنا جميعًا».
وأبى وفاء بلنت ألا أن يزور صديقه في منفاه، وقد اضطر أن يبقى بلندن كما رأينا ليدبر وسائل الدفاع عنه فلم يستطع أن يزوره في مصر.
يقول عرابي: «وفي ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٨٣، حضر صديقنا المستر بلنت من إنجلترا لزيارتنا وتهنئتنا على نجاتنا من أيدي خصومنا، وبوصول القطار كولومبو، هرع جميع سكان الثغر المذكور لاستقباله؛ حيث كانوا على استعداد تام لذلك قبل وصوله، وقد أخذنا نحن وإخواننا وأولادنا زورقًا بخاريًّا وذهبنا إلى القطار المذكور ثم صعدنا إليه وحظينا بمقابلته ومقابلة السيدة الفاضلة الليدي آنا بلنت، وكان بمعيتهما القس لويس صابونجي، ثم نزلنا بعد ذلك إلى الرفاص وعدنا إلى البر والزوارق الأهلية محيطة بنا يهتف من فيها بعبارات الترحيب ويشيرون بأيديهم علامة للسلام والإعظام …
ولما وصلنا إلى البر تكاثرت علينا جموع المحتفين بقدوم السير ولفرد إسكاون بلنت حتى تعسر علينا الوصول إلى المركبات، ولولا تدخل الشرطة لمنع ذلك البحر الزاحف من التكدس حولنا اضطررنا إلى الوقوف في الميناء الساعات الطوال …
ثم ركبنا العربات وتوجهنا إلى سراي مورجن المعدة لإقامة ذلك الضيف الكريم مدة ضيافته، وهي كائنة على بعد ثلاثة أميال من الميناء بجهة متوال، مشرفة على البحر، وكان الناس مصطفين على جانبي الطريق الموصل إلى السراي وهم يحيون المستر بلنت ونحن معه في المركبة بوجوه باشة وأساريرَ نضرةٍ حتى وصلنا قصر الضيافة».
وبالغ أهل المدينة في الحفاوة بضيف عرابي وبزوجته فوضعوا الزينات على الدار التي نزل فيها، وأقاموا أقواس النصر على مقربة منها وزينوها للناظرين بالأغصان من كل صنف وبالأزهار المختلفة الألوان، وكتبوا عليها بالإنجليزية: «مرحبًا بالصديق الوفي المستر ولفرد إسكاون بلنت».
وأعدوا له مأدبة كبيرة شهدها أكثر من ٢٠٠ مدعو، وخطب بعض الخطباء مرحبين بالضيف العزيز، وأثنوا على وفائه وإخلاصه، ورد بلنت شاكرًا لهم حفاوتهم وشريف إحساسهم …
وأقام بلنت وزوجته بالجزيرة ٢٢ يومًا، وكان لمقامه بين الزعماء أثر طيب؛ فقد أخذ قبيل مجيئه يدب دبيب الخلاف بين عرابي وبعض إخوانه وخاصة محمود فهمي باشا الذي استوحش المنفى فاضطربت أعصابه، وهو في الحق منذ أن أسلم نفسه للإنجليز في الميدان الشرقي لا يخلص الود لعرابي، ولعله كان يرجو من وراء ذلك أن يخفف عنه، فلما نفي مع المنفيين ضاق صدره وأخذ يكره عرابي ويرد إليه سبب ما لحقه …
وأعاد بلنت الوئام بينهم ولم يختلفوا بعدها أبدًا، وإن كان محمود فهمي باشا ليخفي في نفسه ما لا يستطيع أن يبديه من السخط والنفور.
وفي شهر نوفمبر سنة ١٨٨٣ زار عرابي في كولومبو اثنان من اللوردات الإنجليز، هما اللورد روزبري واللورد ماكدونالد، واستطلعا رأيه في حركة المهدي بالسودان، وكان يترجم الحوار بينهما محمود فهمي باشا، فسألا عرابي هل محمد أحمد هو المهدى المنتظر عند المسلمين؟ وأبدى عرابي دهشته قائلًا: وماذا يعنيكم من أمره؟ فقالا: إن أمره يهم إنجلترا فإن في الهند ٦٠ مليونًا من المسلمين يعتقدون أن المهدي المنتظر يجمع شتات المسلمين تحت رايته. وأجاب عرابي بأن كل داع إلى الخير والإصلاح هو مهدي ولكنه لا يكون المهدي المنتظر! وقال اللوردان: إن الحكومة الإنجليزية أرسلت جيشًا مكونًا من عشرين ألفًا بقيادة هكس، وسألا عرابي: هل يكفي هذا الجيش للتغلب على المهدي؟ فقال عرابي: «نحن نرى أن وجود قائد إنجليزي على جيش يكون من صالح المهدي فإنه يحكم بكفر المصريين الذين يقاتلون المسلمين تحت قيادة مسيحية ويستبيح قتلهم بسبب هذه القيادة، وإذا استولى على أسلحة هذا الجيش وذخيرته أصبح قويًّا يُخشى جانبه».
ونصح عرابي بمقابلته في منتصف الطريق بأن تقيمه مصر أميرًا على السودان على أن يكون تابعًا للتاج المصري وتنبأ عرابي باندحار حملة هكس، وفي اليوم التالي أذاعت البرقيات هلاك الحملة كلها …
وفي شهر يناير سنة ١٨٨٤ زار عرابي في كولومبو مهراجا سلطنة لاهور، يقول عرابي: «فلقيناه بما يجب لجلالته من التعظيم والاحترام، وكان بمعيته مستشار إنجليزي حتى لا ينبس نبسة إلا حفظها الرقيب عليه في حبة قلبه، وبعد نصف ساعة عادا إلى دار حكومة سيلان».
ووردت عرابي بكولومبو رسالة خطيرة من المستر بلنت في أواخر سنة ١٨٨٤ ذكر فيها بلنت أن الحكومة الإنجليزية تفكر في تعيين عرابي سفيرًا مؤقتًا إلى المهدي لرفع الحصار عن غوردون على أن يعزل توفيق ويعين أمير غيره يستطيع الاتفاق مع المهدي، وأن النية متجهة إلى إعادة إسماعيل بشرط أن يكون عرابي رئيسًا لوزارته باعتباره زعيم مصر المختار، وطلب بلنت رأي عرابي، فأبرق إليه أنه يرفض ذلك وأنه يؤثر المنفى على مثل هذه العودة وهذا الحكم تحت رئاسة إسماعيل الذي لا يشاكل مبادئه وخطته، وقد أدى مقتل غوردون إلى الانصراف بالضرورة عن هذه المسألة …
وكان لغوردون قبل ذلك مساع لإعادة عرابي إلى وطنه؛ فقد كتب بلنت في جريدة «البول مول جازيت» في ٢٥ أغسطس سنة ١٨٨٧ مقالًا جاء فيه قوله: «يجب أن أشير إلى أن الحكومة الإنجليزية أدركت خطأها واعتزمت إصلاح موقفها وذلك بأن تعيد عرابي بعد سنة أو سنتين من نفيه، وتساعد على تشكيل الحزب الوطني من جديد ويؤيد رأيي هذا كتاب وصلني من الجنرال غوردون، وإني أسمح لنفسي بإذاعة محتوياته لأول مرة؛ فقد كتب لي من الكاب يبلغني بميله وعطفه على عرابي باشا طوال مدة الحرب، ولما عاد إلى إنجلترا في ديسمبر سنة ١٨٨٢ تفضل بزيارتي ليؤكد لي عزم الحكومة ونياتها، وها أنذا حين رجعت إلى مذكراتي التي كتبتها عن هذه المقابلة وجدت أنني كتبت فيها: «زارني الجنرال غوردون وتناول معي الغداء بمنزلي الكائن بشارع جيمس، وقد تبين لي أنه كان يعطف عطفًا تامًّا على عرابي إبان الحرب وقال الجنرال: «إنه أتى ليدرس معي أمر إنشاء حكومة حرة في مصر تحت ملاحظة إنجلترا» …
وكانت حياة الزعماء بالجزيرة حياة رتيبة لا تغير فيها ولكنهم لم يشعروا بالملل؛ وذلك لما كان بينهم وبين سكان الجزيرة من صلات الود ومن تبادل المراسلات والزيارات.
وفي سنة ١٨٨٨، توفي لعرابي ابن في الثالثة من عمره كان اسمه صالح، وقد كان مصابًا بالدفتريا، وحزن عليه حزنًا شديدًا …
وحدث بعد ذلك سنة ١٨٩١ أن قضى عبد العال باشا حلمي نحبه في شهر مارس، وكان لوفاته حزن عميق في نفوس أصحابه، ورأوا في مصيره شبح مصيرهم فعظم عليهم ذلك، وقد ذكر عرابي نبأ وفاته بقوله: «وفي سنة ١٣١٠ توفي شهيد الوطنية والغربة عبد العال باشا حلمي، ودفن في قرافة قسم مردانة أيضًا وضريحه مشهور يزار، ومن كراماته ما شهدناه من اجتماع أسراب الطير فوق نعشه تسير بسير الجنازة حتى واريناه التراب، وقد أخذ العجب من الناس كل مأخذ».
وفي سنة ١٨٩١، زار السير توماس لبتن صاحب مزارع الشاي المعروفة باسمه، عرابي باشا ودعاه إلى زيارة مزارعه على نفقته، على أن يصحبه من يشاء من إخوانه، وقد رحب عرابي بهذه الزيارة ترويحًا للنفس واستجلاء للجنان من أكداس الصدأ الذي اصطلح عليه.
وعين السير توماس اثنين من وكلائه الإنجليز لمرافقة عرابي، ولم يذهب مع عرابي من أصحابه إلا علي باشا فهمي وكان أشدهم إخلاصًا ومحبة له …
يقول عرابي: «فقمنا من كولومبو ومعنا أخونا علي باشا فهمي والوكيلان المذكوران إلى مدينة كندي العاصمة القديمة ومقر الحكومة بطريق السكة الحديد، فوصلناها بعد أن قطع بنا القطار ٧٢ ميلًا، ومن ثم ركبنا قطارًا آخر إلى نوراليه، وهي آخر محطة للسكة الحديد، فبلغناها بعد قطع ٢٠ ميلًا، ومن هناك ركبنا المركبات وصعدنا إلى سطح جبل هناك، وأقمنا ليلتين في فندق يقال له: جراند أوتل … ولما سمع المسلمون بمقدمنا حضروا لزيارتنا والاحتفال بنا زرافاتٍ ووحدانًا … فشكرناهم على حسن ترحيبهم بنا … وفي اليوم الخامس وصلنا إلى دمبتنا، وهناك استقبلنا أهلها من المسلمين وغيرهم بكل بشاشة وإكرام، وبعد أن تغدينا في نزلها امتطينا جيادًا كانت معدة لنا وصعدنا إلى سراي السير توماس لبتن البعيدة عن النزل بحوالي أربعة أميال … وهناك وجدنا أسباب الراحة متوفرة، فأقمنا شهرًا كاملًا في ضيافة صديقنا سالف الذكر … ولإيجاد نوع البن اليمني في بلادنا المصرية أرسلنا إلى صديقنا المرحوم أحمد باشا المنشاوي تقاوي تكفي لزرع ٢٠ فدانًا حتى يعم انتشاره، كما أرسلنا له لهذا الغرض أحسن أنواع المانجة والموز الأحمر والأصفر المضلع أيضًا وغيره من الأصناف المتعددة من الفاكهة الزكية الرائحة اللذيذة الطعم مما رجوت انتشاره في مصر، وبعثنا إليه أيضًا بأنواع الحبهان والقرنفل والمنلا الطيبة الرائحة … ثم زرنا مصانع صديقنا السير لبتن بجهة بيراسيا ومكثنا بها شهرًا أيضًا» …
وفي سنة ١٨٩٢، أي بعد نحو عشر سنوات من مجيئه إلى كولومبو، انتقل عرابي إلى مدينة كندي، وسوف يظل بها حتى يعود إلى مصر … وقد أمر الحاكم بسفره إليها في صالونه الخاص بالسكة الحديد …
وقد سبق عرابي إلى مدينة كندى محمود سامي، ويعقوب باشا سامي فهمي، ولم يبق في كولومبو غير محمود فهمي باشا وكان قد أصيب بالفالج في جنبه الأيسر.
وذهب محمود باشا فهمي إلى كندي لتبديل الهواء، ونزل ضيفًا على محمد عرابي نجل عرابي باشا، وهناك قضى نحبه في ١٧ يوليو سنة ١٨٩٤ …
يقول عرابي: «ومدينة كندي هذه كائنة في واد ذي ثلاث شعب بين ثلاثة جبال، وبها بيت للحاكم ومحكمة نظامية في بيت ملوك طائفة السنهاليز … وفي المدينة المذكورة ضريح السيد شهاب الدين على مرتفع من الأرض يصعد إليه بمرتقى نحو ٢٠ سلمًا ومسجده عظيم متقن وهو حرم المدينة … وهناك مسجد آخر لطائفة الملاي، وكنيسة للبروتستانت وأخرى للكاثوليك، ومعابد لطائفتي السنهاليز والتامل … ويبلغ تعداد هذه المدينة ٢٠ ألف نفس، منهم نحو ١٠ آلاف من المسلمين وكلهم على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه» …
وصار لعرابي مكانة عظيمة بين سكان هذه المدينة، وقد سارع المسلمون باستيراد الطرابيش من الخارج، ولبسها أسوة به وبأصحابه، وبلغ من حبهم لعرابي وإجلالهم له أنهم كانوا يطلقون عدة طلقات من مدفع بجوار المسجد الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة كل أسبوع.
وذهب لعرابي صيت في الجزر المجاورة مثل ملاديف ولاكاديف وفي الهند وبورما والملايو، وقد أرسل إليه سلاطين هذه الجهات وبعض مهراجات الهند كثيرًا من الهدايا، وظلوا على مودته حتى عاد إلى مصر، وكان يستشيره سلطان جاوا في كل أموره ويعد رأيه دستورًا لا يمكن نقضه، ولما كان عرابي ممنوعًا من مغادرة الجزيرة كان ينيب عنه بعض أولاده في إجابة الدعوات التي ترسل إليه، ومن ذلك دعوة أمير حيدر أباد في الهند ودعوات سلطان جاوا وبعض سلاطين الملايو وغيرهم في جهات كثيرة.
وظل بعض أصحاب عرابي — وهم قلة قليلة — في مصر على الوفاء له، فكانوا يرسلون إليه الكتب، ومن هؤلاء أحمد باشا المنشاوي ومحمد بك الزمر وخضر بك خضر، والنجدي بك والشيخ أحمد عبد الغني، والشيخ محمد خليل الهجرسي وكان منفيًّا بالحجاز، وقد ضرب هذا الأخير المثل الأعلى في الوفاء؛ وذلك أنه لما انتهت مدة نفيه وهي خمس سنوات أرسلت إليه الحكومة إذنًا بالعودة إلى وطنه فرفض أن يعود «حتى يعود عرابي وحتى يموت توفيق أو يتنحى عن عرشه» …
ودأب الشيخ الهجرسي على إرسال كتبه إلى عرابي من الحجاز، وكان إذا سمع عن أحد رجال الثورة الباقين انحرافًا عن مبادئها كتب إلى عرابي ليسقطه من حسابه، ويتبين هذا فيما كتبه عن أمين بك الشمسي؛ فقد قابله أثناء الحج فكتب إلى عرابي كتابًا جاء فيه: «وقد زار المدينة عدة أناس منهم أمين الشمسي الزقازيقي، وإني لألتمس من دولتكم ألا تخاطبوه أبدًا في هذه الغربة حتى تنقضي هذه الكربة، فإنه أسيف على ضياع بعض أمواله وتغير بعض أحواله بسبب هذه المسألة ولا أسف له على المهم الأكبر من ضياع القطر وما حل بأعظم رجال الدين في هذا الأمر؛ لأن أمثاله في خدمة الدنيا فقط، أسال الله الكريم بجاه هذا النبي العظيم أن يردكم الرد الجميل مع الحظ والنصر والسعد الجزيل» …
وظل على الوفاء له من الإنجليز المستر برودلي، فلم تنقطع رسائله إلا بعد وفاته، وقد أرسل إلى أولاده بعد وفاة أبيهم يذكر لهم أنه على استعداد لمعاونتهم في المطالبة برد أملاك أبيهم …
وكتب له غير هذين عدد من المعجبين بحركته من الإنجليز، وخاصة بعض أصحاب الصحف والمجلات، وكانوا يسألونه كثيرًا عن حوادث ثورته …
وقد ذكر لي أحد أبنائه أنه على علم ممن لا يجهل ولا يكذب أن كثيرًا من الرسائل تبادلها والده ومصطفى كامل في أول حركته، وأن فارس نمر باشا حصل على الرسائل التي كانت لدى مصطفى كامل …
وفي فبراير سنة ١٩٠٠ سمحت الحكومة المصرية لطلبة باشا عصمت بالعودة إلى مصر حيث ساءت صحته وقررت جمعية من الأطباء وجوب سفره في تلك السنة ودفن بمدافن الإمام الشافعي.
وفي أكتوبر سنة ١٩٠٠ توفي بكندي يعقوب باشا سامي ودفن بجوار قبر محمود باشا فهمي، وكان قدر صدر العفو عنه ولكنه قضى نحبه قبل أن يصل إليه النبأ …
وأصيب محمود باشا سامي البارودي برشح في القرنيتين أفقده البصر وقرر الأطباء ضرورة عودته إلى مصر لمعالجته في المناخ الذي نشأ فيه، وعفا عنه الخديو عباس حلمي فعاد إلى مصر وردت إليه ممتلكاته المصادرة وجملة ريعها ولكن لم يعد إليه بصره، وتوفي سنة ١٩٠٤.
وقد حدث في ١٢ مايو سنة ١٩٠١، أن زار الجزيرة ولي عهد إنجلترا الملك جورج الخامس — فيما بعد — فاستقبل عرابي ورحب به وسأله عن صحته وعن حاله، وكانت هذه الزيارة سببًا في عودة عرابي، ولندع لعرابي أن يصف كيف كانت عودته، قال: «عرضت على سموه أني أعتبر تشريفه للجزيرة فكاكًا لنا من الأسر، فتكرم علينا بأنه سيسعى لدى الخديو في تحقيق أمنيتنا، ثم دارت المخابرة بين سموه وبين الحكومة الإنجليزية والحكومة المصرية في هذا الشأن …
وفي ٢٤ من الشهر المذكور، جاءنا تلغراف من حاكم الجزيرة يقول فيه: إنه قادم إلى كندي ليبلغنا شخصيًّا صدور أمر الخديو بالعفو عنا وعودتنا إلى وطننا العزيز، وعند حضوره توجهنا إليه وشكرناه على سعيه وعرضنا عليه أن لنا الحق في السفر على نفقة الحكومة التي حملتنا إلى تلك الجزيرة.
وفي أغسطس بارح علي فهمي باشا جزيرة سيلان، وبلغ القاهرة في أول سبتمبر من السنة المذكورة …
وفي ٤ سبتمبر بارحنا مدينة كندي صباحًا وكان صالون الحاكم معدًّا لنا فأقلنا القطار إلى كولومبو، أما احتفال أهل كندي بوداعنا؛ فقد كان عظيمًا حتى غصت أرصفة المحطة بالمودعين وفي مقدمتهم محمد أفندي يوسف والدكتور كيت طبيب عائلتنا وإبراهيم لبي وغيرهم، ولما وصلنا ثغر كولومبو نزلنا في منزل صديقنا المحترم كرمجي جعفرجي، وأقمنا به في انتظار السفينة المسماة برنس هنري الألمانية الآتية من الصين، وفي تلك المدة دعينا لتوزيع المكافآت على الناجحين من تلاميذ مدرسة ميردانة الإسلامية التي افتتحت بحضورنا على نفقة المسلمين.
وفي أصيل ٢١ سبتمبر سنة ١٩٠١ الموافق ٦ جمادى الآخرة سنة ١٣١٩ دخلت السفينة البرنس هنري ميناء كولومبو، وتغطى وجه الماء بالزوارق والرفاصات، وتكدست جموع المودعين تكدسًا هائلًا حتى لم نتمكن من الوصول إلى السفينة إلا بشق النفس، وهناك تليت علينا قصائد التوديع من نخبة أهل سيلان، ثم سلمت إلينا في محافظ من الفضة الخالصة البديعة الصنع …
ولما استقر بنا المقام في السفينة بعد مغادرة تلك الجموع المكتظة بها أقلعت بعد ساعتين باسم الله مجريها ومرساها تمخر في عرض المحيط الهندي لأول مرة، وقبلتها كنانة الله العزيز الحكيم، وكانت حمولتها ١٢٠٠٠ طن وسرعة سيرها ١٦ عقدة في الساعة وهي مستوفية لأسباب الراحة وكانت الرياح هادئة، وبعد قليل غابت شواطئ الجزيرة عن الأنظار …
على هذا النحو مرت الأيام والليالي حتى وصلنا خليج عدن والسفينة تتهادى في مياه البحر الأحمر … وبعد أن قطعت نحو ثلاثة آلاف ومائتي ميل رست في ميناء السويس وذلك في غروب يوم ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٣١٩، فقضيا تلك الليلة في السفينة وفي الصباح ودعنا من فيها وخرجنا إلى البر ونحن نتنفس الصعداء ونلهج بالدعاء لله — سبحانه وتعالى — بالوصول إلى بلادنا سالمين بعد مرور ١٩ عامًا تحملنا فيها آلام الفراق».