العائد الذي نُسي
غاب عرابي عن مصر ١٩ عامًا، وأقام بها الاحتلال الذي جاء للقضاء على العصاة فحسب هذه الأعوام التسعة عشر، وعمل الاحتلال في هذه السنين الطويلة على مد جذوره وبسط فروعه، على الرغم من وعوده المتكررة بالجلاء، بل يفضل هذه الوعود التي لم يكن يقصد بها إلا خدعة المسؤولين …
لم تكد تمضي خمسة أشهر على دخول الإنجليز مصر حتى تمت لهم السيطرة على الجيش والشرطة، أما جيش الثورة؛ فقد حلَّه توفيق بجرة قلم كما ذكرنا بتهمة العصيان، وأحل الاحتلال محله جيشًا جديدًا هزيلًا في قبضة سردار إنجليزي، ولم يكن للروح المعنوية سبيل إلى قلوب رجاله، بل كان السبيل للرهبة والنظر إلى الإنجليز نظرة السادة الذين أعادوا للخديو سلطته فهو مدين لهم بكرسيه، وإذا كان «أفندينا» يظهر الخضوع والولاء للإنجليز صغارهم وكبارهم، فكيف بالجند؟ وبلغ هذا المعنى أقصى مداه في حادث الحدود في يناير سنة ١٨٩٤؛ فقد أبدى الخديو ملاحظات على فرقة من الجيش المصري بقيادة ضابط بريطاني عند وادي حلفا، وعاب على الجيش سوء نظامه، فعد السردار اللورد كتشنر كلام الخديو إهانة له ولكرامة إنجلترا، وكان جزاء الخديو وقد بلغ الفيوم عند عودته إلى القاهرة أن مُنع منعًا صريحًا من دخول العاصمة إلا أن يعلن ثناءه على الجيش وإدارته؛ ليكون هذا بمثابة اعتذار منه، ولم يجد الخديو بدًّا من الإذعان، ثم سمح له بعد ذلك بدخول عاصمته، وثبت في نفوس الجند أن سلطة أي ضابط بريطاني أكبر من سلطة الخديو، وأن الرقي والإسعاد لمن كان له عند الإنجليز حظوة …
وأما الشرطة؛ فقد عين رئيس عام لهم من البريطانيين كان له سلطة الإشراف التام عليهم …
وسيطر الإنجليز على الشؤون المالية، وذلك بأن ألغوا الرقابة الثنائية، وعينوا مستشارًا عامًّا ماليًّا إنجليزيًّا في أوائل سنة ١٨٨٣ لا يبرم أمر من الأمور يتصل بالمال إلا بإذنه …
وقبض الإنجليز على ناصية الحكم والإدارة، فكان لكبار موظفيهم وصغارهم في الدواوين الكلمة العليا، والجاه والهيبة، تكفي كلمة من أحدهم لنقض أي أمر لأي وزير، والدليل على ذلك في هذا البلاغ الذي أصدرته الحكومة البريطانية إلى سفيرها في مصر ليحمله إلى شريف باشا بمناسبة إصراره على الاحتفاظ بالسودان: «ما دام الاحتلال المؤقت قائمًا فيلزم أن تكونوا على يقين من أن النصائح التي تزجونها لسمو الخديو وحكومته يؤخذ بها وتنفذ، ويجب أن يعلم النظار والمديرون صراحة، أنه ما دامت إنجلترا مضطلعة بالمسؤولية في مصر، فإن حكومة جلالة الملكة لا بد أن تطمئن إلى تنفيذ سياستها المرسومة وإلا وجب على النظار والمديرين أن يتركوا كراسيهم».
أما الدستور فيا أسفًا عليه، قد ألغاه الاحتلال وأحل محله في مايو سنة ١٨٨٣ ما عُرف بالقانون النظامي، وبمقتضاه أنشئ مجلس شورى القوانين وأنشئت الجمعية العمومية، وهما هيئتان لا سلطة لهما ولا شبه سلطة الغرض منهما خداع الأمة بأن لها مجلسين، بدلًا من مجلس واحد، وشتان بين هذين وبين ذلك المجلس النيابي الذي كانت الوزارة مسؤولة أمامه والذي وضعت وزارة البارودي أو وزارة الثورة دستوره، فجعلت به الأمة مصدر السلطات كما هو الحال في الدساتير الحديثة.
هكذا قضى الاحتلال على كل شيء، وجعل همه بث هيبة إنجلترا في نفوس المصريين والقضاء في عنف على أية محاولة لبعث الروح الوطنية مهما كان من ضآلتها، وألقيت مقاليد الأمور إلى كرومر أحد بناة الإمبراطورية وأحد أساطين الاستعمار …
وكان دعاة الاحتلال وألسنته يلقون في روع الناس أن حركة عرابي لم تكن إلا عصيانًا أهوج بعثه الطمع الشخصي، وأنه لولا أن تداركت إنجلترا البلاد من فوضى هذا العصيان الأحمق للحق بها الهلاك …
وثبت في أذهان ناشئة الجيل الذي أعقب الاحتلال أن عرابي هو سبب النكبة وأن «هوجة» عرابي هي التي جلبت الاحتلال، ومما يؤسف له حقًّا أشد الأسف أن بعض المصريين ما يزالون حتى الآن يرددون هذا الكلام.
وشاع الانحلال القومي في الأمة، وماتت روح المقاومة وخيل للناس أن الاحتلال قوة لا تقاوم أبدًا وأن هؤلاء الإنجليز المتسلطين لن يغلبهم غالب …
وفي هذا الجو الكئيب وصل أحمد عرابي باشا زعيم الثورة القومية إلى مصر، فلم يجد أحدًا من الجيل الناشئ يذكره ويذكر ثورته إلا بالسوء من القول، ولولا بقية ممن شهدوا الثورة وعرفوا حقيقة أمرها، ما لقيه في مصر أحد …
ولما نزلنا في محطة القاهرة أخذنا المركبات إلى منزل أولادي الكائن بشارع الملك الناصر في شارع خيرت، واجتمعنا بهم بعد غياب ١٩ عامًا، و٤ أشهر» …
وعاش عرابي في منزل أولاده بشارع خيرت كما يعيش عامة الناس، الرجل الذي كانت مصر كلها في قبضته، والذي خلعت الأمة طاعة الخديو لتطيعه في الدفاع عن وطنه، والذي أيده السلطان وراسله، والذي لم تجد إنجلترا بدًّا من إعداد حملة تحاربه وتحارب مصر المتوثبة في شخصه …
وكانت جريدة «اللواء» تناصر عباس فرأت أن تتلقى عرابي لقاءً كريهًا؛ ابتغاء مرضاته، كما رأى شوقي شاعر الأمير أن يهجو الزعيم العائد؛ تزلفًا إلى الأمير وعملًا بسنة قديمة للشعراء، مؤداها أن يمتدح الشاعر من يرضى عنه أميره وأن يذم من يغضب عليه ذلك الأمير دون أن يكون بين الشاعر وبين من يمدح أو يذم أية صلة …
وقالت جريدة «اللواء» وهي تعلم أنها كاذبة فيما تقول: إن اللورد كرومر جاء بنفسه إلى محطة القاهرة لاستقبال عرابي؛ وذلك لتلقي في روع الناس أن عرابي من صنائع الإنجليز …
ونشر شوقي قصيدة قال في مطلعها:
وفي مثل هذا الهذر من شاعر الأمير صورة من أخلاقه وصورة من روح العصر كله، ودليل على ما نقوله من اجتماع عوامل كثيرة على تشويه سيرة عرابي، كان القصر أيام توفيق وأيام ابنه عباس من أهمها …
ولو صدقت جريدة «اللواء» لخف إلى المحطة مع كرومر مئات من المصريين للقاء عرابي والحفاوة به لا ليظهروا له مودتهم، ولكن ليظهروا تملقهم لعميد الاحتلال صاحب القوة والجاه في مصر …
قال عرابي: «غير أن رجوعنا إلى وطننا العزيز لم يَرُقْ في نظر خصومنا الجهلاء؛ ظنًّا منهم أننا بعنا ذلك الوطن للإنجليز على اتفاق بيننا وبينهم، فأوعزوا إلى بعض الجرائد المأجورة، وفي مقدمتها جريدة «اللواء» بالتنديد بنا، والخروج علينا بألسنتها فوجهت إلينا سهام جهلها وضغنها».
ولولا أن إنجلترا قد وثقت كل الثقة من أن عودة عرابي لن تسبب لها متاعب في مصر ما أعادته …
ولم يكن عرابي ليستطيع بعد أن بسط الاحتلال سلطانه على هذه الصورة أن يعيد حياته سيرتها الأولى من الجهاد والعتاد، فإن الرماد الكثيف يطمر الجمرات التي أشعلها بالأمس وجعل نارها تتأجج …
وستبقى هذه الجمرات تحت الرماد حتى يهيئ الله لها زعيمًا فلاحًا آخر، هو سعد زغلول فما هو إلا أن ينفخ فيها من روحه القوية حتى تنبعث جبارة عاتية لا يطفئها طغيان …
وسوف تكون ثورة سعد في تاريخ مصر هي البعث لثورة عرابي وتكملتها، فعلى يد سعد تعود القومية المصرية التي بدأها عرابي، وعلى يد سعد يخذل الاحتلال الذي خنق ثورة عرابي، وعلى يد سعد يبعث الدستور الذي هتف به في مسمع الزمن أحمد عرابي حين واجه توفيقًا يوم عابدين بأنه جاء يتكلم باسم الأمة التي تطلب الدستور، ولا ترضى غيره قاعدة للحكم …