غريب في الوطن
رأى عرابي وقد أصدر الخديو عفوه عنه أن أدب اللياقة يقضي عليه أن يتقدم إليه بالشكر، وقد تصادف — كما ذكرنا — أن بلغ عباس الإسكندرية عائدًا من إحدى رحلاته في اليوم الذي بلغ عرابي فيه السويس عائدًا من منفاه، فأبرق إلى القصر يعبر عن شكره للخديو ويهنئه بسلامة العودة ويستأذن في المثول بين يديه … ولكنه لم يظفر من القصر حتى بالرد عليه …
وزار عرابي الوزراء في بيوتهم، فلم يرد أحدهم له الزيارة، وقد تألم عرابي لذلك كثيرًا؛ إذ إنه ما زارهم إلا لأن الواجب يقضي بذلك، قال في مذكراته: «وما فعلت ذلك إلا قيامًا بالواجب».
وخشي كبار الموظفين الاتصال بعرابي، وإلا أغضبوا الخديو، وكذلك أصدر كرومر أوامره للوزراء ألا يتصل به أحد؛ خشية أن يستغل اسمه في تنبيه الأذهان إلى مذلة الاحتلال، كما أشار إلى ذلك بلنت في بعض مذكراته … وهكذا يعامل عرابي معاملة من أساء إلى وطنه، وليس في مصر حينذاك من أحسن إلى مصر مثله.
وأحس عرابي أنه غريب في وطنه؛ فقد أنكره أكثر من كانوا يلتفون حوله إبان سلطانه، ومنهم من كان يود لو وجه إليه حينذاك عرابي نظرة، أو حياه بتحية.
ولولا بقية من أولي الفضل والإباء ممن كان الوفاء فيهم طبعًا لضاق عرابي بالحياة في وطنه وفضل عليها حياته في المنفى، وكان في مقدمة هؤلاء الذين تنكروا له علي فهمي باشا زميله في الثورة وفي المنفى، وإبراهيم فوزي باشا مأمور ضبط القاهرة إبان الثورة، والشيخ محمد خليل الهجرسي الصديق الوفي، والزبير باشا، ومحمد بك الزمر، والسيد باشا شكري المهندس وأحمد بك ناشد مدير الشرقية في أثناء الحرب، ورزق حجازي بك من رجال الثورة، وعبد الحميد باشا العبادي، وأحمد حمدي باشا، والشاعر حافظ بك إبراهيم، والدكتور محجوب ثابت، ومحمد بك أبو شادي المحامي وعلي بك آصف، ونفر قليل ممن كانوا يجلون عرابي ويحبونه …
ومما يؤسف له أن البارودي لم يزره إلا بعد عودته بأسبوع، ثم انقطع عنه ولم يزره بعدها أبدًا … وفي أكتوبر سنة ١٩٠١ جاء صديقه المستر بلنت إلى مصر، وزاره في منزله، وكان يزوره دائمًا كلما جاء إلى مصر، وفي ٢٤ من هذا الشهر جمع بلنت بينه وبين الشيخ محمد عبده بحديقته بالشيخ عبيد وقد شهد هذا اللقاء علي باشا فهمي.
وتعانق الزعيم الشيخ، والأستاذ الإمام عند اللقاء، وقد اجتمعت ذكريات الثورة في هذه اللحظة، ولكن عرابي ما لبث أن أغلظ للإمام في القول حين تشعب الحديث إلى الثورة وحوادثها ولامه على مصانعته الخديو في بعض ما كتب …
وكان عرابي يؤدي صلاة الجمعة في جامع الرماح بالناصرية، أو بمسجد السيدة زينب، أو بمسجد الحسين — رضي الله عنهما — وكان يتزاحم عليه الناس لرؤيته والسلام عليه …
وقد حدثني كثيرون ممن رأوه في تلك الأيام، فقالوا: إنهم لن ينسوا قامته الطويلة ولا لحيته البيضاء ولا وجهه الذي تنبعث منه هيبة شديدة ويشع منه الإيمان والورع في وقت واحد، ولا مسبحته التي كانت لا تفارق يده، ولن ينسوا إقبال الناس عليه كلما رأوه وإشارتهم إليه، وتزاحمهم لرؤيته إذا كان جالسًا في دكان، أو في مسجد، وقولهم: هذا هو عرابي، وسؤال بعضهم بعضًا: هل رأيت عرابي؟ ها هو ذا عرابي …
وكان عرابي يخرج أصيل كل يوم في فصل الصيف للرياضة، فيذهب في عربته إلى الجزيرة أو شارع الهرم فيقضي ساعة أو بعض ساعة، وكان وجهاء المدينة في الشوارع التي يمر بها ينهضون وقوفًا إذا مر بهم وهم جلوس أمام منازلهم حسب عادة الناس في تلك الأيام ويحيونه برفع أيديهم إلى رؤوسهم إجلالًا له، وكان يرد عليهم تحياتهم شاكرًا لهم جميل صنعهم …
•••
وكان من أشد ما يتألم منه عرابي وهو مقيم مع أولاده بعمارة البابلي بشارع خيرت، ضيق ذات يده، فإن المعاش لم يكن يكفيه هو وأسرته الكثيرة العدد …
وحق للرجل أن يتألم؛ فقد كان من الجحود أن يظل هذا الزعيم محرومًا من أملاكه التي حللها الله له، فيعيش وهو الأبي الكريم حياة المعسرين، وقد كانت مصر كلها طوع يمينه ذات يوم … وذلك ما كان يبث في نفسه الشعور بالغربة في وطنه، فهل هذا جزاء ما قدمت يداه من خير لهذا الوطن، وما بذل من جهود في سبيل إصلاحه والنهوض به؟
وقضى عرابي أيامًا كانت شديدة الوطأة عليه، يحسبه الجاهلون غنيًّا من التعفف، وإنه ليقاسي مما هو فيه العذاب الأليم …
وكتب عرابي للخديو، يرجو منه رفع هذا الحيف عنه، فما رجع من كتابته بطائل، ولم يظفر حتى برد، وكتب للحكومة فأعرضت عنه أشد إعراض، وكانت حجته في تلك المكاتبات أن مصادرة أملاكه لا تتفق مع العدالة ولا مع الشرع؛ لأنه لم يصدر بناء على حكم شرعي ثم إن العفو صدر عنه فرجع إلى وطنه، فلم يكن العفو ناقصًا لا يشمل العقوبة كلها؟
وكان يكرر عرابي ما أورده على أنه حديث وهو: «مال المسلم على المسلم حرام» …
ونسي عرابي، أو لعله تناسى أن العفو عنه لم يكن بإرادة عباس، وإنما كان بشفاعة ولي عهد إنجلترا، وهي شفاعة لا ترد، ولو أنها شملت إعادة ما أخذ منه لأعيد إليه دون أن ينقص درهمًا واحدًا …
واشتكى عرابي إلى من كانوا السبب في نفيه، ولكن الإنجليز يحيلونه على الحكومة المصرية قائلين: إنهم لا يستطيعون التدخل في مسألة هي من اختصاص الحكومة المصرية، وذلك هو دأبهم، يتدخلون في كل شيء تقضي مصلحتهم بالتدخل فيه ويحتجون حين لا يريدون التدخل في أمر بأن ذلك من اختصاص الحكومة المصرية …
والواقع أن مصادرة ممتلكات عرابي وأصحابه على الصورة التي تمت بها لا تستند إلى شيء من القانون أو الشرع فالمعروف أن تباع أملاكه ويؤدى إليه ثمنها، أما أن تؤخذ هكذا بغير حكم قضائي وليست وفاء لدين أو تعويضًا عن مال سلب، فهذا ما لم يسبق به حكم في مصر ولا في غير مصر …
ولقد يئس عرابي من إقناع أولي الأمر برد حقه المغتصب، يقول في مذكراته: «ومن حيث إن الحكومة المصرية لا تريد أن تسمع الحق، ولا ترد على من يتظلم إليها أو هي لا تقدر على الإجابة ولا على أي عمل ضد إرادة الإنجليز، كما أن الحكومة الإنجليزية لا تريد أن تتوسط في إقامة العدل ودحض الظلم ورد أملاكي المنهوبة بقوة الاحتلال وتحيل شكواي على حكومة سمو الخديو وهي لا تقدر على عمل ما بدون أمر الإنجليز؛ فقد تركت لأولادي وحفدتي من بعدى وذريتي جيلًا بعد جيل الحق في المطالبة بحقوقي وأملاكي المنهوبة من الحكومة المصرية ومن المجلس النيابي المصري حين تسترد الأمة حريتها واستقلالها ومجلسها النيابي، وإني واثق بأن أمتي المصرية الكريمة لن تنساني، ولن تترك أولادي حين يأتي اليوم الذي تعرف فيه حقيقة أعمالي الوطنية الواجبة على كل وطني حر».
ونحن نقول: أنه حان أن تنصف مصر عرابي وأن تعرف حقيقة أعماله الوطنية كما يقول، ولقد دأب أبناؤه؛ عملًا بوصية أبيهم؛ ورغبة في الوصول إلى حقهم المهضوم، بالشكوى إلى ولاة الأمور منذ أن تألفت الوزارة الوطنية الثانية برئاسة الزعيم القومي الثاني، سعد زغلول، ولئن حالت دون إحقاق هذا الحق مشاغلُ وظروفٌ لا داعي لتفصيلها الآن فإنا نحسب أن الوقت الذي ترد مصر فيه الجميل لعرابي هو هذا الوقت الذي تقتلع فيه ما بقي من جذور الاحتلال …
ويسرنا أن نثبت في هذا التاريخ آخر خطوة رسمية حتى يومنا هذا؛ فقد تقدمت اللجنة المالية إلى مجلس الوزراء في صيف سنة ١٩٤٧ بمذكرة جاء فيها: «وقد استخرجت مصلحة الأملاك بيانًا عن مساحة هذه الأملاك من الملفات المحفوظة، فوجدت أنها ١٢ س، ٦٩ ط، ٤٦١ ق، وقدرت ثمنها حسب الأسعار الحالية بمبلغ ٤٨٦٦١٤٢٢ جنيهًا.
وقد طالب ورثة عرابي باشا مرارًا وتكرارًا بإعادة أملاك مورثهم إليهم، تلك الأموال التي يقدرونها بتسعمائة فدان، إلا أن هذه المطالبات كان نصيبها الحفظ في ٢٤ مارس سنة ١٩٣٨، ٢ يوليو سنة ١٩٤٠، ٢٧ مايو سنة ١٩٤٢».
وتذكر وزارة المالية أن مسألة إعادة أملاك أحمد عرابي باشا المصادرة، إلى ورثته يجب أن ينظر إليها بمنظار اليوم، لا بمنظار الأمس الذي انقضى بآثاره ونتائجه وتقادم عهده وانقضى عليه زهاء ثلثي قرن، تعاقبت فيها أجيال وتغيرت فيها النظريات والعقائد، وأصبح ينظر إلى الثورة العرابية بأنها كانت حركة وطنية صميمة في مصريتها، نبيلة في أغراضها، سامية في مقاصدها، وقد دافع عرابي باشا عن المبادئ والحريات التي يحارب من أجلها العالم الآن والتي يضحى لها بالملايين من البشر، وإن النظرة الحديثة إلى عقوبة مصادرة الأملاك لا تعتبرها عقوبة عادلة رادعة، كما كان يؤخذ بها في العصور الماضية، بل عقوبة متعدية إلى غير الشخص المقصود بذاته، إلى ورثته الأبرياء الذين لم يقدموا على جرم أو يقترفوا ذنبًا يستحقون عليه الحكم بالفقر، والعوز، والحرمان.