الفلاح الزعيم
أدى حادث قصر النيل وانتصار عرابي وزميليه على هذه الصورة التي وصفنا إلى ذيوع صيت عرابي على نحو لم يسبق لفلّاح قبله في مصر منذ قرون، فما يذكر تاريخ مصر منذ أن منيت بالفتح والقهر أن قام من بنيها رجل من أعماق القرى فتمرَّد على ما يعتقد أنه ظلم يحيق به وببني جنسه، كما تمرد واجترأ هذا الفلاح فأبعد من الوزارة شركسيًّا قوي الشوكة، وأملى رغبته على رئيس الحكومة بل وعلى الخديو إملاءً ونال بغيته غلابًا، ولم يكُ بالذي يغفل عما كان عسيًّا أن يؤدي إليه صنيعه هذا من هلاك …
والحق أن هذا العمل يومذاك كان بالغ الجرأة، فقد كان المصريون يدينون بالطاعة للخديو ويهابون سلطانه وجاهه، ويرون فيه سيدًا وضعه الخليفة حيث كان ليطاع ولتعنو له الوجوه، وما كان يتصور أحد أن يذهب إلى مقرِّ سلطانه رجل نشأ في قرية ومن ورائه جند فلاحون مثله فيقولون له: نحن نريد ونحن نطلب ثم يظفرون بما أرادوا وينقلبون لم يمسسهم العذاب الأليم.
وسرعان ما دار اسم ذلك الفلاح الثائر الظَّافر على كل لسان في القاهرة، وسمع بذلك الاسم من لم يسمع به من قبل من الأجانب ومن لم يكن يعرفه من المصريين …
ولم يقف الأمر عند القاهرة، فقد رَنَّ هذا الاسم في القرى وتغلغل في أعماقها؛ فأفاق على رنينه أولئك الأعيان والشيوخ الذين تعوَّدُوا منذ القدم أن يخضعوا خضوعًا مطلقًا للأتراك والشراكسة الذين كانوا ينظرون إلى الفلاحين جميعًا مهما يكن من ثراء بعضهم نظرتَهم إلى دوابِّهم، والذين كرههم الفلاحون بقدر ما خافوهم، ولكنهم لم يجدوا من الإذعان لهم من بد …
عجب أولئك الفلاحون أن يجرؤ رجل منهم على تحدي الخديو والرؤساء الشراكسة، فتعلَّقوا بهذا الرجل ولم يروه، ورغب الكثيرون منهم في رؤيته، فقدِموا إلى القاهرة يحملون إليه الهدايا ويعربون له عن محبتهم إياه وإعجابهم بمبادئه التي كان قوامها إنصاف الفلاحين في الجيش، وراح عرابي يخطبهم شاكرًا إياهم باثًّا فيهم روح الحرية والإباء.
وليت شعري ماذا تكون الزعامة إذا لم تكن هذه زعامة؟ ألسنا نرى الآن في عرابي شخصيتين: شخصية الجندي الذي يسير بمطالب الجند على رأس الجند، ثم شخصية الفلّاح الزعيم الذي بدأ الفلاحون به يرفعون رؤوسهم وقد خفضوها أجيالًا طويلة؟ ألَا إني لألمس في تلك الصحوة فجر عصر جديد للقومية المصرية، كان عرابي أول مؤذّن به، ألمس ذلك الفجر الذي سوف ينبلج صباحه بعد قليل على صيحة أخرى كانت صَدًى لهذه الصيحة هتف بها فلاح آخر برز من القرى كما برز عرابي، وذلك هو سعد ابن مصر العظيم وأحد أبطالها ومفخرة رجالها …
ولئن كان جمال قد أيقظ الغافين في المدن، فإن عرابيًّا قد بعث بإقدامه أهل القرى من مراقدهم، فإن عمله هذا أوحى إليهم أنه من الممكن أن يخرج من بينهم من يَشْمَخ بأنفه على أولئك الذين طالما استذلُّوا في مصر الرقاب …
ولَقِيَ عرابي — وقد أصبح في رأي الناس حامي الأمة من المظالم — تأييدًا من العلماء الذين أعجبوا بجرأته وحميته.
ولم يبلغ عرابي هذه المكانة في نفوس الناس بعلم اشتُهر به أو فلسفة عمل على تمكينها في النفوس، أو آراء في الإصلاح والنهوض عمل على إذاعتها في الناس كما فعل جمال الدين وكما فعل من بعده تلميذه محمد عبده، وإنما بلغ عرابي ما بلغه من الصيت بحميَّته وغَيْرته، ثم بصلابة عوده وجرأته، وكانت تلك الخلال هي أخص ما يطلب يومذاك، حيث كان يحيط بالناس البطش والتخويف، ويقعد بهم الذل والخوف.
وعلى الذين ينكرون أقدار الرجال أن يتدبَّروا في موقف عرابي هذا، ثم لينظروا بعد ذلك هل كان صنعه ضئيلًا كما يزعمون، ولكنا لا نوجه القول إلى هؤلاء وأمثالهم ممن يكتمون الحق وهم يعلمون …
وهل ذاع صيت ميرابو واغتدى في قومه زعيمًا بفلسته وثقافته وهو المفكر الواسع الأفق، أم كان ذلك بصيحة منه تحدّى بها القوة فملأت أسماع قومه ونفذت إلى كل قلب في فرنسا يؤمن بالحرية، يوم كانت فرنسا في مفترق الطرق إما إلى الحرية، وإما إلى العبودية؟
ولو أن جاندارك كتبت ألف كتاب أو خطبت الناس ألفَ خطبة، أكان ذلك يساوي لبسها الدرع واعتلاءها صهوة جواد وسيرَها تقود الرجال مُؤْمِنة إما إلى القبر وإما إلى النصر؟
إن الخطوة الأولى في كل حركة تتطلب إقدامًا وبسالةً كانت — وما تزال — هي التي تنقل التاريخ من صفحة إلى صفحة، وما يغفل عن قيمة الإقدام وخطره وبُعد أثره إلا مكابر جحد به واستيقنته نفسه …
وما ندعي أن عرابيًّا قد اتفقت له صفات الزعامة كلها أو أكثرها، ولكنا منه تلقاء صفة لن تقوم بدونها زعامة، تلك هي الشجاعة التي يأبى معها الرجل أن يَذِلّ، ويزيد في جلال هذه الشجاعة بروزها في وقت كذلك الوقت الذي نتحدث عنه، ذلك الوقت الذي لم يكن يجد فيه الشجاع إلا قليلًا ممن يتأسَّى بهم أو يسير على نهجهم، والذي ألف فيه الذل حتى نسي الناس أنهم في ذُلّ، والذي لم يكن فيه لذي النخوة عاصم من قانون أو دستور أو رأي عام، أو ما إليها مما يَستعصم به الناس اليوم من جَوْر الطاغين ومكر المستبدِّين.
•••
يقول بلنت في كتابه: «كان تاريخ هذه القلاقل العسكرية في قصر النيل هو أول فبراير سنة ١٨٨١، وقد حدث وكنت لا أزال في مصر ولكن بعد أن غادرت القاهرة، ولستُ أتذكر أني سمعت اسم عرابي يذكر قبل حدوثها، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وسرعان ما صار اسمه على كل لسان، اسم رجل نجح في تحدي الحكومة والظهور عليها وإحداث تغيير في الوزراء، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر أو على الأقل أصبح يُعزى إليه القوة، وصارت تتقاطر عليه — كما هي العادة في مصر — الظلامات من أناس عانوا الظلم ويطلبون معونته للوصول إلى العدالة. ولقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره في ثورته بمظهر الذي يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتّصل به كثيرون من الأعيان ومشايخ البلاد، وكان يرد على كلٍّ بما يسعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر في الناس تأثيرًا حسنًا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذَّابة وفصاحته في الحوار، ولقد اتّفق كل الاتفاق لعرابي في مظهره الشخصي من المواهب ما يهيئه إلى ما ندب له من دور يلعبه في تاريخ مصر ممثلًا طبقته، فهو فلّاح كأدقّ ما تكون صورة الفلاح، طويل القامة، ثقيل الساقين، بطيء الحركة إلى حد ما، وبهذه الصفات تتمثّل لنا فيه قوة البدن الممتلئ التي هي من خصائص الفلاح العامل في دلتا النيل، ولم يكن له شيء من خفة الجندي، وكان في ملامحه شيء من ذلك السكون الذي أكسبه الوقار والذي يلمحه المرء في وجوه مشايخ القرى، وكانت ملامحه مظلمة في حال سكونه، وكانت لعينيه نظرة جامدة كنظرة الحالم، وليس يفطن المرء إلا حين يبتسم أو يتكلم إلى ما بنفسه من ذكاء عظيم وعطف، فعندئذ يُشرق وجهه كما يشرق المنظر المظلم بنور الشمس … ويجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر كله لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى أن يصبح داعية إصلاح أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقًّا إلى الثورة.»
•••
والحق أن مجرد غضبة مصري في مثل ذلك الوقت لمصريته ودفاعه عن قوميته كان يعد من ضروب الشجاعة التي تبلغ — لما أحاط بها من ملابسات — حدَّ البطولة، ولن ينكر على عرابي المصري الفلاح ما في غضبته من معاني الزعامة والبطولة إلا مُغرِض أو جاهل، وهو لم يغضب فحسب ولم يعلن غضبه حتى رأى الخوف فنكص، وإنما طالب رئيس الوزراء بما اعتقد أنه الحق غير هيّاب ولا متلعثِم، وأخذ يعد العدة بعدها لما عسى أن يُدبّر له من كيد، ولم يرضَ من الغنيمة بنجاته مما وقع فيه، وإنما ذهب على رأس جنده وحمل الخديو على إجابة ما يريده الجيش، فأبعد من منصبه ذلك الوزير الشركسي الذي كان يبعد المصريين من مناصبهم لا لشيء سوى أنهم مصريون …
بهذا الذي فعله ذلك الفلاح الثائر حقّت له الزعامة على الفلاحين من بني قومه، ولكن الأمر لم يقتصر على الفلاحين، فقد بات يخطب وده رجال الحزب الوطني كما سنبيِّنه في موضعه …
•••
وأصبح بيت عرابي مقصد الكثيرين من الأحرار كما كان موئل رجال الجيش، ولم يجعل منه الوطنيون أداة لتنفيذ أغراضهم كما زيّن البغي أو الجهل لبعض المؤرخين أن يقولوا، فلقد كان مؤمنًا بمبدأ الشورى كإيمانهم به، كما كان يكره المستبدِّين من الشراكسة ومن المصريين أكثر مما كان الوطنيون يكرهونهم، ولقد تجلَّى من قبل ميله إلى كل من يعطف على المصريين في علاقته بسعيد باشا وشدة ولائه له …
وهكذا أصبح عرابي الفلاح ملتقى الآمال، يحرص على الصلة به الوطنيون والجند والفلاحون، ولقد بلغ من ذيوع صيته أن أصبح توفيق يغار منه حتى ما يستطيع أن يخفي تلك الغيرة.
ومما ذكره بلنت في هذا الصدد قوله: «وكان توفيق كما رأينا رجلًا متقلِّب الأهواء، فبينما كان لا يزال ينوي أن يعتمد على الجيش للتخلص من رياض، كانت تساوره نوبات من الحقد على عرابي لما يرى من سرعة ذيوع صيته، وكان هذا الصيت جدّ ملحوظ طيلة أشهر الصيف، وقد أدى إلى اتصاله بعدد كبير من شيوخ القرى وأعيانها، أولئك الذين كانت دعوة تحرير الفلاح — تلك الدعوة التي تولى قيادها — شيئًا تتوق إليه نفوسهم، وأخذ الناس في الأقاليم يذكرونه بقولهم: «الوحيد». وقد استحق هذه التسمية حقًّا؛ فإنه كان في مدى عدة قرون الرجلَ الوحيدَ من صميم عنصر الفلاحين الخالص الذي استطاع أن يقاوم بنجاح طغيان رجال الطبقة الحاكمة من الأتراك والشراكسة.»
•••
آن لمصر بعد طول المذلّة أن تجد الرجل الذي يترجم عن آمالها ويدافع عن حقوقها وينطق باسمها، فاتجهت كما اتجه الجيش إلى هذا الفلاح الزعيم.
وعندي أن الحركة التي تعدّ مكملة لثورة عرابي أو بعثًا لها هي ثورة مصر الثانية سنة ١٩١٩، وأن الزعيم الذي يلحق جهاده بجهاد أحمد عرابي وتضاف مبادئه إلى المبادئ التي دعا إليها أحمد عرابي هو سعد زغلول الفلّاح الزعيم الثاني، ولكن في صورة غير صورة سابقه، وفي ظروف غير ظروفه ومجال أوسع من مجاله وإن اتّفقا في روح مبادئهما وقومية بواعثهما وأغراضهما، كلٌّ من الثورة التي حمل لواءها …
وما ننسى أن سعدًا قد أعطى هذا الزعيم الأول حقه؛ إذ كان يستعرض ذات مرة أطوار الوطنية المصرية فذكر له ما لا يمكن أن يُنسى له من فضل.