يوم عابدين
هذا هو اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة ١٨٨١، أعظم يوم في تاريخ القومية المصرية، ذلك التاريخ الذي افتتح في شهر مايو سنة ١٨٠٥ حين سار السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي على رأس جمهور المصريين إلى منزل محمد علي فألبسوه شارة الحكم دون أن يستأذنوا السلطان …
وأخلق بهذا اليوم المشهود أن يكون له في نفوس المصريين مثل ما لليوم الرابع عشر من شهر يوليو في نفوس الفرنسيين … وعلى الذين يُعْنَوْن بتاريخ الحركة القومية في مصر أن يعلِّموا أبناء هذا الشعب أن اليوم الذي نتحدث عنه هو بدء حياتهم أمةً لها كرامة …
أخذ عرابي للأمر عدته على خير ما يستعد الرجل اليقظ إلى عواقب الأمور، فكتب إلى وزير الحربية يطلب إليه أن يُبلغ الخديو بأن آليات الجيش جميعًا ستحضر إلى ساحة عابدين في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة ٩ سبتمبر «لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها».
وأرسل عرابي إلى قناصل الدول يقطع عليهم سبيل الدَّسّ والنّقول، فأنبأهم أن لا خوف على أحد من الأجانب فإنها سوف تكون مظاهرة سلمية تقتصر على أحوال البلد الداخلية …
قال بلنت: «كان للمظاهرة كل ما يرجِّح أنها كانت سلمية، فلِكَيْ يقلّل عرابي من خطر ما قد يكون من سوء الفهم، كتب إلى الخديو ينبئه بما اعتزم هو وزملاؤه من خطة، ويقولون إن الدليل على أنهم لا يبغون بها عداءً لشخصه أنهم لم يذهبوا إليه في قصره بحيِّ الإسماعيلية، وأنهم قصدوا مقره الرسمي في عابدين، وتوسلوا إليه أن يلقاهم هناك ليستمع إلى شكواهم.»
ذعر الخديو وذعر رياض وقد دعاه إليه كما دعا ستون باشا رئيس أركان حرب الجيش وأحمد خيري باشا رئيس ديوانه ليشاورهم في الأمر.
ورأوا أن يحاولوا إقناع عرابي بالإقلاع عن هذه المظاهرة، فأوفد الخديو إليه ياوره طه باشا لطفي، ورفض عرابي أن يعدِل عما صَمَّمَ عليه، وأخبره بأنه لا يريد أكثر من «أن يعمل مظاهرة عادلة لابد منها لضمان حرية الأمة وسعادتها».
وفي هذا الذي صنع الخديو ومن معه أبلغ دليل على ما وصلوا إليه من ضعف وقلة حيلة.
هذا ما أشار به كلفن وما نراه يحمل كما يقول كرومر: «قسطًا من تلك الروح التي تحيي جنسه الإمبراطوري» إلا على المعنى الذي نفهمه نحن، وذلك أنه يلقي الزيت والحطب على النار حتى لا تُبقي ولا تَذر، وبعدها تقتنص الفريسة، مصر المسكينة، بدعوى إنقاذ البلاد من نار الفتنة. وما أظن ذلك القول محتاجًا إلى دليل، فهذا الذي يدعو إليه كلفن لو وقع فلن يكون إلا حربًا أهلية شرّها مستطير وهولها خطير …
توجه الخديو إلى عابدين قبل حضور الفرق بزمن ليس بالقصير، ومعه كلفن ورياض وستون، فاستدعى علي بك فهمي رئيس الحرس، وأشار عليه بالدخول إلى القصر بفرقته والتحصن بالنوافذ العليا، وقد نصح للجند بقوله: «أنتم أولادي وحرسي الخصوصي فلا تتبعوا التعصب الذميم، ولا تقتدوا بأعمال الآليات الأخرى.»
فأطاع الجند وأخذوا يتأهبون …
وسار الخديو بعد ذلك إلى القلعة يحاول أن يثني آلايها بنفسه عما اعتزم، ولكنه لم يجد منه شيئًا مما وجد من حرسه من ولاء، فسار إلى العباسية حيث كان آلاي عرابي، ولكنه علم هناك أن عرابيًّا سار منذ ساعة على رأس جنده ومعهم المدافع بطريق الحسينية إلى عابدين فقفل أدراجه إليها …
وفي عصر ذلك اليوم المشهود التاسع من سبتمبر سنة ١٨٨١ تحرك الجيش يقصد عابدين، فخطت الثورة الوليدة أجرأ خطواتها وأبعدها أثرًا في تطور حوادث ذلك العهد …
وتلاقى عرابي في ميدان عابدين بالآلايات الأخرى بقيادة أحمد بك عبد الغفار وعبد العال بك حلمي وإبراهيم بك فوزي وفوده أفندي حسن وغيرهم من أنصاره. وكان عدد الجند المحتشدين نحو أربعة آلاف ومعهم المدفعية، وأرسل عرابي يستدعي علي بك فهمي من داخل القصر فعاتبه، فرد بقوله: «إن السياسة خداع.» ثم ذهب فعاد بفرقته، وانضم إلى الجيش فأصبح القصر خاليًا من كل عناصر المقاومة، وكان فيما صنع علي بك فهمي كثير من الخير لأنه الجهة الوحيدة التي كان يُخشى منها خطر الحرب الأهلية …
وتجمع وراء صفوف الجيش آلاف من أهل القاهرة الذين أخذتهم الدهشة لهذا المنظر لا ريب، واشرأبّت أعناق الشعب التي طالما ألفت الذّلة، وتطلّع من فوق أكتاف الجند، ومن خلال صفوف الفرسان لينظر ماذا يكون في هذا الموقف الرهيب، واسم عرابي يجري على الألسن في حين تدور الأبصار باحثة عن موضعه وهو على ظهر جواده أمام جنده يتأهب لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي ألبس جده بالأمس الكرك والقفطان شارتي الحكم دون رجوع إلى السلطان، وما أعظم كلمة مصر ينطق بها فلاح من أعماق الوادي نبت ونما على ثراه …
ووصل الخديو إلى عابدين بعد أن فشلت سياسة طوافه على الآلايات، تلك السياسة التي تدل في ذاتها على منتهى الضعف، والتي لا يشفع له في اتباعها سوى أنها كانت آخر سهم في جعبته إن كان هذا شفيعًا. والحق أن الخديو قد لاقى في ذلك الطواف ما تنخلع منه أفئدة أقوى من فؤاده. وحسبك أن فرقة القلعة ثارت في وجهه حينما أمسك بنفسه بتلابيب قائدها فودة حسن حتى لقد وضع العساكر الأسنة في بنادقهم بأمر من هذا القائد، وتجمهروا حول الخديو حتى صاح بالقائد: «أفسح لنا الطريق يا بكباشي.»
ودخل الخديو السراي من الباب الخلفي، باب باربز، ويقول كلفن إنه قفز من العربة وأشار على الخديو أن يسير من فوره إلى الميدان ففعل توفيق ذلك، وسار إلى حيث اجتمع الجند، ووراءه ستون باشًا وأربعة أو خمسة من الضباط الوطنيين وواحد أو اثنان من الضباط الأوربيين، ويذكر عرابي أنه كان معه كذلك كوكسن قنصل إنجلترا بالإسكندرية والجنرال جولد سمث مراقب الدائرة السنيّة.
وتقدم الخديو ثابتَ الخطى، فأشار عليه كلفن أن يأمر عرابيًّا بتسليم سيفه متى دنا منه، وأن يأمره بالانصراف ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر.
وسار عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو، صاح به الخديو قائلًا: «انزل» فوثب عرابي من فوق جواده، ومشى نحو الخديو ومن حوله نحو خمسين ضابطًا، فأدى التحية العسكرية، وأشار الخديو إشارة ذات معنى إلى سيفه فأسرع عرابي بإغماده.
الموقف رهيب بالغ الرهبة! ففي هذا الجانب حيث يقف الجند نرى مصر التي أيقظتها المحن والفواجع تتمثّل في هذا الجندي الفلاح تجري على لسانه كلمتها في غير التواء أو تلعثم، وفي الجانب الآخر صاحب السلطان الموروث تغضبه هذه اليقظة وتذهله، مع أنه رآها منذ بدايتها، ورأى أباه على جلالة قدره يوسع له صدره ويخفض لها جناحه فيزداد بذلك رفعة …
هنا الحرية الوليدة والديموقراطية الجديدة، وهناك التقاليد العتيدة والأوتوقراطية العنيدة، ومن وراء ذلك الثعالب وبنات آوى تتمسكن لتتمكنَّ، ونتربص لتنقضّ!
والتاريخ شاهد يثبت للقومية المصرية موقفًا من أروع مواقفها، ومظهرًا من أجلِّ مظاهرها، ويضيف بذلك إلى صفحات الحرية في سجلّ الأمم صفحة جديدة لن تُبْلِي الأيام جدتها، أو تبخس أغراضُ المبطلين قيمتَها.
تلفت الخديو بعد ذلك إلى كلفن قائلًا: «أسمعت ما يقول؟» فأشار عليه هذا بالعودة إلى القصر إذ لا يجمل أن يزيد الأمر بينه وبين عرابي عن هذا الحد، فانصرف الخديو وبقي الجيش في مكانه لا يتزحزح.
وأقبل كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية، وكان ينوب عن القنصل العام السير إدوارد مالت لغيابه، أقبل هذا ومعه ترجمان يناقش عرابيًّا في غلظة مقصودة، وكان هذا الإنجليزي كرجال الاستعمار جميعًا من بني جلدته ممن يحسنون دسّ أنوفهم في كل شيء، ومما وجّهه إلى عرابي قوله أن لا حق له في أن يطالب بالمجلس النيابي وإسقاط الوزارة، فذلك من شأن الأمة، أما عن زيادة الجيش فمالية البلاد لا تساعد على ذلك …
وأجاب عرابي بقوله: إن الأمة أنابت الجيش عنها، ثم وجّه نظر محدثه إلى الجموع المتراصة خلف الجند قائلًا: هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها، ويحسن أن نورد عبارته بنصها. قال: «اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهالي لم أعمد إليها إلا لأنهم أقاموني نائبًا عنهم في تنفيذها بوساطة هؤلاء العساكر الذين هم عبارة عن إخوانهم وأولادهم، فهم القوة التي تنفذ بها كل ما يعود على الوطن بالخير والمنفعة، وانظر إلى هؤلاء المحتشدين خلف العساكر، فهم الأهالي الذين أنابونا عنهم في طلب حقوقهم، واعلم علم اليقين أننا لا نتنازل عن طلباتنا، ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.»
قال القنصل: «علمت من كلامك أنك ترغب في تنفيذ اقتراحاتك بالقوة، وهذا أمر ينشأ عنه ضياع بلادكم وتلاشيها …»
قال عرابي: «كيف يكون ذلك؟ ومن ذا الذي يعارضنا في أحوال داخليتنا؟ فاعلم أننا سنقاوم من يتصدى لمعارضتنا أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا …»
قال القنصل: «وأين هي قوتكم التي ستدافع بها؟»
قال عرابي: «عند الاقتضاء يمكن أن نحشد مليونًا من العساكر يدافعون عن بلادهم ويسمعون قولي ويلبون إشارتي.»
وسأل كوكسن عرابيًّا بعد هذا سؤالًا يتجلّى فيه خبثه وقد ظن أنه أحكم الرمية فقال: «وماذا تفعل إذا لم تجب إلى ما تطلب؟»
فانظر إلى رد هذا الجندي في هذا الموقف الذي تخفّ في مثله أحلام الرجال، والذي تزدهي القوة فيه القلوب فتسلب ذوي العقول اتِّزان عقولهم، انظر إلى عرابي في موقف الثورة يقول له: «أقول كلمة أخرى.» فقال القنصل: «وما هي؟» قال عرابي «لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط!»
وأخذ كوكسن يروح ويغدو بين عرابي والخديو، حتى جاءه آخر الأمر ينبئه بقبول الخديو إسقاط الوزارة القائمة، وأن سموه سينظر في بقية المطالب؛ فلابد في بعضها من مشاورة السلطان. وعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرئاسة الوزارة القادمة ولكنهم رفضوه، وجرى على الألسن اسم شريف بطل الدستور ونصيره، فعاد كوكسن بعد حين يعلن إلى عرابي قبول الخديو تعيين شريف؛ فقوبل ذلك بالهتاف بحياة الخديو، والتمس عرابي ونفر من زملائه الإذن على الخديو، فلما مثلوا بين يديه أخذ عرابي يعبر له عن ولائه وولاء الجيش. وذكر له الخديو: «أنه وافق على تلك الطلبات بنية صافية»، ثم انصرف الجيش بعد ذلك في هدوء كل فرقة إلى مقرِّها …
•••
هذا هو يوم عابدين الذي عده خصوم عرابي من أكبر سيئاته، والذي نعده في غير مغالاة أكبر حسناته، وكيف يستطيع هؤلاء مهما بلغ من اضطغانهم على عرابي ورغبتهم في الإساءة إليه أن ينكروا ما ينطوي عليه هذا الموقف من معانٍ؟! ألا أنهم ليتغافلون ليطعنوا الرجل في أجمل مواقفه وأعظم خطواته، وهم إنما ينسالون بذلك من أنفسهم دون أن ينالوا منه شيئًا …
طالب عرابي بالدستور فكان في طلبه هذا زعيم ثورة تقوم على أجلّ المبادئ التي شاعت في أوربا في القرن التاسع عشر والتي عدها المؤرخون والناس من أعظم خطوات البشرية صوب الرقي والكمال، فكيف يكون مع ذلك داعية فوضى واضطراب؟ ولقد كثرت في أوربا المواقف التي يشبهها في معناها ومرماها هذا الموقف فسجّلتها الشعوب في ثَبْت مفاخرها، وعَدَّتْها من أيامها المشهودة التي تمجِّد كل عام ذكراها.
وتم لعرابي وأنصاره ما أرادوا، في غير عنف يشوِّه حركتهم أو ينقص من جلالها كما يحدث في أشباهها من الحركات …
لقد كان القصر أمام الجيش خلوًا من أية قوة، فروعيت حرمته أحسن مراعاة، وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه هذا الجندي الثائر عن طوره، بل لقد تمالك نفسه فترجّل وأدي التحية العسكرية وأغمد سيفه، ثم ذهب بعد ذلك فأعرب له عن ولائه وشكره باسم الأمة إذ أجابها إلى ما طلبتْ على لسانه …
ألا إنا لنعجب بذلك ونفخر به إذ نكتبه، وما نجد من الأدلة التي نسوقها على رجولة عرابي وشهامته وبعده عما يرميه به خصومه أقوى أو أجمل من هذا الذي نشير إليه …
•••
وينبغي ألا ننسى ما اتَّخذه عرابي من الحيطة قبل ذهابه، وذلك باتصاله بالقناصل وبالخديو، فقد كان بذلك حكيمًا موفّقًا، لا يدع مسلكه محلًّا لغميزة أو يهيئ سببًا لملامة …
نجحت حركة عرابي أتمَّ نجاح وأجمله، وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهدًا يسود فيه الإصلاح والنظام، فلقد كان قبول الخديو مطالب عرابي التي أشرنا إليها ينطوي على معنى عظيم، ألا وهو موافقة حاكم البلاد على التخلص من الحكم الاستبدادي الرجعي، والعودة إلى حكم الحرية الدستورية الذي سبق أن وافق عليه يوم تبوأ عرشه ثم عاد فتنكر له حين اطمأن في مصر إلى كرسيه.
وراحت مصر تستقبل في تاريخها حقبة من أسعد الحقب، فلقد نالت أمانيها دون أن تراق نقطة دم، وخرجت سالمة آمنة من ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب أهم الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية، ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب ثورة سنة ١٦٨٨ في إنجلترا وإلى جانب الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية الكبرى …
•••
ولولا ما كتبه عنها المغرضون المبطلون من الأجانب. وما ضربه الاحتلال على الآذان والقلوب فحال بين المصريين وبين تاريخ قوميتهم الحقيقي لكان لتاريخ هذه الثورة شأن غير هذا الشأن في هذا البلد المسكين …
ولم يقتصر أمر هذه الفرحة الوطنية على القاهرة، وإنما حملتها الصحف إلى المستنيرين في الأقاليم تبشِّر الناس بعهد جديد يشرق على البلاد فجره، تجد ذلك في قول بلنت: «وقد أذاعت الصحف هذه الأنباء في سرعة، وقد تحررت من كثير من قيودها تحت رقابة الشيخ محمد عبده المستنيرة تحررًا لم يصل إلى مثله من قبل، واستطاع الناس آخر الأمر أن يلتقوا ويتحادثوا غير خائفين في كل جهة من جهات الأقاليم لا يخشون من الجواسيس ولا من تدخل الشرطة، وسرت هذه الروح السعيدة إلى كل الطبقات من المسلمين والمسيحيين واليهود، وشملت رجالًا من كل دين ومن كل جنس، ومن هؤلاء عدد غير قليل من الأوربيين الذين اشتدت صلتهم بالحياة المصرية، حتى القناصل أنفسهم لم يسعهم إلا أن يعترفوا أن العهد الجديد كان خيرًا من القديم، وأن رياضًا ارتكب أخطاء، وأن عرابيًّا إن لم يكن مصيبًا في كل شيء فهو على الأقل لم يكن مخطئًا في كل شيء.»