المسألة الثالثة عشرة: مسألة اختيارية
قال: لِمَ حُمِّق الشاب إذا تشايخ وأخذ نفسه بالزماتة والمتانة، وآثر الجد، واقشعر من الهزل، ونبا عن الخنا، وسدَّد طرفه في مشيه، وجمع عِطْفَه في قعوده، وشقَّق في لفظه، وحدَّق في لحظه؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
السبب في ذلك أن الشاب إذا تشايخ فإنما يُظهِر أن لا حركة لطبيعته نحو الشهوات، وهذه القوة والطبيعة هي في الشباب على غاية التمام والتزايد لأنها في حال النشوء، ولا تزال متزيِّدة إلى أن تبلغ غايتها وتقف ثم تنتقص على رسم سائر قُوى الطبيعة، فإذا ادَّعى الشاب مرتبة الشيخ التي قد انحطت فيها هذه القوة عُلِمَ أنه كاذب، فاسْتُقْبِحَ منه الكذب والرياء في غير موضعه ومن غير حاجة إليه.
والكذب إذا كان صُرَاحًا وغير خفي، وكان صاحبه يأتيه من حاجة إليه، ازداد مقت الناس له واستُدِلَّ به على رداءة جوهر النفس.
فإن اتفق لهذا الشاب أن يكون صادقًا، أعني أن تكون طبيعته ناقصةً وشهوته خامدةً استُدِلَّ على نقصان طبائعه وبرِئ من عيب الكذب، إلا أنه يكون مرحومًا لأجل نقص بعض طبائعه عما فُطِرَ عليه الناس، ويصير بالجملة غير مذموم ولا معيب إذا كان صادقًا.
وأما إن كان صادقًا في ضبط نفسه مع حداثة سنه والتهاب شهواته ومنازعة قُواه إلى ارتكاب اللذات؛ فإن مثل هذا الإنسان لا يلبث أن يشتهر أمره ويعظُم ذِكْره ويصير إمامًا معصومًا أو نبيًّا مبعوثًا أو وليًّا مستخلَصًا.
وليس يخفى على الناس المتصفحين حركات الصادق من حركات الكاذب، وأفعال المتصنع من أفعال المطبوع.
على أن هذا الشاب الصادق الذي استثنينا به إنما يوجد في القِرانات الكبيرة والأزمنة المتفاوتة، والأكثر هو ما قدَّمنا الكلام فيه؛ فلذلك سبق الناس إليه بالحكم عليه.
•••
فأما المسألة التالية لهذه وهي قولك:
وعلى هذا لِمَ سخف شيخ تَفَتَّى وحرَّك منكبيه وحضر مجالس اللهو وطلب سماع الغناء وآثر الخلاعة وأحب المجون؟ وما المجون والخلاعة حسب ما جرى ذكرهما؟
فإن الجواب عنها شبيه بالأولى؛ لأنَّها عكسها، وذلك أنَّ الشَّيخ إذا ادَّعى تزيُّد قُوى طبيعته في حال الشَّيخوخة لم يخلُ من كذب يُمقَت عليه — لا سيما وكذبه إنما هو في ادعاء شرور ونقصانات كان ينبغي له ولو كانت موجودة له أن يجحدها — أو صدقٍ يُوَبَّخ عليه إذا لم يقهر هذه القوة الغالبة عليه في الزمان الطويل الذي مُدَّ له فيه ويتنبَّه في مِثله على الفضائل ويتمكن فيه من رياضة النفس واستكمال التأديب، فحاله أقبح من حال الشاب الذي سبق الكلام فيه؛ ولذلك هو أمقت وأقبح صورةً عند ذوي العقول.
•••
فأما المجون فهو المسارعة إلى فعل ما تستدعيه النفس الشهوانية من غير مشاورة للعقل ولا مراقبة للناس.
•••
وأما الخلاعة فاشتقاقه من خلع العِذَار الذي يضبط به العقل أفعاله.
ولفظة العقل شبيهةٌ بذلك، لأنه من العِقَال، وكذلك الحِجْر.