المسألة الرابعة والثلاثون والمائة
لِمَ يضيق الإنسان في الراحة إذا توالت عليه وفي النعمة إذا حالفته؟
وبهذا الضيق يخرج إلى المرح والنَّزَوَان، وإلى البَطَر والطغيان، وإلى التَّحكُّك بالشر والتَّمرُّس به حتى يقع في كل مهوًى بعيد، وفي كل أمرٍ شديد، ثم يعض على أنامله غيظًا على نفسه بسوء اختياره، وأسفًا على تركه محمود الرأي، ومجانبته نصيحة الناصحين، مع ما يجد من الألم في صدره من شماتة الشامتين، فما السر المُنْزِي والمعنى المُوثِب؟ ولذلك قالت العرب في نوادر كلامها: نَزَتْ به البِطْنَة، أي أطغاه الشِّبَع، وأبطرته الكفاية، وأترفته النعمة حتى بَطِر وأشِرَ، واضطرب وانتشر؛ ومن أجل ذلك قال بعض السلف الصالح: العافية ملك خفي لا يصبر عليها إلا وليٌّ مُلْهَمٌ أو نبي مرسَلٌ.
هذا، والناس مع اختلافهم يحبون العافية، ويميلون إلى الراحة، ويعوذون من الشر ومما يُورَث منه ويُسْتَعْقَب عنه.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
السبب في ذلك أن الراحة إنما تكون عن تعب تقدُّمها لا محالة، وجميع اللذات يظهر فيها أنها راحاتٌ من آلام، وإذا كانت الراحة إنما تكون عن تعب فهي إنما تُسْتَلَذُّ وتُسْتَطَابُ ساعة يتخلص من الشيء المتعِب، فإذا اتصلت الراحة وذهب ألم التعب لم تكن الراحة موجودةً بل بطلت وبطل معناها، ومع بطلانها بطلان اللذة، ومع بطلان اللذة غلط الإنسان في الشوق إلى اللذة التي يجهل حقيقتها، أعني أنه يشتاق إلى معنى اللذة ويجهل أنها راحةٌ من ألم، فصار الإنسان كأنه يشتاق إلى تعب ليستريح بعقبه.
وهذا المعنى إذا لاح للعالِم به وتبيَّنه لم يَشْتَقْ إلى اللذة بتةً، وصار قُصَارَاه إذا آلمه الجوع أن يداويه بالدواء الذي يُسمَّى الشبع لا أنه يقصد اللذة نفسها، بل يرى اللذة شيئًا تابعًا لغرضه لا أنها مقصوده الأول؛ ولذلك يزهد العالِم في الأشياء البدنية، أعني الدنيوية، وهي ما يتصل بالحواس وتُسمَّى لذيذة، فأما الجاهل فلأنه يعترض له ما ذكرنا بالضرورة صار يقع فيه دائمًا، فيحصل في همومٍ وآلامٍ وأمراضٍ لا نهاية لها، وعاقبة جميع ذلك الندم والأسف.