المسألة السابعة والثلاثون والمائة
حكى بعض أصحابنا أن الرشيد قال لإسحاق الموصلي: كيف حالك مع الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى؟
فقال: يا أمير المؤمنين، أما جعفرٌ فإني لا أصل إليه إلا على عُسْر، فإذا وصلت إليه قبَّلت يده، فلا يلتفت إليَّ بطرف ولا يُنعم لي بحرف، ثم أصير إلى منزلي فأجد صِلَتَه وبرَّه وهداياه وتُحفه قد سبقتني فأبقى حيران من شأنه، وأما الفضل فإني ما أغشى بابه إلا ويتلقاني ويهشُّ لي ويخُصُّني، ويسألني عن دقيق أمري وجليله، ويصحبني من بِشْرِه وطلاقة وجهه وتهلُّله ورقَّة نغمته ما يغمرني ويُعجِزني عن الشكر، وأبقى خجِلًا في أمره، وليس غير ذلك.
فقال الرشيد عند هذا الحديث: يا أبا إسحاق فأيهما عندك آثر؟ وفِعْل أيهما من نفسك أوقع؟ فقال: فِعْل الفضل.
هذا آخر الحكاية، وموضع المسألة منها:
ما السبب في تشريف إسحاق فِعل الفضل دون فِعل جعفر؟ والفضل مبذوله عرَضٌ لا بقاء له ولا منفعة به، ومبذول جعفر جوهر له بقاء والحاجة إليه ماسَّةٌ والرغبات به منوطةٌ والآمال إليه مصروفة، الدليل على ذلك أنك لا تجد طالبًا في الدنيا لِبِشْر رجلٍ ولا ضاربًا في الأرض لبشاشة إنسان، وأنت ترى البر والبحر مُتْرَعَيْن بمنتجعي المال، وأبناء السؤال، وخدم الآمال عند الرجال.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
أما الحكاية فأظنها مقلوبة؛ وذلك أن الموصوف بالكِبْر هو الفضل وهو صاحب الشرف في العطاء، وأما جعفر فهو الموصوف بالطلاقة والبِشْر، إلا أن المتفق عليه أن إسحاق فضَّل صاحب الطلاقة، وإن كان في الأكثر خاليًا من بره، على صاحب البِر والعطاء الجزيل لما قرَنه بالكِبْر والتِّيه.
والناس على تفاوت عظيم في الموضع الذي سألت عنه وتعجبت منه، وذلك أن منهم المحب للثروة واليسار، ومنهم المحب للكرامة والجاه.
فأما محب الثروة فقد يحب الجاه والكرامة ولكن ليكتسب بهما مالًا.
وأما محب الجاه والكرامة فقد يحب المال والثروة ولكن ليكتسب جاهًا وينال كرامة.
وكل طائفة من هاتين الطائفتين تزعم أنها هي الكيِّسة وأن صاحبتها هي الغافلة البلهاء.
والصحيح من ذلك أن كل واحدٍ منهما ينازع إلى أمر طبيعي، وإن كان قد مال السَّرف بهما جميعًا إلى الإفراط، وذاك أن المال ينبغي أن يُعتدَل في طلبه، ويُكتسَب من وجهه، ثم يُنفَق في موضعه، فمتى قصَّر في أحد هذه الوجوه صار شرهًا، وأُورِثَ ذِلة، وكسب بخلًا وإثمًا.
وأما الكرامة فينبغي أن تكون في الإنسان فضيلة يستحق بها أن يُكرَم، لا أن تُطلَب الكرامة بالعسف أو بالكِبْر الذي ذممناه فيما تقدَّم من المسائل آنفًا.
فإذا كان الأمر على ما ذكرناه، وكانت الكرامة تابعة للفضيلة؛ فالكرامة أشرف من المال تتبعه اللذة.
وبالجملة فإن المال ليس بمطلوب لذاته بل هو آلةٌ يُوصَل به إلى المآرب والأشجان الكثيرة، وإنما يُحَبُّ لأنه بإزاء جميع المطلوبات، أي به يُتَوصَّل إلى المحبوبات، فأما في نفسه فهو حجرٌ لا فرق بينه وبين غيره إذا نُزِعَتْ عنه هذه الخصلة الواحدة.
فأما الكرامة فقد تُطْلَب لذاتها إذا كان الطالب لها من جهة الاستحقاق بالفضيلة، وذلك لِمَا تحصل عليه النفس من الالتذاذ الروحاني والسرور النفساني، وإن كانت من جهة النفس الغضبية فإن هذه النفس وإن كانت دون الناطقة فإنها فوق النفس البهيمية التي تلتذ اللذات البدنية التي تشارك فيها النبات والخسيس من الحيوانات.
•••
فأما قولك: إنك تجد محبي المال أكثر من محبي الكرامة، فكذا يجب أن يكون؛ لأن أكثر الناس هم الذين يُشبِهون البهائم، وإنما يتميز القليل منهم بالفضائل، فكما أن المتميزين بفضائل النفس الناطقة من القليل، فكذلك المتميزون بفضائل النفس الغضبية أقل من الجمهور.