المسألة الرابعة والأربعون والمائة
ما السبب في أن الخطيب على المنبر وبين السماطين وفي يوم المحفل يعتريه من الحَصَر والتتعتع والخجل في شيء قد حفظه وأتقنه ووثق بحُسْنه ونقائه؟
أتُرَاه ما الذي يستشعر حتى يضل ذهنه، ويعصيه لسانه، ويتحير باله، ويُمْلك عليه أمره.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن انصراف النفس بالفكر إلى جهة من الجهات يعوقه عن التصرف في غيرها من الجهات؛ ولذلك لا يقدر أحد أن يجمع بين الفكر في مسألة هندسية وأخرى نحويةٍ أو شِعرية، بل لا يتمكن أحد من تدبير أمرٍ دنيويٍّ وآخر أُخرويٍّ في حال واحدة، ومن تعاطى ذلك فإنما يقطع لكل واحد جزءًا من الزمان وإن قلَّ، فأما أن يكون زمان هذا هو بعينه زمان هذا فلا.
وإنما عرَض لنا هذا — معاشِر الناس — لأجل التباسنا بالهَيُولى واستعمال النفس للمادة والآلة، والأمر في ذلك واضحٌ بيِّنٌ مُشَاهَدٌ بالضرورة.
ولما كان الفكر يوم الحفل منصرفًا إلى ما ينصرف إليه الناس، من عيب إن وجدوا، وتقصيرٍ إن حفظوا، اشتغل الإنسان بتخوُّف هذه الحال وأخذ الحذر منها، فكان هذا عائقًا عن الأفعال التي تخص هذا المكان.
وهذا الاضطراب من النفس هو الذي يجعل الآلات مضطربةً حتى تحدث فيها حركاتٌ مختلفةٌ على غير نظام، أعني التتعتع وما أشبهه، وذلك أن مستعمل الآلة إذا اضطرب تبعه اضطراب آلته لا محالة.