المسألة الخامسة عشرة: مسألة طبيعية واختيارية
لِمَ كان الإنسان محتاجًا إلى أن يتعلم العلم ولا يحتاج إلى أن يتعلم الجهل؟ ألأنه في الأصل يوجد جاهلًا؟ فما علة ذلك؟ فبإثارة علته يتم الدليل على صحته.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
قد تبيَّن في المباحث الفلسفية أن العلم هو إدراك النفس صور الموجودات على حقائقها، ولما قال بعض الأوائل: إن النفس مكانٌ للصورة، استحسنه أفلاطون وصوَّب قائله؛ لأن النفس إذا اشتاقت إلى العلم الذي هو غايتها نقلت صورة المعلوم إلى ذاتها حتى تكون الصورة التي تحصِّلها مطابقةً لصورة المنقول منه، لا يفضُل عليها ولا ينقُص منها، وهو حينئذٍ علمٌ محضٌ، وإن كانت الصورة المنقولة إلى النفس غير مطابقةٍ للمنقول فليس بعلم.
وهذه الصورة كلما كثُرت عند النفس قوِيت على استثبات غيرها، والنفس في هذا المعنى كالمُناصِب للجسد؛ وذلك أن الجسد إذا حصلت فيه صورةٌ ضعُف عن قبول صورةٍ غيرها، إلا بأن تنمحي الصورة الأولى منه أو تتركب الصورة الأولى والثانية الواردة، فتختلط الصورتان ولا تحصُلان ولا إحداهما على التمام، وليست النفس كذلك.
ولما كانت نفس الإنسان هيولانيةً مشتاقةً إلى الكلام الموضوع لها بأن يتصور بصورة الموجودات كلها، أعني الأمور الكلية دون الجزئية، وكانت قويةً على ذلك، وكانت صورة الموجودات فيها غير مضيفةٍ بعضها مكان بعضٍ، بل هي بالضد من الأجسام في أنها كلما استثبتت صورةً في ذاتها قويت على استثبات أخرى، وخلَّصت الصور كلها بعضها من بعض، وذلك بلا نهاية — كان الإنسان محتاجًا إلى تعلُّم العلم، أي إلى استثبات صور الموجودات وتحصيلها عنده.
•••
فأما الجهل: فاسمٌ لعدم هذه الصور والمعلومات، ونحن في اقتناء هذه الصور محتاجون إلى تكلُّفٍ واحتمال مشقةٍ وتعبٍ إلى أن تحصل لنا.
فأما عدمها فليس مما يُتكلَّف ويُتجشَّم، بل النفس عادمةٌ لذلك، ومَثَل ذلك من المحسوس صورة لوح لا كتابة فيه، وإثبات الكتابة وصور الحروف يكون بتكلُّفٍ، فأما تركه بحاله فلا كُلْفة فيه، إلا على مذهب من يرى صور الأشياء موجودةً للنفس بالذات وإنما عرض لها النسيان، وأن العلم تذكُّرٌ وإزالةٌ لآفة النسيان عن النفس.
ولو كان الأمر كذلك لكان جواب المسألة بحسب هذا المذهب بيِّنًا في أن التعب بإزالة آفةٍ واجبٌ وتركه مأووفًا لا تعب فيه.
ولكن هذا مذهبٌ غير مرغوبٍ فيه، والشغل به في هذا الموضع فضلٌ؛ لأنه ليس من المسألة في شيء، وإن كان الكلام قد جرَّ إليه، ولكنا ندل على موضعه فليؤخذ من هناك وهو كُتُب النفس.
•••
فقد تبيَّن أن العلم تصوُّر النفس بصورة المعلوم، والتصور تفعُّلٌ من الصورة، والجهل هو عدم الصورة، فكيف يُستعمل التفعل من الصورة في عدم الصورة؟ هذا مُحال.