المسألة الحادية والخمسون والمائة
ما سبب تساوي الناس في طلب الكيمياء حتى إنك لتجد الغني في غناه، والمتوسط في توسُّطه، والفقير في فقره، على شيمة واحدة؟
وما هو أولًا؟ وهل له حقيقة؟ فقد طال خوض الخائضين فيه، وكَثُرَ كلام الناس عليه، واصطرع الحق والباطل والخطأ والصواب والإحالة فيه، فكأن الذي يثبته غير متحققٍ به، والذي يدفعه غير ساكنٍ إلى دفعه وإبطاله.
هذا، وقد تمَّت من الناس به حِيَلٌ على الناس، ومتى وقفت على هذه المسألة وقفت من الحقائق على غيْب شريفٍ، ومعنى لطيف.
وهل ما يُعْزَى إلى جابر بن حيَّان حق، ولما يُسند لخالد بن يزيد أصلٌ؟
وهل يُسَلَّم مثل هذا في الموضوع المُختلَق والمفتعَل المخترَق؟
وإذا اشتبه الأمر هذا الاشتباه كيف نَخْلُص إلى ما يرفع الريب ويؤيد اليقين؟ فقد رأيت ورأينا ناسًا اختلفت بهم أحوال وتقلبت عليهم أمور بتصديق هذا الباب وتكذيبه.
وأطرف ما رأى فيه حلاوة الحديث به، وخلابة المتحدِّث بذكره، وميل النفوس إليه حتى إن المكذِّب ليُفرِغ له باله، ويُصغِي أذنه، ويُخلِي ذهنه من غير أن يَحْلى بطائل، أو يَحْظى بنائل.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
أما سبب طلب الناس الكيمياء فظاهرٌ بيِّنٌ، وهو أنهم حريصون على جميع المُتَع والشهوات المختلفة في المأكل والمشرب والمنكح والنُّزه التي تُقْتَسَم بين الحواس.
ومحبة الاستكثار والاستبداد والنَّهَم على الجمع والادخار شيءٌ في الطبيعة، وليس يُوصَل إلى جميع ذلك إلا بالذهب والفضة؛ لأنهما بإزاء جميع المآرب على اختلافها، وكل إنسانٍ يعلم أنه متى حصَّلهما أو واحدًا منهما فقد حصَّل جميع المآرب على كثرتها متى همَّ بها وأرادها، ومع ذلك فهو يعدُّها ذُخْرًا لولده ولأوقات شدته التي تلحقه من فجائع الدنيا ومِحَنها، فبهذين الحجرين يتوصل إلى جميع ما ذكرناه، ويدفع جميع الشر والمِحن أيضًا بهما.
فهذا سبب طلب الناس لهما وحرصهم عليهما، وليس يُوصَل إليهما إلا بالمخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال، وتَجَشُّم الأعمال الصعبة، وغير ذلك.
ثم هما مُعرَّضان للآفات والمتسلطين وأهل العيث، وهما من هذه الجهة، إن صحَّت، أسهل شيء وأهونه.
•••
فأما قوله: ما هو؟ وهل له حقيقةٌ؟ فإن البحث المستقيم أن نبدأ أولًا بهل هو ثم بما هو، وإذا بحثنا عن هل هو وجدنا الأمر فيه مشكلًا يُحتَاج فيه إلى أخذ مقدماتٍ كثيرةٍ طبيعيةٍ وصناعيةٍ، وينبغي أن نُورِد شكوك الناس في تلك المقدمات، واحتياج من يروم حلها من مُثْبِتي الصناعة؛ فقد أكثروا في ذلك، ثم نروم نحن النظر فيها.
وقد اختلفت المتقدمون من الفلاسفة في ذلك والمتأخرون، وآخِر من تكلَّم على بطلان الكيمياء وإبطال دعاوي أصحابها «يوسف بن إسحاق الكِنْدِي» وكتابه مشهورٌ في ذلك، ورَدَّ عليه «محمد بن زكريا الرَّازي» وكتابه معروفٌ.
ثم قد شاهدنا في أهل عصرنا جماعة يُثبِتون هذه الصناعة والأكثر يبطلونها.
فأما المتكلمون وطبقاتهم من أصناف الناس فمجمعون على إبطالها؛ لأنهم يزعمون أن في ذلك إبطال معجزات الأنبياء صلوات الله عليهم، إذ كان ما يدَّعونه قلْب الأعيان، وهو لا يصح عندهم إلا على يد نبي حَسْبُ، وإن الله عز وجل هو القادر على قلب الأعيان دون مخلوقيه.
ولكلٍّ حُجَجٌ، وسننظر فيها نظرًا شافيًا ونُورِد أقاويل الجميع، ويكون بحثنا عن ذلك بحث مَنْ قصْدُه تعرُّف الحق دون الثمرة المرجوة من الكيمياء؛ فإن هذا هو غاية من يتفلسف في نظره وبحثه، ولا نبالي بعد ذلك صحَّ أم بَطَلَ لئلا تدعونا محبة صحته ورجاؤنا إلى إثباته بخديعة النفس للهوى أو نفيه على طريق العصبية، وفي هذا النظر طول لا يحتمله هذا الكتاب مع ما شرَطنا فيه من الإيجاز، ولكن سنُفْرِد له مقالةً كما فعلنا ذلك في مسألة العدل لما طال الكلام فيها أدنى طول.
وإذا فَعَلْنا هذا في المقالة التي وعدنا بها نظرنا: فإن صحَّت لنا هلِّيَّتُه أتبعناها بالنظر في المائية، وإن بطل الأول بطل الثاني لا محالة.