المسألة الخامسة والخمسون والمائة
لِمَ صار من يطرب لغناء ويرتاح لسماعٍ يَمُدُّ يده ويحرك رأسه، وربما قام وجَالَ، ورقص ونَعَر وصرخ، وربما عَدَا وهَامَ، وليس هكذا مَنْ يخاف فإنه يقشعر ويتقبَّض، ويُواري شخصه، ويُغيِّب أثره، ويخفض صوته، ويُقِلُّ حديثه؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
هذه المسألة قد تقدَّم الجواب عنها عند كلامنا في سبب السرور والغم حيث قلنا: إن النفس عند السرور تَبْسُط الدم في العروق إلى ظاهر البدن، وإنها عند الغم تحصُره، وبانحصار الحرارة إلى عُمْق البدن وإلى منشئها من القلب ما يُكْثِر هناك البخار الدُّخاني ويُبرزه إلى ظاهر البدن.
واشتقاق اسم الغم يدل على معناه؛ لأن القلب يلحقه ما يلحق الشيء الحار إذا غُمَّ فيمنع ذلك الحرارة من الانتشار والظهور إلى سطح البدن؛ ولذلك يتنفس الإنسان عند الغم تنفُّسًا شديدًا كثيرًا لحاجة القلب إلى هواء يُخرِج عنه الفضلة الدخانية التي فيه ويجلب له هواءً آخر صافيًا يُنمِّي الحرارة ويُرَوِّحها، كالحال في النار التي من خارج.
وهاتان الحالتان متلازمتان، أعني مزاج القلب وحركة النفس، وذلك أنه إن عرَض للنفس انقباضٌ غارت الحرارة من أقطار البدن إلى عمقه، وإن اتفق لمزاج البدن غُئُورٌ من الحرارة وانحصارٌ إلى ناحية القلب انقبضت النفس؛ لأن أحدهما ملازمٌ للآخر تابعٌ له، ولهذا ظنَّ قومٌ أن النفس مزاجٌ ما، وظنَّ آخرون أنها حالٌ تابعةٌ لمزاج البدن.
والخمر وما يجري مجراها من الأشربة والأدوية التي تَبْسُط الحرارة بلطفها وتُنمِّيها وتنشرها إلى ظاهر البدن يعرض منها السرور والطرَب، والأدوية التي تُبَرِّد البدن وتقبض الحرارة يعرض منها ضِدُّ ذلك.
والمزاج السوداوي معه أبدًا الغم، والمزاج الدموي معه أبدًا السرور.
وكما أن الأدوية والأغذية يعرض منها للمزاج هذا العارض وتتبعه حركة النفس، فكذلك الحديث والألحان وصوت الآلات من الأوتار والمزامير تُحرِّك النفس أيضًا، ويتبع ذلك حركة مزاج البدن؛ لاتصال المزاج بالنفس، ولأنهما متلازمان يؤثِّر أحدهما في الآخر، ويتبع فعل أحدهما فعل الآخر.