المسألة السادسة والخمسون والمائة
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن الصدق والكذب يجريان من النفس مجرى الصحة والمرض؛ لأن الصدق لها صحةٌ ما، والكذب مرضٌ ما.
وأيضًا فإن الصدق من الخبر يجري مجرى الصحة، والكذب منه يجري مجرى المرض.
فكما أن الصحة من الجسم أكثر من المرض؛ لأن المرض إنما يكون في عضو أو عضوين أو ثلاثةٍ، فكذلك الصحة في النفس أكثر من المرض؛ لأن المرض إنما يكون منها في قوة أو قوتين وفي خُلُقٍ أو خُلُقَيْن.
وكما أن الجسم لو كثُرت أمراض أعضائه أو لو توالت أمراضٌ كثيرةٌ على عضو منه لأبطلته وأعدمته، فكذلك النفس لو كثُرت أمراض قواها أو توالت أمراضٌ كثيرةٌ على قوة واحدةٍ لأهلكتها.
وإنما الاعتدال الموضوع لكل واحدٍ من الجسم والنفس هو الذي يحفظ عليه وجوده؛ فإن طَرَق واحدًا منهما مرضٌ في بعض الأحوال حتى يُخرجه عن اعتداله فإنما يكون ذلك في جزء من الأجزاء وقوةٍ من القوى ثم يكون ذلك زمانًا يسيرًا ويرجع بعد ذلك إلى الاعتدال الموضوع له.
فأما إن توهَّم مُتوهِّم أن الأمراض تستولي على جميع أعضاء الجسم حتى لا يبقى منه جزءٌ صحيحٌ، أو تتوالى أمراض كثيرةٌ في زمان طويلٍ متصلٍ على عضو واحدٍ؛ فإن ذلك وهمٌ باطلٌ؛ لأنه لو صحَّ وهْمه لبَطَل ذلك الجسم أو ذلك العضو الذي توهَّم فيه، والدليل على ذلك أن القلب لما كان مبدأ الحياة الذي منه تسري الحياة في جميع البدن صار محفوظًا غاية الحفظ من الأمراض؛ لأنه لو عرَض له مرضٌ لسرى ذلك المرض في جميع أجزاء البدن سريعًا وعرَض منه التلف السريع والموت الوَحِيُّ.
وهذه حال النفس في اعتدالها ومرضها.
ولما كان الكذب يعطيها صورةً مشوهةً، أي صورة الشيء على خلاف ما هو به، صار المعطِي والمعطَى مريضين به؛ ولذلك لا يتكلف أحد ذلك ولا يتعمده إلا لضرورة داعيةٍ، أو لأنه يَظُنُّ بذلك الكذب أنه نافع له أيضًا كما ينفع السُّم الجسم في بعض الأحوال، فيتجشَّم هذه السماجة على استكراه من نفسه، وربما تكرر منه ذلك فصار عادةً، كما تصير سائر القبائح أخلاقًا وعاداتٍ، وكما تصير المآكل الضارة عادةً سيئةً لقومٍ.
وأيضًا فإن المعتاد للكذب إنما يتم له الكذب إذا خلطه بالصدق، وإذا سُمِعَ أيضًا منه الصدق، وإلا لم يتم له الكذب أيضًا؛ لأن الباطل لا قِوَام له إلا إذا امتزج بالحق.
•••
فأما قولك: هل ينتقل من اعتاد الصدق إلى الكذب أو مَنْ ألِفَ الكذب إلى الصدق؟ فلولا أن ذلك ممكنٌ ومُشَاهَدٌ في الناس لَمَا وُضِعَتْ السُّنَن ولا قُوِّم الأحداث، ولا عُنِيَ الناس بتأديب أولادهم، ولا عاتب أحدٌ أحدًا، ولكن هذه الأشياء شائعةٌ في الناس ظاهرةٌ فيهم.
وقد بُيِّنَ ذلك في كُتُب الأخلاق؛ فإن أردتَ استقصاءه فخذْه من هناك إن شاء الله.