المسألة الثالثة والستون والمائة
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن اتصال النفس بالبدن ووجودها فيه ألفاظٌ مُتَّسَعٌ فيها.
والأَوْلى أن يُقال: ظهور أثر النفس في البدن على قدْر استعداد البدن وقبوله إياه.
وإنما تحرَّزنا من تلك الألفاظ؛ لأنها تُوهِم أن لها اتصالًا عرَضيًّا أو جسميًّا وكِلا هذين غير مطلَق على النفس.
والأشبه إذا عبَّرنا عن هذا المعنى أن نقول:
«إن النفس جوهرٌ بسيط إذا حضر مزاجٌ مستعد لأن يَقبل له أثرًا كان ظهور ذلك الأثر على حسب ذلك الاستعداد.» لِنَسْلَم بهذه العبارة من ظن من زعم أن النفس تتقلب وتفعل أفعالها على سبيل القصد والاختيار، أعني أنها تفعل في حالٍ وتمنع في أخرى؛ فإن هذا يجلب كثيرًا من الشكوك التي لا تليق بخصائص النفس وأفعالها.
وإذ قد تحققت هذه العبارة فنقول:
إن النطفة التي يكون منها الجنين إذا حصلت في الرحم الموافق كان أول ما يظهر فيه من أثر الطبيعة ما يظهر مثله في الأشياء المعدنية، أعني أن الحرارة اللطيفة تُنضِجه وتمخضه وتعطيه — إذا امتزج بالماء الذي يوافقه من شهوة الأنثى — صورةً مركَّبةً كما يكون ذلك في اللبن إذا مُزِجَ بالإِنْفَحة، أعني أنه يَثْخُن ويَخْثُر، ثم تُلِحُّ عليه الحرارة حتى يصير ملونًا بالحمرة فيصير مضغةً، ثم يستعد بعد ذلك لقبول أثرٍ آخر، أعني أن المضغة تستمد الغذاء وتتصل بها عروقٌ كعروق الشجر والنبات، فيأخذ من رحم أُمِّه بتلك العروق ما تأخذه عروق الشجر من تُرْبته، فيظهر فيه أثر النفس النامية، أعني النباتية، ثم يقوى هذا الأثر فيه ويستحكم على الأيام حتى يكمُل، وينتهي بعد ذلك إلى أن يستعد لقبول الغذاء بغير العروق، أعني أنه ينتقل بحركته لتناول غذائه فيظهر فيه أثر الحيوان أولًا أولًا، فإذا كَمُلَ استعداده لقَبول هذا الأثر فارق موضعه وقَبِلَ أثر النفس الحيوانية، ثم لا يزال في مرتبة البهائم من الحيوان إلى أن يصير فيه استعدادٌ لقبول أثر النطق، أعني التمييز والروية، فحينئذٍ يظهر فيه أثر العقل، ثم لا يزال يقوى هذا الأثر فيه على قدْر استعداده وقبوله حتى يبلغ نهاية درجته وكماله من الإنسانية ويُشارِف الدرجة التي تعلو درجة الإنسان فيستعد لقبول أثر الملك، فحينئذٍ يجب أن ينشأ النشأة الآخرة بحال أقوى من الحالة الأولى المتقدمة.
وهذا الكلام ليس يقتضي أن يُقال فيه: متى تتصل وتنفصل؟ بل من شأن القائل له أن يُقال فيه: متى يستعد ويقبل؟ وأما النفس فهي معطيةٌ للذات كل ما قَبِلَ أثرها بحسب قبوله واستعداده وتهيُّئه.
وقد تبيَّن أنها تعطي البدن أحوالًا مختلفةً وصورًا متباينةً قبل أن يكون جنينًا، وبعد أن تتم الصورة الإنسانية ليس ينقطع أثر النفس من البدن ألبتة على ضروب أحواله إلى أن يدور ضرب أدواره وينتهي إلى غاية كماله، ولا ينبغي أن يُقال إنه يخلو منها في حالٍ من أحواله، وإنما يقوى الأثر ويضعُف بحسب قبوله، والسلام.