المسألة الرابعة والستون والمائة
سُئِل بعضهم: إذا فارقت النفس الجسد هل تذكر مِنْ علومها شيئًا أم لا؟ فأجاب بأنها تذكر المعقول كله ولا تذكر المحسوس.
فزاد السائل بما يعرض للعليل من النسيان: أي كيف تذكر النفس معقولها إذا فارقت البدن وهي لا تذكر شيئًا منه إذا اعتل البدن أو بعض أعضاء البدن؟
فأجاب بما سيمر بك.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إنما يظهر أثر النفس في البدن بحسب حاجة البدن وعلى قياس ما حكيناه من حالاته في الترقي من حال إلى حال.
والتذكُّر إنما هو إحضار صور المحسوسات من قوة الذِّكر إلى قوة الخيال، وهاتان القوتان جميعًا إنما تحصِّلان صور المحسوسات من الحواس أولًا في حواملها من الأجسام الطبيعية ثم تحصِّلانها بسيطًا في غير حامل جسميٍّ بل في قوة النفس المسماة ذِكْرًا، وإنما احتيج إلى هذه القوة لأغراض البدن وحاجته إلى الشيء بعد الشيء، فإذا استحال البدن وزالت الحاجة إلى الحواس سقطت الحاجة إلى الذِّكْر أيضًا، وصارت النفس مستغنية بذاتها وما فيها من صور العقل، أعني التي تُسمَّى أوائل؛ لأن تلك هي ذات العقل غير محتاجةٍ إلى مادة ولا إلى جسم توجد بوجوده، أعني أن الأمور الموجودة في العقل هي العقل وهي التي نُسمِّيها الآن أوائل وليست في مادة ولا محتاجة إليها.
وجميع قوى النفس التي تتم بالبدن وبآلات جسميةٍ فإنها تَبْطُل ببطلان البدن أي تستغني عنها النفس بما هي نفسٌ وجوهرٌ بسيطٌ، وإنما احتاجت إليه لأجل حاجات البدن المشارِك للنفس المستمد منها البقاء الملائم لها إذا كان نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، فأما النفس بما هي جوهرٌ بسيطٌ فغير محتاجةٍ إلى شيء من هذه الآلات الجسمية.
وإنما عرَضت لك هذه الحيرة لأنك سألت عن أمرٍ بسيطٍ مع توهُّمك إياه مُركَّبًا، وحال المركَّب غير حال البسيط، أعني أن الآلات البدنية كلها هي أيضًا مركَّبةٌ نحو تماماتٍ لها ليكمُل بها أيضًا شيءٌ مركَّبٌ.
والحواس الخمس، والقوى التي تناسبها من التخيل والوهم والفكر، لا تتم إلا بآلاتٍ وأمزجةٍ مناسبةٍ تتم بها أفعالٌ مركَّبةٌ.
فإذا عادت الجواهر إلى بسائطها بطل الفعل المركَّب أيضًا ببطلان الآلات المركَّبة، واستغنى الجوهر البسيط القائم بذاته عن حاجات البدن وضروراته التي تم وجوده بها من حيث هو مركَّبٌ لأجلها.