المسألة السبعون والمائة
لا نخلو في طلبنا لِعِلْم شيءٍ من أن نكون قد عَلِمْنا ذلك المطلوب أو لم نعلمه.
فإن كنا قد علمناه فلا وجه لطلبنا له والدأب من ورائه.
وإن كنا لا نعلمه فمُحالٌ أن نطلب ما لا نعمله، وعاد أمرنا فيه مِثْل الذي أبِقَ له عبدٌ لا يعرفه وهو يطلبه.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
لو كان طلبنا للشيء إنما هو من وجهٍ واحدٍ، وذلك الوجه المجهولٌ لكان الأمر على ما ذكرتَ لكنا قد تقدَّمنا قبلُ فشرحنا أن كل مطلوبٍ يمكن أن يُبْحَث من أمره عن أربعة مطالب: أحدها إنِّيَّتُه، وهذا البحث بهل ثم بما ثم بأي ثم بِلِمَ، وهذه جهاتٌ لكل مطلوبٍ، فإذا عُرِفَتْ جهةٌ جُهِلَتْ أخرى، وليس يُغْنِي العلم بأحدها عن الأخرى، مثال ذلك: أنك إن بحثت عن جِرْم الفلك التاسع: هل له وجود؟ فتبيَّن هذا المطلبُ، بقيت الجهة الأخرى وهي جهة ما هو؛ لأنك قد عرفت جهة هل، وجهلت جهة ما، فإذا عرفت هذه الجهة بقيت الجهة الثالثة وهي جهة أي — وقد شرحنا هذه الجهات فيما مضى — فإذا حصلت هذه بقيت جهة العلة القصوى، أعني لِمَ، وهي البحث عن الشيء الذي من أجله وُجِدَ على ما وُجِدَ عليه من المائية والكيفية، فإذا عُرِفَت هذه الجهة لم يبقَ من أمره شيءٌ مجهولٌ إلا جزئيات الأمور التي لا نهاية لها، وليس يُبْحَث عن تلك لقلة الفائدة فيها، أعني أن تطلب مساحتها، ومبلغ عدد الأجزاء التي تمسحها، ونسبة كل جزءٍ إلى غيره ووضعه، وما أشبه ذلك، وهذه المطالب هي بحث مطلب كيف وغيره من المقولات في أنواعها وأشخاصها.
وإذا عرفتَ الجنس العالي لم تطلب أجزاءه لحصول الجهة العليا، فقد صح أن المطلوب إنما هو الجهة المجهولة لا الجهة المعلومة، وأن الشيء الواحد قد يُعْلَم من جهة ويُجْهَل من جهة أخرى، وزال موضع الشك إن شاء الله.