المسألة الرابعة والسبعون والمائة
لِمَ كان صوت الرعد إلى آذاننا أبطأ وأبعد من رؤية البرق إلى أبصارنا؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
أما البرق فإنه من استحالة الهواء إلى الإضاءة.
ولما كان الهواء سريع القبول للضوء، بل يستضيء في غير زمانٍ؛ وذاك أن الشمس حين تطلُع من المشرق يضيء منها الهواء في المغرب بلا زمان، وكذلك الحال في كل مضيء كالنار وما أشبهها إذا قابل الهواء قَبِلَ منه الإضاءة بلا زمان — وكان الهواء متصلًا بأبصارنا لا واسطة بيننا وبينه — وجب أن يكون إدراكنا أيضًا بلا زمان؛ ولذلك صِرْنا أيضًا ساعة نفتح أبصارنا ندرك زُحَلَ وسائر الكواكب الثابتة المضيئة إذا لم يعترض في الهواء عارضٌ يستر أو يحجب.
فأما الرعد فلما كان أثره في الهواء بطريق الحركة والتموج لا بطريق الاستحالة وجب أن يكون وصوله إلى أسماعنا بحسب حركته في السرعة والإبطاء، وذاك أن الصوت الذي هو اقتراعٌ في الهواء يُموِّج ما يليه من الهواء، كما يُموِّج الحجر الجزء الذي يليه من الماء إذا صُكَّ به، ثم يتبع ذلك أن يُموِّج أيضًا بعض الماء بعضًا وبعض الهواء بعضًا على طريق المدافعة بين الأجزاء إذا كانت متصلةً.
فكما أن جانب الغدير إذا تموَّج حرَّك ما يليه في زمان ثم ما يلي ما يليه إلى أن ينتهي إلى الجانب الأقصى منه حتى تصير بينهما مدةٌ وزمانٌ على قدْر اتساع سطح الماء، فكذلك حال الهواء إذا اقترع فيه الجسم الصلب حرَّك ما يليه من الهواء وتموَّج به، ثم حرَّك هذا الجزء ما يليه في زمان بعد زمانٍ حتى ينتهي إلى الجزء الذي يلي آذاننا فنحس به؛ ولذلك صار صوت وقْع الحجر على الحجر إذا لمح الإنسان محركه من بعيد يصل إلى أسماعنا بعدَ زمانٍ من رؤيتنا إياه، وكذلك حالنا إذا رأينا القَصَّار من بعيد على طرف وادٍ فإنَّا نرى حركة يده وإلاحته بالثوب حين رفْعه وضرْبه الحجر قبل أن نسمع صوت ذلك الوقْع بزمان.
فهذه بعينها حال البرق والرعد؛ لأن السحاب يصطك بعضه ببعض فينقدح من ذلك الاصطكاك ما ينقدح من كل جسمين إذا اصطكا بقوة شديدةٍ ويخرج أيضًا من بينهما صوتٌ.
وهما جميعًا — أعني البرق والرعد — يحدثان معًا في حالٍ واحدة، إذ كان سببهما جميعًا الصك والقرْع، أعني حركة الجسم الصلب وقرْع بعضه ببعضٍ كحال المِقْدَحَة والحجر، إلا أن البرق يضيء منه الهواء بالاستحالة التي تكون بلا زمان فنُحِسُّه في الوقت.
فأما الرعد فيتموج منه الهواء الذي يلي السحاب المُصْطَك، ثم يتموج أيضًا ما يليه، ويسري في الجزء بعد الجزء إلى أن ينتهي إلى الهواء الذي يلي أسماعنا في زمان فنُحِسُّ به حينئذٍ.