المسألة التاسعة عشرة: مسألة طبيعية واختيارية
لِمَ قال الناس لا خير في الشركة؟
وهذا نجده ظاهر في الصحة، لأنَّا ما رأينا مُلْكًا ثبت، ولا أمرًا تم، ولا عقدًا صحَّ بشركة، وحتى قال الله عز ذِكْره: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا، وصار هذا المعنى أشرف دليلٍ على توحيد الله جل ثناؤه ونفي كل ما عداه.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إنما صارت الشركة بهذه الصفة لأن كل من استغنى بنفسه، وكفته قوته في تناول حاجته، لم يستعِن فيها بغيره، فإذا عجز واحتاج إلى معاونة غيره اعترف بالنقص، واستمد قوة غيره في تمام مطلوبه.
ولما كان العجز مذمومًا، والنقص معيبًا كانت الشركة التي سببها العجز والنقص معيبةً مذمومةً؛ لأنه يُستدَل بها على نقص المتشاركين جميعًا وعجزهما، على أن الشركة للإنسان ليست مذمومة في جميع أحواله، بل إنما تُذَم الأشياء التي قد يستقل بها غيره، وينفرد باحتمالها سواه، كالكتابة وما أشبهها من الصناعات التي لها أجزاء كثيرة، وقد يجمعها إنسانٌ واحدٌ فيستقل بها وينفرد بالصناعة أجمعها، فإذا نقص فيها آخر واحتاج إلى الاستعانة بغيره ظهر نقصه، وبان عجزه، ودخل في صناعته خللٌ، أو كاحتمال مائة رطلٍ من الثقل؛ فإن الإنسان الواحد يكمل له ويستقل به، فإذا احتاج إلى غيره في احتماله دل على نقصه وعجزه وخوره.
ثم يعرض في الأمر المشترك فيه من النقص والتفاوت لأجل القوى المختلفة، والهمم المتباينة، والأغراض المتضادة التي قد تعاورته، ما لا يعرض في غيره من الأمور التي ينفرد بها ذو القوة الواحدة، وتخلص فيها همةٌ واحدةٌ، ويختصها غرضٌ واحدٌ؛ فإن مثل هذا ينتظم ويتسق، ويظهر فيه فضلٌ بيِّنٌ على الأول.
فأما الأمور التي لا يكمل الإنسان الواحد لها، ولا يستقل بها أحدٌ؛ فإن الشركة واجبةٌ فيها، كاحتمال حجر الرحى، ومد السفن الكبار وغيرها من الصناعات التي تتم بالجماعات الكثيرة، وبالشركة والمعاونة؛ فإن هذه الأشياء، وإن كانت الشركة فيها واجبة لعجز البشر، وكان الذم ساقطًا ومصروفًا عن أصحابها بما وضح من عذرهم فيها؛ فإن المعلوم من أحوالها أنها لو ارتفعت بقوةٍ واحدةٍ، وتمت بمدبرٍ واحدٍ كانت لا محالة أحسن انتظامًا، وأقل اضطرابًا وفسادًا، وأولى بالصلاح وحُسن المرجوع.
فالشركة بالإطلاق دالةٌ على عجز الشريكين، وعائدةٌ بعدُ على الأمر المشترك فيه بالخلل والفساد عما يتم بالتفرد، وإن كان البشر معذورين في بعضها وغير معذورين في بعض.
•••
وأما المُلْك البشري؛ فإنه لما كان من الأمور التي تنتظم بتدبيرٍ واحدٍ وأمر واحدٍ — وإن اشتركت فيه الجماعة فإنهم يصدرون عن رأي واحدٍ، ويصيرون كآلاتٍ للمَلِك، فتتآحد الكثرة، ويظهر النظام الحسن — كان الاستبداد والتفرد به أفضل لا محالة كما مثَّلناه فيما تقدم.
فإذا اختلفت الجماعة التي تتعاون فيه، ولم تُصدِر عن رأيٍ واحدٍ، ظهر فيه من الخلل والوهن والتفاوت ما يظهر في غيره، باختلاف الهمم، وانتشار الكثرة المؤدي إلى فساد النظام المتآحد، ثم يكون فساده أعم، وأظهر ضررًا بحسب غَنائه وعائدته وعِظَم محله وجلالة موضعه.
وقد أبان الله تعالى جميع ذلك بأخصر لفظٍ وأوجز كلامٍ، وأظهر معنى، وأوضح دلالةٍ في قوله عز من قائل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا سبحانه وجل ثناؤه ولا إله غيره.