المسألة الثالثة والعشرون: مسألة خلقية
ما الحسد الذي يعتري الفاضل العاقل من نظيره في الفضل، مع علمه بشناعة الحسد وبقبح اسمه واجتماع الأولين والآخرين على ذمه؟
وإن كان هذا العارض لا فكاك لصاحبه منه لأنه داخلٌ عليه، فما وجه ذمه والإنحاء عليه؟
وإن كان مما لا يدخل عليه ولكنه يُنشئه في نفسه ويُضيِّق صدره باجتلابه، فما هذا الاختيار؟
وهل يكون مَنْ هذا وَصْفُه في درجة الكَمَلَة أو قريبًا من العقلاء؟
وقد قيل لأرسططاليس: ما بال الحسود أطول الناس غمًّا؟
قال: لأنه يغتم كما يغتم الناس ثم ينفرد بالغم على ما ينال الناس من الخير.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
الحسد أمر مذمومٌ، ومرضٌ للنفس قبيحٌ، وقد غلِط فيه الناس حتى سمَّوا غيره باسمه مما ليس يجري مجراه، وهذا بعينه هو الذي غلَّط السائل حتى قال: ما الحسد الذي يعتري الفاضل؟ لأن مَنْ يكون فاضلًا لا يكون حسودًا.
وسنتكلم على الحسد ما هو؛ لتُعرَف مائيته فيُعرَف قُبْحه ويُوضع في موضعه ولا يُخلَط بغيره، فنقول:
إن الحسد هو غم يلحق الإنسان بسبب خير نال مستحقه ثم يتبع هذا الانفعال الرديء أفعالٌ أُخَر رديئةٌ، فمنها أن يتمنى زوال ذلك الخير عن المستحق، ويتبع هذا التمني أن يسعى فيه بضروب الفساد فيتأدى إلى شرور كثيرة.
فمن عرض له عارض الحسد الذي حددناه فهو شريرٌ، والشرير لا يكون فاضلًا.
ولكن لما كان هذا الغم قد يعرض الإنسان على وجوه أُخَر غير مذمومة غَلِطَ فيه الناس فسمَّوه باسم الحسد، ومثال ذلك أن الفاضل قد يغتم بالخير إذا ناله غير مستحقه؛ لأنه يؤْثر أن تقع الأشياء مواقعها، ولأن الخير إذا حصل عند الشرير استعمله في الشر إن كان مما يُستعمَل أو لم ينتفع به بتة.
وربما اغتنم الفاضل لنفسه إذا لم يُصِبْ من الخير ما أصابه غيره إذا كان مستحقًّا مثله.
وإنما لم أُسمِّ هذا حسدًا؛ لأن غمه لم يكن بالخير الذي أصاب غيره، بل لأنه حُرِمَ مثله، وإذا آثر لنفسه ما يجده لغيره لم يكن قبيحًا، بل يجب لكل أحدٍ إذا رأى خيرًا عند غيره أن يتمناه أيضًا لنفسه؛ لأن هذا الغم لا يتبعه أن يتمنى زوال الخير عن مستحقه.
وقد فرَّقت العرب بين هذين: فسمَّوا أحدهما حاسدًا والآخر غابطًا.
ونحن نؤدب أولادنا بأن ندلهم على الأدباء ونندبهم على فضائلهم؛ فإن ذا الطبع الجيد منهم يتمنى لنفسه مثل حال الفاضل ويسلك سبيله ويجتهد في أن يحصل له ما حصل للفاضل، وبهذه الطريقة ينتفع أكثر الأحداث، وأما ذو الطبع الرديء فإنه يغتم بما حصل لغيره من الأدب والفضل، ولا يسعى في تحصيل مثله لنفسه، ولكنه يجتهد في إزالته عن غيره أو منعه منه أو يجحده إياه أو يعيبه به؛ فهو حينئذٍ حاسدٌ شرير!
•••
فأما قولك إن هذا العارض لا فِكَاك لصاحبه منه؛ لأنه داخلٌ عليه إلى آخر الفصل فإني أقول:
إن الانفعالات — أعني ما لم يكن منها نحو الاستكمال — كلها مذمومةٌ لأنها من قبيل الهيولى؛ ولذلك لو أمكن الإنسان ألا ينفعل بتةً لكان أفضل له، ولكن لما لم يكن إلى ذلك سبيلٌ وجب عليه أن يزيل كل ما أمكن إزالته من الانفعالات ليتم ويكمُل، وذلك بالأخلاق والآداب المرضية، ويحصل له ذلك بسياسة الوالدين أولًا ثم بسياسة السلطان ثم بسياسة الناموس والآداب الموضوعة لذلك؛ فإن الإنسان يستفيد بهذه الأشياء صورًا وأحوالًا ثم تصير قُنْيَةً وملَكة، وهي المسماة فضائل وآدابًا.