المسألة الثالثة والثلاثون: مسألة نفسانية
ما علة حضور المذكور عند مقطع ذِكْره وهو لا يُتَوقع فيه؟
هذا كثير معهود، وإن لم يكن من باب المعتاد المألوف، ولو كان من ذلك لسقط التعجب، وزال الإكبار، ووقع الاشتراك.
ومن هذا الضرب رؤية الإنسان بالالتفات من لم يكن يظن أنه يراه.
وكذلك تشبيهك بعض من يلحقه طرفك بمعهود لك حتى إذا حدَّقت نحوه لم يكن ذاك، ثم إنك لا تلبث حتى تصادف المشبَّه به.
وهل هذا كله بالاتفاق؟
وإن كان بالاتفاق، فما الاتفاق؟ وهل الاتفاق هو الوفاق؟
وما الوفاق؟ حتى يكون البيان عنه بيانًا عن الأول، أو مُطْلِعًا عليه، أو مقرِّبًا إليه.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
إن النفس علامةٌ بالذات درَّاكةٌ للأمور بلا زمان؛ وذاك أنها فوق الطبيعة، والزمان إنما هو تابع للحركة الطبيعية، وكأنه إشارة إلى امتدادها؛ ولذلك اشتُق اسم المدة منه؛ لأن المدة فُعلةٌ، والامتداد افتعال، وأصلهما واحد من المد.
ولما كانت النفس فوق الطبيعة، وكانت أفعالها فوق الحركة، أعني في غير زمان؛ فإذن ملاحظتها الأمور ليست بسبب الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل الأمر عندها في السواء، فمتى لم تعقها عوائق الهيولى والهيوليات وحُجُب الحس والمحسوسات أدركت الأمور وتجلت لها بلا زمان، وربما ظهر هذا الأمر منها في بعض المزاجات أكثر حتى يرتفع إلى حد التكهن والإنذار بالأمور المستقبلة، وهذا الإنذار ربما كان في زمان بعيد، فكلما كان أبعد، والمدة أطول، كان أبدع عند الناس وأغرب، ثم لا يزال يقرِّب الزمان ويقصِّر فيه حتى يتلو وقت الإنذار بلا كبير فاصلة.
وهذه الحال تعرض لمن يذكر الإنسان فيحضر المذكور عند مقطع ذِكْره، ولم يكن ذكره سببًا لحضوره، بل كان الأمر بالضد؛ فإن قُرْب حضوره أشعر النفْس حتى أنذرت به.
وكذلك الحال في الرؤية بالالتفات؛ فإن قُرْب الملتفَت إليه هو الذي حرك النفس حتى استعملت آلة الالتفات.
واستقصاء هذا غير لائق بشرطنا في ترك الإطالة، ولولا ذلك لذكرنا أمورًا بديعة من هذا الجنس، وفي هذا القدر كفايةٌ وبلاغٌ فيما سألت عنه.
•••
فأما مسألتك عن الاتفاق، وهل هو الوفاق؟ وما الوفاق؟ فقد وعدنا بالكلام فيه في مسألة تجيء بعد هذه.
ولعمري إن الاتفاق هو الوفاق؛ لأنه افتعال منه، والأصل واحد، والاشتقاق دال عليه.
وسنخبر عنه إخبارًا كافيًا عند ذكر البخت والجد إن شاء الله.