المسألة السادسة والثلاثون
ما الإلف الذي يجده الإنسان لمكان يُكثِر القعود فيه ولشخص يتقدم الأُنس به؟
وهذا تراه في الرجل يألف حمامًا، بل بيتًا من الحمام، ومسجدًا، بل سارية في المسجد.
ولقد سمعتُ بعض الصوفية يقول: حالفتني حُمَّى الرِّبْع أربعين سنة، ثم إنها فارقتني فاستوحشتها.
ولم أعرف لاستيحاشي معنًى إلا الإلف الذي عُجِنَت الطينة به، وطُوِيت الفطرة عليه، وصُبغت الروح به.
الجواب
الإلف هو تكرر الصورة الواحدة على النفس أو على الطبيعة مرارًا كثيرة.
فأما النفس فإنما تتكرر عليها صور الأشياء إما من الحس وإما العقل.
فأما ما يأتيها من الحس فإنها تخزنه في شبيه بالخزانة لها، أعنى موضع الذكر، وتكون الصورة كالغريبة حينئذٍ، فإذا تكرر مراتٍ شيءٌ واحد وصورةٌ واحدةٌ زالت الغربة وحدث الأُنس وصارت الصورة والقابل لها كالشيء الواحد، فإذا أعادت النفس النظر في الخزانة التي ضربناها مثلًا وجدت الصورة الثانية فعرفتها بعد أُنْس، وهو الإلف.
وهذا الإلف يحدث عن كل محسوس بالنظر وغيره من الآلات.
فأما ما تأخذه من العقل فإنها تُركِّب منه قياسات وتُنتج منها صورًا تكون أيضًا غريبة، ثم بعد التكرر تنطبع فيقع لها الأُنس، إلا أنه في هذا الموضع لا يُسمَّى «إلفًا» ولكن «عِلْمًا ومَلَكة»؛ ولهذا يُحتاج في العلوم إلى كثرة الدرس، لأنه في أول الأمر يحصل منه الشيء الذي يُسمَّى حالًا، وهو كالرسم، ثم بعد ذلك بالتكرر يصير قُنيةً ومَلَكة ويحدث الاتحاد الذي ذكرناه.
فأما الطبيعة فلأنها أبدًا مقتفيةٌ أثر النفس ومتشبهة بها، إذ كانت كالظل للنفس الحادث منها، فهي تجرى مجراها في الأشياء الطبيعية؛ ولذلك إذا عوَّد الإنسان طبعه شيئًا حدثت منه صورة كالطبيعة، ولهذا قيل: العادة طبع ثانٍ.
وإذا تصفَّحت الأمور التي تُعتاد فتصير طبيعة وجدتها كثيرةً واضحةً أبين وأظهر من الإلف الذي في النفس، كمن يُعوِّد نفسه الفَصْد والبول والبراز وغيرها في أوقات بعينها، وكذلك الهضم في الأكل والشرب، وسائر ما تُنسب أفعالها إلى الطبيعة.