المسألة الخمسون
ما العلم؟ وما حده وطبيعته؟
فقد رأيت أصحابه يَتَنَاهَبُون الكلام فيه، حتى قال قوم: هو معرفة الشيء على ما هو به.
وقال آخرون: هو اعتقاد الشيء على ما هو به.
وقال قائلون: هو إثبات الشيء على ما هو به.
فقيل لصاحب القول الأول: لو كان حد العلم معرفة الشيء على ما هو به لكان حد المعرفة على الشيء على ما هو به، والحاجة إلى تحديد المعرفة كالحاجة إلى حد العلم.
وهذا جواب فيه سهو وإيهام.
وقيل لصاحب القول الثاني: إن كان حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به فبيِّن أن كون الشيء على ما هو به سبَق الاعتقاد ثم اعتُقِدَ، والاعتقاد سبَق كون الشيء على ما هو به؛ فإن ما هو به هو المبحوث عنه ومن أجله وُضِعَ العِيار ولزم الاعتبار.
فقال المجيب مواصلًا لكلامه الأول:
هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس وثَلَج الصدر.
فقيل له: إن الاعتقاد افتعالٌ من العقد، يُقال: عقَد واعتقد، والكلام عقْد، والتاء عرَض لغرضٍ ليس من سُوس الكلمة؛ فإذن هو فعل مضاف إلى العاقد الذي له عُقِد، والمعتقد الذي له اعتقاد، والمسألة لم تقع عن فعل، وإنما وقعت عن العلم الذي له قِوَام بنفسه وانفصالٌ من العالم، ألا ترى أن له اتصالًا به؟ فهَبْ أنك تحدُّه باعتقاد الإنسان الشيء ما دام متصلًا به، فما حقيقته من قبل ولمَّا يتصل به؟
وهذا جواب المعتزلة، ولهم التشقيق والتمطيط، والدعوى والإعراب، والعصبية والتشيع.
وقيل لصاحب هذا الجواب: لو كان العلم اعتقاد الشيء على ما هو به لكان الله معتقدًا للشيء على ما هو به لأنه عالِم.
فقال: إن الله تعالى ذكره لا عِلْم له؛ لأنه عالِم بذاته كما هو قادر بذاته حي بذاته.
فقيل له: إنك لم تُمانَع في هذه الحاشية فلا تتوارَ عن السهم، إن كان حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به فحد العالِم أنه معتقد للشيء على ما هو به، وسَيُؤْنَف النظر: هل له علم أم ليس له علم؟ فراغ هكذا وهكذا.
وقيل لصاحب القول الثالث: إثبات الشيء عبارة مقصورة على إضافة فعل إلى الفاعل، والفعل هو الإثبات، والفاعل هو المثبت، وباب العلم والجهل والفطنة والعقل والنُّهى والدرك ليس من الأفعال المحضة، وإن كانت مضارعةً لها كمضارعة طال ومات ونشأ وشاخ واستعر وباخ.
وهذا البحث متوجه إلى صاحب القول الرابع، أعني في قوله: حد العلم إدراك الشيء على ما هو به.
وينبغي أن تعلم أن الغرض من حد الشيء هو تحصيل ذاته مُعَرَّاةً من كل شائبة، خالصةً من كل مُقْذِيَة بلفظ مقصور عليها وعبارة مصوغة لها، وما دامت عين الشيء ثابتة في النفس ماثلة بين يدي العقل فلا بد للمنطق من أن يلحق منها الحقيقة أو يُدرِك أخص الخاصة.
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
أما الأجوبة المحكية والاعتراضات عليها فأنا مُعْرِضٌ عن جميعها؛ إذ كان هؤلاء القوم الذين حكي عنهم ما حكى لا يعرفون صناعة التحديد، وهي صناعة صعبة تحتاج إلى علم واسع بالمنطق ودُربةٍ — مع ذلك — كثيرة.
وغاية ما عند هؤلاء القوم في التحديد إبدال اسم مكان اسم، بل ربما كان اسم الشيء أوضح من الحد الذي يضعونه له.
وهذه سبيلهم في جميع ما يتكلفونه إلا ما كان مأخوذًا من المتقدمين ومنقولًا عنهم نقلًا صحيحًا كحد الجسم والعرض وما أشبههما، فأما ما تكلفوه من الحدود فهو بالهذيان أشبه.
وأقول: إن الحد مأخوذ من جنس الشيء المحدود القريب منه وفصوله الذاتية المُقوِّمة له المميزة إياه عن غيره.
فكل ما لم يوجد له جنسٌ ولا فصولٌ مقوِّمةٌ فإنما يُرسم.
والرسم يكون من الخواص اللازمة التي هي أشبه بالفصول الذاتية، فلذلك ما نحدُّ العلم بأنه إدراك صور الموجودات بما هي موجودات.
- أحدهما: بالحواس وهو إدراكها لِما كان في مادة.
- والآخر: بغير الحواس بل بالعين الباطنة الروحانية التي تقدَّم الكلام فيها في بعض المسائل المتقدمة.
فاسم العلم خاص بإدراك الصور التي في غير مادة.
واسم المعرفة خاص بإدراك الصور ذوات المواد.
ثم يُستعمل هذا مكان هذا للاتساع في اللغة.
•••
ووجدتك قد اعترضت على أجوبة من لم ترتضِ جوابه باعتراضات يجوز أن تظن أنها لازمة لجوابنا هذا؛ فلذلك احتجت إلى الكلام عليها، فأقول:
إن من شأن الحد أن ينعكس على المحدود، وذاك أن الاسم والحد جميعًا دالَّان على شيء واحد، لا فرق بينهما إلا في أن الاسم يدل دلالة مجملة، والحد يدل دلالة مفصلة، مثال ذلك أن تقول في حد الجسم: إنه الطويل العريض العميق، أو تقول: هو ذو الأبعاد الثلاثة، ثم تعكس ذلك: إن الطويل العريض العميق هو الجسم، أو ذو الأبعاد الثلاثة هو الجسم.
وكذلك تقول في سائر الحدود الصحيحة؛ ولهذا تقول في العلم: إنه إدراك صور الموجودات، وتقول أيضًا: إدراك صور الموجودات هو العلم، فلا يكون بينهما فرق إلا أن العلم يدل دلالة إجمال، وحده يدل دلالة تفصيل على ما قدَّمنا ذِكْره وبيانه.
وإذا بان أن العلم إدراك وتصور فقد بان أنهما انفعال؛ لأن الصور إنما تكون موجودة: إما مجردةً عقلية، وإما مادية حسية، وإذا أدركتها النفس فإنما تنقلها إلى ذاتها نقلًا لتنطبع تلك الصور فيها، وإذا انطبعت فيها تصورت بها.
وهذا مستمر في المحسوس والمعقول.
وإذا بان هذا، فقد بان أنه من باب المضاف؛ لأن الإدراك أثر يقع بالمنفعل من الفاعل، وكذلك التصور.
والأشياء التي من باب المضاف لا سبيل إلى وجودها منفردة ولا إلى تحصيل ذواتها مُعَرَّاةً من كل شائبة كما طالبت خصمك به؛ لأنها لا عين لها ثابتة في النفس ماثلة بين يدي العقل إلا من حيث هي مضافة؛ فالمعلوم إذن يتقدم العلم تقدمًا ذاتيًّا، وكذلك المحسوس يتقدم الحاس بالذات.
والفرق بين التقدم الذاتي والتقدم العرضي والزماني بيِّن في غير هذا الموضع، وإن كانا معًا بالزمان، ثم تنزع النفس صورها وتستثبتها في ذاتها.
فأما ما ألزمته في خاصتك في الله — تعالى عن صفات المخلوقين — فقد عرفتَ مما تقدَّم من المسائل أنَّا لا نقول فيه — تقدَّس ذكره — إنه عالم بالحقيقة التي نقولها في العالِم منا، ولا نطلق شيئًا من صفاته بالمعاني التي نطلقها في غيره بوجه من الوجوه، وإنما نتَّبع الشريعة ونتمثل ما تأمر به، ونُسمِّيه بأحب الأسماء، ونصفه بأعظم الصفات التي نتعارفها نحن معاشر البشر؛ لأنه لا سبيل لنا إلى غير ما نعرفه فيما بيننا، ولا طريق لنا إلا ما يستحقه — عز وجل — في ذاته؛ لأنَّا لا نعلم بالحقيقة منه شيئًا إلا الإنِّيَّة المحض حسْب.
ثم جميع ما يُشار إليه بعقل أو حس فهو مخلوق له.
وإذا كان الأمر كذلك، ووجدنا الشريعة قد رخَّصت في أسامٍ وصفات ممدوحة عظيمة بين البشر ائتمرنا للشرع، فأطلقناها من غير أن نرجع بها إلى الحقائق المعروفة من اللغة والمعاني المحصلة بها.
وهذا موضع قد أومأت إليه فيما سلف وأعلمتك وجه الصعوبة فيه، والله الموفِّق والمُعين، ولا قوة إلا به.