المسألة الثانية والخمسون
ما سبب استحسان الصورة الحسنة؟
وما هذا الولوع الظاهر، والنظر، والعشق الواقع من القلب، والصبابة المتيِّمة للنفس، والفكر الطارد للنوم، والخيال الماثل للإنسان؟
أهذه كلها من آثار الطبيعة؟ أم هي من عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم من سهام الروح؟ أم هي خاليةٌ من العلل جاريةٌ على الهَذَر؟
وهل يجوز أن يوجد مثل هذه الأمور الغالبة والأحوال المؤثرة على وجه العبث وطريق البَطَل؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
أما سبب الاستحسان لصورة الإنسان فكمالٌ في الأعضاء وتناسبٌ بين الأجزاء مقبولٌ عند النفس.
وهذا الجواب بحسب غرضك من المسألة التي هي متوجهةٌ نحو الصورة الإنسانية المعشوقة دون غيرها.
وأقول: إن الطبيعة مقتفيةٌ أفعال النفس وآثارها، فهي تعطي الهيولى والأشياء الهيولانية صورًا بحسب قبولها وعلى قدر استعدادها، وتحكي في ذلك فعل النفس فيها — أعني في الطبيعة — ولكنها هي بسيطةٌ، فتقبل من النفس صورًا شريفة تامة، فإذا أرادت أن تنقش الهيولى بتلك الصور أعجزت الأمور الهيولانية عن قبولها تامة وافية لقلة استعدادها وعدمها القوة الممسكة الضابطة ما تُعطاه من الصور التامة.
وهذا العجز في الهيولى ربما كان كثيرًا وربما كان يسيرًا، وبحسب قوتها على قبول الصور يكون حُسْن موقع ما يحصل فيها من النفس؛ فإن المادة الموافقة للصورة تقبل النقش تامًّا صحيحًا مشاكلًا لِما قَبِلَتها الطبيعة من النفس، والمادة التي ليست بموافقةٍ تكون على الضد، والمثال في ذلك أن الطبيعة إنما تعمل من المادة عند تَجْبِيل الناس في الرَّحِم: الفَطَس في الأنف والزُّرقة في العينين والصُّهُوبة في الشَّعْر، وبحسب قبول الهيولى الموضوعة لها، لا لأنها تقصد الصور الناقصة، بل تقصد أبدًا الأفضل، ولكن المادة الرطبة تأبى إلا قبول ما يلائمها، وذلك أن الدَّعَج في العين والشَّمَم في الأنف صورٌ تحتاج إلى اعتدال المادة بين الرطوبة السيالة واليبوسة الصلبة، ولا يمكن إظهارها في المادة الرطبة كما لا يمكن صياغة خاتم من شمع ذائب.
وربما كانت المادة حاجزةً من طريق الكمية دون الكيفية، فلا تتم الخلقة على أفضل الهيئات، وكذلك الحال في شعر الرأس وأهداب العين والحاجب فإنها لا تنتقش على ما ينبغي إذا كانت ناقصة المادة أو غير معتدلةٍ في الكيفيات، فتعمل الطبيعة منها ما يمكن ويتأتى، فتجيء الصورة غير مقبولةٍ عند النفس؛ لأنها لا تطابق ما عندها من الكمال، فأما وأنت تتأمل ذلك من طين الختم: فإنه إذا كان ناقص الكمية غيَّر مقدار الخاتم، أو يابسًا أو رطبًا أو خشنًا نقصت صورة الخاتم ولم يقبل النقش على التمام والكمال.
فأما المثال في المادة الموافقة فهو بالضد من هذا المثال؛ فلذلك تقبل ما تعطيها الطبيعة على التمام، وتنتقش نقشًا صحيحًا مناسبًا مشاكلًا لِما في النفس، فإذا رأتها النفس سُرَّت لأنها موافقةٌ لِما عندها مطابقةٌ لِما أعطتها الطبيعة.
فكما أن الصناعة تقتفي الطبيعة، فإذا صنع الصانع تمثالًا في مادة موافقة فقبلت منه الصورة الطبيعية تامة صحيحة: فرح الصانع وسُرَّ وأُعْجِبَ وافتخر؛ لصدق أثره، وخروج ما في قوته إلى الفعل موافقًا لِما في نفسه ولما عند الطبيعة، فكذلك حال الطبيعة مع النفس؛ لأن نسبة الصناعة إلى الطبيعة في اقتفائها إياها كنسبة الطبيعة إلى النفس في اقتفائها إياها.
ثم إن من شأن النفس إذا رأت صورة حسنة متناسبة الأعضاء في الهيئات والمقادير والألوان وسائر الأحوال، مقبولة عندها، موافقةً لِما أعطتها الطبيعة، اشتاقت إلى الاتحاد بها، فنزعتها من المادة، واسْتَثْبَتَتْها في ذاتها، وصارت إياها، كما تفعل في المعقولات.
وهذا الفعل لها بالذات: له تتحرك، وإليه تشتاق، وبه تكمُل، إلا أنها تشرُف بالمعقولات، ولا تشرُف بالمحسوسات.
فإذا فعلت النفس ذلك واشتاقت إلى الطبيعيات والأجسام الطبيعة، رامت الطبيعة في الأجساد من الاتحاد ما رامته النفس في الصور المجردة، فلا يكون لها سبيلٌ إليه؛ لأن الجسد لا يتصل بالجسد على سبيل الاتحاد، بل على طريق المماسة، فتحصل حينئذٍ على الشوق إلى المماسة التي هي اتحادٌ جسمانيٌّ بحسب استطاعتها.
وهذا من النفس غلطٌ كبير وخطأ عظيم؛ لأنها تنتكس من الحال الأشرف إلى الحال الأدون، وتتصور بصورةٍ طبيعيةٍ منها أخذت وبها ابتديت، وتفوتها الصور الشريفة العقلية التي ترتقي بها إلى الرتبة العليا والسعادة العظمى.
وهذا الذي ذكرته هو الأمر الذاتي الكلي الجاري على وتيرة طبيعية تحصرها الصناعة وتضبطها القوانين.
فأما الاستحسان العرضي والجزئي — أعني ما يستحسنه شخصٌ ما بحسب مزاجٍ ما — فهو أيضًا لأجل نسبة ما، ولكنه يصير شخصيًّا، والأمور الشخصية لا نهاية لها؛ فلذلك لا تنحصر تحت صناعةٍ ولا لها قانون.
والذي ينبغي أن يُعلَم منها أن كل مزاج متباعد من الاعتدال تكون له مناسباتٌ نحو أمورٍ خاصةٍ به، ويخالفه المزاج الذي هو منه في الطرف الآخر من الاعتدال حتى يستقبِح هذا ما يستحسِن هذا وبالضد، وكذلك ما تقيده العادات والاستشعارات، وهو موجودٌ في استلذاذ المأكول والمشروب؛ فإن الأمزجة البعيدة من الاعتدال تُناسب طعومًا غريبة وتستلذ منها طرائف وعجائب، والاستقراء يفيدك كل عجيبة وطريفة من هذا النحو في الروائح والسماع وجميع الحواس.