المسألة الرابعة والخمسون
لِمَ يشمئز الإنسان من جرح قد فُغِزَ فوه حتى إنه لينفر من النظر إليه والدنو منه وينفي خيال ذلك عن نفسه ويتعلل بغيره، وكلما اشتد نفوره منه اشتد ولوعه به؟
ما هذا أيضًا فإنه باب آخر في طي التعجب مما تقدَّم؟ وفي المسألة: أن المعالج يباشر ذاك بعينه نظرًا، وبيده علاجًا، وبلسانه حديثًا، أترى ذاك من المعالج إنما هو لضراوته وعادته وطول مباشرته وملاحظته أم لمكسبه وحاجته وعياله ونفقته؟
فإن كان للضراوة والعادة فما خبره في ابتداء هذه الضراوة والعادة؟
وإن كان لحِرْفته فكيف عاند طباعه معاندةً وجاهد نفسه مجاهدة؟
وهل يستوي للإنسان أن يعتاد ما ليس في طبعه ولا في عادته ثم يستمر ذلك عليه ويكون كمن وُلِد فيه وعُمِّرَ به؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
قد تبيَّن في المباحث الفلسفية أن النفس بالحقيقة واحدةٌ وإنما تكثَّرت بالأشخاص، وإذا كان ذلك كذلك فالإنسان إذا رأى بغيره أمرًا خارجًا عن الطبيعية من جرحٍ، أو تفاوتٍ في الخلق، أو من نقصٍ في الصورة، عرَض له من ذلك ما يعرض له في ذاته وكأنه ينظر إلى نفسه وجسمه؛ لأن النفس هناك هي بعينها النفس ها هنا، فبحق ما يعرض هذا العارض.
فأما ولوعه به وحضوره في ذِكْره أبدًا فإنما ذلك لأجل أن النفس إذا قبلت صورةً نزعتها من مادتها واسْتَثْبَتَتْها في ذاتها وقيدت عليها قوة الذِّكر، وليس تجري النفس مجرى المرآة التي إذا قابلها الشيء قبِلت صورته ما دام ذلك الشيء قُبَالتها، فإذا زال زالت صورته عنها، ولا كناظر العين في قبول الصور أيضًا؛ وذلك أن هذه أجسامٌ طبيعيةٌ تقبل صورة الأجرام قَبولًا عرضيًّا، فأما النفوس فإنها تقبل الصور بنوع أشرف وأعلى، ثم تستثبت تلك الصورة وإن زال حاملها عن محاذاة العين.
وقد مر في هذه المسائل طرفٌ من هذا المعنى، وبُيِّن هناك كيف تقبل النفس بقوتها المتخيِّلة صورة الشيء سريعًا، وكيف تبقى بعد ذلك هذه الصورة في قوتها الذكرية حتى تراها منامًا ويقظةً؛ فإنَّا متى شئنا أحضرنا صور آبائنا وأجدادنا ومدننا حتى كأننا نراهم وإن كانوا غائبين أو منقرضين.
فأما لِمَ ذلك وكيف استقصاء الكلام فيه فموجود في مظانه.
وأما المعالج لما سألت عنه، المعتاد به بالضراوة؛ فإنما كان ذلك لأجل تكرر الصورة، وأن ذلك الفعل صار كالخُلق له، وقد بيَّنا فيما تقدَّم أن الصور إذا تكررت على النفس حصل منها شيءٌ ثابتٌ كالجوهري لها، وقلنا إنه لولا هذه الحال لَمَا أدَّبْنا الأحداثَ ولا عوَّدنا الصبيان في أول نشوئهم العادات الجميلة؛ فإن الأفعال إذا اتصلت ودامت ألِفَتها النفس سواءٌ كانت حسنة أو قبيحة، فإذا استمر الإنسان عليها صارت مَلَكة له وقُنْيَة فعسُر زوالها.