المسألة السادسة والخمسون
تُرَى ما السبب في قتل الإنسان نفسه عند إخفاق يتوالى عليه، وفقر يحوج إليه، وحالٍ تتمنَّع على حوله وطَوْقه، وبابٍ ينسد دون مطلبه ومأربه، وعشقٍ يضيق ذرعًا به ويَبْعَل في معالجته؟
وما الذي يرجو بما يأتي؟ وإلى أي شيء ينحو فيما يقصد وينوي؟
وما الذي ينتصب أمامه ويستهلك حصافته ويذهله عن روحٍ مألوفة ونفس معشوقة وحياة عزيزة؟
وما الذي يخلص إلى وهمْه من العدم حتى يسلبه من قبضة الوجدان ويُسْلِمه إلى صرْف الحدثان؟
الجواب
قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:
الإنسان مركَّب من ثلاث قوى نفسانية وهو كالواقف بينها تجذبه هذه مرة وهذه مرة، وبحسب قوة إحداها على الأخرى يميل بفعله، فربما غلبت عليه القوة الغضبية فإذا انصبغ بها ومال بفعله إليها ظهرت قوته كلها كأنها غضبٌ، وخفيت القوى الأخرى حتى كأنها لم توجد له، وكذلك إذا هاجت به القوة الشهوية خفيت آثار القوى الأُخَر.
وأحصف ما يكون الإنسان وأحسنه حالًا إذا غلبت عليه القوة الناطقة فإن هذه القوة هي المميزة العاقلة التي ترتب القوى الأخرى حتى تظهر أفعالها بحسب ما تحده وترسمه.
والإنسان حينئذٍ نازل بالمنزلة الكريمة بحيث هيأه الله تعالى وكما أراده.
فإذا كان الأمر كذلك فغير مُنكَر أن تهيج بالإنسان بعض تلك القوى منه عند التواء أمر عليه أو انسداد باب دون مطلب له، فيظهر منه فعلٌ لا توجبه رويةٌ ولا يقتضيه تمييزٌ لخفاء أثر القوة الناطقة واستيلاء القوة الأخرى.
وأنت تجد ذلك عِيانًا عند الأحوال المختلفة بك؛ فإنك تجد نفسك في أوقات على أحوال مؤثرة لها قاصدة إليها غير مصغية إلى نصيح ولا قابلة أمر سديد، حتى إذا أفقت من تلك السكرة التي غلبت عليك في تلك الحال عجبتَ من الأفعال التي ظهرت منك وأنكرت نفسك فيها، وكأن غيرك كان الذي آثرها وقصد إليها، فلا تزال كذلك حتى تهيج بك تلك القوة الأولى مرةً أخرى، فلا يمنعك ما جرَّبته من نفسك ووعظتها به أن تقع في مثله؛ وسبب ذلك التركيب من القوى المختلفة النفسانية، وليس يمكن الإنسان أن يخلص بقوةٍ واحدةٍ ويُصدِر أفعال الباقية بحسب التي هي أفضل وأشرف إلا بعد معالجة شديدة وتقويم كثير وإدمان طويل؛ فإن العادة إذا استمرت، والعزيمة إذا أُنفِذَت في زمان متصل طويل حصل منها خُلُق، فكان الحكم له وصار هو الغالب؛ ولذلك نأمر الأحداث بالسيرة الجميلة ونؤاخذهم بالآداب التي تسنها الشرائع وتأمر بها الحكمة.
واستقصاء هذا الكلام وذكر علله لا تقتضيه المسألة ولا يفي به المكان.
فإن شك فيما قلنا شاكٌّ وظن أن الإنسان المركَّب من القوى الثلاثة يجب أن يكون لازمًا لأمرٍ واحد متركب من تلك القوى كما نجد الحال في سائر المعجونات والمركَّبات من الطبيعة، فليعلم أن مِثاله ليس بصحيحٍ؛ لأن قوى الإنسان نفسانيةٌ لها من ذاتها حركات تزيد وتنقص وأحوال أيضًا تهيجها، وليست كذلك قوى الطبيعيات، فلتُنْعم النظر في ذلك تجده كما أومأنا إليه وذكرناه.